مجلة حكمة
التحليل الإثني النفسي عند ديفريه

إبستمولوجيا التكامل في التحليل الإثني النفسي عند جورج ديفريه – يوسف عدنان

جورج ديفريه
جورج ديفريه ، إثنولوجي ومحلل نفسي هانغاري-فرنسي

تقديم

نشتغل في هذه الورقة على موضعة التحليل الإثني النفسي في سياقاته النظرية والمُمارساتية، مع التعريف بذخيرته من مُنجزات ومفاهيم، عبر وساطة مُؤسسه جورج ديفريه. كما نستهدف تبييان دور النظرية الإبستيمولوجية التكاملية – التي إقبتسها من مجال الميكروفيزياء، وأقحمها بفدادة وإيتيك في صُلب المعرفة التحليلية النفسية – في تطوير مفهومي التّعددية والنسبية الثقافية داخل “المجال النفسثقافي”، والذي يُنظر فيه إلى اللاوعي إنطلاقا من مُكوناته الثقافية المُدمجة في النفس أولا، لا تلك العُضوية أو اللسنية أو الأرخية. ولتكوين معرفة دقيقة بهذا الفرع الذي تنامت الحاجة له إثر التمزق الحضاري – الهوياتي الذي شهده عالم ما بعد الحرب الأولى والثانية، ولما له من آثار فضيعة على موقع الإثنيات والأقليات من مساحة عالمنا السابق و الراهن، ليس الأجدر من مُصاحبة مؤسس هذا التيار– النظرية، لشرح مُنطلقاته وأفكاره وما جاء به من جدّة في مسار حركة التحليل النفسي.

فبالإلتفاتة إلى “لاوعي المٌحلِّل”، قد طرح “ديفريه” على نحو غير مسبوق سؤال الذاتية والعائق الإبستمولوجي من زاوية إبستيمولوجية تخُص العُلوم النفسية. وحيث أن مفهوم “التحويل” كما نظَّر له فرويد، هو عملية إسقاط تأثرات المُحلَّل على المُحلِّل. بينما “التحويل المضاد”، فهو بالتحديد ردّة فعل المُحلَّل حيال خطاب أو صمت المُحلِّل، مشروط بإتخاذه وجها إيجابيا أو سلبيا. هذه “الوضعية التّحويلية المُضادة” بعيدة عن تُحصر في نطاق العلاج النفسي، بل هي موجودة بقوّة في العلاقات التي يُحاول أن يَبنيها الأنتروبولوجي مع أفراد المجتمعات التي يَدرُسها.

هذا إلى جانب خَوضِنا في قضايا تهمُّ الصلات المعقودة بين الأنتروبولجيا والتحليل النفسي، وحكمة الجوار الذي يُسكِّن من ذاتية المُحلِّل، ويجعله حريصا على موضعة نفسه في حقل الممارسة، من أجل تحصيل دراية ومعرفة ب “الآخر”، على أساس إعتباره نبعا لحقيقة ما في طور الإنكشاف لمدراك الباحث الميداني، لا إناءا صنمّيا لها. إذ الفشل الذي يُشهَد لأنماط العلاج الأوربي ومُقارباته التحليلية في السياقات غير الغربية، ينحدر تحديدا من التبلدّ المُتشبت بمقولة الكونية الثقافية، التي تفترض التماثل والتطابق مع سرديات المركزية العرقية، وتطمس الخُصوصية لصالح وهم الإطار بلغة الإبستمولوجي كارل بوبر.

إن المُغري في الأمر، هو ترحال التحليل النفسي الإثني لبقاع منفيّة وخارج خرائط النقط الجوهرية، ذات الإشعاع الحضاري كما وطنّها الغرب، هويات وتمثلات وثقافات ولغات ما تزال تُقاوم عَماء الألون عند للإنسان الغازي. تنظيمات بشرية لها من التعقيدات والحياة الإجتماعية والبنيات النفسية، ما يَفتحُنا على خزين اللاوعي الثقافي، ذلك القانون الخفيّ لبنية المُجتمع الإثني، والذي نجده مُحاطا بأولوية بارزة ضمن باقي التشكيلات الأخرى التي يُمكن أن يتخذها ما هو لاواعي فينا كأفراد أو كجماعات.

  1. التحليل النفسي الإثني .. مسارات تاريخية وتشابكات ثريّة

يُشير مُصطلح التحليل النفسي الإثني l’éthnopsychanalyse في المقام الأول لأعمال جورج ديفريه Georges Devereux، دون أن ننأى عن التّنويه بمُنجز غيزا روهيمGéza Róheim ، في عمله الميداني الوازن، الذي شمل قطاعا هاما وأساسيا من الأنتروبولوجيا النفسية (1) (2)، وبالتالي تَضمُّنه الإرهاصات الأولى لبوادر التحليل النفسي الإثني. فبعد جولان صيت مؤلفي “الطوطم والتابو” و “موسى والتوحيد” (3)، الذي سبق لسيغموند فرويد sigmund freud أن طبّق فيهما التحليل النفسي على مواد إثنولوجية، إعتبر بعد ذلك الأنتروبولوجي “مالينوفيسكي” أول من اهتم بالرابط الذي يجمع ما هو نفساني بما هو ثقافي من خلال تفسيراته الفذة والمُشوقة، باسطا النفوذ الواسع وقتها للمدرسة الوظيفية (4). لكن، كلّ الفضل يعود إلى “روهيم” في كونه أول من قام بتنظيم هذه المقاربة وكرّس لها حياته وأعماله، ساعيا إلى تأصيل نظرية خُلقية للثقافة. في نفس الحين، لم نجده يستخدم مفهوم التحليل الإثني النفسي ، على الرغم من أنه كان يُحاول في وقت مضى إنشاء مجلة هنغارية تحت مُسمّى “علم النفس العرقي”.

في ضوء هذه الإهتمامات والأبحاث في كشف وتحليل روابط النفس بالثقافة، يظلّ “جورج ديفريه” هو منْ وحّد جميع الميادين المرتبطة بدراسة الأمراض العقلية والنفسية في تعدّدها الثقافي، مُنجزا في نفس الوقت تأليفا نوعيا بين الفرويدية في الولايات المتحدة الأمريكية أين كان يُدرّس، والمدرسة الأنتروبولوجية الفرنسية القِبلة البديلة القادم إليها (5). صحيح أنه إقتبس مفهوم الطب النفسي الإثني من الطبيب النفسي haïtien louis mars، بينما يعود صوغ مصطلح “التحليل النفسي الإثني” إليه بشكل خاص. وإذا ما تأملنا جيّدا أعماله، فسنرى أنّ التحليل النفسي الإثني يجد تعريفه كتطبيق للتحليل النفسي على مواد أنتروبولوجية وإثنولوجية، سواء في المجالات العادية أو المرضية. لذا، فإختيار مصطلح التحليل الإثني النفسي ، ينبغي أن يكون مفهوما في المقام الأول باعتباره إحالة إلى المُحلل النفسي جورج ديفريه (6).

توجّه ديفريه في بداية مشوراه نحو الأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا، ليحظى برفقة كل من مارسيل ماوس {1950- 1872} ولوسيان ليفي بروهل {1939-1857}. وقام في ميدان العلوم الإنسانية بنقل أول أعماله الميدانية الأنتروبولوجية إلى أمريكا بالقُرب من هنود السهول، قبل أن يُحرز دكتوراه في جامعة بركلي مع الأنتروبولوجي الشهير “الفرد كروبرkroeber”{1960- 1876}، مُركزا فيها موضوع أطروحته على “الحياة الجنسية لهنود السهول”. وحتى بعد إنهاءه لهذا المتن الشائك، إستمر في كتابة مقالات علمية مُتابعا فيها أبحاثه حول “الجنسانية” و “ظاهرة الإنتحار”.

في الحقيقة لا يُمكننا التّوسع أكثر في الحديث عن التحليل النفسي الإثني ومُؤسسه، دون مُراعاة ما تَؤوب إليه البُوليمكات المعاصرة الدائرة حول الطب النفسي، والتي تُلحّ علينا ضرورة المرور بافتحاص الحقل المفهومي، لا سيما وأن مُحاولات تشيّيد “هيكل فكري جديد للطب النفسي”، لم يحدُث أن قامت بمعزل عن إستيعابها للتحديثات التي يعرفها مجال العلوم النفسية، خاصة منها القضايا المطروحة والبحوث المنجزة خارج نطاق المجتمعات الغربية.

ونظرا إلى قلق المُصطلح وإلتباساته الناجمة عن تشابكه مع علوم أخرى، يمكننا بادئا الإحالة إلى بعض التعريفات، أهمّها التعريف الوارد في “معجم التحليل النفسي”: وجاء ذكره للتحليل النفسي الإثني الذي كان “غازا روهيم” مُفتتحه، بكونه يستوحي من مبادئ التحليل النفسي، لكي يدْرُس الإضطرابات النفسية المُتعلقة بثقافات مُحددّة، والطريقة التي تُصنّف وتُنظّم بها هذه الثقافات المختلفة الأمراض النفسية.

تاريخيا، وُلد التحليل النفسي الإثني من رحم الطّب النفسي الإثني المُحدَث من قبل إميل كريبلين “Emil Kraepelin“، ويعرّف بأنه دراسة الجنون وتصنيف الإختلالات العقلية في ثقافات مُختلفة. فمنذ أعمال “جورج ديفريه” الذي وحَدّ المجالين الإثنين، وكلمة التحليل الإثني النفسي لها نفس معنى الطب النفسي العرقي (7). من ناحية أخرى، يَبرُز التحليل النفسي الإثني كتسمية لإتجاه إثنولوجي خاص. نأخذ على سبيل المثال أعمال براديل “pradelle” في مؤلفه: “التحليل الإثني النفسي في بلاد الباميليكي”.

“يجد التحليل النفسي الإثني تعريفه كتطبيق للتحليل النفسي على مواد أنتروبولوجية وإثنولوجية، سواء في المجالات العادية أو المرضية”

من المزالق التي ينبغي تفاديها بالنظر إلى هذه التحديدات أو أخرى، السقوط في خلط ما بين التحليل النفسي الإثني والأنثروبولوجيا النفسية، على الرغم من أن كُلا منهم يقوم بتطبيق التحليل النفسي لدراسة الأحداث الإثنوغرافية أو الإثنولوجية الخاصة بشعب أو ثقافة محددة، أو حتى على الثقافة نفسها. إذ يهتم عُلماء الأنثربيولجا الثقافية بدراسة أساليب معيشة الناس في المناطق المختلفة من العالم، بينما يهتم علماء سيكولوجية الشخصية والأطباء، والمُحللون النفسيون بتحليل الشخصية الإنسانية لفهمها. كما لو يتوجب علينا الأخذ في هذا المنوال بمنظور “رالف لينتون” الذي يرى أن مهمّة عالم الأنثروبولوجيا في محاولاته لكشف خفايا الأمور، تشبه مهمّة عالم النفس في الجهود التي يبذلها في سبر أغوار اللاوعي. وفي كلا الحالين، تتألّف النتائج التي يتوصّل إليها الباحثون من سلسلة تأويلات، أمّا الحقائق التي تستند إليها هذه التأويلات، فكثيرا ما تكون قابلة لأكثر من تفسير وتأويل.

لا مزيد من تحليل نفسي يَنشُد التماهي مع “الطب العقلي”، حيث لا ينبغي الخلط مرة أخرى بين التحليل النفسي الإثني وبين الطب النفسي الإثني أو الطّب النفسي عبر الثقافات (8)، لأن هذه العلوم الأخيرة تتموقع في الحقل الطبي الذي يستحوذ على مناهجه ومفاهيمه الخاصة به. فضلا عن ذلك، فالتحليل النفسي الإثني، لا يُطبق حصريّا على مُعطيات حالات مرضية أو يفترض أنها كذلك. أيضا لا يُمكن مطابقته مع علم النفس عبر الثقافي*، أو علم النفس العرقي، إلا إذا اعتبرنا هذه المطابقة، عبارة عن نموذج يتكون من نماذج فرعية، تتحدّد بالعلاقة التي تُقيمها مع هذه النظرية أو تلك.

يتّضح إذن، أن التحليل النفسي الإثني، ليس بتحليل نفسي آخر بديل أو نُسخة جديدة منه، ما دام تعريفه لا يستقيم سوى بالإحالة إلى نظرية التحليل النفسي التي أنشأها “سيغموند فرويد” و مفهوم التكامل الذي نحته جورج ديفريه (9). فهو يفترض – من النواحي المنهجية – تطبيقات قبيلة للتحليل النفسي مُنفصلة عن علم الأعراق البشرية (الإتنولوجيا) في ما يخصّ التعريفات الموضوعة والأكثر عمومية لهذين التخصصين الإثنين. أما التفسيرات المسحوبة من هذه التطبيقات فتقع من الناحية الإبستيمولوجية ضمن مجال التحليل النفسي والأنتروبولوجيا النفسية. نخلُص بعد هذا الفرز المعرفي إلى موقعة التحليل النفسي الإثني في مُفترق طرق، تتقاطع مناحيه كل من الأنتروبولوجيا الثقافية، الطب النفسي الإثني، الطب النفسي عبر الثقافي، الأنتروبولوجيا النفسية، التطّبيب الإثني.

  1. اللاوعي الثقافي وحضانة الثقافة للفرد

تكمن نقطة قُوة التحليل النفسي الإثني في نطاق إهتمامه بالمجال السريري، في استطاعته تحليل التمثلات الثقافية وفك شيفرات الترميز الثقافي “codage culturel” الذي تخضع له، ما دام هذان البعدان يُساهمان لا محالة في تطوُر البنية ووظيفة الجهاز النفسي”appareil psychique”، أمّا إهتمامه في المجال الإجتماعي، فيكمن في مقدرته الباهرة على تحليل الظواهر التي تُبطن علاقات بين الثقافات، صيرورات التثاقف مثلا، ومُختلف الظواهر الأخرى التي تنتج في التواجه الحاصل بين النفس والثقافة (10). فالتحليل النفسي الإثني كممارسة عملية تقتضي النُّزول إلى الميدان ومُعاينة مُجتمع الدراسة، فرادى أو جماعات، بفضل التحقيقات الأنثروبولوجية والعمل خارج الحقل الطّبي. فيتموقع المُحلِّل في وضعية الأنثربولوجي وهو يقرأ خُصوصية حقله الميداني إعتمادا على تقنيات من قبيل المشافهة والمُعاينة والمُقابلة ثم المقارنة والتحليل الدلالي لخطاب الأهالي مُستخلصًا بحيله التأويلية، تجلّيات الرمزية اللاشعورية التي يُقيمها الفرد بالثقافة.

ففي ما يخص تكوين معرفة بالشخصية الإثنية، تُؤيد الدراسات الأنتروبولوجية وُجود علاقة وثيقة بين طرق تنشئة الأطفال الصغار في الشعوب البدائية وبين شخصيات الكبار في هذه الشعوب، هذه العلاقة تتضمن آلية النقل النفسي للسمات الثقافية، الشيء الذي يتطلب من الباحث الأجنبي مراعاة الإختلافات الإثنية عند إقترابه من اللاوعي الثقافي الخاص بكل بيئة. ومن ضمن الأمثلة الموضحة لذلك؛ أوجه التباين السلوكي بين قبيلة “أرابش” وقبائل الدوبان doubans، بالرغم من حجم القُرب الجغرافي بينهم.

ليس اللاوعي الثقافي الإثنو – نفسي بكينونة خارج التاريخ والواقع، أو تصورا ذهنيا مجردا يقبع خارج التجربة الحسّية أو هو مُسلمة مُطلقة تنظم وفق الجاهز، بل هو “طرائق عمل” وآليات إنتاج ودفاع” – إنتاجيته مفتوحة حتى على إنشاء العُصابات والباثولوجيات / المظهر الباثولوجي للثقافة – و”أسس وقواعد ومنطق الفعل” و”نشاط يُنتج فكر وإحساس”. إن اللاوعي الثقافي يُفسر سلوكياتنا اليومية أو يُمكن أن نجد في حافظته سندا لتفسيرها، يتفاعل معه الإنفعالي والإنجراحي والغوري، وهو مُختلف عن اللاوعي الجماعي المُختص بالإنسان (حسب يونغ) ومختلف عن اللاوعي الحشدي (حسب غوستاف لوبون) ومختلف عن اللاوعي المعرفي الإدراكي (حسب بياجيه).

إن الطابع الدينامي للاوعي الثقافي l’inconcsient-culturel، يجعله يُشابك سائر الأنظمة اليومية والفكرية، فهو يرتوي من تفاعلات لاواعية ذات شُحنة ثقافية قوية، مُغمسة بعمق في تراكيب كيانات نفسية ليست بالضرورة إمبريقية أو قابلة للكشف الدقيق. وهو أيضا ينعكس في الواقعي والإحتمالي: مشاهدات – تأويلات – تأملات – انطباعات – استيهامات – أحلام {…} الخ؛ إنه شكل من أشكال الوجود كما يَحياهُ الآخر، إنه الكشف عن كلام المجتمع الإثني عندما يصمت، إما بفعل إستحالة التواصل أو عندما يصير عُرضة لأزمات باثولوجية حزينة.

“لا توجد هناك كونية نفسية universalité psychique ، من المفروض أن يتّجه صوبها كلّ كائن. بقدر ما هنالك تشفير ثقافي خاص بكّل ثقافة، يصف هذا الأخير مفعولها على البنيات والسياقات النفسية”

لم يكن المُحلل النفسي “ديفريه”؛ يُنظِّر من كُرسيّه أو سجين مكتبته التي كانت تسحر زُواره من الأصدقاء، لأنه خبر أكثر من غيره حالة التّعدد الهوياتي واللغوي والجغرافي والثقافي، فكان على بيّنة من أن تركيبات الشخصية الأساسية والأوليات النفسية اللاشعورية، التي عبرها يتم تصريف ما هو غريزي و رغبوي، تختلف بإختلاف النمط الثقافي الذي لا بد من وُلوجه، للحصول على مفتاح، نستطيع عبره ربط ما هو جزئي بما هو كلّي وكوني. هذا وإن كان التّخلي عن الفرضية التطورية التي تبنّاها رعيل علماء الأنتروبولوجيا الأوائل، قد أدّى فيما بعد، إلى تسهيل الدمج بين  الأسلوبين: الأنتروبولوجي والسيكولوجي (11)، الشيء الذي أسهم في خدمة منظور ديفريه حول نقده الصارم للتنميط النموذجي الأوربي، ودفاعه عن إستحالة وجود “كونية الثقافة” قد تُفضي إلى سيادة ثقافة كونية، عن طريق تثبيتها رواسي مشروع إمبريالية ثقافية، محمّلة بإيديولويجية عرقية مُتمركزة حول الثقافة الغربية.

وفي الواقع، نجد القليل من عُلماء التحليل النفسي الذين أبدو إهتمامهم بهذه المُشكلات المرتبطة بخصوصية الثقافة الحاضنة للفرد، وأجروا بأنفسهم أبحاث ميدانية لإختبار نظرياتهم بين جماعات تقع خارج نطاق الثقافات الأورو- أنكلوساكسونية. وهذا ما ينطبق أيضا و إلى حدّ ما على عُلماء النفس الكلاسيكيين الذين يتناولون بالبحث سيكولوجية الثقافة (12). ونُشير هنا، ولو بإيجاز: إلى أن منظور الإعتراف المتبادل بين الثقافات، قد غُيّب سنين عديدة عن التداول، وكل نقاش عن المنظور المُتمركز حول الثقافة بدل المنظور المُتمركز حول العرق يبقى حديثا نسبيا. ففي سنة {1983} تأسس بجامعة “تولوز لوميراي” فريق للبحث عبر الثقافي، تبنّى هذا المنظور الرافض للعالمية المُرتكزة على فكرة توحيد الثقافات و مسح الكيانات الثقافية المتميزة، ودعى إلى إعتناق إيديولوجيات التعدُّد و النسبية الثقافيتين *. إذ لا يمكن لأي مقاربة أيا كانت أن ترسم لنا الوجه الكوني للإنسان ومعنى مصيره.

يُمكننا أن نُلاحظ عند “ديفريه” تفكيرا مُنصبا على إمتداد حياته، صوب إشكالية الهوية والتغيرات التي تلحقها، على طبيعة الشخصية الإثنية أيضا، وعلى مشاكل إنتماء الفرد (13). إذ لم تتوقف إهتماماته في ميدان الإثنولوجيا وحده، بحيث توجهت ملاحظاته صوب المشاكل النفسية والعقلية للشعوب المدروسة، ناظرا إلى الظواهر في أشكالها المتنوعة، وعلى نحو تكاملي (14). ويبرز ذلك بوضوح في إهتمامه بتضمينات الثقافة في الفرد، أو بمعنى أقرب: البُعد الذي تقحمه الثقافة داخل الموضوع المُلاحَظ في بعض من إضطراباته النفسية، كالفصام مثلا، الذي يكون ناجما عن إختلال باتولوجي إثني، وتكون فيه الأعراض مُستمدة من الثقافة المحيطة. فالعامل السوسيولوجي يلعب دورا حاسما بالنسبة لديفريه في الإصابة بالفصام. ويمكن العودة في هذا الشأن إلى “مقال” له بعنوان: “الأصول الاجتماعية للفصام” نشر في مجلة “المعلومة الطبعقلية” سنة {1965} ثم أعاد نشره في كتابه “نصوص في الطب العقلي الإثني العام” المنشور سنة {1977} بعد أن غيّر عنوانه إلى “الفصام، ذهان إثني أو الفصام بدون دموع”.

  1. العُنف التأويلي والعائق الإبستمولوجي في حقل التحليل الإثني

يُعد “جورج ديفريه” أول من نقل فكرة “العائق الابستيمولوجي” إلى حقل التحليل النفسي الإثني، المُرتبطة فيه المعرفة بالإثنيات والعرقيات وحتى الأقليات من المهاجرين. إنه يُعيد استقراء مفهوم الموضوعية “Objectivité” في مجال العلوم الإنسانية على ضوء ما سيُسفِرُ عنه اللقاء بين المُحلِّل الأنتروبولوجي أو النفسي و الذوات الأخرى التي يُعاينها ويحُل ضيفا على عالمها. فكيف أمكنه هذا اللقاء؟ في مطلع الخمسينات قد صدر للأنتروبولوجي و المحلل النفسي “جورج ديفريه”  مُؤلف “علاج نفسي لهندي من الدلين psychothérapie d’un indien des plaines””، اقتبسه فيما بعد المخرج السينيمائي الفرنسي “آرنو ديسبليشين” كمادة دسمة لإنجاز فليم حمل نفس العنوان، وحظي عند عرضه بالكثير من الاهتمام والتقدير والنقاش. هذا المؤلف الذي يمتزج فيه السرد بالتحليل، إرتبط فيه العلاج بحالة صادفت جيمي بيكار Jimmy picard، وهو رجل هندي من الأقدام السود {تَصدُق هذه العبارة على الأجنبي المُزداد بالمستعمرات}، يُحِسُّ كما لو أنه ذئب هندي حقيقي.

من خلال هذه الحالة يُبيّن “ديفريه” مؤسس مبحث التحليل النفسي الإثني بدقة مُتناهية، كيف لظاهرة نفسية أن تَعْرِف وفرة من التخيّلات والأحلام ينبغي أن يتمّ تأويلها على نحو مُختلف من قبل المُحلِّل، أي تبعا للأصول الثقافية لمريضه. عند أوروبي مثلا أو عند هندي آخر، هذه الوفرة أو الفائض يمكن أن يكون مؤشر على بداية ازدواجية في الشخصية  وفُصامهاschizophrenia . بمعنى أدق، الأنا الأعلى le sur-moi  كابح المكبوتات تبعا لفُرويد، لم يستطع ممارسة رقابته بنجاعة أمام تدفّق النّزوات المُنحدرة من اللاوعي (15).

غير أن المنظور التحليلي الإثنو-نفسي، ينأى في تفسيره عن نظرية المكبوت المحافظ refoulement conservative، حيث أبان أن مثل هذه الخلاصة الفرويدية، ستكون غير مُنسجمة مع حالة “جيمي بيكار” المدروسة. لسبب ثقافي بالأساس، فعند الأقدام السود، الأحلام ليس لها وظيفة رقابية فقط، فهي تلعب من الناحية الثقافية دورا اجتماعيا بارزا. أمّا سيكولوجيا فهي تعمل “كميكانيزم دفاعي”. إن تلك الوفرة من الأحلام المشحونة عاطفيا بشكل مُكثف، يجب تقييمُها بشكل مُختلف عندما يجد الحالِم نفسه ينتمي إلى ثقافة تُعلّقُ أهمية كبيرة على الأحلام والرؤى وغيرها من التجارب التوحديّة autistiques.

يحمل الحُلم بصمات ثقافية مطبوعة في النفس الحالمة، مما يحمِلُها على التّورط في الإنتاجية الاجتماعية للموضوع الحُلمي المُهاب أو المرغوب فيه. وينحرف من التعبير عن المكبوت الفردي إلى التعبير اللاوعي الثقافي. ولذلك لا يجوز تعميم التصميم التأويلي الفرويدي للحُلم، على جميع البنيات النفس – ثقافية. إذ الشعوب تستطيع تطوير مكانيزمات نفسية خاصة بها لا مثيل لها عند الثقافات الأخرى، مثل شعب الموهاف أو هنود السهول، اللذين  تمكنوا من تطوير ما يمكن تسميه “ثقافة حالمة”.

إن البحث عند الهنود الذئاب “Les indiens wolf”، عن رؤى أو أحلام من كثافة عاطفية كبيرة، قد كانت جُزءا من عملية النُضج الإجتماعي، وحجر الزاوية في كل من نظام الأمن النفسي “systéme de    sécurité psychique”، للفرد ووضعه في المجتمع. وفي نفس الوقت هي حالة واجبة في وضعية الأنشطة الاجتماعية العامة (16). هناك ما يمكن دعوته “بنظام استعدادات للحُلم مشروط ثقافيا”، يجعل الأحلام والرؤى مستخدمة  لتعزيز الأهداف الإجتماعية الهامة من خلال التّرويج المُبكر والإستيهامي لرغبات مُوحّدَة و مُقرّرة من قِبل الثقافة، مثل تلك التي ترمي إلى تحقيق رُتبة المُحارب البارز.

وبإقتضاب شديد، يجب أن لا تُفسّر وفرة الأحلام المُدركة لنا عند هذا المريض الهندي الذئب على أنها مرضية (باثولوجية)، وذلك يرجع قبل كل شيء إلى وجود نظام إستعدادات – جسر تمهيدي – مهيّأ ثقافيا للحُلم بشكل وافر، ولكي يُفعّل أنواع معينة من الأحلام.  هذا فيما يخصّ “التقويم الثقافي”، أما بالنسبة “للتقويم الإكلينيكي” فإن الأحلام التي ترافقها حمولة عاطفية عالية للغاية – وخاصة قبل بدء العلاج – قد تكون أعراضا خطيرة عندما تتمظهر عند فرد ينتمي إلى ثقافة لا تُولي أهمية مُفرطة للأحلام. بينما وفرة الأحلام تُنشأ على نحو مؤكد، أمرا مُقلقا في حالة هندي زوني zuni، وربما ينبغي أن تُفسَّر كغزو هائل لمناطق “الأنا” من طرف تمثلات النزوة، والتي تكسوها أشكال رهيبة حسب فرويد جراء مُداومة المكبوت (17).

إنهم في الحقيقة هنود السهول من أثاروا اهتمامه وانشغاله بمسألة الأحلام، ودفعوه إلى الإنعطاف نحو أعمال فرويد والتحليل النفسي. وقد ظلّ على صلة وثيقة معهم، تعرّف على شامانهم، عاين المرضى وعائلاتهم، درس أساطيرهم (…) الخ، ومن هذه الممارسة الحقلية الطويلة و المكلّفة، قد سحب مادة مؤلفه الشهير: “الطب النفسي الإثني لهنود السهول”، وهو مؤلف منارة يُحلّل فيه الجهاز النظري والاستعدادات الخاصة التي تقف وراء نشوء الأعراض الباتولوجية في هذه القبيلة من الهنود (18). ووفق قواعد “الطب النفسي العرقي” قد قدم فرضيتين أساسيتين، مفادها: أنه لا توجد هناك كونية نفسية “universalité psychique” من المفروض أن يتّجه صوبها كلّ كائن. بقدر ما هنالك تشفير ثقافي خاص بكّل ثقافة، يصف هذا الأخير مفعولها على البنيات والسياقات النفسية (19).

كان لديفريه ثلاث أعداء يكّن لهم أشدّ الخصام: الأديان والمُخدرات، اللذان يجعلاننا نُغادر الواقع. لقد ظهرت له الأديان كنوع من الإدمان (في حين هو نفسه كان يُدخن أربع علب سجائر في اليوم)، أما العدو الثالث الذي يفقده صوابه، فهو التحليل النفسي اللاكاني، وتأويلاته الفضفاضة والفضيعة. ولكي نفهم موقف ديفريه من جاك لاكان وأسلوبه فكرا وعلاجا – مثل نظرية “الأنا التخيّلي”- ينبغي لنا فهم تجربته مع التحليل النفسي الإثني أولا. لقد كان  مقتنعا بالصلة الوثقى التي تجمع المُحلِّل النفسي بتجربة ما يدعوه الأنتروبولوجي الميدان”le terain”، والتي يبدأ فيها اللقاء بالآخرين بإزالة التمركز على الذات. ومن هنا تتبلور المفاهيم ويتقوّى سُمك الجهاز النظري وتتعدّد الخبرات ويكون التّحليل النفسي مصفاة للأفكار التي نبنيها عن الذوات الأخرى إنطلاقا من المعرفة بثقافتهم.

ولعل هذا الجانب من إهتمامه المُلفت بعلاقتنا بالآخر، هو السبب الذي من أجله إنتظر قدرا غفيرا من الباحثين المُقبلين على الإنخراط في بحوث ميدانية، الإلتحاق بالمشاركة في علاج نفسي موجه إلى لاوعيهم. هذه التجربة الشخصية مع التحليل النفسي كانت أكثر من حافز بالنسبة له ولمسألة الإيتيك خاصة المفتقد في هذا المجال البحثي. إنها تُترجم نوعا من الإلتزام، إذ كان يقول دوما لكُل تلامذته: إذا كنتم تُريدون أن تُصبحوا أنتروبولوجيين، يجب أن تمرُّوا من خلال التحليل النفسي. لأنه إذا كُنتم على غير علم به وبمبادئه وبجهازه المفهومي، ستعملون على إسقاط نزواتكم و هواماتكم على الآخرين، دون وعي منكم. وقد كان على حق في رؤيته الحادة (20). فقد إعتمد الباحثون في الواقع على نتائج بحثهم وملاحظاتهم المحدودة، كما لو أنها قضايا مسلّم بصحتها، فإفترضوا وجود غرائز عامة مُتنوعة لتعليل ما لاحظوه من ظاهرات، ثم تبيّن لهؤلاء أن معايير الشخصية تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات، فكان هذا الإكتشاف بمثابة صدمة إضطرتهم إلى إتخاذ خطوات جذرية لإعادة تنظيم مفهوماتهم (21).

“أنشأ ديفريه حركة تعدّ وبشكل قطعي متعددة التخصصات، المُرجى منها فهم الأبعاد الثقافية للاضطرابات العقلية والنفسية والبُعد الباثولوجي للثقافة”

هناك سوء مُعاملة و تشويش يُعيق معرفتنا بالآخر (الغريب)، وسوء المعاملة والتشويش هذين، ينحدران ربما من نفس الوهم، ألا وهو التفكير في موضوع كوني مفصول عن كلّ الإحتمالات، أي التشبت بنوع من اليقين ينتفي معه تنسيب الأشياء والإستعداد إلى إمتداح التّمايز والإصغاء إلى صوت الآخر*. وقد بدأ هذا الجدار الإيديولوجي السميك يتآكل، خاصة بعد أن أدّت العواقب النفسية التي شهدها الناجون من فظائع مٌعسكرات الإعتقال النازية، وانتقلت إلى الجيل اللاحق منهم أيضا، إلى يقظة رُعب إثنية ـ ثقافية عنيفة بين المحللين النفسين. إذ ظهر واضحا أن العقل الفردي لا يوجد بمعزل عن محيطه الاجتماعي ـ السياسي، وأن التركيبة النفسية بحاجة إلى حافز مُغذّ من محيطها الخارجي كي تُحافظ على استقرارها.

الأدهى في ذلك، أن خلقَ يهود المهجر ما بعد المحرقة، مواجهة سريرية بين المُحلِّل الأوربي المهاجر، أي الأوربي الذي هاجر إلى أمريكا وأصبح طبيبا نفسيا، وبين المرضى المختلفين ثقافيا من شمال وجنوب أميركا. والمُتضح البيّن من ذلك، أن الأخذ بالاختلافات الإثنية والدّينية في التحليل النفسي قد يحفّز بالكامل عملية التحليل النفسي، في حين أن التغاضي عنها قد يُعقّدها. وهكذا أضحى التحليل النفسي، فيما هو يُركِز في الغالب على العالم الداخلي، يمنحُ انتباها أعظم للواقع الخارجي (22).

لقد أنشأ “ديفريه” حركة تُعدّ وبشكل قطعي مُتعددة التخصصات pluridiciplinarité ، المُرجى منها فهم الأبعاد الثقافية للإضطرابات العقلية والنفسية والبُعد الباثولوجي للثقافة. فانطلاقا من تقصي قائم على ربط علاقة بين السيرورات النفسية وتلك الخاصة بالثقافة (لجميع الثقافات وليس فقط تلك تنشّأ في محضنها شخص ما يُعاني من اضطرابات نفسية)، قد بنى علاج نفسي أصيلا، لا يهدف إلى إعادة التأهيل، لأنه يعتقد أن بعض المجتمعات هي نفسها مُركبة على نحو مُسبب للأمراض، بحيث تُقحم الأفراد فيما يدعوه هو: ب “سيرورات المثاقفة”.

إستطاع ديفريه طبقا لهذا المنظور بلورة أحد الأفكار العلمية الأكثر أصالة بالنسبة لعصره، مُدشّناٌ “مُمارسة طبنفسية عابرة للثقاقات”trans-culturelle” . كما حاضر لنشر تصوراته في عدة جامعات أمريكية، أين كان يُدّرِسُ الأنتروبولوجيا بعد أن حصل على الجنسية الأمريكية. ويُذكر في هذه المرحلة أن أصيب بخيبة أمل عميقة من قِبَل الجمعية الأمريكية التي ألقى عليها اللوم، مآخذا عليها عدم فهم التحليل النفسي* وأهمية النموذج الثقافي الذي من خلاله قد عارض بشدة دعاة “كونية الثقافة l’universalité de la culture”، عائدا أدراجه إلى فرنسا سنة {1963} وكلُّه مُحمّل بالهواجس والصراع الداخلي. بل قد حافظ ديفريه بصعوبة في خضم مسيرته على علاقاته مع المؤسسات والمحيط الجامعي. إذ كان غاضبا طوال الوقت من مُعظم علماء الأنتروبولجيا، إذا ما إستثنينا منهم: العالم بالحضارة الهلنستية الإنجليزي “إريك روبرتسون دودز” وأيضا الأنتروبولجي المرموق “كلود ليفي سترواس” و السويسري “روجيه باستيد”. هؤلاء قد ساعدوه في الحصول ولو بشكل مُتأخر على مقعد أستاذ مساعد بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية كما أشرنا ذكرا. وفي سنة {1964} اعترفت به جمعية التحليل النفسي بباريس كعضو عادي. لكن لم تكن هذه الإلتفاتة الخجولة كافية في حقه.

  1. الذات والموضوع ضمن مجال التحليل النفسي الإثني .. نحو إبستمولوجيا تكاملية

يُعدّ جورج ديفريه المُؤسس الميتودولوجي لنظرية في المعرفة، يدعوها “إبستيمولوجيا التكامل épistémologie de complémentaire”، والتي إكتشفها إنطلاقا من “مبدأ اللايقين” الذي أتى به العالم الفيزيائي “هاينزنبورغ” الحائز على جائزة نوبل سنة {1974}، عن طريق سحبه لجميع الآثار {التطبيقات} التي يُمكن أن تكون لهذا المبدأ في دراسة العلاقات المُتلازمة بين الحياة النفسية والثقافة. لقد إستثمر هذا الأخير نتائج نظرية “هايزنبيرغ ” في تفسير حركة الذرات، ومبدأه الذي أطلق عليه إسم “مبدأ عدم التأكد” الذي وضع صيغته سنة {1927}، والمفضي فيما بعد إلى تمثين الأسس النظرية ل “مبدأ الإحتمال* principe de probabilité”. يعتبر مبدأ “عدم التأكد” أو “الريبة” أو “اللايقين” أو “الشك”، من أهم المبادئ في نظرية الكمّ، التي أحدثت أثرا بالغا في تاريخ العلم الحديث، بحيث أنه يضع حدوداً لقدرة الإنسان على قياس الأشياء. فهذا المبدأ معناه أن الإنسان ليس قادرا على معرفة كل شيء بدقة متناهية، ولا يمكنه قياس كل شيء بدقة متانهية، إنما هناك قدر لا يعرفه ولا يستطيع قياسه. لقد أوضح “هايزنبيرغ” أنه لا يمكن ملاحظة إلكترون بدون خلق وضعية تُحدده. فهناك علاقة غير مُحددة بين الطبيعة الموجية و الطبيعة الجُسيمية المُنبطحة تحت المجهر (23).

ما يلتقطه “ديفريه” من براديغم الميكروفيزياء أو الفزياء الذُرية، هو ضرورة إخضاع مُعتقادتنا ومفاهيمنا للفحص النقدي بشكل مُستمر. بحيث أن الدرس الأساسي الذي ينبغي تعلمه بهذا الخصوص – حتى بالمنسبة للمحلل النفسي الإثني المُقبل على سحب معرفة من ثقافات أخرى – يأتي من تأمل القيم الإبستيمولوجية التي تنبع من المعرفة العلمية، ومن الطفرة التي عرفتها في عصرنا هذا. فتاريخ المعرفة العلمية، يشهد بشكل واضح، أن العقل ليس نسقا منغلقا ولا يحتوي على مبادئ فطرية ومحددة بشكل قبلي، بل يشهد بأنه قوة مرنة ودينامية وسيرورة بنائية. لذلك ينبغي النظر إلى كل تفسير يروم في هذا الإتجاه باعتباره:

  • غير منفصل عن السياق التاريخي الذي تشكل فيه؛

  • متوقفا، في جزء أساسي منه، على الحالة التي تعرفها الثقافة القائمة؛

  • مرتبطا بدرجة التطور الذي وصلت إليه أدوات الملاحظة والتجريب

  • رهينا، من جهة، بمدى قدرة العالِم على ابتكار عدة مفاهيم تفسيرية، وعلى درجة تعقد الظواهر المدروسة، من جهة أخرى.

والدليل على ذلك، اللجوء إلى مفهوم الإحتمال والذي سيتم اعتماده كمبدأ أساسي للتفسير العقلاني في إطار الفيزياء المعاصرة، نظرا لتعقد ولا تناهي الظواهر المدروسة في الصغر، مما يقتضي إدراج الإحتمال في التفسير، وهذا ما لم يكن واردا في إطار الفيزياء الكلاسيكية، الغاليلية والنيوتونية. إنطلاقا من هذا المبدأ الخاص بالفيزياء الكمية سيبتكر ديفريه سنة (1938) نظريته في “إبستيمولوجيا التكامل” والتي ضمّنها الصيغ التالية:

كلّ ظاهرة تنطوي على وجهيين، وتُدين إلى نوعين من التفسيرات “تفسير نفسي”و”تفسير أنتروبولوجي”. لكن هذا النهج المُزدوج تعتمله صعوبة تحقيق المُبتغيين في نفس الوقت، وعيه بصعوبة الأمر، كما خلص إلى ذلك “روبرت بريسون” من عمله كمخرج، حين إرتجل قائلا: “لو كان بإمكاننا إظهار جميع الأطراف في وقت واحد” (24). ما يأتي على التأكيد في هذه الظروف، هو التّمفصل المنهجي للمقاربة التحليلية النفسية والمقاربة الأنتروبولوجية وتضمينهما الإبستيمولوجي. فالنفسية تحوي الثقافة المُدمجة أو تستدمجها كما يرى التحليل النفسي، ثم هناك ثقافة نفسية تُسقط على الواقع (25).

“التّحليل النفسي مصفاة للأفكار التي نبنيها عن الذوات الأخرى إنطلاقا من المعرفة بثقافتهم”

إستمد ديفريه من حالة اللايقين هاته التي جاء بها “فيرنر هايزنبيرغ”، النتيجة التالية: ينبغي إعادة إدماج الباحث في مجال أو حقل الملاحظة. وبالمثل، أظهر “هاينزنبورغ” أنه لا يمكن ملاحظة إلكترون بدون خلق مساحة تُحدّده. الشيء الذي دفع بديفريه المُستمسك هذه المرة بالمنطق الفيزيائي، إلى إستخلاص أن حضور “المُلاحِظ” يُشوش ويُبعثر الموضوع “المُلاحَظ”، ويخلق ظاهرة جديدة لم تكن لتنشأ بدونه، لو كان موضوع الملاحظة شخصا آخر غيره. إن الأمر يتعلق بإعادة إدماج الفيزيائي في تجربة المُراقبة المادية {إينشتاين – هاينزنبورغ} أو الرسام في اللوحة أو المخرج في السينما أو المُعالج في العلاج. ومع جورج ديفريه، يتم إدماج المُلاحِظ وعواطفه في مجال العلوم الإنسانية و الإجتماعية. فالتعديل في الظاهرة المدروسة، هو تعديل يحصل عند حضور المُلاحِظ الأنتروبولوجي أو المُعالج النفسي (26).

من هذا المنطلق، همّ الإنتباه بضرورة الإضطلاع على “لاوعي المُحلِّل” قبل “لاوعي المُحلَّل”. حيث على المًحلِّل أن يفهم لاواعيه قبل أن يُحاول الحُلول ضيفا على ثقافة الآخر والإقدام على تحليله. بهذا الوعي الميتودولوجي قد طرح ديفريه على نحو غير مسبوق سؤال الذاتية من زاوية إبستيمولوجية تخص العلوم النفسية.

إن كلّ العلوم الدارسة للسلوك، معاقة من طرف القلق، الذي يثيره تداخل موضوع الدراسة من جهة والمُلاحِظ  من جهة أخرى. قلق يُشوّه التصور وتفسير البيانات أو المعطيات، وينشأ مقاومات من طرف التحويل المضاد. هذا القلق يُقدّر كأساس وخاصية للعلوم المرتبطة بالسلوك، وأن تشوشاتها قادرة على إنشاء وعي أفضل من كلّ أنواع المعطيات أو المعلومات الأخرى. ينبغي على العالِم أن يتوقف حصريا على وضع قيمة تُدلّس أو تحتال على الموضوع، وبالمقابل بحثه على فهم ذاته نفسها باعتبارها ذاتا ملاحِظة وملاحَظة (27).

فبالنسبة لفرويد، أهم عنصر في التحري المنهجي التحليلي النفسي هو “التحويل”. بينما يجُوب ديفريه في مدرات هذا الميكانزيم العُمدة، ليُؤكّد في منطق كتابه “قلق المنهج في العلوم السلوكية”، أنه التحويل المُضاد “contre transfert”، من يؤسس العامل الأكثر أهمية في مُنطلق التواصل ونهايته. فالمراقب كفرد مع قلقِه، وآليات دفاعِه وحقيقة أنه يحمل ثقافته الخاصة به المقحمة في قلب الإطار المرجعي الذي يحكمه، سينتهي إلى جمع معلومات مُختلفة، عن أخرى خرَج بها مًلاحظ آخر. وهذا يعني أيضا أن الأنتروبولوجيا ليس علم موضوعي تماما. ومن تمّت، ينبغي على المُراقب في هذه الحالة التكيّف مع الحقل الذي يعمل فيه على حقائقه الإنسانية (28).

إن مفهوم التحويل، هو عملية إسقاط تأثرات المُحلَّل على المُحلِّل. أمّا “التحويل المضاد” فهو بالتحديد ردّة فعل المحلّل حيال خطاب أو صمت المُحلِّل. هذه “الوضعية التّحويلية المضادة” بعيدة عن تُحصر في إطار أو نطاق العلاج النفسي، بل هي موجودة بقوة في العلاقات التي يحاول أن يبنيها الأنتروبولوجي مع أفراد المجتمعات التي يدرسها. لقد أدرك ديفريه مثلا في هذا الإطار أنه لا يُكّن أي تقارب أو مودة لثقافة قبائل sedang moi، و ذهب حدّ تطوير في حقّهم ما يدعوه في التحليل النفسي “بالتحويل السلبي المضاد”. بالمقابل، يقع عاشقا لثقافة هنود السهول، اللذين أثاروا لديه هذه المرة “تحويل ايجابي مضاد”.إن التحويل الإيجابي المضاد معناه، تقبُّل الباحث أو المُحلِّل ثقافة الآخر المُختلف، وتقبل هذا الآخر بدوره لهذا المُتطفل الغريب. وهذا ما حدث بالضبط في تجربة ديفريه مع هُنود السهول (29).

لقد أقحم “ديفريه” التحليل النفسي إذن في صميم الأنتروبولوجيا، إنه يُقدّر أن تحليل التّلف آو التّشتّت الحاصل في لاوعي الباحث، كجزء مُدمج من عالم المعرفة، تلك الخاصة بالعلوم الانسانية. بإختصار، لا يُمكننا تحقيق الموضوعية بالكامل، والتي لا يمكن أن تكون على حدّ قول “غاستون باشلار” سوى تقريبية {مرجع}، عندما يتعلق الأمر بتحليل ما هو ذاتي أو بينذاتي. وزيادة عن ذلك، تفترض مُتطلبات التكامل complémentarité حسب ديفريه، الإلتزام بالضوابط التالية:

  • الخوض في تجربة التحليل النفسي؛

  • التمكن من المعرفة الإثنولوجية؛

  • الإستخدام المباشر للّغة الأم مع مُجتمع أو حالات الدراسة

يُسقِط هذا التصور الإبستيمولوجي على المُحلّل النفسي، تلك القيمة النرجسية التي تشمل عمله التحليلي داخل العيادة، فهو خلف جُدرانه صاحب الحلّ والمشورة والقرار، أو على الأقل سيّد الموقف. وهو مُتحرك بجهاز مفاهيمي، مُؤَلَّف من رُكام بيانات الحالات الإكلينيكية السابقة. ليُقحمه عوض ذلك في اختبار آخر من شأنه تقويض كلّ معارفه السابقة حيال النفس البشرية، خاصة تلك المعرفة التي لا تترك للإحتمال نصيبه. بل إن هذا المحلِّل يقع تحت رحمة أسرار الثقافة التي يحرسها لاوعي ثقافي جدّ مُشفّر للباثولوجيات. كما تتقلص حجم استيهامات الأنتروبولوجي حيال الإنسان البدائي وثقافته، ليخرج من تجربته الميدانية بمعرفة نقدية مزدوجة حول الذات والآخر. أو بمعنى آخر: قُطب الذات كخارج وقُطب الآخر كداخل.

  1. جورج ديفريه رمز للتعدد والتّرحل والإختلاف

ما يشدُّ الباحث في حياة ديفريه غير المُنفصلة عن فكره، تَغييِّرُه الكبير لإنتماءه وإخفاءه، مُعطيا إنطباعا على أنه وُلد في فرنسا التي هاجر إليها بعد فاجعة حدث إنتحار أخيه إستفانIstvan ، إلى جانب إبداله لإسمه في الرابعة والعشرين من عمره *، وأشياء أخرى تظل مُبهمة في مسار حياته، تتعذّر عن الفهم. لربما خوفه الهوامي من أن يُصبح عبدا مملوكا بحكم جُذوره العرقية اليهودية، هو الدافع الذي جعله هو نفسه يتنكّر إلى هويته الأصلية، ليعيش كظّل أو شبح مُتجول من مكان لآخر، مختارا المنفى بلدا له، فلم يعدُ له وطنا أو حدودا. وكثيرا ما يرجّح هذا الحكم، الذي عبّر عنه المُتخصص في سيرته وفكره، المُحلِّل النفسي والإثنولوجي توبي ناتان .Tobie nathan

في الواقع، لقد إنحدر جيورجي دوبو “Győrgy Dobó” وهو إسمه الحقيقي من عائلة يهودية ألمانية – هنغارية”germano-hongroise” ، في ترانسيلفانيا، وهي المنطقة التي تم ضمُّها إلى رومانيا سنة {1920}. ولكن المحيّر في سيرته المُتناثرة الأطراف، هو أنه قد أخفى جزءا من هذه الهوية، بل أقبرها في دواخله، مُستبدلا إياها بمزيج رهيب من الإنقلابات على الجذور والتقابس الهووي. وهكذا كان إختياره اللغة والثقافة الفرنسية على حساب اللغة الالمانية وثقافتها، ثم ثقافة هنود السهول ضد اليهودية، والحضارة الآثينية ضد المجتمع العسكري من سبارطا. أما الشعب الذي عُرف من خلاله، فهو الشعب الموهاف أو هنود السهول، اللذين  تمكنوا من تطوير ما أسماه “ثقافة حالمة”. وعندما تُوفّي هذا المفكر الأناركي “Anarchiste”، تناثر رماده في المحيط الهادئ من أراضيهم كما تمنى ذلك في حياته.

خاض ديفريه مُغامرة في المجهول بكلِّ ما في المعنى من كلمة. لم يقم خلالها باستكشاف مسارات معروفة وملحوظة بشكل جيد. لعلّه كان يُنقب عن خريطة مُعينة “للاشعور الثقافي”، تسمح باختبار طوبولوجيا الجهاز النفسي الفرويدي {الهو – الأنا – الأنا الأعلى} ضمن بنيات نفسية شديدة التعقيد والتشاكل. لقد كان شخصية تثير الإستغراب حقا، يجمع بين مزيج من الجرأة والمحافظة، الليونة والصلابة، تذهب به بعض الأحيان حد الدوغمائية. كيف لا وهو الذي كان يتمتع بكم معرفي وثقافي بالغ الثراء حول الحضارات والشعوب، خاصة تلك التي تصنّف ضمن التاريخ المنسي {غير المكتوب}، هذا ما جعل الأنتروبولوجي “كلود ليفي ستراوس” يكّن له تقديرا كبيرا، بل لم يتوانى هذا الأخير في أن يعرض عليه كرسي للتدريس بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الإجتماعية.

بعد عام {1972} أكثر كتابات جورج ديفريه كُرّست لدراساته حول الأساطير اليونانية وإلى تفسيرات تحليل – نفسية للتاريخ القديم. فديفريه و بطريقة أصلية للغاية، كان قادرا على إظهار ثراءا في تطبيق التحليل النفسي على دراسة التاريخ. وقدّم جُهدا كبيرا لفهم وتفسير الحقائق النفسية اللاواعية الفاعلة في الماضي، مما يمنحها ضياءا جديدا. فمثلا، في التراجيديا والشعر اليوناني “دراسات في التحليل النفسي العرقي” {1975} يُفسر الأحلام في تراجيديات كُلّ من إسخيلوس، سوفوكليس، يوربيدس، مما دلّ على أنه لازال يحتفظ بريشة شاعر حقيقي يُبدع أحلام معقولة من ناحية نفسية، مع إقتراحه فكرة أن التحليل النفسي، يُمكن أن يكون أداة ثمينة بالنسبة للتّحقيق التاريخي (30).

يعود في مؤلفه “المرأة والأسطورة” {1982} ليُحلّل سلسلة من الأساطير اليونانية، تتمحور حول الجنس، سفاح المحارم، مُغامرات الآلهة {…} الخ. إنه يدعُم من خلال هذه المناولات فكرة: أن الأساطير الأميسية تُظهر أن كل إنسان ومنذ طفولته المُبكرة مكفول إلى النظام الأمومي {الرواية العائلية للعصاب}. فمثلا من خلال الأسطورة اليونانية بوبو – لامبي Baubo-Iambé، التي تمثل جنس المرأة، نجد قلبا في تصور الفرج و المهبل عند الأنثى، من خلال إعادة تأهيله بواسطة فعل ترميز الأعضاء التناسلية للمرأة، التي انتقصت منها الثقافة الغربية وحطّت من قيمتها بالمقارنة مع القضيب الذكوري. فمن خلال الترميز الجنسي كما يرى كلاينبوك “الإنسان يضفي الجنسية على الكون” (31). إذا كانت غالبية الأساطير تبدو على صورة رمزية، فلا بد لها في الواقع من أن تعني أو تخفي شيئا يختلف عما تعبّر عنه في صورتها الظاهرة. إنها، كالأحلام، تتطلب تفسيرا (32).

نجد أيضا كتابات نشرها، يُعالج فيها موضوعات خاصة بالتحليل النفسي الإثني، مُشيرا إلى العديد من الأساطير اليونانية، التي غاص في سحرها حتى سنة وفاته. و بعد موته، نشر كتابه الذي ألّفه بالاشتراك مع w.g.forrest أستاذ التاريخ القديم في جامعة أكسفورد، بعنوان “كليومينس الملك المجنون”. هذا الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية ذات طابع نفسي. وهو يستحضر “كليومينس الثاني” من “سبارتا”، الذي كان يُعاني من فصام إستحواذي (33). لقد غدت الميثولوجيا الإغريقية التي يستنجد بمصائر أبطالها بين الفينة والاخرى، تلقي بظلالها على صميم أحداث حياته.

من الصعب الإحاطة بتفكير جدّ مُتطلّب ومُعقد، كذلك الخاص بباحث عالمي cosmopolite، يتحرّك بشكل منهجي بين الثقافات {الملايو، الفيتنامية، اليونانية، أمريكا الشمالية} ومُتعدد اللغات Polyglotte، إذ كان يُجيد الحديث بثمانية لغات منها: الإنجليزية، السيدون، الموهاف، الملايو، المجرّية، الرومانية، الالمانية، الفرنسية وهذه اللغات الأخيرة الأربعة ثم تعلمها منذ سن الطفولة. ومن المناسب هنا ذكر مُساهمته في الفيلولوجيا والأساطير اليونانية التي وسع إضطلاعه عليها ما لم يتأتّى لمجموعة من المُحلّلين. ولعل ما يجعل منه أكثر من نموذج، هو تصميمه وهو في سن الخامسة والخمسين تعلم اللغة اليونانية القديمة.

هذه الإهتمامات المتنوعة وهذا الفضول المعرفي الذي لا ينضبّ، لم يكن يُبطن شيئا من الإنتقائية التي كان يكرها بشدّة. لأنه كان يفصِلُ بدّقة، وبطريقة باشلارية بين العقلانية العلمية والعاطفة الفنية (34). كما كان يظهر، الرجل المفكر، الكاتب، المحلل، عارف مُتعنِّت وعنيد، منغمس بِعمق في علاقاته مع الآخرين، دون أن يفتح أمامهم أبواب عالمه السرّي إلى أن وافته المنيّة في 28 ماي (1985). وبكلّ إرادته مِنْهُ، إحتُفِظ ببقاياه في مقبرة “موهاف دي باركر” في كولورادو.

لقد ترك “جورج ديفريه” تلاميذ ولكن ليس مدرسة، ترك فكرا أصيلا وعميقا، ولكن ليس نظرية متكاملة، كما تُلخّص لنا ذلك بشكل جيّد ديان كولنيكوف “kolnikoff diane”. وتُوجد حاليا مؤلفاته ومقالاته الأكثر أهمية باللغة الفرنسية. لكن المُفارقة pradoxe التي تُطرح، هي أننا بقدر ما نَعلمُ عن أفكاره الغزيرة، بقدر ما يَغمرُنا إنطباع بأن ديفريه ينفلت منا. فحتى الموت لم يُغيّبه صوته بالكامل، لأنه إجترح مع الموت، سفرُه الدائم بين الأرواح والنفوس والذوات ولا شعورها. فأعماله تشهد على عُمقه وسعة معرفته، وهي مازالت تُدْرَسُ وتُدَرَّسُ ويُعاد التفكير في انفتاحاتها الإبستمولوجية المائزة من طرف منظورات معرفية مُتنوعة، كما لها من الأصالة ما يجعلها إطارا مرجعيا لا يمكن القفز عليه، أو تجاهله في مضمار التحليل النفسي الإثني، كما شاء هو أن يُلقِّبه.

إبستمولوجيا التكامل في التحليل الإثني النفسي عند جورج ديفريه - يوسف عدنان
خطاطة تفسيرية

هوامش:

  1. Géza Róheim, Psychanalyse et anthropologie. Culture, personnalité, inconscient, Gallimard 1969, édition numérique Chicoutimi.
  2. Géza Róheim, origine et fonction de la culture, Gallimard, 1972 , Collection ; Idées, numéro 258.
  3. 3. هذين العملين قد مهّدوا الطريق لتحليل ما هو جماعي كأساس لا يتجزأ من تحليل الأنا. ويمكن عدّهم من أهم مؤلفات فرويد حول  السيكولوجيا الجماعية.
  4. 4. أول دراسة نفسية “عبر ثقافية” نشرها مالينوفسكي سنة 1927 كانت حول “الجنس”و”الكبت” في مجتمع متوحش. حيث أن عقدة أوديب موجهة ضدّ الخال الذي يقوم بدور الأب. وقدم من خلالها نقداً لنظرية التحليل النفسي الفرويدية في تصورها كيفية تأثير مرحلة الطفولة في الشخصية. وتساءل مالينوفسكي: هل ننظر إلى “عقدة أوديب” كما رآها فرويد، من أنها ظاهرة إنسانية عالمية توجد في كل المجتمعات والثقافات، أم أنها نتاج شكل معين من أشكال النظم العائلية؟ وهل يمكن أن تظهر في مجتمع يسود فيه نظام القرابة الأمومي؟ كما أشار مالينوفسكي إلى أن دور الأب في المجتمعات، التي هي مجتمعات أبوية بطريركية، يختلف تماماً عن دوره في المجتمعات الأمومية.
  5. 5. سيُدرّس ديفريه الطب النفسي وسط كلية الطب بالحرم الجامعي في فيلاديلفيا. ثم سيستقر في مدينة نويورك كمحلل نفسي الى حدود 1963، عام ذهابه المفاجئ الى فرنسا. هذه العودة الى باريس، أين سينهي بقية أيامه، هو الزمن المشع للاعتراف الحقيقي به، ليس فقط باعتباره محلل نفسي في المجال الاكلينيكي، ولكن كأنثروبولوجي مؤسس الطب النفسي الاثني والتحليل النفسي الاثني.
  6. ethnopsychoanalysis : psychoanalysis and anthropology as complementary frames of reference, berkeley : universty of california press, 1978.
  7. Roudinesco, E. & Plon, M. (2011). Dictionnaire de la psychanalyse (4e éd.). Paris : Fayard (1ère éd. : 1997), p. 412.
  8. المقال موجود على موقع الجمعية:

: http://geza.roheim.pagesperso-orange.fr/html/ethnopsy.htm

 * يعنى علم النفس عبر الثقافي Cross Cultural Psychology بالدراسة العلمية للسلوك البشري والعمليات الذهنية بتغييراتها وثبوتها ضمن الثقافات المختلفة. من خلال توسيع عمليات البحث وطرائقه لتمييز الاختلافات الثقافية في السلوك واللغة وبالتالي تطوير علم النفس ليكون اكثر شمولية ودقة. وهو يختلف عن علم النفس الثقافي حيث يدرس الاخير تأثير الثقافة على البناء النفسي للانسان في حين يدرس علم النفس عبر الثقافي سلوكية معينة عبر ثقافات عديدة.

  1. http://geza.roheim.pagesperso-orange.fr/html/ethnopsy.htm
  2. http://geza.roheim.pagesperso-orange.fr/html/ethnopsy.htm

  1. 11. رالف لينتون، الانتروبولوجيا وازمة العالم الحديثـ ترجمة عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية بيروت،1967،ص 198.
  2. 12. هرسكوفيتز مينفيل، أسس الانتروبولوجيا الثقافية، ترجمة رباح النفاخ، وزارة الثقافة دمشق، 1974، ص57.

* راجع في هذا الصدد كتاب علم النفس عبر الثقافي للدكتور عبد الناصر السباعي، اصدارات شبكة العلوم النفسية العربية، سلسلة الكاتب الاكتروني: عدد 27.

  1. georges devreux et la question de l’identité ; georges bloch, in le coq-héron.
  2. Essais ; Les origines culturelles de Georges Devereux et la naissance de l’ethnopsychiatrie ; par Georges Bloch , in : http://ethnopsychiatrie.net
  3. georges devereux, Psychothérapie d’un indien des plaines ; fayard, 1951.
  4. magazine ; le point ; p 57. L’ethnopsychanalyse et le codage culturel, in le point références la psychanalyse après freud, 2013, p 57.
  5. méme références ; p 57.
  6. 18. georges devereux, Psychothérapie d’un indien des plaines ; fayard, 1951.
  7. Savior plus : Devereux G. (1955) Culture et Inconscient. In : Devereux G. Ethnopsychanalyse complémentariste. Paris : Flammarion ; 1972.p.79-101
  8. Georges Devereux, un savant entre les rives ; Publié dans laviedesidees.fr, par François Laplantine, le 19 novembre 2013.
  9. 21. رالف لينتون، الانتروبولوجيا وازمة العالم الحديثـ ترجمة عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية بيروت، 1967، ص 30.

*  لربما نفس الامر ينطبق على علم النفس الثقافي، فقد آلت النتيجة الرئيسية للطريقة التعميمية لعلم النفس بين الثقافات وفقا لريتشارد شويدر (1991) الى الفشل المتكرر فيما يتعلق بتكرار النتائج المخبرية الغربية في الإعدادات غير الغربية.  ولذلك، يكمن الهدف الرئيسي لعلم النفس الثقافي في امتلاك ثقافات متباينة تحدد النظريات النفسية الأساسية من أجل تحسين و/أو توسيع هذه النظريات؛ بحيث تصبح أكثر ملاءمة للتوقعات والأوصاف والتفسيرات الخاصة بكل السلوكيات البشرية، وليس السلوكيات الغربية فقط.

  1. 22. راجع مقال التحليل النفسي والعالم اللاغربي محاولة عولمة فرويد، ترجمة عن الإنجليزية ماجد الخطيب، حقوق النشر: معهد غوته فكر وفن ، تشرين الأول / نوفمبر 2014

* في اعقاب فرويد وبعد موته، نجد ديفريه قد دافع بصرامة عن الميراث. لقد ابان عن ولاء مطلق لفرويد كشكل من اشكال النزعة المحافظة الايجابية .

* هذا المبدأ معناه أنه لا يمكن قياس خاصتين فيزيائيتين (كالمكان والسرعة) لجسيم كمي (كالإلكترون) بلحظة معينة دون وجود قدر من عدم التأكد من أحد الخاصيتين أو كليهما. فإذا عرفنا مكان الإلكترون بلحظة أصبح متسحيلا معرفة سرعته بدقة، لأن إلكترونا متحركا في لحظة من الزمن (خلال فترة زمنية تتناهى إلى الصفر) سيبدو ساكنا. فإذا هناك قدر لا يمكن معرفته ولا نستطيع أن نكون على يقين منه.

  1. Georges Devereux, un savant entre les rives ; Publié dans laviedesidees.fr, par François Laplantine, le 19 novembre 2013.
  2. Georges Devereux, un savant entre les rives ; Publié dans laviedesidees.fr, par François Laplantine, le 19 novembre 2013.
  3. De l’angoisse à la méthode dans les sciences du comportement, Paris, Flammarion, 2012.
  4. 26. جاء اكتشاف هايزنبيرغ في علم الفيزياء تحديدًا اكتشافه ميكانيكا الكم، فالميكانيكا هي الفرع من علم الفيزياء الذي يهتم بالقوانين العامة للتحكم في حركة الأشياء المادية. إنه أهم فروع علم الفيزياء، وفي السنوات الأولى من القرن العشرين، أصبحت قوانين الفيزياء المعروفة غير قادرة على تفسير حركة الأشياء الصغيرة كالذرات وجزيئات الذرات، وكان شيئا محيراً ومقلقاً أيضاً حيث كانت تلك القوانين قادرة على تفسير الأشياء الأكبر حجماً من الذرة أما الذرة وما دونها فلم تجد قوانين تفسر حركتها. وفي سنة 1925 قدم فيرنر هايزنبيرغ قوانين جديدة تختلف تماماً عن تلك الصيغ التي قدمها نيوتن قبل ذلك. أما نظرية هايزنبيرغ – وقد أدخل عليها عدد آخر من العلماء بعض التعديلات – فأصبحت قادرة على تفسير حركة كل الأشياء صغيرها وكبيرها.
  5. De l’angoisse à la méthode dans les sciences du comportement, Paris, Flammarion, 2012.
  6. De l’angoisse à la méthode dans les sciences du comportement, Paris, Flammarion, 2012.
  7. magazine ; le point ; p 57. L’ethnopsychanalyse et le codage culturel, in le point références la psychanalyse après freud, 2013, p 57.
  8. ethnopsychanalyse d’un corpus de légende : retour sur une recherche sous la direction de georges devreu ; Edith campi. D’un corpus à l’autre ; anuie topalov.
  9. كارل أبراهام، التحليل النفسي والثقافة مجموعة علم الإنسان، ترجمة وجيه أسعد، تحت إشراف د، ج. مندل، منشورات وزارة الثقافة، 1998،ص 18.
  10. 32. نفس المرجع، ص، 17
  11. 33. Georges Devereux, un savant entre les rives ; Publié dans laviedesidees.fr، par François Laplantine, le 19 novembre 2013.
  12. 34. gaston bachelard, la formation de l’esprit scientifique, librairie philosophique.