يمكنك شراء نسخة كندل من الكتاب عبر هذا الرابط
1.المرض
توفي فرويد في الثالثة والثمانين من عمره عام 1939، وقد عانى في السنة الأخيرة من حياته من عملية انكماش طبيعية تدريجية وانهيار جسدي. ورغم ذلك كان حضور فرويد قوياً. فقد كانت ترافقه أيدي جدته الرقيقة فضلا عن أسلوبه الأنثوي المحدود.(1) واصل مقابلة المرضى في المكتب ذاته وأثاثه القديمة التي عززت ثقل الأجواء. (بدت الزخارف في شقة عائلية مملة وتعكس ذوقا عتيقا إلى أبعد حد). كان في غرفة عيادة المرضى محاطا بآلهة الحضارات البائدة، وكان قد جمعها على مر السنين.
كان فرويد يعود مرضاه مع عدد من أتباعه وزملائه لسنوات، وقد خيم السرطان على آخر ستة عشرة سنة في حياته. وتظهر صوره أخذت له في أيامه الأخيرة مخلفات الألم الذي ألم به في فمه، فقد تقلص حجم فكه تحت تأثير العمليات المتتالية التي أجريت عليه لإزالة الأنسجة ذات المظهر المشوه. وكان يجد صعوبة كبيرة في التحدث حتى اعتقد كثيرون بأنه كان يعاني من سرطان اللسان.
لما تضرر فم فرويد صار كثيرا ما يلمس بأصابعه الفك الاصطناعي حتى يعدل موضعه. وكان من الطبيعي جدا أن ينشغل بفمه ثم ما لبث أن صعُب عليه التعبير عن أفكاره شفوياً حت اضطر إلى التعبير بيديه وبإيماءاته لكي يتغلب على صعوباته في التحدث. وبالإضافة إلى ذلك، واجه صعوبات في الأكل. وفي عشاءه، الوجبة الخفيفة في فيينا، كان يأكل بيضة مسلوقة، وكان أكثر انعزالا، ولا يأكل مع الكثير من الناس. كان يأكل بسرعة وغالبا ما كان يقرأ جريدة أثناء تناول وجبته.
أقر بعض المرضى ممن كانوا يخضعون للتحليل، حوالي عام 1939، بعد مقابلتهم فرويد للمرة الأولى، بأنهم لم ينتبهوا إلى مرض فرويد. لكن أولئك الذين كانوا يعرفونه سلفا، لاحظوا في سنواته الأخيرة أنه لا يتكلم بحرية. ومع دنو نهايته، كانت كل كلمة ينطق بها تسبب له ألم وكان من الصعب فهمها.
خضع فرويد -دون احتساب خلع الأسنان-لواحدة وثلاثين عملية جراحية من 1923 حتى 1939. (2) بالإضافة إلى التدخل المستمر لتعديل الفك الاصطناعي حتى لا يزعجه، ذلك أنه لا يمكن الاحتفاظ به خارج الفم فترة طويلة خوفا من انكماش الأنسجة وبالتالي التدخل لتعديله من جديد. وأمام تفاقم مشاكله، أجريت عليه عمليات على حباله الصوتية في شقه الأيمن. وعندما ذكر فرويد ” أسبوع الآلام ” (3) في رسالة بتاريخ 1939، كان معنى ذلك أن وضعه الصحي سيئ للغاية. افتقد فرويد دائما للراحة وكان يعتمد على الأطباء، حتى باتت حياته مقيدة للغاية. وفي ذلك يقول إن: “الفزع الوحيدة الذي يسببه لي السقام الطويل يتمثل في توقفي عن العمل: أو بعبارة أكثر وضوحا، انعدام الكسب.” (4)
بدأ حجم رأسه يتقلص، حتى صار أصغر وأنحف، من جانب من وجهه المصاب بالمرض. ووصف فرويد نفسه في 1939 ب “العجوز، والضعيف، والمنهك.” حتى أنه كما يقول: “على الأرجح أني لن أنشر أي شيء آخر إلا إذا تم الضغط عليّ لأفعل ذلك.” (5) ولقد كان قادرا على مقابلة خمسة مرضى في اليوم. واحتفظ بحيويته المعهودة رغم من سوء حالته الصحية، وكان يمشي بطريقة صارمة حتى أنها تثير فزع تلاميذه. وبعد وقت قصير من إصابته بالسرطان أعلن فرويد على الملأ: “لقد طرأ تغير على وضعي بحكم الظروف. لم أكن فيما مضي واحدا من أولئك الذين لا يقدرون على كبح ما يبدو اكتشافا جديدا إلى أن يتم تأكيده أو تصحيحه…. لكن في تلك الأيام كان أمام وقت كثير … أما الآن فقد تغير كل شيء”. (6)
وفي نوفمبر 1923، وافق على اقتراح فيدرن بأن يخضع لعملية جراحية على خصيتيه في محاولة غريبة لفحص السرطان. (7) كانت الفكرة للتغلب على قوى الموت بتعبئة غريزة الحياة، ورغم أن الطب الحديث يري أن السرطان يتغذى من بدن المريض وبالتالي كلما زاد المريض صلابة كلما أصبح السرطان على الأرجح أكثر فتكا. وافترض فرويد لفترة أن العملية والتعقيم الذي رافقها كان لها نفس نتائج العملية التي أجراها على الخصيتين، ولكن قد يعود ذلك إلى مجرد اعتبارات ذاتية، ذلك أنه لا يرى في ذلك أيّ جدوى على المدى البعيد.
وفي أبريل 1923 استشار فرويد أحد معارفه القديمة د. مركوس هايك عن ورم في فمه، وقد لامه هذا الأخير على تعاطيه التدخين، ولكنه لاحظ أيضا أنه: “لا يمكن للمرء أن يتوقع أنه سيعيش أبد الدهر.” (8) وكان مقرر له عملية استئصال في عيادة خارجية، وطلب فرويد، قبل الجراحة بأيام قليلة، من دويتش فليكس، الخبير المختص في تشخيص الأورام. أن يفحص ورمه، وقد تخصص فليكس لاحقا (كما فعل غرودك وجليف) في تطبيق التحليل النفسي على المرضى عضوياً، وهو مجال الطب النفسي الجسدي الذي كان اهتمام فرويد به محدودا. (9)
قال فرويد أثناء اطلاع دويتش على الورم: ” للأجل هذا أنا بحاجة لطبيب. إن تبيّن لك أنه ورم سرطاني، عليّ أن أجد وسيلة لائقة لأختفي من هذا العالم. ” (10)· كان الموت بالنسبة لفرويد أ فضل من الحياة بدون كرامة، والسرطان ألم ومذلة ثم نهاية طال أمدها. لم يكن السرطان يمثل خطر ا بعينه، ولكن أعرب دويتش فليكس كطبيب عن قلقه من احتمال أن ينتحر فرويد. وكان فرويد قد لمح إلى ذلك دون أن يكرر ذلك مرة أخرى بأي شكل من الأشكال.
وفقا لماكس شور الذي أصبح الطبيب الشخصي لفرويد منذ عام 1929، كان فليكس دويتش يخضع للتحليل مع بيرفيلد، وكان شور قد انتقد طريقة تصرف دويتش كعضو بجمعية فيينا، ورغم اعتراف شور في عام 1923 بأن سلوك فرويد تجاه مرضه كان قدريا على نحو غير عادي، فقد تعزز لديه الشعور بأن “فكرة الانتحار لم تخطر على بال فرويد قط…” (12) ولقد استاء شور من أن يكون دويتش قد أخبر أحدا من عائلة فرويد حول إمكانية إصابة فرويد السرطان في فمه، ولقد أحزنهم كثيرا أن أخفى عنهم فرويد عمليته الأولى. بالإضافة إلى ذلك اعتقد شور أن هايك ليس جراحا ماهرا، لكن فرويد هو من اختار هايك وليس دويتش.
ورغم أن دويتش توجه مع فرويد إلى المستشفى، فلم يكن أحدا بجانبه عند إجراء العملية، وهذا أمر مشين: “تفاجأت العائلة بتلقيها مكالمة تليفونية من العيادة تطلب منهم إحضار بعض الأغراض لفرويد لأنه يقضي ليلته في المستشفى. فأسرعت زوجته وكذلك ابنته إلى هناك ليجدوا فرويد جالسا على كرسي المطبخ في قسم العيادات الخارجية وقد غطى الدم جميع ملابسه”. (13)
كان الورم سرطانيا، لكن لم يذكر أي من هايك أو دويتش ذلك أمام فرويد (منذ البداية اعتبره دويتش ورم سرطاني صريح في مستوى متقدم). وقد تم فحص فرويد من أجل تشخيص مرضه عبر صورتين بالأشعة السينية حيث “تبيّن تعكر الحالة.” (14) وقد كان لجرعات الراديوم المتتالية آثارا سامة خطيرة على فرويد. ولقد كان هايك يعالج فرويد “بغلظة” حتى أنه لم يكن يتحوط من تقلص الندب. إما لأنه كان لديه انطباعا بأنه بذل كل ما في وسعه، أو أن الورم قد استؤصل نهائيا، وإما أنه كان يعتبر الحالة منذ البداية ميؤوس منها”. (15)
أمر هايك فرويد بأن يذهب في عطلة، ولكن فرويد لم يرغب في أن يقطع رحلته إلى إيطاليا للتداوي في نهاية يوليو كما رغب في ذلك هايك. اعتقد الطبيب المحلي بأن فم فرويد على ما يرام، ولكن فرويد استاء كثيرا من أن ابنته آنا أقنعته بأن يكتب لفليكس دويتش ليزورهما في ايطاليا لإجراء فحص. كما اكتئب فرويد إثر وفاة حفيده الحبيب في يونيو. وخطط فرويد لرحلة إلى روما مع آنا. ويعلم دويتش جيدا أهمية ذلك بالنسبة إليه. كان دويتش، الذي أصبح بعد ذلك طبيبا لفرويد، الرجل الطيب الذي لا يخبر الناس بالأخبار السيئة، كان يؤمن بإخفاء المرض عن المرضى الميؤوس من شفائهم. وكان طلب فرويد منه أن يساعده على مغادرة الحياة بكرامة بمثابة أعظم عذر كان دويتش يحتاجه. وكان يتعامل معه أيضا بديكتاتورية، متوهما أنه يعرف أفضل ما يتعيّن عليه فعله تجاه حالته. ومع ذلك فإنه يرى ضرورة إجراء عملية أكثر جذرية، أسرّ بها أولا صديقه أوتو رانك ومن ثم لبقية الأعضاء في اللجنة، الذين عقدوا اجتماعا للنظر في الأمر، ولم يخبر دويتش فرويد بالحقيقة، وذلك رغم تأكيده لآنا ولأبيها على تمديد إقامتهما في ايطاليا، وقد خمنت ما حدث. (16)
في غياب فرويد التقى دويتش جراح الفم، هانز بيتلز، الذي أجرى عمليات فرويد اللاحقة. وقد أكد هايك لفرويد أن العلاجات اللاحقة ستكون ذات طابع وقائي. وفي رحلة فرويد إلى روما، سال الدم من فمه بكثافة، واتسعت الأنسجة، وقد “خلف ذلك بلا شك أسى في نفس آنا وفرويد”. (17) وفي الخريف كشفت الفحوصات عن وجود ورم خبيث مما استوجب عملية ثانية.
بعد سنوات عديدة أخبر جونز فرويد في لندن أن اجتماع الأعضاء في اللجنة في ايطاليا ناقشوا ما إذا كان يجب ابلاغ فرويد بالورم الخبيث. وبعيون محترقة سأل فرويد ” بأي حق؟ “. (18) كان فرويد أكثر المرضى ضبطا للنفس، وقد صعق لما علم أن دويتش لم يخبره الحقيقة: إذ يعني ذلك أن فرويد تحت وصاية شخص آخر. وقد استشاط غضبا من دويتش، ومهما كانت مبررات أعضاء اللجنة، وأيّا كانت أسباب تحفظهم، فقد لام فرويد طبيبه على خداعه له. وفي ربيع 1939، قبل أشهر قليلة من موته، لقد كان فرويد مستاء “فالناس من حولي، كما يقول، يحاولون أن يحيطوني بجو من التفاؤل إذ ما فتئوا يؤكدون على أن السرطان في تقلص، وأن العلاج لن يطول. لا أثق في أي منهم، ولا أحب أن أنخدع.” (19) كانت الاستقلالية ثمينة بالنسبة لفرويد، و”أصر على دفع كامل الأجر لبيتشلر، كما فعل ذلك مع جميع أطبائه”. (20)
وأما تصرف دويتش فقد رأى فيه فرويد تثبيطا لعزيمته في مواجهة الحقيقة. ورغم أن دويتش زعم في السنوات اللاحقة بأنه كان سيأتي الشيء ذاته مرة ثانية، إلا أن فرويد أبى أن يصفح عنه. وانسحب دويتش كطبيب لفرويد، وذلك رغم أن علاقتهما ما لبثت أن صارت من جديد على ما يرام. وفي السادس من أغسطس عام 1924، كتب فرويد لفرينشيزي يخبره بأنه كان يعلم منذ البداية بأن الورم كان سرطانيا. (21)
كان قرار صعبا من وجهة نظر فليكس دويتش. (22) وفي سنوات لاحقة تذكرت هيلين دويتش، عندما كانا هي وفليكس يتنزهان على شاطئ البلطيق في ريجا، مدى قلقه من قراره الذي اتخذه في إيطاليا. لقد علم مسبقا أن فرويد لن يكون سعيدا بإخفاء الحقيقة عنه، وسأل زوجته لمساعدته في تأويل نوايا فرويد وكان كلاهما يخشى إمكانية الانتحار. وفي نفس الوقت قدرا شوقه العظيم لروما، فلقد كان الورم محدودا للغاية ولا خوف من أيّ مضاعفات خطيرة بعينها قد تترتب عن السفر إليها.
خشي فليكس دويتش من أن فرويد قد يفضل الموت على أن يجري عملية مرة ثانية، ولذلك اعتقد بأنه يجب أن تُتخذ الترتيبات الضرورية للعملية الجديدة دون علم فرويد. (23) ولاحقا ادعى شور أن “دويتش هو الذي لم يستطع ‘مواجهة الحقيقة’ لما رأى الآفة القبيحة في فم فرويد…”. (24) لكن بالنسبة لدويتش كان فرويد المكافح الذي لا يستطيع أن يتحمل عجزه أكثر من عجز الآخرين. (25) وبالنسبة لدويتش تبين بعد ذلك أن فرويد كان غاضبا منه خاصة لأنه استغل عجزه·، ولقد رأى فيه الطبيب رجلاً يرهبه الناس العاديين وينبغي أن تؤخذ ردود أفعاله في الاعتبار. وفي 1901 كتب فرويد إلى فليس يقول: “إنك تذكرني بذلك الزمن الصعب والجميل عندما كنت على حق في الاعتقاد في دنو أجلي، ولكن كانت الثقة التي منحتها لي هي التي شجعتني على البقاء. ومن ذلك الحين افتقدت الشجاعة والحكمة حقا.” (27) وكان هذا الحادث في عام 1923 علامة على حساسية فرويد، ولما استأنف حياته السابقة واستطاع أن يزاول مهنته ويكتب ثانية، استطاع أن يواصل حياته ببطولة رغم علمه بإصابته بالسرطان ومعاناته منه.
ظل فرويد يتذمر من طبيبه السابق. وجاء في رسالة من فليكس إلى زوجته في أغسطس 1924 ما يلي: “حتى قبل أن يتحدث البروفسور عن إخفاء مرضه… مع الوقت… يجب أن يدرك أن انفصاله (عني) لا يمكن الدفاع عنه مهما حاول أن يدعمه بدوافع أخرى… لم يُثبت أناه أثناء مرضه أنه أهل للحب ولا أنه قوي كما يتظاهر بذلك. ولما تعافى، شعر بجرح عميق، وما كان له تحقيق مهمة إنعاش الأنا في خضم الضرر العضوي العظيم الذي لحق به، إلا باستبعاد الليبدو عمن كان شاهدا على عجزه. ولقد حاول أن يبرر تمنعه بحجة أن مرضه غير مؤكد. فلقد كان عليه أن يوجه لومه إلى شخص ما. (28)
ومن خلال لومه المتكرر لدويتش قد يكون فرويد أدرك جيدا أن الشكوك الأولية جعلته يتحمل آلامه بصعوبة. ومن وجهة نظر دويتش، حرف فرويد الواقعة تماما: وأعتقد دويتش أن فرويد أراد لاحقا أن يطلع على كل التوقعات في أدق تفاصيلها. وهكذا استخدم دويتش ككبش فداء، ليحمي نفسه من النقد الذاتي.
أشار دويتش في رسالته هذه إلى زوجته كيف أن فرويد أصبح يميل إلى اعتزال الناس أكثر فأكثر، وشارك في كتابة سيرته الذاتية ومقال لموسوعة بريطانيكا. وقد يكون أصيب بالاكتئاب، فقد كان يقضي وقته في المطالعة بمنظار، يتأمل التلال المحيطة بالنهار والقمر والنجوم بالليل. وقد عانت عائلته من انعزاله. وبعد انسحاب دويتش كطبيب شخصي لفرويد كان يتشاور معه أحيانا في أمور طبية ودعاه للعب الورق معه. وقد احتفظت آنا به كطبيب شخصي لها. ولاحقا أهدى فرويد فليكس خاتما، وأخبره كما جاء على لسانه بأن “لا شيء يمكنه أن يفصل بيننا” (ومنذ مدة طويلة كتب فرويد لستيكل: “لا أعرف أبدا ما الذي يمكن أن يفصل بيننا.”(29)
أكد ماكس شور، وكذلك فعل جونز، شجاعة ردة فعل فرويد نحو السرطان، ومهما كانت ردة فعله الفورية لما اكتشف ورمه التي شهد عليها دويتش، فإن تحمل فرويد لمثل هذا الألم كان بطوليا. وبعد سنوات، بعيدا عن استياؤه من دويتش، ظل فرويد دون طبيب شخصي. وفي عام 1929، كان شور المختص في الطب الباطني، يوشك على الانتهاء من تحاليله الشخصية التي شرع فيها منذ 1925 مع روث برونشفيك· ومن أجل علاج ماري بونابرت، اتصل شور بفرويد بخصوص مرضها، وقد كانت هي (وربما روث برونشفيك) التي أقنعت فرويد بأن يتخذه طبيبه الشخصي. ووضع فرويد “قاعدة أساسية” لعلاقتهما وهي ألا يخفي شور الحقيقة عن فرويد مهما تكن مثبطة. ولما قال فرويد إنه يستطيع تحمل ألم أكثر وأقوى المهدئات غير المرغوبة، فقد كان يريد أن يتيّقن من أن شور لن يتركه، وإذا حان أجله فلن يكون للألم معنى. (ومع دنو أجله في 1939، ذكّر فرويد شور بوعده) وقد أخبر شور بأنه يتوقع أن يدفع ثمن كل العلاجات التي يتلقاها.
كان فرويد في تقدير شور مريضا مرنا، ولكن أمام مواجهة سرطان مثل الذي ألمّ به فإن كثرة تدخينه للسيجار هي التي كانت تقلق طبيبه أكثر. حاول فرويد أن يخفف مؤقتا من التدخين من لتفادي أيّ مضاعفات على القلب، وليس بسبب فمه. ولكنه لم يكن يستطيع الكتابة دون سيجاره، تتمثل مهمة شور الأساسية، وبمساعدة آنا، في إحداث تعديلات مستمرة على شريحة فرويد مشوهة الخلقة، والتي يُفترض أن تفصل جوف الأنف عن فمه ومختلف الجيوب، ينضاف إلى ذلك مهمة حساسة تتمثل في الكشف عن أورام جديدة يُحتمل أن تكون خبيثة، ورغم من أن فرويد تحمل البلادونا من أجل علاج المقعد التشنجي، فقد كان قليلا ما يستخدم أسبرين أو بيراموندن. وكان فرويد يكره التذمر، ولأجل ذلك أخلص له شور وأحبت آنا الاعتناء به.
* **
في أوائل مرض فرويد في أبريل 1923، كان حفيده هاينز رودولف “هينرلي” يعيش في فيينا. ولم يكن لماتيلدا ابنة فرويد البكر أولادا فأرادت تبنيه. وفجأة توفيت ابنة فرويد ووالدة الصبي صوفي بسبب أنفلونزا وبائية عام 1920. وكان الفتى قد أصيب في صغره بتعفن فيروسي في الأذن، سرعان ما تتطور إلى مرض السل. كان فرويد كريما مع الأطفال الصغار حيث كان يبحث عن أي سبب لإهدائهم هدية، فما بالك بحفيده الوحيد القريب جدا منه. والدته توفيت، وقد مثل موته أثناء مرض فرويد صدمة قوية له.
وجال بخاطر فرويد أن الطفل قد يصمد فيكون خليفته، فلقد وهبته ابنته وريثا. كان الطفل في غاية الذكاء حتى أنه يبدو مثل فرويد، وأيّا كان تقديره لأبنائه، فإنه يرى في حفيده هذا رمزا يعتّد به للمستقبل، وأثناء موت هينرلي اكتئب فرويد بشكل كبير لم يعرفه منذ تردي علاقته مع جونز 1913. (31) هينرلي ” كان حقا تابعا ساحرا، وأعلم أني لن أحب بشرا ولا طفلا يقينا، أكثر منه أبدا.” (32)
ربما تجد مشاعر فرويد الكئيبة أساسها في اهتمامه بالماضي كما يتجلى في اعتزازه بتماثيله القديمة وآثار حضارات ميتة·. ومثّل حزنه الشديد على الحفيد منعطفا في حياته. لقد كتب لبنسونجر في عام 1926 يقول: ” لقد فقدت ابنتي الحبيبة وهي في السابعة والعشرين من عمرها، ولكنني تحملت المصيبة …أما الطفل (هينرلي) فقد احتل مكان جميع أطفالي وأحفادي الآخرين، ومن ذلك الحين، منذ وفاة هينرلي، لم أهتم بأمر أحفادي الآخرين بتاتا، وفقدت متعه الحياة. ” (33) وفي عام 1929 فقد بنسونجر ابنا، فأبرق له فرويد رسالة تعزية كشفت أنه مازال أستاذا في علم النفس، جاء فيها: “رغم أن كلينا يعلم أن بعد هذه المصيبة ستنتهي حالة الحداد الحادة، ويعلم كلانا أيضا أنه لا شيء يعزينا أو يعوض فقدهما. لا يهم ما الذي سيملأ الفراغ، حتى إذا تم ملؤه تماما، فسيظل هناك شيئا آخر ناقصا. وهذا ما ينبغي أن يكون فعلا. وتلك هي الطريقة الوحيدة لتأبيد هذا الحب الذي لا سبيل للتنازل عنه”. (34)
وعموما كان فرويد مهتما بعائلته في التحليل النفسي أكثر من عائلته الطبيعية، ومن الصعب أن نعرف أيهما يكون في المقام الأول، خيبة أمله في أبنائه أو نقص موهبتهم نسبيا. بينما رأى أبناء العظماء الآخرين في آباءهم عبئا عليهم. وربما لم يكن فرويد استبداديا كثيرا مع عائلته، رغم أن النفوذ والسلطة اللذين مارسهما أكثر مما يمكن أن نتصور أن أبا قد يأتي بمثلهما في أيامنا هذه. ورغم العطاء، فقد كان مآله الاستبعاد وربما الإهمال، وكان فرويد يستغل مناسبة العطل للكتابة، في حين كان الآباء الآخرين يستغلونها للاهتمام بأطفالهم. وكان فرويد أبا لتلاميذه أكثر من أبنائه. وكان بالنسبة لهؤلاء (أبناءه) محللا مراقبا أكثر منه أبا فعليا. ونتيجة لذلك انتهى به المطاف إلى الابتعاد شيئا ما عن أبنائه، والاقتراب أكثر من أرنست.
كان تلاميذ فرويد يستمتعون بتحقير أبناء فرويد. انطلق مارتن في العمل في دار نشر التحليل النفسي في 1931، وحلّ محل اي جي ستورفر كمدير في بداية عام 1932 الذي انسحب بسبب نقص في الأموال. وقد علق فرويد على استقالة ستورفر قائلا: ” نشعر وكأننا رعايا أطردوا سيدهم أدركوا الآن فقط ما فعله لأجلهم.” لكن بالنسبة لمارتن، تعيينه على رأس دار نشرا يعدّ مؤشرا على أنه غير قادر على أن يسلك طريقه بنفسه. كان يقيم على مسافة قريبة من شقة فرويد، وحتى قبل أن يبدأ العمل بالصحافة كان يزوره مرتين في اليوم. وكمصرفي سابق، كان يطلع على شؤون فرويد المالية وكذلك بعض شؤون تلاميذه، فقد كان الأجانب يحتاجون إلى تحويل العملة والفيينيون يريدون تصفية شؤونهم أثناء هجرتهم.
يعكس مارتن مثالا عن مصاعب ابن رجل عظيم. أنيق ووسيم، متزوج وأب لطفلين، اهتماماته كثيرة. بما في ذلك تلميذ يتدرب على التحليل مع فرويد. جمع مارتن النساء كما جمع والده التماثيل القديمة. عندما وصل النازيين إلى فيينا في عام 1938، اختبأ مارتن في مسكنه المؤقت، وأدركت امرأته للمرة الأولى حقيقة ما يجري. انفصل الزوجان واقتسما كتبهما. ولسوء حظهما أن كتيبا لصور نساء صديقات مارتن آل إلى زوجته، وهي صور التقت في زوايا مختلفة من الشارع، لقد كانت بمثابة مذكرة لفتوحات دون جوان عصره. ولما وصل فرويد إلى لندن، كانت زوجة مارتن قد تركته، والابن معاقب، واستبعد عن إدارة نشر التحليل النفسي ومنذ ذلك الحين تسلم أرنست مقاليدها.
كان الاحتفال بعيد ميلاد فرويد السبعين في عام 1926 أكثر عمومية، بالرغم من كراهيته الشخصية لمثل هذه الأمور، وكان بصفة عامة “متمردا على… عبارات التعاطف التقليدية…” (35) وافق فرويد في النهاية -بسبب مرضه-على استمرار البيت مفتوحا، قد تكون هذه المناسبة الأخيرة. لقد رحب بالمهنئين واطلع الهدايا التي وصلته. لقد أحب الزهور خصيصا زهور الأوركيد والغردينيا، وقد امتلأت شقته بمثل هذه الهدايا. ولم يكن فرويد أن تلتقط له صورا، ولكن كان يجلس لتُتخذ له نسخا منقوشة، نسخا حوّلت لاحقا إلى جمعية فيينا. اختيرت مجموعه صغيرة من تلاميذه الشباب لزيارة شقته-وكان فرويد كالوالد الذي يخاطب أولاده-كان ينصحهم بحرص كبير على أن يعضد بعضهم بعضا. “أثناء الاحتفال، خاطب “أبناءه” كافة وحذرهم بأن عليهم من الآن فصاعدا أن تكون لهم أفكارهم الخاصة. ” (36) وإذا أرادوا أن يغيروا شيئا في التحليل النفسي، فلهم ذلك، على ألا يكون ذلك من أجل إرضاء العامة”. (37)
كتب فرويد عام 1929 يقول: “إن أهم قرار حمائي يمكن أن يتخذه المرء في مواجهة المعاناة الناتجة عن العلاقات البشرية، هو العزلة الطوعية، أن يهتم المرء بنفسه بعيدا عن الآخرين، ذلك هو طريق السعادة…. سعادة السكينة.” (38) لقد صار أكثر سكينة وشغل نفسه بالكلاب حتى استعاض بتعلقه بالكلاب عن علاقاته السابقة بالناس، وقد واجه صعوبة متزايدة في أن يبدأ من جديد. وقد كانت الكلاب الصينية أقل إزعاجا لفرويد من الناس. لكنها كانت تزعج زوجته مارتا. وربما يعكس موقفها هذا نفور التقليد اليهودي من الحيوانات التي تقوم بدوريات على حدود الأحياء السكينة المخصصة لليهود بأروبا الوسطى. وكانت تغضب عندما يعطي فرويد طعامه لهذه الكلاب.
كان لا يتورع في المقارنة بين كلابه المفضلة وبين سخافة رجل “متحضر” فاسد. ولئن كانت الكلاب، حسب فرويد، تفتقد للخصائص البشرية إلا أنها وفية وكان يثق بها. إذا أحب الكلب أظهر ذلك، وإذا كره فغنه يظهر ذلك بشدة. لا تخدع الكلاب بينما البشر يخدعون. وقد كتب لحيوان آخر أحبه، ماري بونابرت، عن سبب انجذابه للكلاب “محبة دون أي ازدواجية، بساطة الحياة النقية من صراعات الحضارات التي يصعب تحملها. جمال الوجود الذي يجد اكتماله في ذاته.” (39) ويؤثر فرويد في الكلب جماله الذي لا يوصف وإن يكن حاد الطبع. وفي آخر عمره كان فرويد يقوم بالتحليل النفسي بانتظام بحضور كلب في غرفته التي يقابل فيها مرضاه وكذلك كان محللون آخرين يمارسون مهنتهم ترافقهم كلابهم.
رغم انسجام فرويد مع ذاته ورباطة جأشه، حتى في مواجهة آلامه، فمازالت تراوده مشاعر الاستياء القديمة. ورغم كل شيء، فقد صارت نظرته للطبيعة البشرية أكثر تجهما مع مرور السنين. لقد حافظ على “اعتقاده غير العلمي بأن نصف البشر أو معظمهم بؤساء إلى حد كبير،” وقال إن يشعر ” بالمرارة بسبب خيبة أمله العميقة” بشأن مستقبل المحللين النفسيين. (40) على أنه يجب أن نرد نكد فرويد إلى شعوره بالإحباط نتيجة عجزه، وإذا بدا فرويد استبداديا أحيانا، فذلك يعود إلى تقدمه في السن.
ولعل ما أثر في فرويد أيضا أن التحليل النفسي الذي أبدعه كثيرا ما “واجه انعدام الثقة وسوء النية.” عندما فاز بجائزة جوته عن مدينة فرانكفورت عام 1930، كتب أرنولد زويغ مخاطبا فرويد: “إن تشاؤمك العميق تجاه مستقبل المحللين في نهاية المطاف لا مبر ر له.” (41)
كتب فرويد ردا جاء فيه: “إن التصالح مع معاصري جاء متأخرا جدا ولم أشك أبدا بأنني سأفوز في النهاية بعد فترة طويلة من الأيام التي قضيتها في التحليل النفسي.” (42) وبصفة عامة كان موقف من البشر منتقصا دائما: “يظهر البشر نزعة فطرية من اللامبالاة وعدم الانتظام وعدم ثقتهم في عملهم…” (43) وبصفة خاصة، ” لا يأخذ الناس مفكريهم العظماء دائما على محمل الجد حتى عندما يعترفون بإعجابهم بهم.” (44)
بعد إصابة فرويد بالسرطان، لم يكن لغضبه أي علاقة باستقالته. شيخ طاعن في السن ومريض، يرى العالم الخارجي عدائيا أكثر مما هو عليه فعلا. وكلما تقدم في العمر كلما أصبح أكثر ليونة، وقد يعكس انسحابه وعيه بأنه لا يستطيع تحمل الضغط الذي تعرض له فيما مضى. وفي عام 1931، وفقا لجونز، كتب فرويد لأيتينجون أنه “ألف في وقت فراغه ما سماه ‘قائمة منبوذين’ وتضم سبعة أو ثمانية أشخاص”. (45) وإن لم يكن يتضمن علم نفس فرويد رؤية للعالم خاصة به، فقد اعتقد بأنه يثأر من رؤى العالم الأخرى”: التحليل النفسي هو سندريلا الفقيرة، وليس له ما يعطيه لرؤى العالم الأخرى، ولا شيء لا يقيني. ولكن التحليل النفسي لديه فرصه للثأر بحيث يمكنه فحص رؤى العالم الأخرى، ومن ثم يتوقف عن أن يكون غير ضار.” (46)
2-المنشقون
بغض النظر عما كتب فرويد عن معارضة أفكاره، فقد كان واثقا في انتصاره في نهاية المطاف أثناء مرضه وتقدمه في العمر. ولقد ادعى النقاد أن فرويد كان يلقن مرضاه. وأيّا كانت حقيقة هذا الادعاء، فقد كان فرويد ناجحا كمعلم ولا شك في ذلك. ولقد قيل إن “فرويد كان واعيا بأن التحليل النفسي يجب أن يخفّف.” (1) لكنه تمسك بالتحليل النفسي الكلاسيكي لأنه شعر بأن نتائجه السابقة كانت مؤقتة وأنه لا بد من القيام بمزيد من البحوث في هذا الاتجاه. لما كان محاطا ببطانة كبيرة جدا من الأتباع والأقارب، ودار النشر تتطلب ضخ الأموال باستمرار، فقد ساعدته أمواله في آخر سنة في حياته في تحديد اختياره للقضية. وكما شرح لتلاميذه، ربما لم يعد الوقت يكفي للكسب وأن عليه أن يهتم بصحته.
سواء اعترف فرويد بهذا أو لم يعترف، فقد أصبح على رأس الطائفة. مجتمع يتبادل التهنئة الذاتية لا يمكن أن يتوقع أبدا أن يحرز تقدما قد يأتي من الساحة الفكرية القائمة على المنافسة الحرة والمفتوحة. ومن ناحية أخرى، إذا كان التحليل النفسي بمثابة فرقة صلبة فسيعزز المحللون بعضهم بعضا عبر ايمانهم المتبادل، وإذا رأى أحدهم في التحليل النفسي ظاهرة دينية، فليس غريبا أن يتوحد أتباع فرويد في عبادة فرويد واللاوعي. لكن من موقع المؤرخ الديني يمكن أن نلاحظ “أن عقائد الايمان نادرا ما تتحول إلى شكوك، لكنها تتحول إلى طقوس.” (2)
إن الردود التي أثارها فرويد كافية لتوتير القارئ. ولما عزم فرويد على إهداء مؤلفاته التي تم جمعها. كتب أرنولد زويغ “إنها لهدية رائعة يمكن أن تكون حجر أساس لمكتبة وللحياة أيضا.” (3) تابع تلاميذ فرويد الذين يقيمون في فيينا تنقلاته غدوا وإدبارا بعناية. ولما أعلنت اوبرا فرويد المفضلة عن استعداداها لإحياء حفل في فيينا عبر عدد من المحللين هناك عن رغبتهم في حضوره. وكان آخر ظهور علني لفرويد في حفلات جلبرت ايفيت الموسيقية، وكان محاطا بتلاميذه.
افترض البعض أنه أثناء عيد ميلاد فرويد السبعون في عام 1926 “ستتغطى عبارات الإحسان أكثر من التقدير في حديثه عن أتباعه. وعلى العموم، يبدو أنه سئم من مدرسته ولم يعد في حاجة إليها.” (4) فلقد تطورت الجمعية بشكل كبير جدا، ومن الطبيعي أن تساوره بعض الشكوك تجاه بعض أعضاءها، إلا أنه ظل على اتصال بأشخاص محددين. وفي الحقيقة لم ينسحب فرويد من الجمعية لأسباب صحية، وإنما لشعوره بأن المحللين الشباب ربما لم يعبئوا كثيرا بالنسبة إليه بتسوية نزاعاتهم. وبقدر ما أراد أن يسيطر، بقدر ما كره بسط نفوذه حيث كان يقلقه أن يؤثر على الآخرين. كما كان يزعجه أن يُتعامل مع كتاباته كنص مقدس. (5)
ومع ذلك، وجد أن أتباعه نافعين. عندما اكتشف أن انريكو مورسيلي، أستاذ الطب النفسي بجامعة تورينو، “وهو رجل حساس ومتميز،”(6) نشر دراسة للتحليل النفسي من مجلدين، كتب فرويد إلى تلميذه الايطالي وايس يقول له بأن عمل مورسيلي ” فاقد للقيمة تماما، والقيمة الوحيدة الثابتة له بلا شك أنه شخص عنيد.” طلب فرويد من وايس أن يكتب مراجعة مفصلة للكتاب: “طلبت منك ألا تدّخر له أية حقيقة غير سارة.”· (7) أراد فرويد أن يظهر نفسه كناقل للحقائق لا يخطئ، ولكن تعني لباقة الفينيين فيما تعنيه أن فرويد أراد أن يترك الجدل العام لوايس. وبحسب مورسيلي نفسه، كتب فرويد أن الكتب تمثل “عملا هاما”. (8) وبحسب وايس، مع ذلك، كتب فرويد كم كان سعيدا بالمراجعة النقدية: “أنا سعيد أنك كنت شجاعا ومخلصا، كما هو الحال دائما….” (9) وجاء في رسالة بعد ذلك بأشهر قليلة، ضمنها فرويد ذما لمورسيلي حافلا بالذكريات التي تعود إلى المعارك العظيمة في سنوات ما قبل الحرب: “قد يكون من المهم من الناحية الإنسانية أن نتبيّن إن كان دائما مشردا أو أنه إنما سلك هذا الطريق فقط تحت تأثير الخرف.” (10)
بحلول 1926 بدأت تلتئم اجتماعات صغيرة مرتين في الشهر في شقة فرويد، ثم صارت تلتئم مرة في الشهر. وكانت تضم ما بين عشرة أو اثنا عشر محللا يلتقون حول طاولة بيضاوية الشكل في غرفة الانتظار في شقة فرويد، من بينهم ستة مشاركين أساسين والبقية تم اختيارهم من مجموعة فينيا الموسعة. وكانت بين فرويد وأتباعه هوة واسعة تحول بينه وبينهم، بحيث استأثر لنفسه بالملاحظات التي لا تخلو من حكمة وإذن لها وزنها. ولكن الإجراء المتبع في هذه الاجتماعات الخاصة هو ذاته المتبع في جمعية فيينا للتحليل النفسي، وبعد تقديم ورقة تكون هناك استراحة قبل المناقشة. وهذا لم يكن غير معتاد، وفي فترة المناقشة لا يسمح لأحد أن يتكلم لأن على الجميع أن ينصت لفرويد، لذلك كان يهز كتفيه ثم يشرع في الحديث.
بعدما ينهي فرويد حديثه يخاطب الحضور قائلا، “الآن دعوني اسمع بما تريدون أن تخبروني.” (11) لقد كان يعتقد بأنه قال ما يريد أن يقوله، وجاء دوره ليتعلم من الآخرين. كان واضحا بالنسبة إليهم أنه يزخر بالأفكار لذلك لم يكونوا يصدقون تماما تنازله. ولكن في ضوء اهتمامه فيما مضى بمسألة الأولويات، يمكن تفسير عدم رغبته في التحدث كثيرا بطريقة أخرى، فلقد خبر قدرته على السيطرة على قلقه بشأن أفكار أخذت منه قبل نضجها. ولما كان ذا منزلة أرفع من تلاميذه فإنه صار في مأمن من كل خطر حقيقي. وما كان مصدر عذاب بالنسبة إليه صار مدعاة للتندر، وقد كتب أحد تلاميذه: “أتذكر مرة قابلت فرويد عندما كان يقرأ كتابا لواحد من أشد معارضيه. أشار فرويد لفقرة في الكتاب وقال لي وهو يبتسم “انظر، هذا الرجل يصرح بأني شرير…انتحال فاضح! لقد نشرت ذلك بنفسي منذ مدة طويلة.” “(12)
كان فرويد يعلم أن كل ما يقوله سيقتبس وسيستخدم. قد ينتقد بعض المقالات، لكنه كان متحضرا في نقده، وكان يحاول ألا يجرح شعور أحد. ولم يكن يرفع صوته ليعبر عن عدم رضاه، ولقد تذمر من محاولة بيرنفلد لقياس كمية الغريزة الجنسية، ومن ثمة تبيّن أن طريق بيرنفلد غير طريق فرويد. ليس هناك سوى منخرطين مذعنين في هذه الحلقات الدراسية، ولا أحد كان يجرؤ على معارضته.
هناك ترسب معزول من قلق فرويد السابق بشأن انتحال قد يكتشف أثناء شيخوخته، وفي مشاركته في الجدل الدائر حول أصل مؤلفات شكسبير. لقد أيد فرويد ايرل من أكسفورد بدلا من الشخص من ستراتفورد. ولقد كان فرويد “فيما يبدو” منزعجا من فكرة أنه يتعيّن على أرنولد زويغ أن يعترف بأن شكسبير شخصية أصيلة. ولكن بعدما تحدث حول ذلك بإسهاب مع زويغ حاول هذا الأخير: “… خلق شخصية شكسبير من النوع الذي صارع في الأسابيع الأخيرة من حياته مع الظل من أكسفورد وتمنى دائما أن يعترف: “لم أؤلف مسرحياتي البتة، بل هو من كان يؤلفها.” (13) أعجب فرويد بكتاب ل جي توماس لوني الذي “يماه” بين شكسبير وايرل أكسفورد القرن السابع عشر، وقد كان يعير نسخة من الكتاب لواحد من مرضاه على الأقل (وهانز ساخس كذلك)، كما ذكر هذا الموضوع في الرسائل، وقد أضاف كذلك هامشا في شأنه في طبعة منقحة عن سيرته الذاتية. (14)
كان التلاميذ المزعجين بين الفينة والأخرى يسممون الأجواء في حلقة فرويد. وكان ويلهالم رايك (1897-1957) واحدا من أكثر الموهوبين الشباب في تلاميذ فرويد، إلا أنه لم يكن منضبطا تماما بشكل دائم (وأصيلا) ضمن مدار التحليل النفسي. ولقد اعتبر فرويد العصاب بوصفه مشكلا يتعلق بالذاكرة في المقام الأول. ومثله مثل أدلر ويونغ من قبله، حاول رايك أن يبيّن أن القضية الحقيقية التي ينبغي تدرس وتعالج لا تتعلق بالأعراض وإنما بالشخصية بتمامها. وحتى في سنواته الأخيرة كان فرويد يميل لقصر مفهومه على بنية وديناميكية أعراض مثيرة للاهتمام، ولكن معزولة. ولقد نجح رايك في مؤلفه حول ” تحليل الشخصية ” في توسيع نطاق التصور السابق لما يتعين على المحلل أن يهتم به.
لئن ساعد رايك على تحول تركيز الانتباه على التعبيرات غير اللفظية، لقد فشل في إقناع المحللين بأهمية تشخيص الإشباع الجنسي الإرجازي، اعتقد رايك أن الصحة تعتمد على القوة الإرجازية، ولقد آمن بالإشباع الجنسي الحر والكامل. (لم ترُق هذه الأفكار لفرويد البتة.) اهتم رايك بشكل خاص بالمراهقة بوصفها المرحلة التي تنمو فيها الشخصية. وكمصلح عملي، فكر رايك بأن عدد من مشاكل البالغين لن تتطور أبدا إذا تم خنق التعبيرات الجنسية مبكرا. وبفضل نزعته التحرري حافظ فرويد على شعبية.
ما يسميه المحللون الأرثوذكس الإعلاء بدا لرايك بمثابة إضفاء طابع المعقولية على ما قد يترتب عن الموانع الجنسية البرجوازية. وقال إن فرويد قد خان موقفه الثوري لفائدة حقوق الليبدو بغض النظر عن الضغوطات ذات الطابع المحافظ. وقد اعترض فرويد بدوره على محاولة رايك إعادة التحليل النفسي إلى مفهوم الجنسانية الذي كان سائدا قبل فرويد. وعندما ذكر فرويد عام 1932 الحركات “الانشقاقية” التي لم تأخذ في عين الاعتبار سوى جزءا من تخذ تأتمن الحقيقة مثل ” اختيار غريزة السيادة (أدلر) أو الصراع الايتيقي (يونغ)، أو الأم (رانك)، أو التناسلية (رايك)…” (15)
ورغم أن رايك كان حديث العهد نسبيا بالتحليل النفسي في أوائل عشرينيات القرن العشرين. إلا أنه كان يبدو مفرط الثقة بنفسه، وعلى أي حال، لم يؤيد فرويد غطرسته. وفي إحدى الاجتماعات الخاصة بمنزل فرويد قال لرايك ” أنت الأصغر سنا هنا، فهل لغلقت الباب؟” وقد حافظ فرويد على مسافة بينه وبين رايك وترك أمره للمحللين أصحاب الخبرة في جمعية التحليل النفسي. أصر رايك على أن المحللين لم يعيروا اهتماما للتحويلات السلبية، وأحدث تحولا أساسيا في التقنية التي بفضلها يمكن الكشف عن عداء المريض تجاه المحلل. ولقد كان إنشاء حلقة دراسية دائمة في جمعية فيينا للتحليل النفسي في جزء منه من أجل تضييق الخناق على رايك. وقد طلب منه أن يقدم تقريرا إكلينيكيا يكشف فيه فيما أخطأت التقنية المتعارف عليها.
كان رايك ماركسيا وهو أحد المحللين القليلين في عصره ممن جسروا الهوة بين التحليل النفسي وعلم الاجتماع. وكان يدعو إلى منع ظهور المشاكل الأوديبية بدلا من الاكتفاء بدراستها وعلاجها بعد وقوعها. لقد اعتقد أن أهم شيء هو تخفيف معاناة البشر عبر إحداث تغييرات في بنية الأسرة الغربية التقليدية، وقد بدا بالنسبة لمعظم الفرويديين كما لو كان يعكر صفو مهمتهم التحليلية النفسية. ولقد افترض رايك أن تفكك الأسرة التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى فقط يقود إلى اختفاء عقدة أوديب (وقد أثبتت تجربة الكيبوتز الإسرائيلي لاحقا صحة افتراضه).
ولقد شكك فرويد في أن تكون عقدة أوديب ناتجة عن الحاجيات البيولوجية للأسرة وقد كتب مؤلفه الحضارة وكروبها كرد على أطروحة رايك. ورأى فرويد أن العديد من المحاولات السابقة قللت من أهمية عقدة أوديب، ولم يكن يريد أن يبدو التحليل النفسي كتحرير للحياة الغريزية في الإنسان. لقد ساهمت رحلة رايك إلى روسيا البلشفية في أواخر 1920 لإلقاء محاضرة، حيث زعم أنه ما لم توجد ثورة جنسية شيوعية قد تتحول إلى دولة بيروقراطية، في إقناع السلطات السوفيتية بوجوب حظر التحليل النفسي إذا كان هذا شأنه. (16) لقد ازدهر التحليل النفسي في روسيا حتى ذلك الحين شأنه في ذلك شأن الحركات الثقافية الأخرى في تلك الأيام.
توقع رايك شيئا ما من فرويد أنه لن يعير اهتماما به: أراد أن يكون فرويد مصلحا اجتماعيا. كما أنه تمنى أن يعترف به كابنه المفضل الجديد. تم تحليل رايك أولا من قبل سدجر وفيدرن، ثم لاحقا من قبل ساندور رادو، لكن تمنى تحليلا مع فرويد شخصيا إلا أنه رفض. اعتقدت زوجته الأولى “أن رفض فرويد لتحليل رايك بنفسه أدى إلى قطيعة غير محمودة العواقب… فلقد صار فرويد… الأب البديل لرايك. لم يستسغ رايك هذا الرفض حتى أنه أصيب بإحباط شديد.” (17) لقد تعلقت الاثنا عشر رسالة التي كتبها فرويد لرايك (18) بشكل رئيسي بتعليقات حول مخطوطات رايك-حيث رأى أنها غزيرة جدا وفي حاجه إلى وضوح-وبالصعوبات التي واجهها رايك مع المحللين الآخرين (خاصة فيدرن)، الذي اعتبره مشاكسا. وقد غض فرويد الطرف عن تلك النزاعات كجزء من حياة الأسرة العادية. وفي عام 1931 رفض أن يكتب مقدمة لأحد كتب رايك.
اعتقد رايك بأنه طرد من الجمعية العالمية للتحليل النفسي (1934) في حين بدا الأمر بالنسبة لجونز استقالة. ولقد انخرط أعضاء آخرين وإن كان عددهم قليلا من الحزب الشيوعي في التحليل النفسي (مثل أوتو فينشل)، إلا أن جونز أصر على أنه يتعيّن على رايك أن يختار أيهما الأكثر أهمية بالنسبة إليه، السياسة أو التحليل النفسي. (20) ومن خلال محاولة فهم الحياة الغريزية للبشر في علاقة بأشكال الهيمنة الاجتماعية، عرض رايك نفسه للنقد من التوجهين الإيديولوجيين على حد السواء حيث اعتبره الماركسيون منخرطا تماما في البنية الفوقية للعالم البرجوازي، وفي عام 1930 تخلصت منه المنظمات الشيوعية.
الجزء الأخير من حياة رايك هو الأكثر إثارة للجدل. بعد أن طلّق زوجته الأولى، التي كانت مريضة سابقة تخضع للتحليل، تحرك تدريجيا بعيدا عن تعميمات التحليل النفسي حتى القطيعة النهائية في عام 1934. وقد فقد الاتصال بالأصدقاء والزملاء وصار محاصرا ووحيدا. ورغم نفوذه المشروع على معهد أ، اس، نايل فقد نصب رايك لنفسه قائدا للمذهب الجديد. وصار بالنسبة للبعض ” ديكتاتورا يمنع على الآخرين أن ينجزوا عملا مستقلا،” وكان يخشى أن ” يسرق الناس بعض من اكتشافاته…” (21) ابتكر مصطلحا جديدا، اعتبره البعض مؤشرا على التنظيم الديني للفكر. وقد ألب ابتكاره لمخزنات طاقة الأرغون – حيث ادعى أنه اكتشف ” طاقة الأرغون الجسدية ” -واستخدامه لها في العلاج. الوكالة الأمريكية للمنتوجات الغذائية والدوائية ضده. وإذا بدا، مضطربا عقليا أثناء محاكمته، فإن الحكم بسجنه مثال على الوحشية التي آل إليها المجتمع الحديث. وقد أتلفت الحكومة الأمريكية كتاباته، ومات في السجن الفيدرالي عام 1957.
بينما حقق رايك موجة جديدة من الشهرة الشعبية وظلت كتابته تطبع لعقود، كان ساندور رادو (1890-1972) محللا نفسيا “خائنا”، عرفت إسهاماته أساسا في الطب. وفي عام 1938 ذكر فرويد متبرما أن “المجموعة الأمريكية (في التحليل النفسي) يهودية إلى حد كبير، ويهيمن عليها رادو…بينما الأمريكان-لا سيما غير اليهود-‘لم يكونوا أفضل كثيرا'”. (22) لم يحقق رادو مثل تلك السلطة. ولكنه ذكر في مذكرات ننبرغ أن “رادو… انزاح بعيدا وبعيدا جدا عن التحليل النفسي، وتخلى عن تعاليمه الأساسية ورغم ذلك مازال يعتبر نفسه محللا نفسيا.” صنف ننبرغ تحديدا رادو على أنه أكثر المنشقين شهرة في التحليل النفسي، من خلال الإشارة إلى “الأثر البالغ الذي خلفه تخليه عن التحليل النفسي” (مثله في ذلك مثل، أدلر، يونغ، رادو وآخرون.) (23)
كان رادو آنذاك واحدا من أهم الألمعيين في التحليل النفسي. كان هنغاريا صديقا حميما لفرينشيزي، لديه ذاكرة فوتوغرافية تمكنه ليس فقط من اقتباس فقرات من كتابات فرويد حرفيا وإنما أيضا تذكر أرقام الصفحات. خضع رادو للتحليل في برلين على يدي أبراهام. وحلل هو بدوره، منظرين كثر مثل أوتو فنشيل، هاينز هارتمان، ويلهالم رايك، مما يدل على أنه من بين أهم المحللين النفسيين الأكثر اطلاعا. وعندما انسحب أوتو رانك من رئاسة تحرير الزايتشريفت، خلفه رادو، مما جعله محل حسد وعداء من قبل العديد من المحللين. كان كاتبا بارعا-من ذلك مثلا مقاله الشهير حول مشكلة السوداوية الذي برع فيه باحترافية عالية. (24) وقد حرر مجلدين تشريفا لفرويد بمناسبة عيد ميلاده السبعين عام 1926. من السهل أن نغفل مكانة رادو في حياة فرويد في خضم إسهامات الآخرين اللاحقة التي يكثر بها الاستشهاد بها عادة في أيامنا، سيما وأن الرجل لم يغادر الحركات الأرثوذكسية، لكن فرويد كتب له في علاقة بعمله كمحرر: “أنت من قدم أعظم عمل للتحليل النفسي بروح ايثارية منقطعة النظير.” وقد تلقى رادو إجابات مَلكية من فرويد عندما كان يسأل دائما عن شيء ما له صلة بأنشطته بالصحيفة. وأثناء مناقشة قضية التحليل النفسي العامي، لزم رادو الصمت لأن كان يدرك أنه لا يجب معارضة فرويد وإن كان يختلف معه في الرأي.
عندما أراد الأمريكان مدرس مثير ومدرب بارع لشرف على التدريب في معهد نيويورك، وقد عرضت المهمة على رادو. وقد بارك فرويد مغادرة رادو إلى الولايات المتحدة عام 1931. ولأجل ذلك بدأ رادو يفقد علاقاته السابقة في برلين. فأن تكون من المحللين الأوائل فهذا يعني أن تكون عضوا في مجموعة معزولة يعتمد فيها كل واحد على الآخر. وكان عمله في الولايات المتحدة أقرب إلى فرع من فروع الطب الحديث. وأثناء أول خمس سنوات في حياته في أمريكا، كان يقضي رادو كل صيف في أوربا، وكان يزور فرويد في كل مرة. لقد قاوم خطة فرويد لبناء معهد عالمي للتحليل النفسي في فيينا حتى بعد وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا، وقد خشي فرويد كثيرا من أن يجد نفسه معزولا هناك. (25)
شهدت علاقة رادو بفرويد نقطة تحول في عام 1935، عندما نشرت جين لامب دي جروت مراجعة نقدية لواحد من كتب رادو، بعد ما ناقشته في البداية مع فرويد. (26) بعد محاولة تفسير “قلق الإناث من الخصاء،” “غالى” رادو، في تقديرها، “في سعيه لتبسيط” عقد الروح البشرية على أساس “نظرية الصدمة ” “غير قابلة للإثبات” التي تنطوي على صراع الأنا ضد السوداوية. ولقد ظهرت الحاجة لفهم جزء من الحقيقة فقط فهما تاما في الاتهامات التي وجهت إلى “المنشقين” الأوائل عن التحليل النفسي، وقد استخدم أتو رانك، سلف رادو في رئاسة تحرير الزايتشريفت، أيضا ” نظرية الصدمة”. ولم تكتف لامب دي جروت بالتعبير عن آرائها فقط بل كانت لها ملاحظات نقدية في اجتماع جمعية التحليل النفسي بفيينا. ولقد استاء رادو مستاء مما اعتبره إهانة لما سمح لها فرويد بأن تكتب تلك المراجعة تحت رعايته. ورغم كل ما قام به رادو في مجال التحليل النفسي لم يشفع له حيث عامل فرويد لامب دي جروت بكل احترام. (من البديهي أن يكون رادو قد كتب لفرويد بشأن تلك المراجعة، وأن فرويد أطلعها على رسالته وعلى رده عليه أيضا.) كان راو من أكثر التلاميذ المخلصين، لكنه شعر بأن فرويد ينبذه ويُعرض عن المحللين النفسيين التقليديين ولأنه أخذ كل كلمة يقولها فرويد على محمل الجد، فقد اكتشف رادو فجأة كم كان صغيرا في عيني فرويد شخصيا.·
ورغم أن رادوا هو من قاد الهجمة الشرسة ضد رانك التلميذ المفضل السابق للسيّد لما غادر حلقة فرويد، وهو أمر كان فرويد يستحسنه من قبل أتباعه، إلا أنه لم يكن له أيّ دور مهم أبدا في حياة فرويد مثلما كان لرانك، وكان فرويد قد تقدم في السن بما يزيد عن عشر سنوات. استاء فرويد من سعي رادو إلى مساعدة بعض المحللين الأوربيون وحثهم على المغادرة لأمريكا. وعلاوة على ذلك، لم تقتنع آنا فرويد بحماسة عريضة المساندة التي نشرها رادو عام 1933، (28) وقد نشب خلاف بين آنا فرويد ورادو حول تقرير مؤتمر التحليل النفسي عام 1934. (29) وكآخرين، اعتقد رادو أن “بطانة” تحيط بفرويد، فالإخلاص وليس الغيرة، في تقديره، هو ما حال بينه وبين الخيانة. وكان يعتقد بأن مراجعة جين لامب دي جروت ساهمت في نهاية المطاف في انتصار مجموعة فيينا.
كان لرادو مساهمته المهمة. فلقد أكد على أنه يتعين النظر إلى الهو والأنا والأنا الأعلى كوحدة. كان يطمح لأن يجعل من التحليل النفسي علما تجريبيا. كما أراد أن يفهم الانفعالات التي تلعب دورا في الدافعية، ولم يكن يحبذ التجريد كما يتجلى في كثير من التنظير التحليلي النفسي، وأكد دارسة علم الوراثة كمجال مشروع للتحقق من الديناميكية النفسية للطبيب النفسي النفسية. وكآخرين اعتقد رادو أن طريقة التحليل النفسي الكلاسيكي عقلانية جدا، وأنها ضرورية لأغراض علاجية أكثر من التغلب على الكبت واستحضار الماضي، ومن السهل جدا تقويض اعتماد المريض على ذاته عن غير علم. وكآراء أي منشق آخر في تاريخ التحليل النفسي، أظهرت العديد من آراء رادو عقلانية أكثر من أفكار أولئك الذين ظلوا مخلصين للأرثوذكسية والذين أعربوا عن امتثالهم كأعضاء للمنظمة الرسمية.
في عام 1944 أنهت جمعية نيويورك للتحليل النفسي مهمة رادو كمحلل مدرب، وظل رغم ذلك عضوا فيها. وقد واصل أبحاثه حتى عندما ترأس معهد التحليل النفسي بجامعة كولمبيا، والتحق بالعمل المستقل لأبرهام كاردينر. وبقطع النظر عن تمرده (وموهبته الفذة)، ابتكر كلمات جديدة لكل شيء في التحليل النفسي. وبعد انسحابه من كولومبيا في عام 1957 ساهم في تأسيس مدرسة نيو يورك للطب النفسي بجامعة ولاية نيويورك.
كان فرانز ألكسندر (1964-1980) هو أيضا هنغاريا وكان زعيما آخر من زعماء اليسار الراديكالي في التحليل النفسي. وخلافا لرادو، غادر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة دون إذن فرويد. وكان همه الأساسي، كم يذكر ذلك، هو التحليل النفسي الفرويدي،” أن تتحول إلى التحليل النفسي، يعني أن تتخلى عن كل فكرة تكونت لديك في مسيرتك الأكاديمية، ولهذا فقد هيأت نفسي منذ سنواتي السابقة بالمدرسة … وفي عام 1921 لم يكن لقراري بأن أصبح محللا نفسي بدل طبيب أي علاقة بالأخوة الطبية.” (30) ولقاء ذلك يكون للمحلل الشاب”ملاذا روحيا، نوعا من المواطنة في أدنى الحالات لكن مجموعة مخلصة… نادرا ما يوجد مركز ثقافي في أوربا لا يلقى فيه المحللين النفسيين الشبان حفاوة من قبل المحللين المحليين، بمجرد أن تعترف به جمعيته المحلية. ومنهم من لجأ إليه، وفي أعماقه إحساس بأنه ينتمي إلى القلة المختارة ممن استناروا بتعاليم فرويد حول طبيعة الإنسان والمجتمع … وكلما زار زملاؤه في فيينا، زيورخ، برلين، ميونيخ، روما، أمستردام، باريس أو لندن، سرعان ما تتحول المحادثة إلى عداء وتحامل تجاه المحللين المحليين من جانب الجمعيات الطبية والجامعات. وكلما سرد بحبكة نكتة عن زلة اللسان أو ملاحظة عن سلوك الأوديبي لابن صغير أو ابنة صغيرة، أو روى جزءا من حلم مثير للاهتمام، خلق إحساسا بالتضامن المطلق، إحساس نشاركه كلنا المعرفة الجديدة ذاتها التي رفضَنا لأجلها بقية العالم… وقد يشعر المرء أنه مهما كانت إسهاماته، فإنه يعيش من أجل قضية تستحق الدفاع عنها وأن ما يبذله من جهوده يجعله يستمر في الحياة. (31)
وبالنظر إلى خلفيته الثقافية، فإن ألكسندر كان طالبا ألمعيا بشكل استثنائي في معهد برلين. وإذ لم يعبأ ألكسندر أبدا بأوضاع رادو التحليلية النفسي في أوربا، فلأنه كان في حاجه لأن ينزاح قليلا عن اتجاه التمرد في أمريكا.
كان فرويد مهتما بألكسندر، وكان بينهما مراسلات كثيرة ومهمة لكنها لم تنشر (وهذا يصح أيضا مع رسائل فرويد إلى رادو)، ومن ثمة من الصعب الحديث عن ألكسندر كتلميذ لفرويد باستثناء القول إنه كان من بين أحب تلاميذه إليه. منذ أن بدايته في بوسطن ثم لسنوات عديدة في شيكاغو ولوس أنجلس، كان ألكسندر يبعث الحياة في كل مجموعة تحليل نفسي يشارك بها. وفي شأن اهتمام فرينشيزي التقليدي بالتقنية، كتب ألكسندر عن بعض العيوب في الوضع التحليلي النفسي كما أرسى قواعده فرويد، وبصفة خاصة عن مخاطر التبعية وانعدام البصيرة والعجز عن التفسير. إن تحليل التحويل الكامن للعواطف قد يجعل إحياء ذكريات الماضي أمرا واردا، وهي ذكريات اعتقد ألكسندر أنها مؤشر لتحسن العلاج أكثر من أي شيء آخر. لقد حلل بترام لوين وقد كانت ماريانا كريس أول من حلل بناء على مقترح فرويد، وقد قيل إن ألكسندر كان عالج أيضا ابن فرويد أرنست. (32) ويعتقد ألكسندر البحث في العوامل المسببة للمرض اختلط في كثير من الأحيان مع ما فيه فائدة المريض. وفي الحقيقة كثير من ابتكاراته التقنية التي أبدعها لتحسين نتائج العلاج توقعها يونغ.
كان ألكسندر رائدا في الطب النفسي-الجسدي (سيكوسوماتي)، وقد سعى إلى تطوير انعكاسات التحليل النفسي على الفلسفة الاجتماعية. (33) وضمن بعض الوجوه كانت نواياه ذات النزعة التعديلية مماثلة لنوايا كارين هورني (1952-1985)، ولقد تلقى تدريبها على التحليل النفسي هي أيضا في برلين، ولكن لم تكن لها علاقة شخصية بفرويد. دعاها ألكسندر لشيكاغو ولكن لم تمض سنوات قليلة حتى عجزا عن مواصلة العمل سويا بانسجام. وربما يكون مصير المنشقين الذي لا مفر منه أن يسلك كل منهم طريقه الخاص به. (34) لقد كتب ألكسندر، وهو المحلل الليبرالي، ذات مرة مقالا مفعما بمشاعر الود والتعاطف في شأن رادو، وكان رادو “واحدا من ‘المصلحين’ القليلين الذي ظل في كنف التحليل النفسي وحاول أن يمضي قدما بالتحليل النفسي في نطاق الأخوة.” (35) ولقد أعجب ألكسندر بما بذله رادو من جهود لفك عزلة معاهد التحليل النفسي وفرض التحليل النفسي داخل الجامعات. وإن اهتم ألكسندر، هو بدوره، بتاريخ الطب النفسي، فإنه وبكل لباقة لم يتجاسر على مناقشة خروج رادو عن صف فرويد. والحق أنه لا يمكن تصنيف ألكسندر ضمن فئة المنشقين ولا ضمن فئة حواريي فرويد، وكخبير في الميتابسيكولوجيا، واصل عمله في كنف فرويد، دون أن يعني ذلك أن إسهاماته باتت بمنأى عن سهام نقد معظم الأرثوذكسيين. (36)
قد يكون المفكر المميز، إيريك فروم -معروف شعبيا كواحد من نقاد فرويد الشرسين-لكن لم يكن له قط علاقة شخصية مع فرويد. تم تحليله من ساخس وتدرب على التحليل النفسي في عشرينيات القرن العشرين في معهد برلين، مارس كمحلل أرثوذكسي لمدة عشر سنوات. كانت زوجته الأولى فريدا فروم رايتشمان طبيبة نفسية، عملت لعدة سنوات في ويسر هيرش سانيتوريوم في دريسدن، وكانت قبل ذلك مساعدة لكارت غولدشتاين في كونيغسبرغ، وفي عشرينيات القرن العشرين لم يكن للتحليل النفسي الألماني نوع من الرقابة الصارمة على المنظمة التي تطورت لاحقا. ودون أن يشارك الشعور السائد في جمعية برلين للتحليل النفسي التي اعتبرت غرودك أحمقا، أعجب كل من إيريك فورم وزوجته بأصالته وحرصه على الشفاء. وكانت فريدا فروم رايتشمان بصفة خاصة رائدة في العلاج النفسي للذهانيين، لكن في أمريكا، حيث كانت تعمل في كستن لودج، حضر مبعوث جمعية التحليل النفسي الأمريكية لإحدى حلقاتها الدراسية بغرض معرفة إن كانت تدرس أفكارا غير أرثوذكسية مما أثار سخطها معتبرة ذلك تدخلا غير مشروع. (37)
تطور إيريك فورم خارج ما صار بعد ذلك الاتجاهات السائدة بين المحللين. وقبل معظم زملاؤه وجزئيا بفضل انتماءاته الماركسية، حاول فروم دمج التحليل النفسي مع الأفكار الاجتماعية المعاصرة. فقد حصل على دكتوراه في علم الاجتماع، وصار كتابه الهروب من الحرية معلما بارزا في علم الاجتماع الحديث. وعلاوة على ذلك فقد كان فورم واحد من أوائل المحللين الذي واجه بشكل صريح التبعات الأخلاقية لأفكار التحليل النفسي. (38)
قام فروم بتحليل الأمريكان البارزين مثل كلارا تومبسون وديفيد ريزمان. (يتوافق مفهوم ريزمان “اتجاه-الآخر” مع مفهوم فروم “توجيه-السوق”.) ومع ذلك، لم يكسب فروم من عمله الرائد سوى العداء الشديد من قبل معظم ممثلي مذهب التحليل النفسي. ورغم أن فروم أعظم مفكر اجتماعي في ميدانه، (مثل كارين هورني) فقد تركه بسبب انعدام اتصاله بفرويد شخصيا.
3-إريكسون وهارتمان
إن اريك إريكسون واحد من أكثر ورثة فرويد المفكرين أهمية، ومثله مثل رايك وفروم وكاردينر من قبله، اهتم إريكسون بدمج التحليل النفسي بالعلوم الاجتماعية، وقد استخلص عديد الاستتباعات من عمل فرويد، وقد نجح كل من فروم وإريكسون في كسب عددا كبيرا من المهتمين بديناميكية علم النفس، وشأنهما شأن برونو بتلهايم، فقد اعتبرا أن الخلاف مع فرويد مرده الاعتقاد في إمكانية أن يساهم المحللون العاديون بشكل كبير في انتعاش التحليل النفسي.
كان لقاء إريكسون أول مرة مع حلقة التحليل النفسي بفيينا في عام 1927، عندما كان فنانا يتنقل في جميع أنحاء أوربا. كان صديقه القديم في الدراسة بيتر بلوس عندها مدرسا في مدرسة (في ساحة ايفا روزنفيلد الخلفية) خاصة بأبناء مرضى التحليل النفسي والمرضى الذين يتدربون على تحليل الطفل مع آنا فرويد. وقد تعلم أطفال دورتي بورلينجام هناك، والراجح أنه ما كان لهذه المدرسة أن ترى النور لو لا دعمها المالي. توسط بلوس لإريكسون لدى السيدة بورلينجام ليرسم لوحة لأطفالها. ولما سافر بلوس في عطلة حل إريكسون مكان بلوس في التدريس أيضا. وفي نهاية الصيف سأل إريكسون عما إذا كان يرغب في أن يصبح محللا مختصا في الأطفال، وهي مهنة لم يكن يعلم بوجودها من قبل.
كان إريكسون نحيفا وخفيف الشعر ومثله مثل آنا فرويد لم يحصل على أي شهادات أكاديمية رسمية، ولاحقا كأستاذ جامعي كان حساسا لأنه دخيل على الحياة الجامعية. كان بلوس وإريكسون استثنائيين في زمانهما لأن الرجال لم يتوقعوا آنذاك أن يُفلحا مع الأطفال ببراعة، فرجل الطبقة الوسطي في أوربا في تلك الأيام لم يتجرؤوا حتى على دفع عربة أطفال. ومن منطلق حرصهما على جذب الرجال إلى تحاليل الأطفال، رصدت كل من آنا فرويد ودورتي بورلينجام قدرات إريكسون الحدسية مع الأطفال الصغار. كابن زوجة لطبيب ألماني يهودي، وجد إريكسون في التحليل النفسي هوية حررته. لقد حمل لقب زوج والدته هامبورجر، ونشرت مقالاته الأولى تحت هذا الاسم. كان والديه الحقيقيين دنماركيين، ولقد شعر في التحليل النفسي بأنه ألزم نفسه بما بدا له نسق تفكير ألماني، ولاحقا في أمريكا، حيث اكتفى بالاسم إريكسون، أراد أن يركز على مشكلة هوية التكوين.
في فيينا، قابل إريكسون جوان الفتاة التي ستكون زوجته في المستقبل، طالبة أمريكية في أصول الرقص الحديث. وقد درست هي أيضا في مدرسة دورتي بورلينجام، خضعت للتحليل في فيينا على يدي لودفيج جاكيلز. وكان آل إريكسون يعانون من الفقر المدقع حيث كانوا ينامون على فراش على الأرض، ولما علمت دورتي بورلينجام بأمرهم أعطتهم لحافا ريشة. وإثناء حملها، كانت جوان إريكسون تبسط اللحاف أرضا وتتمدد عليه. وقد حذرتها تانت مينا بأن لا تستلقي على اللحاف حتى لا تتلف الريش.
كان إريكسون المدرب المحترف الوحيد في مجال تحليل الأطفال، وذلك ما ميزه بشكل كبير عن بعض الأحيان. وفي حين وجد آخرون صعوبات في جعل عملهم متميزا عن عمل فرويد، نسب إريكسون أفكاره الخاصة إلى فرويد. وفي الغالب ما كان إريكسون يريد أن يعترف بأصالته فيما يبدو.
لقد تم تحليله من قبل آنا فرويد وجلس بنفس قاعة الانتظار كطالب لفرويد. وكانت تؤخر موعد مرضاها خمس دقائق عن مواعيد والدها مع مرضاه، لذلك أراد إريكسون من خلال انتظاره لفرويد أن ينحني إجلالا لا فقط لمريضه الخاص ولكن لآنا فرويد أيضا. وبعد برهة أتت مدبرة المنزل بولا فيشتل لتعلن أن السيدة فرويد جاهزة. وكان إريكسون يحصل على سبعة دولارات في الشهر فقط لقاء تحليله. كان إريكسون يعلم أنه مديون لآنا، لكنه كان يعتقد أنها لن تغفر له أبدا تخليه تحليل الأطفال الذي تدرب عليه. ومع ذلك كان مرحبّا به كعضو جديد في الحركة. وعندما ذهب فرويد إلى برلين لزرع فك اصطناعي جديد وأرادت آنا مرافقته، عرضت على مريضها الإقامة بمنزل أخيها أرنست ببرلين.
وكوالدها كانت آنا تميل لتحمي نفسها من عدواتها عبر اعتبار بعض الأفكار “غريبة”، وكانت غالبا ما تردد بأن كثيرا من أعمال إريكسون تستعصي على فهما. ومع ذلك، أهداها إريكسون أحد كتبه.
في السنوات الأخيرة من حياة تضاعف عدد تلاميذ فرويد الذين سخروا أنفسهم لخدمته من ذلك أن إريكسون اشتغل كسائق لفرويد في سيارة دورتي بورلينجام لأربع ساعات، وذات مرة انهمرت الدموع من عيني فرويد على خديه ولم يكن ذلك بسب نحيب وإنما نتيجة ضغط الفك الاصطناعي على القنوات الدمعية. (1)
وجد إريكسون جو جمعية فيينا خانقا وذلك لأن هيمنة النساء على مجال تحليل الأطفال جعلت من الصعب على الرجل أن يجد غرفة ليختلي فيها بنفسه. تضمنت ملاحظات إريكسون حول الأطفال نوعا من الاعتراضات التي من شأنها أن تزعج أيّ باحث يحترم نفسه. وكتب مقالة عن لعب الأطفال قيل إنها، فيما يبدو، لم تخرج عن تصورات ميلاني كلاين فيما. وعلق لاحقا على ” المحافظة المتزايدة وخاصة الحظر واسع الانتشار لبعض الاتجاهات الفكرية. ويهم ذلك أساسا أيّ فكرة قد تذكرنا بالانحرافات التي ارتكبها أشد مساعدي فرويد قربا إليه وألمعهم…”. وأما بالنسبة لأولئك الذين يحيطون بآنا فرويد، فهم، فيما يبدو، مثل كلاين سيئين على غرار أدلر او يونغ. شجعت جوان إريكسون زوجها على مغادرة فيينا في أقرب فرصة، “إن فكرة تغيير الأجواء والاستقلالية … منعشة فيما يبدو.” (2)
تخرج إريكسون من معهد فيينا في عام 1933، وأصبح عضوا كاملا في جمعيتها للتحليل النفسي، وعندما بات أمر مغادرته معروفا، أوصت عليه آنا فرويد في الخارج في غضون ستة أشهر كمحلل متدرب. لقد حاول أولا ممارسة التحليل النفسي في الدنمارك، ولكن حصوله على الجنسية الدنماركية قد يحتاج إلى سنين بينما كان يتوجب عليه آنذاك أن يفور لقمة عيشه. (3) ثم قرر أن يهاجر إلى الولايات المتحدة، وقد استاء الأمريكان مع ذلك إلى حد ما من أن الفينيين أقروا بكفاءة إريكسون كمدرب تحليل بمجرد انتهاءه من تدريبه. (4) وساد انطباع عندما قدم إلى هناك “لتصدير السلعة ” بأن معايير الفينيين تختلف عن معايير جمعيتهم وأن الموقف “الجيد بما فيه الكفاية من الأمريكان ” قد ميز في الحقيقة منهج الفينيين. ورغم ذلك كان إريكسون حقا أفضل من أي أحد آخر بالنسبة للأمريكان. التقى إريكسون بريل في نيويورك، لكن بريل لم يعجب به كثيرا، (5) شجع هانز ساخس إريكسون على الاستقرار في بوسطن، حيث عمل أولا بعيادة هنري موراي للتحليل النفسي في هارفارد.
كان صعود إريكسون صاروخيا، وبمجرد أن غادر فيينا صار حرا في اتخاذ ما يراه صالحا بالنسبة إليه. ولابد لكل تلميذ من تلاميذ فرويد، أو حتى بعيد، مثل إريكسون، يترك فرويد ويعارضه، رغم صعوبة المهمة، أن يتحمل وزر الشعور بالذنب. ويمكن لمحلل نفسي لم يتخرط أبدا في حلقة فيينا أن يتمتع بحرية أكثر في أن يسلك وفق طريقته الخاصة غير معني بالصراعات التي مزقت منخرطيها حول مدى إخلاص هذا العضو أو ذاك من عدمه. وخلافا لألكسندر، لم يكن إريكسون مفكرا مهم بالنسبة لفرويد، وفي حين كان لألكسندر أثرا بالغا في الممارسة الإكلينيكية في أمريكا الشمالية، كان لإريكسون تأثيره في عموم القراء.
وشأنه في ذلك شأن مفهوم أدلر للشعور بالنقص، منح مفهوم إريكسون للهوية الناس اسما للإحساس بما هو مهم بالنسبة إليهم، اعتبر محللون آخرون، مثل توسك وفيدرن، الهوية كمكون من مكونات سيكولوجيا الأنا. وكان واضحا من موقف فرويد من عملهما كم كانت الفكرة تبدو غريبة بالنسبة إليه. ومع ذلك، أراد إريكسون من خلال اعتماد هذا المفهوم في عمله أن يستشهد بشكل متكرر بخطاب فرويد ل “بناي بريت” حيث تحدث فيه عن “هويته الذاتية” كيهودي. ولم تكن لهذا المقال أيّ أهمية تذكر في تشريع فرويد. وقد اعتبر أنه من الصعب تتبع معضلات الهوية كما صاغها إريكسون على الأقل كما فعلت ابنته. ومع ذلك كان إريكسون في حاجة ملحة إلى التركيز على عدم تمرده تجاه التحليل النفسي الأرثوذكسي أثناء سعيه إلى التجديد، ورغم أنه شارك العديد أفكار المهرطقين الأوائل، فإن تنامي الحركة الكبير ونجاحها حالا دون حاجة أيّ من روادها أن يشغل باله بنفيه. وإذ كان يغالي أحيانا في تمجيد صورة فرويد العامة، فإن إريكسون كان يحاول أن يفرض النهج الذي اتخذه في التحليل النفسي فرضا لا سبيل لإنكاره. لذلك عندما سؤل لو “أن فرويد حيّا هذه الأيام أكان سيعيد صياغة نظريته في الليبدو حتى تتطابق مع التحولات الراهنة في مجالات علم الأحياء والكيمياء الحيوية وعلم وظائف الأعضاء، ” رد إريكسون ” أنا على يقين من ذلك،” (6) أيّا كان إصرار فرويد على استقلاليته.
من بين الوسائل الأساسية التي اعتمدها إريكسون في تعديل نظرية فرويد، مفهوم” قوة الأنا ” ورغم أن إريكسون وضع استخدام فرويد لاستعارات تحيل على مجال الطاقة في سياق تاريخي، فقد اضطر هو ذاته إلى الاعتماد على فكرة “القوة ” ليبيّن مدى قدرة الأنا على توحيد النقيضين. وقد مكنت هذه الطريقة إريكسون من قياس الصحة ليس من حيث الأعراض السلبية-على ما يقع فصله والتضحية به في الشخص-بل من خلال المقياس الايجابي المتعلق بمدى قدرة الشخص على توحيد أكبر عدد ممكن من المتناقضات في ذاته في الوقت نفسه. بناءا على أهمية الوظائف “السامية”، التي تتعارض مع الدوافع الغريزية، شجع إريكسون الطبيب المعالج بأن يفرض عقوبات وأن يتقيد بالضوابط وأن يدعم. وقد تصدى العديد من المعالجين لطريقة إريكسون هذه لأنه من المغري أن نفكر بأن النجاح العلاجي يتحقق بفضل مهارات وفهم المحلل وليس بسبب صحة المريض الأصلية.
وفي أواخر عام 1922 كان التحليل النفسي في فيينا يهتم أساسا بالجنسانية البشرية. (7) وبالرغم من مسئولية فرويد في اقحام سيكولوجيا الأنا كجزء مشروع في التحليل النفسي وصار عمل ابنته كلاسيكيا في هذا المجال، فقد ظل معظم المحللين التقليديين يهتمون في المقام الأول بالباثولوجيا، حتى عندما كتب عن سيرورات الأنا·، لم يكن إريكسون راضيا على اعتبار الأنا كوسيط سلبي بين الهو والأنا الأعلى، والعالم الخارجي. كما صُوّر حتى في كتابات فريد اللاحقة. حاول إريكسون رسم دورة تطورية للأنا، تجد أسسها في القوة، مثل مفهوم الليبدو عند فرويد. رأى البعض في نموذج إريكسون لتطور الشخصية صورة محافظة للإنسان، حتى أنه اعتقد أنه من الضروري لكل فرد أن يمر في حياته بتلك المراحل بحسب الهدف الذي يرسمه لنفسه. لكن المدافعين عن إريكسون رجحوا أن ” الفردية (في رأيه) لا تتطور بسلاسة، تراكم النضج والقوة دون انقطاع على صعيد التقدم، إن التطور يتم، بالأحرى، من صراع إلى صراع، وكل صراع يركز على مشاكل حياتية مختلفة.” (9)
وبحكم مزاجه المتناقض فقد نحا إريكسون في الحركة منحى ” يساريا ” متطرفا إلى أقصى حد ممكن ورغم ذلك ظل يُنصت إليه باحترام احتفظ بموقع مؤثر في اوساط المحللين. وقد قيل أيضا إن إريكسون ” يقترح، ويشار، ويلمح. ولأنه كان مهذبا ولبقا بشكل منقطع النظير، فقد كانت معظم انتقادات همسا بلطف.” وخلافا لفروم المتمرد، فقد كان “اختلاف إريكسون عن حركة التحليل النفسي يكتنفه الغموض ” (10) وكما وضّح موقفه من التقنية، يمكن للمحلل “أن يتعلم حقا طريقة واحدة تتناسب مع هويته … لذلك لا تتعلّق المسألة فقط بأيّ طريقة تكون الأنسب للمريض، ولكن أيضا بأيّ طريقة يشعر المعالج بأنها طريقته هو وأنه قادر على أن يبدع فيها.” (11)
كان هناك متابعون رجحوا أن إريكسون لم يعد محللا ولكن فقط معالجا. (12) ورغم تأثير إريكسون الهائل في علم الاجتماع، وخاصة من خلال تطويره ل “التاريخ النفسي”، ولم يتطلع لتدريب التلاميذ بطريقة ما على خلاف التراتبية التحليلية النفسية التقليدية، ومن ثمة لم يلق كراهية كتلك التي لقيها اريك فروم، وقد يكون ذلك لأن أعمال إريكسون لم تعد تمثل وجهة نظر فرويد في التحليل النفسي، ولكن ما كتبه إريكسون لا يمكن تصوره بمعزل عن خلفيته الفرويدية.
إذا كان كلا من فروم وإريكسون اهتما بمساعدة العامة في التحليل النفسي، فقد كان هاينز هارتمان (1984-1970) ربما المنظر الرائد ضمن التحليل النفسي الأرثوذكسي. ورغم أن هارتمان لم يكن يكبر إريكسون كثيرا، فقد كان في الوقت الذي قدم فيه إريكسون إلى فيينا أكثر رسوخا حتى أنه بدا بمثابة أبيه. يمكن أن يكون “أحفاده” في التحليل النفسي، الذين لا صلة لهم به إطلاقا، أكثر تحررا من الناحية الفكرية من المحللين الطاعنين في السن.
ورغم أن فروم وهارتمان كانا على طرفي نقيض، وإن كان الأول يبدو ظاهريا وفيّا لتعاليم فرويد والثاني يبدو ممتهنا لها، فإن أعمال كليهما تضمنت القليل جدا من التقارير الطبية. وليس في الأمر مفاجأة بالنسبة لفروم الذي يؤثر المنظور السياسي والاجتماعي على الطبي. لكن بالنسبة لمحلل يكتب بشكل صريح في تقليد فرويد مثل هارتمان، فيبدو مثيرا للدهشة أن تخلو مقالاته إلا ما ندر من الأمثلة الإكلينيكية، ولقد مضى زمن عن موت فرويد الذي كان هارتمان على اتصال به، وقد تأتى تجريد الكثير مما يكتب في التحليل النفسي المعاصر الذي يبدو بعضه كصنف من الميتافيزيقا، من محللين متطابقين مع فرويد المنعزل الذي حاول في سنواته الأخيرة أن يوطد استنتاجاته للمستقبل. وكلما تهاوى فرويد جسديا، كلما وثق بأنه يمكنه استخلاص مجموعة من الاستنتاجات العلمية.
احتاج فرويد في أيامه الأولى إلى متابع لتأكيد أفكاره، إلا أن ذلك لم يعد ضروريا خلال عشرينيات القرن العشرين، وكان هارتمان قد التحق به عندها غير أن ذلك كان متأخرا جدا بما حال دون تصنيفه كابن وفق الصورة التي رسمها فرويد في ذهنه عندما ” تبنى ” يونغ. ومع ذلك، كان هارتمان على غرار يونغ يمثل عالم الطب النفسي الأكاديمي، وقد استطاع فرويد الملحد أن يحول دون أن يكون التحليل النفسي شأنا يهوديا خالصا. (كان لهارتمان في الحقيقة حفيد يهودي) بسبب اشتراكه بعيادة الطب النفسي في جامعة فيينا، اشتبه هارتمان في البداية في فرويد، وكان الطاقم هناك في أحسن الأحوال ودودا وعلى نحو متناقض فقط مع المحللين. وعلاوة على ذلك، كان تفكير هارتمان أكاديميا جدا بالنسبة لفرويد الذي عرض عليه تحليلا تدريبيا مجانا.
كان اهتمام هارتمان بالمنهجية أكثر شكلانية من فرويد. فقد أراد هارتمان أن ي درس وظائف تفكير الأنا في أدق تفاصيلها، ورغم أساليبهما المختلفة، يمكن القول إن كلا من هارتمان وإريكسون قد كيّفا التحليل النفسي مع “العديد من اكتشافات أعداء فرويد القدامى، وأولئك الذين رفضوا تأكيدات فرويد على أن الطبيعة البشرية تهيمن عليا الرغبة.” (13) ورغم اعتبار الأنا كمتغير نفسي غير مستقل، تحدث هارتمان عن استقلالية سيرورة الأنا عن الصراع الداخلي للنفس. ” وكما أن فكرة الصراع هي الفكرة المركزية في أعمال فرويد، فإن فكرة التكيف هي الفكرة المركزية في أعمال هارتمان.” (14)
حاول هارتمان مثل إريكسون أن يثبت أن وجهة نظره حاضرة ضمنيا في طريقة نظر للأمور. قد يعتقد المرء، مع ذلك، أن التأكيد على خلو مجال الأنا من الصراعات، أو الأنا المستقلة، اختلاف برائي عن اهتمام فرويد بالتقسيم النفسي. وبيّن هارتمان أن ما حدث على مدار سنوات هو أن إحدى وظائف الأنا فقط، وظيفة الدفاع، صارت الأكثر أهمية على حساب بقية الوظائف كالإدراك والانتباه والحكم، وما شابه ذلك، وبالتالي فرض ضغط مصطنع وغير متوازن في التحليل النفسي على الباثولوجيا بوصفها على طرفي نقيض مع علم النفس العادي. ومع ذلك كتب فرويد في عام 1932: “من المستحيل بالنسبة لي أن أحتفظ بهذه البداية الأولى لسيكولوجيا الأنا التي استعدتها من جديد، وإذا احتفظت بها خمسة عشر سنة أخرى فيتحتم عليّ عندئذ أن أنسبها إليك.” (15) وسواء كانت أعمال هارتمان أو لم تكن (16) “ثابتة”، كما افترض جلوفر، “حيث تتجه ممارسة الأريكة رأسا نحو الامتداد النظري لتكيف الأنا، “(17) فقد كان فرويد على حق إذ توقع أنه “سيكون من الصعب، بالنسبة لسيكولوجيا الأنا، التهرب مما هو معترف به عالميا، ذلك أن المسألة ستتعلق بالأحرى بطرق جديدة للنظر للأمور وطرق جديدة لترتيبها لا باكتشافات جديدة.” (18)
وبوصفه رئيس وزراء أمريكا للتحليل النفسي، أدار هارتمان الأمور، تحت رعاية آنا فرويد، كما يعتقد أن التحليل النفسي سيظل أسرة، ونشر بالاشتراك مع أرنست كريس ورودولف لوينشتاين، وهذه الحكومة الثلاثية هي على الأرجح المصدر الأكثر موثوقية في خصوص الأفكار التحليلية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. ومن خلال أعمالهم صار التحليل النفسي جزءا من الحياة الأكاديمية، لا فقط في المدارس الطبية ولكن أيضا في أقسام علم النفس. وعلى الأرجح كان هارتمان يعلم إلى أيّ مدى قادت عبقرية فرويد تلاميذ المميزين، كما كان يدرك ما يعنيه ذلك بالنسبة لمستقبل الإبداع الفكري في التحليل النفسي. ولقد أشار إلى تأثير العبقرية المثبط للعزائم على الأشخاص المقربين منه، ويعتقد أن هذا أحد الوجوه الرئيسية في تاريخ التحليل النفسي. (19)
يعود نجاح فرويد بقدر كبير إلى اعتناق أتباعه لمذهبه الجديد ولكتاباته. ومن البديهي أن يساعد بقائهم بالقرب من بعض بعضا أن يتبادلون الاقتباس أكثر من اللازم، وكانوا يقبلون على أعمال فرويد مفعمين بروح التأويل، وبتقديرهم المبالغ فيه لتميز نهج فرويد عن نهج تلميذه المنشق ضيقوا عليه الخناق. وبوجه عام فقد نجحوا في قطع الطريق أمام النزاعات المذهبية، وحتى لو أن التقنية العلاجية التي دعوا إليها قد لا تكون هي التي مارسها فرويد نفسه، فقد تمكنوا من توسيع نطاق الحالات التي كان يعتقد أنها في متناول العلاج التحليلي النفسي. فلا زال مبكر جدا تقييم مدى غنى الإرث الفرويدي، لكن أن يكون مصدر إلهام لأشخاص كإريكسون أو فروم فذلك دين أبدي في عنقيهما، ومع ذلك، لا هذا ولا ذاك انطلق من فرضية أن المرء لا يصبح عالم نفس متمكنا إلا إذا نهل من فرويد.
4-هوية أوسع نطاقا
أصبحت الكتابة حول فرويد في حد ذاتها صناعة صغيرة. لم يتوقف علم النفس الذي أبدعه عن التأثير، وقد يكون ساعد في تفسير هذا النوع من العقد التي سيطرت على الأشخاص حتى في حياته. وظل واحد من أبناء أخيه يناديه بلقب ” البروفيسور ” بعد وفاته بسنين طويلة، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على مما ميّز علاقته بأعضاء أسرته الخاصة من رعب وتباعد.
وخلال 1914 “قورن فرويد بداروين وكبلر “، وفي عام 1924 أضيف إليهما اسم كولومبوس أيضا. (1) كان ” داروين العظيم ” (2) مثلا أعلى لفرويد لأمد طويل، وقد سعد إذ قورنت معارضة التحليل النفسي بالمجهودات العظيمة السابقة للبشرية للحفاظ على معنى أهمية الذات.
على مرّ القرون تعرضت نرجسية البشر إلى صفعتين رئيسيتين عن طريق العلم. الأولى، عندما تبيّنوا أن أرضنا ليست مركز الكون، وإنما مجرد جزء صغير من النظام الكوني بالكاد نتخيّل اتساعه.
وأما الثانية، عندما دمرت البحوث البيولوجية مكانة الإنسان المتميزة بالمفترضة بين المخلوقات وأثبتت أنه منحدر من مملكة الحيوان وطبيعته الحيوانية لا يمكن استئصالها ” وتعزى هذه “الثورة” إلى داروين ووالاس و”أسلافهما”.
لكن هوس البشرية بالعظمة سيشهد صفعة ثالثة وهي الأكثر خدشا للكبرياء تلك التي أقدمت عليها البحوث النفسية في الزمن الحاضر حيث تسعى لإثبات أن الأنا ليس سيدا حتى في بيته، وأنه يجهل الكثير عما يجري في ذهنه بصفة لا واعية “. (3)
بعد ذلك بوقت قصير قارن فرويد عمله بعمل داروين وكوبرنيك، رغم أن الوقت الذي أعلن فيه هذه المماثلة (أثناء الحرب العالمية الأولى) لم يكن مناسبا إذ أن العديد من الملاحظين المستقلين اعتبروا أن ما أقدم عليها بمثابة زلزال كما توقع. (4)
بمناسبة واحد من أعياد ميلاد فرويد طلبت زوجة ابنه كعكة من خباز مشهور بفيينا الذي صور كتب لفرويد لتقرأ في مختلف البلدان حول العالم، وفي ذلك استحضار لغايات فرويد وإحساسه بنفسه. لقد استاء من عدم حصوله على جائزة نوبل، مخفيا خيبة أمله الحقيقية بالتفكير بأن ” ما كان يعنيه فقط هو المال…” (5) وأثناء ذلك، كتب فرويد دراسة حول سيرته الذاتية عام 1924، وقد تماهت تماما في ذهنه حياته الخاصة والتحليل النفسي حتى أن سيرته الذاتية أصبحت بمثابة تاريخ الحركة.
كان التزام فرويد نحو التحليل النفسي مطلقا، وهذه الرهبة الملهمة لرؤية “رجل نذر حياته في سيل فكرة.” (6) فمنذ أن اعتبر فرويد أن ” قدره ” (7) أن يكون محللا نفسيا، كان محظوظا أن يتحدث مع أحد أتباعه الموهوبين ما كان يريد أن يقوله دائما عن التحليل النفسي. وقد ارتفعت وتيرة هذا الافتنان، الذي سيطر على اهتمامات فرويد الأخرى، على مر السنين. لكن حتى في عام 1909 كان متفانيا جدا في عمله كقضاء ليلة رأس السنة في كتابة رسائل لتلاميذه بالخارج. وجاء في ملحق لسيرته الذاتية عام 1935 قوله:
“سوف نتناول موضوعين خلال هذه الصفحات: قصة حياتي وقصة التحليل النفسي. إنهما يشتبكان تشابكا وثيقا. تظهر تلك الدراسة حول السيرة الذاتية كيف أن التحليل النفسي صار يشغل حياتي بأسرها ويفترض بحق ألا تكون تجارب شخصية في أيّ شأن آخر مقارنة بارتباطاتي بهذا العلم.” (8)
كانت هوية فرويد منصهرة في التحليل النفسي حتى أن كل ما كان يقوم به تقريبا كجزء من ممارسته صار بطريقة ما تحليلي نفسي. لقد تنامى لديه الشعور بالعظمة شيئا فشيئا فيما يتعلق بطبيعة واستخدامات استنتاجاته. وكتب قبل وفاته ببضع سنين: “يتراءى لي بوضوح أكثر من أي وقت مضى أن أحداث التاريخ البشري، التفاعلات بين الطبيعة البشرية والتطورات الحضارية ورواسب التجربة البدائية (أبرزها الدين) ليست إلا انعكاسا للصراعات الديناميكية بين الأنا والهو والأنا الأعلى حيث أثبتت الدراسات التحليلية النفسية للفرد أن العملية ذاتها تتكرر على نطاق واسع.”(9)
كان يؤكد طموحاته العلمية أكثر وأكثر، حتى أنه أصر على أن ” الإعداد الوحيد المناسب لمهمة المعلم يتم من خلال التدريب على التحليل النفسي.” (10)
وقبيل أن تتوفر لفرويد الفرصة ليكتسب شهرة عالمية بعد الحرب العالمية الأولى، أصيب بالسرطان. ومنذ ذلك الحين لم تتراجع نشاطاته الجسدية فقط بل إنه لم يعد قادرا حتى على الصعيد الفكري على تحمل أعباء مصادره كما كان يفعل سابقا. لما كان في أيام شبابه، حيث كان يقوى على العمل بشكل أفضل، لم يعترف العالم الخارجي بعمله بشكل مناسب، ولم تؤكد له تجربته بعد السرطان سوى ازدراءه للقبول الخارجي: كلما تراجعت قوته، كلما أشاد العالم بعبقريته.
ومنذ وفاة فرويد تخلدت في ذهن رواد حركة التحليل النفسي بعض أقواله في أواخر أيام في حياته. عندما فر فرويد من فيينا في عام 1938 واستقر في حي جديد في لندن، كتب ببعض السخرية اللاذعة يقول ” إن للمحيطين الجدد (الذين يضطرون المرء لأن يصرخ “يحيا هتلر!”) سحرا …. (11) عندما زاره النازيون في شقته في فيينا، على ما في ذلك من تهديد لسلامته، قال فرويد باقتضاب: “لم أحظ أبدا بمثل هذه الزيارة كثيرا.” (12) وظل فرويد فكها، حتى في مواجهة هيجان النازية، وقد قال إنه لا ينبغي لأرنست كريس أن يكتب له بطريقة مشفرة، وإلا عليه أن يعطي رسائله للبوليس النازي السري حتى يفكوا تشفيرها. (13) وفي وقت سابق، عندما عرض الديمقراطيين الاجتماعيين، بالنيابة عن البلدية، التبرع بقطعة أرض على البرجاس لمعهد التحليل النفسي، لم يكن فرويد يملك المال الكافي لاستكمال المشروع، وقال إن كل همه هو شراء زي ليديرهوسن فكل ما يملك من ثوب لا يتجاوز الركبتين. (14)
ما أراد أن يقوله فرويد في سنواته الأخيرة لم يكن بارزا بالشكل المناسب من قبل، ولكن حتى ذلك الحين لم يكن يعامل بشكل كبير كحكيم تستحق كل أفكاره أن نتدبرها بتروي، كان وضع فرويد معترفا به بطبيعة الحال داخل حلقته لفترة طويلة، لكن فرويد شعر بالتضييق والتقييد من بيئته فسعى للحصول على هوية في مجتمع أوسع. لم تكن بيئته بشكل عام تتسع له بما فيه الكفاية. لقد أراد ان يدفع التحليل النفسي في اتجاه استقلاليته في ترويج الأفكار، لكن المؤسسة لا توفر المال أبدا، رغم أن كتاباته كانت مربحة. وكل ما كان يكسبه من كتاباته كان يستثمر في دعم أعمال محللين آخرين فعادة ما كان الكتاب يطلبون مساعدة لتمويل كتبهم.
ومع نهاية حياته كانت لفرويد علاقة شخصية بالشخصيات الأدبية مثل توماس مان وستيفان زويغ ورومان رولاند، وكان هو نفسه رجلا أوربيا متخصص في الرسائل. لاحظ الروائي أرنولد زويغ في رسالة إلى فرويد يقول: “أن تعتقد إنك يجب أن تخلق جمهورا لنفسك -أنت الذي سيكون عليه أن يختم هذه الحقبة بأسرها من خلال الحقيقة ذاتها التي عايشتها بنفسك.” (15) وكتب فرويد مفاخرا إلى ستيفان زويغ “… في الحقيقة، إن ما قرأته في علم الآثار أكثر مما قرأته في علم النفس….”. (16) أعجب فرويد بتوماس مان، رغم احساسه بأنه غريب عنه بسب عادات الروائي الألمانية الشمالية (17)، كتب مان بعض المقالات يشيد فيها بفرويد معتبرا إياه جزءا من الفكر الأوربي، لكن كما أحب فرويد الفنانين والروائيين كثيرا، فإنه كان يخشى من يصنفوا أعماله في مرتبة أقل من مرتبة العلوم الصحيحة.
في عام 1910 كتب فرويد مقالا رائعا عن ليوناردو، صور فيه الصراع بين الفنان والعالم في شخص عظيم، وحسب رواية فرويد، العالم هو الذي سينتصر في النهاية. ومع كل إعجابه بما يراه الفنان بشكل حدسي، شكك فرويد في ملكاته الخيالية. وفي دراسات حول الهستيريا توقف ليعلق: ” إن ما يثيرني دائما أنا نفسي كشيء غريب هو أن التقارير الطبية التي كتبتها يجب أن تقرأ مثل القصص القصيرة وذلك، كما قد يقال، ينقصها الطابع الجدي للعلم.” (18) وحين تقدم السن بفرويد، تغلب فيهه العالم على الفنان، لذلك مع 1926 احتج قائلا ” لا تحاول أن تعطني أدبا عوضا عن العلم.” (19) وبعد إصابة فرويد بالسرطان بدأت الطبيعة البشرية تموت بداخله، وقد حاول أن يتخذ موطئ قدم أكثر فأكثر على الأرض المحايدة للعلم.
لكن أتباع فرويد رأوا فيه إنسانا بسيطا خجولا لا يتعمد أن يحيط نفسه بهالة من العظمة، فالإعجاب يحرجه أحيانا، وبسطاته الفريدة يكمن لمعاريضيه ببساطة أن يفهموها خطئا. وإذ يضخم من ذاته حيث يعتبر نفسه على خط كوبرنيك وداروين، فإنه بذلك قد يقلل من قيمة أفكاره. ولم تنتصر نظريته الثنائية حول غريزتي الحياة والموت على جميع المحللين، ولكن يقول فرويد “كنت الأسعد من بين الجميع منذ وقت ليس ببعيد عندما اكتشفت نظريتي هذه في كتابات واحد من عظماء المفكرين اليونانيين القدامى. أنا على استعداد تماما لأن أتنازل عن أصالة ما توصل إليه على ما بلغه من شهرة في سبيل تأكيد ذلك….” (20)
ذكر تلاميذ فرويد بأنهم لاحظوا تواضعه في أوقات عديدة، لقد حاول تجنب لعب دور العراف أو الساحر، ولقد تساءل بصوت عال ما عساه أن يتحمل من أجل التحليل النفسي: “ما عساهم أن يفعلوا بنظريتي بعد موتي؟ هل تراها ستشبه أفكاري الأساسية؟ ” ولكن كما لاحظت ماريز شوسي، “إن قلقا من هذا النوع كان عادة من شأن عظماء الكتاب والفنانين، وليس أبدا من شأن العلماء.” (21) وفي بعض الأحيان، كان فرويد يبدو أكثر نكرانا للذات وحذر ا بشأن أعماله بحيث يصعب التوفيق بين مزاجه ذاك وبين جدالاته ضد خصومه، وقد كتب في عام 1924: “إذا عدنا إلى الوراء، ثم، على مدى مراحل حياتي وما بذلته فيها من جهود في أنحاء شتى، يمكنني القول بأنني هيأت لنفسي الكثير من البدايات ورميت عرض الحائط الكثير من المقترحات. سينكشف شيئا منها في المستقبل، ولو أني أنا نفسي لا أستطيع أن أتوقع ما إن سيكون ذلك كثيرا أم قليلا، ومع ذلك يمكنني أن أعبر عن الأمل بأني فتحت الطريق أمام تقدم مهم في مجال معرفتنا”.
حتى في السنوات الأخيرة من حياته ظل فرويد يتحول في اتجاهات غير متوقعة. وقطعا أثر مرضه سلبا على توازنه الذهني، وما اجتمع فيه على نحو المخصوص من مهارة نظرية وملاحظة إكلينيكية، وقد كتب فرويد في عام 1935 عن تأثير مرضه عليه قائلا: “اعترف بأن تحولا هاما قد حصل. لقد كانت المواضيع التي أثرتها على امتداد مسار تطور أفكاري متشابكة فيما بينها أما الآن فقد بدأت تنفصل، لقد تراجعت اهتماماتي السابقة في الجزء الأخير من حياتي، في حين أكدّ كبار السن والأصلين تميزهم مرة أخرى”. (23)
لقد احتج في وقت سابق على أن ” على أن يتهم المؤمنين وحدهم، الذين يطالبون بأن على العلم أن يحل محل الدين المسيحي الذي تخلوا كل باحث يسعى إلى أن يطور أرائه أو حتى يغيرها.” (24)
اتسعت اهتمامات فرويد الفكرية لتشمل تصورا أوسع نطاقا لسيكولوجيا الأنا ومعالجة أكثر شمولا لدور القوى الاجتماعية. ويمكن أن نؤرخ للمحللين انطلاقا من الأفكار الموجودة أثناء قدومهم إلى التحليل النفسي، وليس غريبا أن هذين الاتجاهين -الأنا والمجتمع – اللذين شهدتهما السنوات الأخيرة من حياة فرويد قد هيمنا كثيرا على أدب التحليل منذ وفاة فرويد. ومع بداية الحرب العالمية الأولى، تساءل فرويد عن المستقبل “عما إذا لم يكن بالإمكان…أن نعطي الحق للدور الذي تلعبه الأنا في الحالات العصابية وفي تكوين الأعراض دون أن نهمل في الآن ذاته وعلى نحو فادح العوامل التي يُكشف عنها بواسطة التحليل النفسي.” (25) ورغم ذلك لم يقع الاهتمام بسيكولوجيا الأنا إلا في عشرينات القرن العشرين مع المشقين –أدلر على وجه الخصوص-بينما تمسك فرويد بشدة بعملية الكبت والمكبوت.
تمثل سيكولوجيا الأنا طريقة في تضمين نظرة فرويد للتلاميذ ” المنشقين ” في التحليل النفسي، بينما كان يحاول الاحتفاظ بتأكيده على سلطة الحياة الغريزية البشرية. فمن الصعب في التحليل النفسي تقييم تغير المزاج الذي تسببه سيكولوجيا الأنا، بما أن إسهامات فرويد في هذا المجال تشي بذلك. ويرى فرويد أن القلق بمثابة إشارة تدل على وجود خطر يتهدد الأنا، إنه حافز للدفاع، وليس كما في نظريته الأولى، ليبدو ارتكاسي ومتحول.
لم يسعد فرويد تماما بشأن كتاباته الأخيرة، فقد وصفها مرة بأنها تعبر عن “مرحلة من مراحل النكوص ” (26) وقال: “لاحظت لفترة وجيزة …أن عليّ أن أغادر الملاذ الآمن للتجربة المباشرة للتأمل. وإني لنادم على ذلك كثيرا، لأن تبعات ما أقدمت عليه لم تكن فيما يبدو الأفضل.”(27) لم يكتب فرويد أبدا أي تقرير طبي أآخر منذ أن أصيب بالسرطان أول مرة، بيد أنه اشترك في دراسة مع وودرو ويلسون وألف كتابا حول موسى كما جاء في التوراة. وما أسماه ” الميتابسيكولوجيا ” يعبر عن الجانب الفلسفي في كتاباته، وكان ذلك أعظم انتشار لأفكاره التي تخلى عنها هو نفسه في سنواته الأخيرة. وفي الآن ذاته عكست كتاباته بعد 1923 أيضا انقطاعه عن العلاقات الإنسانية.
افترض فرويد أن ميزة الأنا الفارقة تتمثل في “ميله إلى التأليف في مضامينه.” (28) ومهمة الأنا أن يتحكم في الطاقات الغريزية ويوجهها كما يفعل الفارس مع الحصان، وأن على الأنا أن يخدم ثلاثة “أسياد مستبدين في آن هم العالم الخارجي والأنا الأعلى والهو” (29) وخلافا للأنا التي يقول بها علماء النفس لاحقا مثل هارتمان وإريكسون، لم يذهب فرويد نفسه أبعد من الافتراض بأن لوظائف الأنا دورا مستقلا، وفي النهاية أكد على أهمية تقلبات صراع الرغبات. “إن الأنا، بالنسبة لفرويد، شيء سطحي فعلا بينما الهو شيء أعمق،” لذلك افترض أن “الأجزاء الكبيرة للأنا يمكن أن تقبع دائما في اللاوعي.”(30) ولم يكن مرتاحا في مناقشته لمفهومه عن الأنا الأعلى: “إذا كنا نمتلك تطبيقات أكثر من هذا النوع، قد تفقد فرضية الأنا الأعلى اللمسة الأخيرة لقوتها بالنسبة إلينا، ويتعيّن علينا أن نتحرر تماما الازعاج الذي مازال يسيطر علينا، عندما نتحول، وقد تعودنا على أجواء عالم الرذيلة والإجرام، إلى مستويات العقل العليا الأكثر سطحية. إننا لا نفترض، بالطبع، أنه بالانفصال عن الأنا الأعلى قد قلنا كلمتنا الأخيرة في سيكولوجيا الأنا.” (31)
وقد ذكر مرضى فرويد الأوائل أنه لم يكن يهتم البتة بالسياسة وعلم الأخلاق أو فلسفة الحياة. ورغم أنه استمر بممارساته الإكلينيكية حتى وقت قصير قبل وفاته، وانخرط في الـتأمل الاجتماعي (كما في الطوطم والتابو) قبل مرضه بمدة طويلة، فقد كان في سنواته الأخيرة يميل لاتخاذ وجهة نظر مجردة من الشخصية البشرية، كموضوع للفحص بدلا من المعالجة، كما ولى اهتمامه نحو الفلسفة الاجتماعية بدلا من علم النفس. شعر فرويد بالحاجة إلى سد ثغرات أعماله السابقة، خاصة فيما يتعلق بالإيمان الديني. ورغم كل احتجاجاته على المغاير، كان يمتع بحس فني وتأليفي بداخله، ولكن باسم الحقيقة العلمية رفض الدين بوصفه مجرد وهم.
لطالما اعتقد فرويد أن “المجتمع … قام على مشاعر المثلية الجنسية المتسامية ” (32) كما كتب ذات مرة، “لقد قامت حضارتنا برمتها على حساب الجنسانية…” (33) فأن تكون متحضرا يعني أن تكون مكبوتا وذا رغبة جنسية محدودة، وإذن فالحضارة قامت على حساب الفرد. شارك فرويد حلم الآخرين الذين ينحدرون من الطبقات الدنيا، وغير المتعلمين، الذين يتمتعون بحرية التعبير الجنسي: “من بين الأجناس ذات المستوى المتدني من الحضارة، ومن بين أدنى الطبقات من الأجناس المتحضرة، تبدو جنسانية الأطفال قد حظيت بعهد حر.” (34) وفي نهاية حياته انغمس فرويد في العلوم الثقافية، لا على أساس أبحاثه الأصلية ولكن من خلال قراءته للآداب الجميلة. لم يتخل عن الطب تماما بشكل فجائي، ولكن تم ذلك بصفة تدريجية. وكما جاء على لسانه في عام 1935 “بعد ما تنقلت طوال حياتي بين العلوم الطبيعية والطب والعلاج النفسي، عاودت الاهتمام بالمسائل الثقافية التي طالما استهوتني فيما مضى، قبل أن أبلغ سنّا تسمح لي بالخوض فيها.” (35)
اشتغل فرويد في كتاب الطوطم والتابو كما في كتاب مستقبل الوهم، على ما شغف به بوصفه “حلا لمشكلة الدين “. (36) كان تطبيق طريقته التحليلية النفسية ” غير محدود بأي حال من الأحوال”، فقد استفاد منها “في مجال الاضطرابات النفسية، وكذلك في حل مشكلات الفن والفلسفة والدين ” (37) وقد اعتبر فرويد علم الاجتماع فرويد مجرد فرع من علم النفس:” بالنسبة لعلم الاجتماع …، التعامل مع سلوك الناس في المجتمع كما يفعل، لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير علم النفس التطبيقي. وبالمعنى الحرفي للكلمة، لا يوجد سوى علمين: علم النفس، محض وتطبيقي، والعلم الطبيعي.” (38) وفي ذهن فرويد لن يرضى بأقل من ” الجنس البشري برمته ” (39) كمرضى عنده. ولنا أن نتذكر أنه هو الذي بخس طموحات يونغ المصيرية أثناء الحرب العالمية الأولى. لكن مع عام 1924 اعتبر فرويد: أن التحليل النفسي بوصفه “علم النفس الأعماق”، نظرية اللاوعي العقلي، وقد يصبح لا غنى عنه في كل العلوم التي تهتم بتقييم الحضارة البشرية ومؤسساته الأساسية مثل الفن والدين والنظام الاجتماعي…وليس استخدام التحليل النفسي لعلاج العصاب سوى واحد من بين تطبيقاته، وربما يكشف المستقبل أنه ليس الأهم”. (40)
ورغم الأسس التي اختلف عليها فرويد سابقا مع أدلر، فقد اعتقد في عام 1926 أنه “ليس ثمة ما يدعو للاستغراب بأن التحليل النفسي، من حيث هو في الأصل ليس أكثر من محاولة لتفسير الظواهر المرضية العقلية، أن يتطور إلى علم نفس يُعنى بالحياة العقلية السوية”. (41) ولكن مع الحذر المتزايد بشأن الانجازات العلاجية والجرأة في استخدام المعارف الإكلينيكية في النظرية الاجتماعية، كان فرويد تقريبا ملتزما على نحو مبالغ فيه بالنهج العقلاني للعلم: “تكشف ألغاز الكون عن نفسها شيئا فشيئا فقط في مجال بحثنا، هناك عدة أسئلة ليس في مقدور العلم اليوم أن يجيب عنها. لكن التقصي العلمي هو الطريق الوحيد الذي يمكنه أن يقودنا لمعرفة الحقيقة خارج ذواتنا. من … الوهم توقع أيّ شيء من الحدس والاستبطان، لا يمكن لهما أن يقدما لنا شيئا سوى التفاصيل التي تتعلق بحياتنا العقلية، والتي يصعب تفسيرها، وليس بإمكانهما أبدا أن يقدما لنا أيّة معلومة عن الأسئلة التي لا تجد المذاهب الدينية عناءً في الإجابة عنها. “(42)
إن الاعتماد على العلم هو أساس تفاؤل فرويد حول مستقبل الإنسان. وكان أرنولد زويغ على حق إذ تكهن بأهداف فرويد الحقيقية لما كتب له” إن التحليل النفسي قلب جميع القيم، لقد غزا المسيحية، بكشفه عن المسيح الدجال الحقيقي، وحرر روح الحياة المتجددة من الزهد المثالي”، (43) وقد انتقد فرويد بشكل خاص المسيحية، لأنه يعتقد أنه “ليس كل الأشخاص يستحقون الحب.” (44) لقد أمل في “قادة متفوقين وأوفياء ونزهاء… همهم تعليم الأجيال القادمة.” (45) لقد قامت الحضارة على الصراع بين غريزتي الحياة والموت، وكان النظام مقوما جوهريا بالنسبة للإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا: كما جاء على لسان فرويد،” القانون في الأصل عنف وحشي … وحتى أيمنا هذه لا يمكن له أن يسود دون عنف يسنده.” (46)
إن كتاب موسى والتوحيد هو الكتاب الذي كرس له فرويد سنواته الأخيرة، وقد ألفه بين 1934 و1938. وصاغه على نحو مذهل، وحجة فرويد أنه جاء على غير مهارته البرهانية المعتادة. اعترف فرويد “بوهن قدرته على الابداع كلما تقدم في السن… ” وكان يعلم أنه تحمل عبء هذا الكتاب “بجرأة شخص ليس لديه ما يخسره.” (47) لقد خشي من أن نشر الكتاب “ربما يؤدي إلى حظر ممارسة التحليل النفسي،” (48) ولمعرفة مدى هشاشة الأطروحة التي يريد ترسيخها. ولكن ظهور هتلر دفع جيلا بأكمله من اليهود المتحررين للجهر بيهوديتهم، وفي مرحلة فرويد التأملية سعى إلى (مع انشغاله بغريزة الموت وسيكولوجيا الأنا والفلسفة الاجتماعية) مواجهة أصول مميزات الحضارة اليهودية المتفردة. وخلال فترة الثلاثينات، لم يستطع فرويد “التخلص من ” مشكلة موسى، كما كتب في عام 1934 “هذا الشخص، وما ظل يلاحقني في كل مكان.” (49) وقد لاحظ فرويد في السنة الموالية: “يكفيني أني أثق في حل المشكلة تلك لا تفتأ تراودني طوال حياتي.” (50)
في المرحلة الأخيرة من حياته تحول شغف فرويد بالأعمال الفنية من اليونانية –الرومانية إلى المصرية –الصينية-الهندية، إلا أن مصر القديمة هي التي شغلت باله طويلا. فقد وجد فرويد أن “الحياة العقلية لأحد مرضاه تثير الإعجاب على غرار الدين في مصر القديمة، حيث تبدو مبهمة جدا بالنسبة إلينا لأنها تحتفظ بالمراحل السابقة لتطوراتها جنبا إلى جنب مع منتجاتها النهائية…” (51) ولقد افتتن برحلة نابليون إلى مصر، وحتى نتبيّن الأسباب المتعددة لتماهي فرويد مع شخصية نابليون· لا يسعنا إلا العودة إلى تعليقاته في هذا الصدد حيث يقول :” لقد كان المارق الرائع نابليون، الذي وضع نصب عينيه تحقيق خيالات المراهقة، محظوظا بشكل لا يصدق، وقد منع من أن يقيم أيّ علاقات مع من ليس من أفراد أسرته، ونحت طريقه في الحياة كالماشي أثناء النوم، حتى غرقت سفينته بسب جنون العظمة، لم يكن عبقريا أبدا حتى أنه كان يفتقد القدرة على التمييز تماما، فهو رجل تقليدي معادٍ للنبلاء على نحو مطلق، لكنه كان معدما إلى أقصى حد”. (52)
يتمثل خلاف فرويد المذهل في مؤلفه موسى والتوحيد في أن موسى في الأسطورة هو في الواقع يتعلق بشخصين تاريخيين لموسى، الأول، المؤسس الحقيقي للتوحيد، وهو ليس يهوديا وإنما مصري ارستقراطي. وحسب تأويل فرويد فإن الأول، يفترض أنه زعيم مقتول، طموح و”غضوب”، وكان ” غيورا وصارما وقاسيا ” وبالإضافة إلى ذلك، صرح فرويد أن موسى هذا “بطيء في الكلام” (53) وفي هذه النقطة بالذات يتفق تصور فرويد مع التقليد التوراتي، الذي يعتبر أن موسى كان ثقيل اللسان، ويتلعثم في الكلام، وبطبيعة الحال واجه فرويد صعوبات في الكلام بسبب سرطان الفك.
لما وجد فرويد نفسه رغما عنه من أسرة من بين الخالدين -أمثال ليوناردو وجوتة ومايكل أنجلو، وآخرين، فقد اعتقد أن شكسبير يجب أن يكون ارستقراطيا، وفي المقابل، لو اعتقد فرويد أن الأسطورة التي جعلت رومولوس “خليفة ووريث القصر الملكي ” ثم “إن وجد مثل هذا الشخص، يجب أن يكون مغامرا أصله غير معروف، انتهازي… “. (54) فالأشياء، بالنسبة لفرويد، ليست أبدا ما تبدو عليه على السطح، وبالتالي فقد جعل من اليهودي موسى، ابن العبيد، لا فقط غير يهودي وإنما أيضا ارستقراطيا. ويقينا “في عقود قليلة، يقول فرويد، سيمحي اسمي وستخلد آثارنا،” وكما قبل اليهود القانون الذي نقل إليهم بواسطة موسى، فسينصت الآخرون في المستقبل لعقائد فرويد”. (55)
حسب إعادة نظر فرويد في أصول التوحيد، فإن أمينوفيس الرابع هو مؤسسه الحقيقي. هذا الفرعون “…قاوم بصلابة خارقة كل إغراءات الفكر السحري… وبحدس يبعث على الدهشة توقع ما توصلت إليه الاكتشافات العلمية الأخيرة بأن طاقة الإشعاع الشمسي هي مصدر الحياة برمتها…” وإذا كان هذا “هو أول وربما النموذج الأكثر وضوحا لديانة التوحيد في تاريخ البشرية….”، فإن شعبه آنذاك لم يكن مستعدا لذلك، وبعد موته “حُظر الاحتفال بذكرى الملك المهرطق.” وفي رأي فرويد، ” كل رواية يجب أن يكون لها مقدماتها وشروطها المسبقة فيما يتعلق بشيء ما حدث فيما مضى” لكن أمينوفيس الرابع، في مذهب الموحدين، “استطاع أن يأتي بشيء جديد.” (56)
كان موسى الأول من أتباع فرعون المحظور، (وبالمثل تحول فرويد نفسه إلى أتباعه السويسريين) و ” نتيجة لخيبة الأمل والشعور بالوحدة …. وجد نفسه مضطرا للتحول إلى أولئك الأجانب (اليهود) حيث سعى معهم للتعويض عن خسائره. لقد اختارهم شعبا له وحاول أن يحقق فيهم مثله العليا.” وحسب يونغ، فإن فرويد المؤسس هو الذي اختار أتباع غير يهود، هنا فرويد جرد اليهود من واحد من قادتهم العظماء عندما افترض أن موسى الذي لم يكن يهوديا اختار اليهود حتى ينصرون مذهبه. وهذا يذكر بموضوع الأولويات القديم لا تخطئه العين البتة:” الفكرة الدينية العظيمة التي دافع عنها الرجل موسى لم تكن، في نظرنا، فكرته هو في الأصل، لقد أخذها عن الملك أخناتون (أمينوفيس). ولا أحد يشك في عظمته بوصف مؤسسا للدين، وقد يكون اهتدى إلى ذلك عبر تلميحات وصلت إليه -من أنحاء من آسيا قريبة أو نائية-بواسطة والدته أو بطرق أخرى … وبذلك يبدو من غير المجدي أن نعزو سمعة يكتسبها شخص إلى فكرة جديدة”.
افترض فرويد أن موسى، مثل فرعونه -ومثل الصورة التي يحملها فرويد عن نفسه -فشل، إذ “واجه نفس المصير الذي ينتظره جميع المستبدين المستنيرين.” (57)
إن قناعته بأن موسى كان مصريا، إذ تثير “مسألة قومية هذا الرجل العظيم،” حولت بطله إلى غريب. وعانى التحليل النفسي من الأنيموس المعادين للألمان في جميع أنحاء أوروبا، بينما لم يكن تعني شيئا كثيرا في فيينا أن كان فرويد من أصل يهودي.
ربما تحت تأثير مفكرين مثل ويلهالم رايك، أصبحت العوامل الاجتماعية تثير حساسية فرويد في أواخر حياته. وقد تهجم في كتابه موسى والتوحيد على أولئك الذين يريدون تشويه فهمنا للمسارات التاريخية، وبصفة خاصة الماركسيين. وفي تحليل أسطورة موسى، تعجب فرويد “من استحالة الطعن في تأثير شخص عظيم بمفرده على تاريخ العالم، وأيّ استخفاف بالتنوع الرائع للحياة البشرية إذا اعترفنا فقط بتلك الدوافع التي تنشأ من الحاجات المادية…” وكما “استطاع هذا الشخص الذي يدعى موسى أن ينشئ اليهود،” اعتقد فرويد أنه هو أيضا من أنشأ التحليل النفسي. استطاع فرويد أن يتماهى ما يعتبره “استقلالية واستقلال الشخص العظيم، وعدم اكتراثه للألوهية الذي قد يتحول إلى قساوة … مزاجه الحانق وعناده.” (58)
كما في “جميع مثل هذه التطورات في الذهنية” على غرار التوحيد (يمكن أن نضيف أيضا التحليل النفسي)، اعتقد فرويد أن المنتمي إليها “يشعر بالاستعلاء على الآخرين الذين يقبعون تحت نير الشهوانية.” انبهر فرويد بدين موسى وذلك لأنه ” يُدين، على وجه التحديد، السحر والشعوذة بصرامة شديدة …”يرفض هذا الدين كل شيء تكرسه الأساطير والسحر والشعوذة،” في ” تناقض مع الدين الشعبي …”. وإذ يحتفظ بموقفه الرصين تجاه الموت، إنما يثبت فرويد “زهد الدين اليهودي القديم في الخلود تماما …” ومع ذلك، استمر فرويد في البحث عن الأصول الأخلاقية لعلم النفس، واعتقد أن ” أفكار التوحيد الأخلاقية… لا يمكن أن تنكر أصولها المتجذرة في الشعور بالذنب الناتج عن العداء المكبوت تجاه الله.” وفي هذا الاتجاه، يتفق فرويد مع وجهة نظره الدغمائية التي تعتبر أن ” الظاهرة الدينية لا تفهم إلا من خلال نمط أعراض عصاب الفرد المألوفة بالنسبة إلينا….” (59)
إن كان فرويد أنهى حياته برواية حول قائد سياسي مثل موسى بدلا من تقرير طبي بشأن مريض أو مقال حول فنان مثل ليوناردو، فإن ذلك يعود في جزء منه إلى طموحه في بداية حياته في أن يكون محاميا وسياسيا، ولكن من الواضح أيضا أنه أرادها ردة فعل على المؤشرات الدالة على دنو المحرقة التي تنتظر يهود أوروبا.
5-منفى فرويد ووفاته
قاوم فرويد بشدة الاقتراحات بأن يغادر فيينا، بعد أن أظهر الكثير من معاداة السامية في حياته، ومع ذلك أنكر خطر ذلك الحقيقي لمّا وقع. وخلال فترة الثلاثينات من القرن العشرين هرب التلاميذ الذين كانوا في حاجة ماسة إلى حماية أنفسهم إلى الخارج بحثا عن الأمان. وفي هذا الصدد يتذكر هرمان ننبرغ حالة فرويد الذي كان شديد الغضب أثناء غياب ننبر غ في الولايات المتحدة في عام 1932، “تحدث فرويد لزوجتي، طلب منها أن تكتب لي من أجل العودة إن كنت في حاجة إلى ذلك، وأن أقنع بما عرضته فيينا عليّ. لم يكن يدرك خطورة الوضع. عندما زرت فيينا ثانية في عام 1934، وناشدت فرويد أن يغادر النمسا، لقد حاول بعد ذلك أن يقنعني بأنه لا وجود لخطر حقيقي، لأن الحكومة القائمة في النمسا ستحمي اليهود ولن تستسلم للنازيين. وأما بالنسبة إليه كما قال، فرجل طاعن في السن ومريض وفيينا موطنه الأصلي وفيها أطباؤه والأشخاص الذين يعرفونه والذين هم في حاجه إليه”. (1)
عندما ذهب فليكس وهيلين دويتش لتوديع فرويد، قالت زوجة البروفيسور إن مغادرتهما تعكس “روحا عالية النقاء”. وما ميز موقف الفينيين هو تمييزه بين الثقافة النمساوية والألمانية، وبحسب نظرة قديمة، إذا كان الوضع بالنسبة للألمان المتشددين “جّدي لكن محبط،” فإنه بالنسبة للفينيين الأكثر تنويرا، “محبط لكن جدّي.”
كان من السهل لفرويد أن يصدق أن الاشتراكية القومية لن تؤثر على النمسا. وعموما، كان فرويد يرى نفسه غريبا عن الألمان·. وبوصفه يهوديا، قطع فرويد علاقاته بالأثرياء الألمان، لأنهم، برأيه، مواطنون يتميزون بالصرامة والقسوة. كان يعتقد أن هتلر ” عار على ألمانيا “، (3) وكان ذلك كله. عندما تأسف مارك برونشفيك ذات مرة على غياب البرابرة الذين بثوا روحا جديدة في حضارة متقهقرة، علق فرويد بأن ذلك يعود أساسا إلى البروسيين (نسبة إلى سكان بروسيا). (حسب برونشفيك، اعتقد فرويد أن الحرب العالمية الأولى انتهت إلى طريق مسدود (4)). لقد صار فرويد يكره الألمان، وفي عام 1932 كتب إلى أرنولد زويغ: “يمكنني أن أخفف عنك وطأة الوهم بأن على المرء أن يكون ألمانيا. أليس حريّ بنا أن نترك هذه الأمة المنبوذة لأهلها؟ ولم يمضي وقت طويل على تولي النازيين زمام الأمر حتى أحرقت كتب فرويد في الساحات العامة في برلين.
كان فرويد ساذجا سياسيا±فقد نُقل عنه فيما مضى قوله عن الألمان أن ” الأمة التي انجبت جوته لا يمكن أن تنهار.” (8) لكن من السهل، بالعودة إلى الوراء، أن نقلل من صعوبة التأقلم مع هذه الفكرة لا فقط لأن الثورة النازية اكتسحت ألمانيا تقريبا، ولكن أيضا لأنها باتت تهدد أوربا كلها. وتزايد تخوف فرويد من أن يترك وحده في فيينا لما بدأ المحللين يفرون خوفا من الخطر النازي. وبعد كل مشاحناته بشأن معاداة أفكاره في فيينا، لم يدرك عشقه لمدينته الأصلية إلا بعد وصوله إلى لندن وفي ذلك قال: “لطالما عشقت السجن الذي أطلق سراحي منه” (9) وحتى النهاية أمل فرويد أن بقاءه في فيينا يمكن أن ينقذ بعضا من التحليل النفسي، أو على الأقل مكتبة جمعية التحليل النفسي.
سياسيا، كان فرويد كما أشار إلى ذلك، ” ليبيراليا من المدرسة القديمة،” (10) وهذا يعني أن تعاطفه غريب عن اليسار الشيوعي وعن الفاشية اليمينية في أيامه ±وكان أخوه ألكسندر محافظا إلى حد التطرف ويكره الاشتراكيين، وكان فرويد يحب سماعه حين يناقش مساوئ الاشتراكية وكانت ابتسامة التعبير عن اقتناعه التام بما يقول لا تغادر محيّاه. (12) وأثناء الحرب الأهلية الأولى في فيينا عام 1927، التزم آل فرويد الحياد، لكن “لما اندلعت الحرب الأهلية الثانية في صيف 1934…كانت أسرة فرويد أيّ شيء إلا محايدة …: كل تعاطفنا”، كتب مارتن ابن فرويد، ” كنا في صف المستشار دولفوس وخليفته شوشنيغ.” (13) كان حكم دولفوس دينيا واستبداديا، ” نوع من الحكم الفاشي إلى حد ما ” (14) رغم مناهضة النازية. وحسب مارتن فرويد، الذي علق صورة دولفوس على حائط دار النشر، ” أصبح أغلبية سكان فيينا…الاشتراكيين lمعادين لحكم دولفوس بعد هزيمتهم في الحرب الأهلية الأولى.” (15) لم يكن فرويد الشخص الوحيد الذي اصطف إلى جانب دولفوس. ولقد أيّد الساخر كارل كروس الذي كان ينتقده فيما مضى، حكم دولفوس رغم أنه ” يمثل كل ما قاومه كروس (مثل فرويد) بشراسة في سنواته الأولى.” (16)
تملق فرويد حتى لموسوليني. أحضر رائد حركة التحليل النفسي الإيطالية إيدواردو ويس مريضة لمقابلة فرويد، بعد فترة علاج ناجحة نسبيا. (17) وقد كانت مصحوبة بوالدها، مسئول كبير في حكومة موسوليني، تبيّن لاحقا حسب مؤرخ معاصر أنه لم يكن سوى “ناطق باسم” موسوليني، وإثر المقابلة طلب من فرويد أن يهدي أحد كتبه لموسوليني. ورأى فرويد أنه إن رفض طلبه قد يلحق ضررا لا فقط لإيدواردو ويس ولكن أيضا للتحليل النفسي بإيطاليا، ولكن تصديره، في لماذا الحرب؟،لرسالتين مفتوحتين له ولألبرت اينشتاين، ربما فيه إسراف في السخاء مبالغ فيه حيث جاء فيه: “بينيتو موسوليني، تحية واحتراما من رجل طاعن في السن يعترف بالحاكم البطل المثقف.” (18)
إن اهتمام فرويد بعلم الآثار قاده للاعتراف بحفريات موسوليني الجديدة في روما، ولكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد. وربما، بسبب السذاجة اختار فرويد اختار يقدر ارتباطات ويس السياسية في إيطاليا بشكل مبالغ فيه. وعلى هذا الأساس المتمثل في أن ويس عالج ابنة زعيم إيطالي، على ضعفه، كتب فرويد في عام 1934 أن ” ويس نفذ مباشرة إلى موسوليني…” (19) وفي الواقع، كان فرويد مناهضا للفاشية دون أي جاذبية سياسية تذكر تقريبا، وحتى جونز (جزئيا بسبب التماهي مع فرويد) لم يبالغ فقط في تقدير اهتمام موسوليني بحماية التحليل النفسي في إيطاليا، ولكن تخيل أيضا أن موسوليني ساعد فرويد فعلا على الخروج من فيينا عام 1938. (20) وهذا صحيح ذلك أن موسوليني حاول حينها أن يمنع هتلر من اجتياح النمسا، ومن هنا نفهم إشارة فرويد المختصرة في كتابه موسى والتوحيد التي جاء فيها: “مع عنف شبيه ” لذلك الذي استخدمه الشيوعيون الروس، اعتقد فرويد أنه ” يجري تدريب الشعب الايطالي حتى يدركوا النظام والشعور بالواجب.” ولئن اعتقد فرويد بأن عبرا إيجابية يمكن استخلاصها من ” تجارب ” الاتحاد السوفيتي وايطاليا، فقد رأى في ذلك “تخفيفا من وطأة الخوف القمعي حين نرى في حالة الشعب الألماني بأن عودة إلى همجية ما قبل التاريخ تقريبا يمكن أن تحدث كذلك دون أن تصحبها أفكارا تقدمية.” (21)
بعدما أن تولى النازيين السلطة في الألمان، حل فليكس بوهام (غير اليهودي) محل ايتينجون (البولندي اليهودي) رائدا لجمعية برلين. وكان الوضع حرجا آنذاك. زار بوهام فرويد في فيينا، وقال إنه يرغب في دعوة محاضر من جمعية فيينا إلى برلين. وقد اختار لهذه المهمة محللا شابا، يدعى ريتشارد استربا، واحد من غير اليهود القليلين البارزين في مجموعة فيينا للتحليل النفسي. ولئن أبدى استربا موافقته على الدعوة إلا أنه اشترط أن يستدعى زميلا يهوديا أولا. ودُرس أدلر ويونغ عندما كان بوهام رائدا لمعهد برلين للتحليل النفسي، أخبر فرويد بوهام أنه مستعد للتضحيات ولكن ليس للتنازلات، التي بلغت إلى حد إدانة بوهام، في نظر فرويد، بالحط من التحليل النفسي. (22)
عندما دخل النازيون فيينا تزايدت مصاعب أعضاء حلقة فرويد نفسه. وبعد الاجتياح، لاحظ فرويد في آخر اجتماع لمجلس إدارة جمعية فيينا للتحليل النفسي، ” لقد تعودنا جميعا على الاضطهاد-من تاريخنا، من تقاليدنا، وبعضنا من تجربتهم الشخصية.” ثم أضاف ما عدا استربا. وفي جملة وردت لاحقا في موسى والتوحيد، قال فرويد لتلاميذه: ” طلب الحاخام جوشنان بن زاكي مباشرة بعد دمر تيتوس الهيكل في القدس، إذنا ليفتح أول مدرسة للتوراة في مدينة يبنا.” (23) وبالنسبة لفرويد تعلن نهاية التحليل النفسي في فيينا عن بداية شتات جديد. ورغم أن محللا واحد فقط من فيينا، سادجر -الذي لم تكن علاقته فيما مضى على ما يرام مع فرويد، لقي حتفه على أيدي النازيين، ويعود ذلك بشكل كبير إلى شجاعة أشخاص أمثال جونز وماري بونابرت، وتأثيرهما منذ أن وصلا مباشرة إلى فيينا لحماية فرويد فور اجتياح النازيون للمدينة. فبفضل مساعدتهما وأموالهما، بالإضافة إلى مساعدة وليام بوليت، الذي صار بعد ذلك سفير أمريكا في فرنسا، أمكن افتداء فرويد، ورغم أن المحللين في فيينا استاءوا من بقاء فرويد طويلا جدا دون حماية رغم هيبته فإن الأمر لم يكن أقل سوءا بالنسبة لآخرين في حلقته.
من منظور زمننا الحاضر، يبدو فرويد كشخص من بلد غريب في قرن آخر، ورغم أنه عاش مدة لا يستهان بها في القرن العشرين، فقد كان حقا ممثلا للقرن الذي سبقه. ومن بين الخصال التافهة ولكنها ميزت حياته اليومية في رتابتها، “أن حلاقا كان يتردد عليه كل صباح لشذب لحيته وشعره متى كان ذلك ضروريا.” (24) وبالنسبة لأتباعه القاريين، كان يظهر رغم تقدمه في السن كما لو كان ذلك المدرس الجامعي النموذجي في تسعينات القرن التاسع عشر، وأما حلقات فيينا الطبية فلا زالت تستمد شموخها من أمجاد ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر، عندما كانت مدرستهم الطبية الأفضل في أوروبا.
يجب أن يتفهم المرء تلك الجوانب الثقافية في شخصية فرويد إذا أراد أن يأخذ في عين الاعتبار صفاته العصابية. وقد صارت بعض تلك الصفات، مثل وسواسه القهري ووضوحه وكذلك صلابته في التفكير، أكثر بروزا كلما تقدم في السن. وفي توافق مع ثقافة عصره، كان فرويد كثير الطقوس، وتلك غريزة، قادت، يقينا، أحد أعضاء جمعيته، ويدعى رودولف فون اربنتشيتش، عندما سعى من أجل أن يترأس فرويد رسميا المركب الصحي الجديد في البلاد، إلى أن يعرض عليه أن يبني له مكتبا في بيته الجديد بنفس مواصفات مكتبه القديم تماما. (25)
اعتبر فرويد مرة وسواسه كطريقة في “التعبير عن المشاعر الشديدة، التي أصبحت مع ذلك لا واعية بسبب الكبت، تحولت إلى أفعال تافهة بل حتى حمقاء.” (26) وفي سنواته الأخيرة كان كل شيء غير متوقع أو لا يمكن التحوط منه يثير قلق فرويد ويقض مضجعه. وذات مرة طرق باب تانت مينا لأنها تركت عنده قلما طلبه منها لكتابة دراسته من أجل أن يعيده لها. وإذا أخذنا في عين الاعتبار صرامة هذه الحاجات، فلا غرابة إذن فيما يبدو أن يصبح فرويد جامع طوابع وإن كان نشاطه في هذا المضمار متوسطا، وعادة ما كان مكتبة يعج بالطوابع وأحيانا كان يرتبها مساءً في صحائف. (27)
دائما ما مثلت السيطرة الفكرية بالنسبة لفرويد شأنا عظيما، وهذه الحاجة حفزته لدراسة الأحلام، حتى وإن منعته من فهم بعض الانفعالات مثل “سرعة الزوال ” أو ” الشعور المحيطي”. ولقد استخدم فرويد كلمة ” خارق للطبيعة” بدل فضفاض، لذلك أحيانا يبدو أن أي شيء غير عقلاني خالص، غامض بالنسبة له. ولكما تقدم فرويد في السن ضاقت شخصيته.
يمكن أن نستخلص درسا ها هنا بشأن فكرتنا عما يكون سويّا. ما هو خاطئ حقا حول صورة فرويد التي أخذناها عن أغلب أتباعه الأرثوذكس تلك التي تقود إلى تصور برجوازي خاطئ ولا طائل من ورائه لنطاق السلوك السوي. كما أصبح فرويد ضمن بعض الوجوه عظيما من خلال قدرته على التحمل والصبر وضبط النفس، فقد تحمل طيلة سنوات عديدة الألم الجسدي الحاد حتى تراجعت قدراته. إن لضبط النفس ثمنه بالنسبة للانفتاح الإنساني، فمهما كانت مزايا مثل هذه السيطرة فإن لها أيضا قيودها التي لا فكاك منها.
لقد يسّر انضباط فرويد وانتظامه حياته اليومية، فقد ساعده في تنظيم أفكاره وتأليف كتبه، وكان يسخط على المعرفة غير المحايدة، ومع ذلك يدعي أن “في تقييد أهدافك،”، “براعة.” ولكن إذا وجد فرويد نفسه معزولا جدا في شيخوخته، فذلك يعود في جزء منه لأن شيء ما فيه قد مات بالفعل. عندما أشاد تلميذ شاب في عام 1928 بكتاب “مستقبل وهم ” رد فرويد عليه: “إنه أسوأ كتبي! … هذا ليس كتابا لفرويد…. هذا كتاب لرجل طاعن في السن! … علاوة على ذلك ففرويد قد مات، وصدقني، فرويد الحقيقي كان فعلا رجلا عظيما. آسف لأنك لم تعرفه جيدا.” (28)
إنه فرويد الطاعن في السن الذي أصبح حكيما في سنواته الأخيرة. لقد حقق سكينة النهائية بعد صراع مرير مع المرض والأم. عندما زاره ستيفان زويغ في لندن، اعتقد كما يقول “لقد علمتني تجربتي الأولى كحكيم حقيقي، متعال عن نفسه، أنه لم يعد لا الألم ولا الموت يعتبران كتجربة شخصية وإنما كمسألة فوق شخصية تتعلق بالملاحظة والتأمل، لم يكن موته أخلاقيا أقل حقيقة من حياته.” (29) وكانت استقالة فرويد الأولمبية وفاءا لرصانته، وجاء في شاهد نصي سيء يفضله (30): ” كلنا مدينون للطبيعة بالموت” (كتب شكسبير: ” أنت مدين لله بالموت “). وفي صورة أخذت له في لندن، تُظهر آثار الألم على وجهه، بدا فرويد كالمسيح كما يظهر في تمثيلات كثيرة.
لقد اقتنع بأن يغادر إلى لندن· بعد أن احتجز الجستابو (البوليس السري النازي) ابنته آنا بصفة وقتية. وبعد إطلاق سراحها أخبرت فرويد أن عليها في مقابل ذلك أن تحضر إلى مركز الشرطة يوميا. “‘ فقال لي ‘وبطبيعة الحال رفضتي الامتثال لذلك الأمر المهين'”. (31) ولقد تفشت ظاهرة الانتحار آنذاك، خاصة بين النمساويين غير القادرين على تحمل أعباء الحياة أو غير الراغبين في مواجهتها. وبطبيعة الحال شد فرويد من أزر ابنته آنا في مواجهة هذا التيار.
في باريس، توسط بوليت، المريض السابق لفرويد، لدى الرئيس روزفلت من أجل فرويد، لكن بوليت لم يثق في أي يقدم روزفلت أي شيء في هذا الاتجاه. كان القنصل الأمريكي يرسل ممثلا عنه كل يوم للتوسط لدى الجستابو في شأن فرويد. وقد سعى السفير الألماني في فرنسا هو أيضا، بحسب بوليت، من أجل إطلاق سراح فرويد. ولما وافق فرويد على المغادرة، توجب عليه أن يتخذ خطوات ضرورية مع السلطات السياسية الجديدة في النمسا، ولم يغادر حتى 4 يونيو 1938. وكانت كل من ماري بونابرت وآنا فرويد تقضيان جزءا من وقتيهما في تصنيف رسائل فرويد، وكانت تحرقان في المساء بعضا من مقالاته. رغم أنه من الضروري أن يحتفظ بالكثير من مكتبة فرويد بعده، لكن النقود التي دعمت بها ماري بونابرت (ما يناهز خمسة آلاف دولار، أعادها إليها فرويد في لندن) ساهمت في احراز تقدم مهم في علاجه.
رغم أن أقارب فرويد والمحللين نجحوا في المغادرة، فقد تخلفت عن ذلك شقيقاته الأربع اللائي ما زلن آنذاك على قيد الحياة. ترك فرويد وأخيه ألكسندر أموال شقيقاتهما، لأنه كان من المستحيل على ما يبدو (حسب جونز) أن يحضرانها إلى إنجلترا وأن يستثمرانها. لم يدرك كثيرون حتى ذلك الحين مدى التهديد النازي. ورغم ذلك حاولت ماري بونابرت، لاحقا في العام ذاته، أن تصطحب معها شقيقات فرويد إلى فرنسا، ولكن البيروقراطية حالت دون ذلك. وقد قتلت شقيقات فرويد جميعهن في معسكرات الاعتقال أثناء الحرب.
لقد كشف فرويد عن مجموعته الفنية المتكونة من الآثار القديمة التي أحاط بها نفسه، لكل منها قصتها الخاصة، أين ومتى وجدها، أو من أهداها له. كان فرويد يحرص دائما بدقة على الحفاظ على الترتيب ذاته لرموز الآلهة الصغيرة على مكتبه، وفي بيته في 20 مارسفيلد في لندن استطاعت خادمته مستفيدة من ذاكرتها “أن تعيد ترتيب أغراضه تلك على تنوعها على مكتبه حسب ترتيبها الدقيق، حتى أنه شعر كأنه في منزله منذ وصوله إلى هناك.” (32)
لقد زار فرويد إنجلترا أول مرة عندما كان في التاسعة عشر من عمره، وبالنسبة له تظل دائما موطن الاضطهاد. لقد شارك في نشاطات التحليل النفسي في بريطانيا من ذلك أنه حضر اجتماعين تحريريين للمجلة العالمية للتحليل النفسي، كان يصغي ويترك لكل شخص أن يبدي رأيه، ثم في الأخير يعبر عن رأيه، الذي يُقبل. ولكن كان فرويد آنذاك، أساسا، في انسحاب تام، ضيف في بلد أجنبي. عقله مازال نشطا، لكنه لم يكن حقيقيا قادرا على إنجاز أي عمل جديد، وبدا بالنسبة لأولئك الذين لم يرونه منذ مدة وكأنه منكمشا. لم يكن يتكلم بطلاقة، لكن أعد تسجيلا صوتيا تنبأ فيه بأن النضال من أجل التحليل النفسي لم ينته بعد.
زراه آرثر كوستلر وغادره وقد جالت في خاطره فكرة أنه “رغم أنه ضعيف ووهن … إلا أن الانطباع السائد أنه لم يكن ذلك المريض في الثمانين من عمره، ولكنها حيوية البطاركة العبريين التي لا تذوي.” (33) وقد دفع ليوناردو وولف، ناشر فرويد بلندن، ثمن مكالمة مع زوجته الروائية فيرجينيا، كان فرويد كيّسا للغاية في البروتوكولات الرسمية، كما كان تقليديا، من ذلك مثلا أنه قدم فرجينيا وبيده زهرة بطريقة احتفالية تقريبا”. ويعتقد وولف أنه ” رجل لطيف بشكل خارق ” يمتع بهالة ليست من الشهرة ولكن من العظمة … كأن شيئا ما في أعماق ذاته يشبه بركانا يكاد ينفجر، شيئا مبهما، مكبوتا، يحتفظ به … إنه رجل هائل.” (34)
استعاد فرويد الإحساس بالدعابة. احضر وولف قصاصة جريدة من لندن حول صدى المحاكم جاء فيها أن شخصا سرق واحدا من كتب فرويد من أكبر خزانة كتب بالمدينة، وأثناء إصدار الحكم عليه بثلاثة أشهر سجنا، أضاف القاضي: ” كنت أتمنى أن أحكم عليك فقط بقراءة كل كتب فرويد.” فضحك فرويد (35). وزاره أيضا أشخاص آخرون، مثل اشعيا برلين، الذي اعتبر مقابلة فرويد فرصة جيدة. وخلال السنة الأخيرة من حياته، قدم إلى زيارته والاحتفاء به أتباعه ممن غادروا القارة، أو من أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة. عندما التقته ايفا روزنفيلد في عام 1939، لاحظت كيف أعيد ترتيب مكتبه بشكل يكاد يكون متطابقا مع مكتبه بجناحه القديم بفيينا. “كل شيء هنا،” لا حظ فرويد، “أنا فقط لست هنا.”
واصل فرويد كتابة رسالته مشفوعة “بتعليق مختصر حول معاداة السامية “، جاء فيه أن وجهة نظر “غير اليهودي” من طريقة نقد الكثيرون لمعاداة السامية هي في الحقيقة مناصرة غاية في الإسراف لليهود: ليس لنا الحق بأن ننظر لهم نظرة دونية. ففي الواقع هم أعلى شأنا منا ضمن بعض الوجوه، إنهم لا يحتاجون الكثير من الكحول كما نفعل نحن من أجل تحمل أعباء الحياة، الجرائم الوحشية والقتل والسرقة والعنف الجنسي، مظاهر تكاد تكون منعدمة في أوساطهم، إنهم يعلون من شأن المنجزات والاهتمامات فكرية، حياتهم الأسرية حميمية بشكل كبير، يعتنون بالفقراء، الصدقة واجب مقدس بالنسبة إليهم… لذا حري بنا في نهاية المطاف أن نتوقف عن محاباتهم عندما يطالبون بالعدالة”. (36)
لم يتمكن فرويد من تذكر مصدره –وقد اعتقد أرنست جونز وكذلك آنا فرويد أن فرويد انخرط في الاقتباس الذاتي، وهو ما سيكون تحديا آخر غريبا لاهتمام فرويد طويل الأمد بالأولويات، أكد فرويد استقلاليته وأهدى أفكاره الخاصة لمجهول غير يهودي. ويعتقد جونز لو أن فرويد ابتدع هذه الفقرةات للمناسبة بدلا من اقتباسها من شخص آخر، إذن فقد ” صاغ في كلمات ما الذي يتعين على غير اليهودي فعله، وتصريحه بتمنع العثور على الأصل تشكل تبكيتا أخرقا.” (37)
ومن بين الأسباب الرئيسية لتردد فرويد حول مغادرة فيينا هو أن يكون معتمدا على أطباء لم يتعودوا على حالته وهذا احتمال غير سار. ولقد تبين أن أطباءه بلندن استغرقوا وقتا طويلا في تشخيص ظهور الأورام الخبيثة من جديد. واعتقدت ماري بونابرت أن أطباءه بلندن كانوا يخشونه. وكانت للجراح الفييني، بيتشلر، طريقة قاسية حيث أجرى عليه عملية جراحية منذ ظهور علامات المرض أول مرة. ومع نهاية شهر فبراير 1939 تبيّن لأول مرة أن سرطانه غير قابل للجراحة ولا يمكن أن يشفى منه. وبقطع النظر عمّا إذا كان العلاج متاحا، فقد عانى في السادس من مايو، آخر عيد ميلاد له، من ألم مفزع. ورغم ذلك كان يستقبل باستمرار أربع مرضى حتى نهاية يوليو. وفي يونيو كتب “عالمي هو ذاته ما كان عليه من قبل -جزيرة صغيرة من الألم عائمة في بحر اللامبالاة.” (38) عندما كان قام طبيبه الشخصي شور برحلة خاطفة إلى الولايات المتحدة كخطوة أولى للحصول على الجنسية، شعر فرويد حينها وكأن شور قد تركه شأنه في ذلك شأن بقية عالم فرويد.
إنه لمؤلم بالنسبة لأولئك الذين أحبوا فرويد أن ينظروا إليه، وكانت بداية النهاية عندما توقف عن استقبال المرضى. وفي الشهرين الأخيرين في حياته لم يعد يقوى على مزاولة مهنته البتة. (39) ومع ذلك لم يتوقف عن المطالعة، ودار نقاش بين جونز وشور حول أهمية طباعة آخر كتاب قرأه فرويد وقد كان رواية الجلد المسحور لبلزاك. وقد افتتن فرويد بها لأن كل شيء بالنسبة إليه ينكمش ويتقلص كما في الرواية، وهو يعلم أن النهاية ليست بعيدة. (ولكن جونز أحبط لما سمع من آنا عن عشق فرويد للقصص البوليسية وخاصة عمليات الملاحقة، وكان يعشق أجاثا كريستي ودورتي سيارز بشكل خاص (40))
وتتمثل الأسطورة الرائجة بين تلاميذ فرويد في أن عقل فرويد كان مبينا تماما حتى النهاية. ويأتي الدليل على ذلك من ماكس شور وآنا فرويد أساسا. ورأى فيه أخرون مثل زوجة البروفيسور شخصا غريبا ومختلفا. (41) وعندما توقفت الدكتورة اندرا المحامية الفينيّة الودودة في مايو لترى فرويد في رحلة عودتها لفيينا من أمريكا، قال لها فرويد: “الآن أنت تعودين إلى… ما اسم المكان؟ ” (فسر جونز ذلك على أنه ليس نسيانا كما تبادر إلى ذهن اندرا وإنما “كتظاهر بفقدان الذاكرة للتعبير عن نضاله من أجل نسيان فيينا”. (42))
ومع ذلك، لا يعني هذا بالضرورة تناقضا بالنسبة لآنا ولشور بين أن يكون فرويد قد تحول جزئيا وبين أن يكون سويا. فالمهم بالنسبة إليهما أن يستمر في الحياة حيث تخلى عنه باقي العالم. وكان حذرا قدر المستطاع في علاقته بآنا وشور، وقد نقلا ما شهدوه بدقة. بيد أن فرويد كان يميل إلى أن تكون ردود أفعاله منفردة، وعلينا أن نأخذ في عين الاعتبار الإطار الخاص الذي كانا آنا وشور يراقبانه فيه.
ظل فرويد يكتب الرسائل حتى الأيام القليلة الأخيرة قبل وفاته بشكل واضح. ويعتبر مختصر التحليل النفسي المخطوطة الأهم التي لم ينهيها، وقد تخلى عنه فرويد في سبتمبر عام 1938، لذلك لا يخبرنا بشيء عن حالته الذهنية في النهاية. وليس غريبا أن يكون قد تعرض للتسمم، وإذا كان أحد قد مات موتا حقيقيا فيما مضى فهو فرويد.
لقد توفي بعد معاناة مريرة، فقد تقدمت به السن وأعياه المرض حتى كان الموت خلاصا له في النهاية. كانت وجنته مثقوبة من الخارج من أجل توفير أفضل الضمانات لمعالجة طبية للسرطان. وبدأ جرحه يفرز رائحة تعفن مفزعة، حتى أن كلبه المدلل امتنع عن الاقتراب منه في أغسطس. ومن ثم بدأ يواجه مشاكل في التغذية حتى افتقد شهية الأكل، وكان يستيقظ عند منتصف الليل، وكانت آنا تسأله إن كان بإمكانه أن يتناول أي طعام، لقد كان كطفل يحتاج إلى الرعاية، ورغم ذلك كيّسا كعادته مع الخادمة، بولا، التي تعد طعامه. وكان بين الفينة والأخرى مهددا بخطر الجوع، على مدى سنوات وأما حينها فقد صار الأمر واقعا.
وفي خضم ذلك كله قبل فرويد تدخلا طبيا محدودا جدا. فقد كان يتناول أحيانا الأسبرين فقط. “أفضل أن أفكر وأنا أتعذب على ألا أكون قادرا على أن أفكر بوضوح. ” (43) ولما قربت نهايته، تناول مستحضرا مستخلصا من الكوكايين خفف عنه وطأة بؤسه.
لقد مدد اعتناء آنا فرويد وتمريضها لوالدها وكذلك تيقظها الوقائي في مواجهة تطور الأورام السرطانية على مر سنين، في أنفاسه. ولكن في صيف عام 1939 بدأمرضه يسمح بقتله. ولو كان الأمر بيد شور لكان وضع حدا لمعاناته على الأقل قبل أسابيع. (44) لقد كان مؤلما بالنسبة لشور أن يرى فرويد فيما تبقى من عمره في غرفة تمريض، ثقب مفتوح في وجنته، وقد بسطت عليه ناموسية تحميه من الذباب. لكن آنا فرويد لم تتحمل أن تسمح لشور أن يفعل ذلك. (لم تؤخذ وجهات نظر زوجة البروفيسور في هذه المرحلة في عين الاعتبار على الإطلاق). لم يرغب فرويد في تناول المورفين أو هو لم يقوى على ذلك.
حتى ثلاثة أيام قبل وفاته لم يتوقف فرويد عن القراءة والانهمام بالأشياء، لكن كان تخليه عن آخر كتاب دليلا واضحا على دنو أجله. في 21 سبتمبر 1939، قال لطبيبه: “عزيزي شور، هل تتذكر أول حديث بيننا حيث وعدتني آنذاك بأنك ستساعدني عندما لا أقوى على التحمل. إنه الآن مجرد عذاب ولم يعد له أي معنى.” وعد شور بتخدير فرويد ومنحه حق القتل الرحيم. لقد كان ضعيفا جدا ولا يمكن أن يستجيب للمواد المخدرة بحيث كان يمكن للجرعة الصغيرة من المورفين التي أعطاه إياها شور في الصباح التالي أن تساعده على النوم. لقد مات في 23 سبتمبر. وعلاوة على ما أوصى به إلى مارتن وأرنست، ترك فرويد ممتلكات (عشرين ألف جنيه إنجليزي) لكل الأسرة، يمكن لمرتا أن تسحب منها ما تشاء. وأوصى بالمكتبة التحليلية ومجموعة الآثار القديمة تخصيصا لآنا. (45) وخلافا للعادات اليهودية، تم إحراق فرويد بغولدر جرين في لندن في 26 سبتمبر. وألقى أرنست جونز وستيفان زويغ كلمة بالمناسبة ثم وضع رماد فرويد في جرة إغريقية مميزة تحفظه كانت قد أهدتها له ماري بونابرت. ومنذ وفاته دأب نفر من أتباعه على التجمع في ذكرى عيد ميلاده وذكرى وفاته في محرق الجثث.
الهوامش:
- المرض:
- Jones, Sigmund Freud, Vol. II, P.43; Robert, The Psychoanalytic Revolution, pp. 222-23; interview with Smiley Blanton.
- Schur, “The Medical Case History of Sigmund Freud”, p. 12.
- Letters of Freud and Zweig, p. 143.
- Quoted in Jones, Sigmund Freud, Vol. III, P. 121.
- Letters of Freud and Zweig, pp. 5-6.
- “Some Psychical Consequences of the Anatomical Distinction Between the sexes”,pp. 248-49.
- Jones, Sigmund Freud, Vol. III, PP. 98-99. Cf. also manuscript by Rudolf Urbantschitsch (Jones archives), as well as letters from Urbantschitsch to Ernest Jones, June 12 and July 31, 1956 (Jones archives).
- Quoted in Jones, Sigmund Freud, Vol. III, PP. 89-90.
- Felix Deutsch, ed. On the Mysterous Leap from the Mind to the Body (New York: International Universities Press; 1959), p. 28.
- Interviews with Helene Deutsch, Aug. 20 and Aug. 27, 1956. Felix Deutsch, “Reflections on the Tenth Anniversary of Freud’s Death”. Letter from Felix Deutsch to Ernest Jones, Jan. 31, 1956 (Jones archives).
- “New Introductory Lectures”, p. 105.
- Schur, Freud, pp. 353, 187, 38. Jones, Sigmund Freud, Vol. III, P. 90.
- Jones, Sigmund Freud, Vol. III, P. 90
- , p. 91.
- , p. 93.
- , p. 94. Cf. letter from Anna Freud to Ernest Jones, Mar. 7, 1955 (Jones archives).
- Jones, Sigmund Freud, Vol. III, P. 93.
- Quoted in Jones, Sigmund Freud, Vol. III, P. 241.
- Jones, Sigmund Freud, Vol. III, P. 99.
- , p. 93.
- Letter from Anna Freud to Ernest Jones, Jan. 4, 1956 (Jones archives).
- Letter from Felix Deutsch to Ernest Jones, Feb. 13, 1956 (Jones archives) However, in her Confrontations with Myself Helene Deutsch has recently advanced the new hypothesis that her husband “concealed his diagnosis from fear of precipitating a heart attack…”; cf. p. 169. However, Felix Deutsch himself-in “Reflections on the Tenth Anniversary of Freud’s Death” and in letters to Jones-discussed the possibilities of suicide and euthanasia, without mentioning the danger of a heart attack, Cf. also Jones, Sigmund Freud, Vol. III, pp. 90, 92-93.
- Schur, Freud, p. 354.
- Deutsch, “Reflections on the Tenth Anniversary of Freud’s Death”, p. 7.
- Bennet, C. G. Jung, p. 40.
- Quoted in Schur, Freud, p. 214.
- Interview with Helene Deutsch, Aug. 27, 1966.
- Quoted in Stekel, Autobiography, p. 142.
- Schur, Freud, pp. 426, 287.
- Letter from Anna Freud to Ernest Jones, June 16, 1954 (Jones archives).
- Letters, p. 344.
- Quoted in Binswanger, Freud, pp. 78-79.
- Letters, p. 386.
- “The Psychopathology of Everyday Life”, p. 155.
- Schur, Freud, p. 394.
- Interview With Oliver Freud.
- “Civilization and Its Discontents”, p. 77.
- Quoted in Jones, Sigmund Freud, Vol. III, P. 211.
- Letters of Freud and Zweig, pp. 3, 10.
- “The Future of an Illusion”, p. 36.
- Letters of Freud and Zweig, pp. 8-9.
- “Civilization and Its Discontents”, p. 93.
- “Group Psychology and the Analysis of the Ego”, p. 91.
- Jones, Sigmund Freud, Vol. III, P. 159.
- Interview with Richard Sterba.
2-المنشقون:
- Deutsch, “Freud and his Pupils”, p. 194.
- Herbert W. Schneider, The Puritan Mind (Ann Arbor: University of Michigan Press; 1958), p. 98.
- Letters of Freud and Zweig, p. 72.
- Von Weizaecker, “Reminiscences of Freud and Jung”, p. 66.
- Bernfeld, “Freud’s Earliest Theories and the School of Helmholtz”, p. 359.
- Ellenberger, The Discovery of the Unconscious, p. 755.
- Weiss, Sgmund Freud as a consultant, p. 52.
- Letters, p. 365.
- Weiss, Sgmund Freud as a consultant, p. 53.
- , p. 58.
- Deutsch, “Freud and his pupils”, p. 193.
- Ernst Simmel, “Sigmund Freud”, Psychoanalytic Quarterly, Vol. 9, No. 1 (1940), p. 172.
- Letters of Freud and Zweig, p. 144.
- Blanton, Diary of My Analysis with Sigmund Freud, p. 37; Sachs, Freud, pp. 106-07; “An Autobiographical Study”, pp. 63-64; “Address Delivered in the Goethe House at Frankfurt”, p. 211; Jones, Sigmund Freud, Vol. III, P. 457-58.
- “New Introductory Lectures”, p. 144.
- Interview with Harold Lasswell.
- IlseOllendorf Reich, Wilhelm Reich (New York: St. Martin’s Press; 1969), p. 14. Interview with Annie Reich.
- Copies of these are in the Jones archives.
- Reich Speaks of Freud, p. 8.
- Letter from Ernest Jones to Anna Freud, May 2, 1933 (Jones archives).
- Reich, Wilhelm Reich, p. 46.
- Blanton, Diary of My Analysis with Sigmund Freud, p. 117.
- Nunberg, Memoirs, pp. 65, 46.
- SandorRado, “The Problem of Melancholia”, International Journal of Psychoanalysis, Vol. 9, Part 4 (Oct. 1928), pp. 420-38.
- Interview with SandorRado, Apr. 4, 1967.
- Jeanne Lampl-de Groot, “Review of Rado’s Die Kastrationangst des Weibes”, InternationaleZeitschrift fur Psychoanalyse, Vol. 25 (1935), pp. 598-605.
- Frederick S. Perls, In and Out the Garbage Pail (New York: Bantam; 1972), p. 56.
- SandorRado, “SandorFerenczi”, Psychoanalytic Quarterly, Vol. 2 (1933), pp. 356-58.
- Letter from Ernest Jones to Anna Freud, Dec. 19, 1934 (Jones archives).
- Alexander, The Western Mind in Transition, pp. 55, 81.
- Franz Alexander, The Scope of Psychoanalysis (New York: Basic Books; 1961), p. 539.
- Interviews with Robert Jokl and Martin Grotjahn.
- Martin Birnbach, Neo-Freudian Social Philosophy (Stanford: Stanford University Press; 1961).
- Alexander’s critique of Horney’s New Ways in Psychoanalysis, in The Scope of Psychoanalysis, pp. 137-64.
- Alexander, “SandorRado”, in Psychoanalytic Pioneers, p. 240.
- Eissler, “The Chicago Institute of Psychoanalysis and the Sixth Period of the Development of Psychoanalytic Technique”, pp. 103-57. Cf. also Edward Glover, “Freudian or Neo-Freudian?”, The Psychoanalytic Quarterly, Vol. 33, No. 1 (1964), pp. 97-109.
ملاحظات لصفحة 512-526
- Letter to me from Erich Fromm, Aug. 27, 1970.
- Roazen, “Introduction”, Sigmund Freud (Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall; 1973).
3-إريكسون وهارتمان
- Interview with Erik Erickson, Oct. 31, 1966.
- Erik Erickson, “Autobiographical Notes on the Identity Crisis”, Daedalus, Vol. 99, No. 4 (Fall 1970), p. 740.
- Letter from Ernest Jones to Anna Freud, Sept. 19, 1933 (Jones archives).
- Interview with Ives Hendrick.
- Letter from Abraham Brill to Ernest Jones, Nov. 17, 1933 (Jones archives).
- Evans, ed., Dialogue with Erik Erikson, p. 85.
- Interview with Willy Hoffer.
- Quoted in Sachs, Freud, p. 103.
- Yankelovich and Brrett, Ego and Instinct, p. 151.
- Ibid., p. 151.
- Evants, ed., Dialogue with Erik Erikson, p. 95.
- Kurt Eissler, Discourse on Hamlet and “Hamlet” (New York: International Universities Press; 1971), p. 518.
- Yankelovich and Brrett, Ego and Instinct, p. xi.
- Ibid., p. 97.
- “New Introductory Lectures”, p. 112.
- Cf. Heinz Hartmann, Essays in Ego Psychology (New York: International Universities Press; 1964).
- Edward Glover, “Some Recent Trends in Psychoanalytic Theory”, Psychoanalytic Quarterly, Vol. 30, No.1 (1961), pp. 90, 87.
- “New Introductory Lectures”, p. 60.
- Letter from Heinz Hartmann to Ernest Jones, Nov. 11, 1955 (Jones archives).
4-هوية أوسع نطاقا
- “On the History”, p. 43.
- “Introductory Lectures”, Vol. 15, p. 76.
- , Vol. 16, pp. 284-85.
- “A Difficulty in the Path of Psychoanalysis”, pp. 139-41.
- Letter from Rudolf von Urbantschitsch to Ernest Jones, May 29, 1956 (Jones archives). Quoted in Jones, Sigmund Freud, Vol. II, P. 189; cf. ibid., Vol. III, P. 234, and Letters of Freud and Zweig, p. 163.
- Henry A. Murray, “Sigmund Freud”, American Journal of Psychology, Vol. 53 (1940), p. 135.
- Letters of Freud and Zweig, p. 6.
- “An Autobiographical Study”, p. 71.
- , p. 72.
- “New Introductory Lectures”, p. 150.
- Letters, p. 446.
- Quoted in Martin Freud, Glory Reflected, p. 211.
- Interview with Richard Hoffman, June 2, 1965.
- Letter from Anna Freud to Ernest Jones, Apr. 8, 1954 (Jones archives).
- Letters of Freud and Zweig, p. 51.
- Letters, p. 403.
- Schur, “Medical History”, p. 28.
- “Studies on Hysteria”, p. 160.
- “The Question of Lay Analysis”, p. 198.
- “Analysis Terminable and Interminable”, pp. 244-45.
- Choisy, Freud, p.5.
- “An Autobiographical Study”, p. 70.
- , p, 71.
- “Beyond the Pleasure Principle”, p. 64.
- “Introductory Lectures”, Vol. 16, p. 381.
- “An Autobiographical Study”, p. 72.
- Deutsch, “Freud and His Pupils”, p. 193.
- “New Introductory Lectures”, p. 76.
- , p. 77.
- “The Question of Lay Analysis”, pp. 196, 198.
- “New Introductory Lectures”, p. 68.
- Minutes, Vol. II, P. 100.
ملاحظات لصفحة 526-538
- “The Question of Lay Analysis”, p. 209.
- , p. 217.
- “An Autobiographical Study”, p. 72.
- “The Future of an Illusion”, p. 23.
- “On the Teaching of Psychoanalysis in the universities” standard edition, Vol. 17, p. 173.
- “New Introductory Lectures”, p. 179.
- “The Resistances of Psychoanalysis”, standard edition, Vol. 19, p. 221.
- “The Question of Lay Analysis”, p. 248.
- “Psychoanalysis”, pp. 266-67.
- “The Future of an Illusion”, pp. 31-32.
- Letters of Freud and Zweig, p. 23.
- “Civilization and Its Discontents”, p. 102.
- “The Future of an Ilusion”, p. 8.
- “Why War?”, p. 209.
- “Moses and Monotheism, p. 54.
- , p. 55.
- Letters of Freud and Zweig, p. 98.
- Letters of Freud and Andreas-Salome, p. 205.
- “From the History of an Infantile Neurosis”, p. 119.
- Letters of Freud and Zweig, p. 85.
- “Moses and Monotheism”, pp. 32-33.
- , p. 13.
- Quoted in Jones, Sigmund Freud, Vol. III, P. 21.
- “Moses and Monotheism”, PP. 59, 20, 21-22.
- , pp. 60, 110, 47.
- , pp. 52, 106, 109-10.
- , pp. 115, 19, 24, 20, 134, 58
5-منفى فرويد ووفاته
- Nunberg, Memoirs, p.60.
- George S. Viereck, Glimpses of the Great (London: Duckworth; 1930), p. 34.
- William G. Niederland and Jacob Shatzky, “Four Unpublished Letters of Freud”, Psychoanalytic Quarterly, Vol. 25 (1956), p. 154.
- Interview with Mark Brunswick, Jan. 25, 1966.
- Interviews with Mark Brunswick.
- Letters of Freud and Zweig, p. 45.
- Walter C. Langer, The Mind of Adolf Hitler (New York: Basic Books; 1972), p. 134.
- Quoted n Jones, Sigmund Freud, Vol. III, P. 151.
- Quoted in ibid., p. 230.
- Letters of Freud and Zweig, p. 21.
- Letters of Freud and Andreas-Salome, p. 75. For Freuid’s feelings about the French Revolution, cf. “Interpretation of Dreams”, Vol. 5, pp. 495-96.
- Letter from MthildaHollitscher to Ernest Jones, Feb. 16, 1956, and letter from Ernst Walginger to Ernest Jones, Jan 11, 1956 (Jones archives).
- Martin Freud, Glory reflected, p. 196.
- Schur, Freud, p. 450.
- Martin Freud, Glory reflected, p. 197.
- Minutes, Vol. II, 383.
- Jones got his details wrong here. Cf. Sigmund Freud, Vol. III, P. 180. Interviews with Edoardo Weiss, Apr. 5 and May 8, 1965.
- Weiss, Sigmund Freud as a consultant, p. 20.
- Letters of Freud and Zweig, p. 92.
- Jones, Sigmund Freud, Vol. III, PP. 192, 220-21. Interview with Richard Sterba.
- “Moses and Monotheism”, p. 54.
- Interview with Richard Sterba.
- “Moses and Monotheism”, p. 115.
- Jones, Sigmund Freud, Vol. II, p. 382.
- Letter from Rudolf von Urbantschitsch to Ernest Jones, May 29, 1956 (Jones archives).
- “Leonardo da vinci”, p. 105.
- Letter from Anna Freud to Ernest Jones, Jan. 16, 1956 (Jones archives).
- Quoted in Choisy, Freud, p. 84.
- Stefan Zweig, The World of Yesterday (London: Cassell; 1953), p. 422.
- “Thoughts for the Times on War and Death”, standard edition, Vol. 14, p. 289.
- Martin Freud, Glory reflected, p. 217.
- Jones, Sigmund Freud, Vol. III, p.232.
ملاحظات لصفحة 540-543
- Arthur Koestler, The Invisible Writing (Boston: Beacon; 1955), p. 408.
- Leonard Woolf, Downhill All the Way (London: Hogarth; 1967), pp. 168, 166, 197.
- Interview with Leonard Woolf, Aug. 17, 1965.
- “A Comment on Anti-Semitism”, p. 292.
- Jones, Sigmund Freud, Vol. III, p. 240.
- Quoted in ibid., p. 242.
- Letter from Anna Freud to Ernest Jones, May 15, 1955 (Jones archives).
- Letter from Anna Freud to Ernest Jones, June 16, 1954 (Jones archives).
- Interview with Mark Brunswick, Nov. 22, 1967.
- Jones, Sigmund Freud, Vol. III, p.230.
- Quoted in ibid., p. 245.
- Interview with Max Schur.
- Letters from Anna Freud to Ernest Jones, Mar. 18, 1954, and Jan. 21, 1955 (Jones archives); Harry Freud, “My uncle Sigmund”, in Freud As we Knew Him, ed. Ruitenbeek, p. 312
- لئن ركز فرويد في البداية على أهمية أولوية التدمير الذاتي لغريزة الموت، فإنه تخلى عن ذلك لاحقا وفي ذلك يقول: ” يبدو حقا كما لو كان من الضروري بالنسبة إلينا أن ندمر شيئا ما أو شخصا حتى نتجنب تدمير أنفسنا وحتى نتحوط من الدافع إلى التدمير الذاتي“(11)
- قبل سنوات “كان يونغ على يقين بأن فرويد لن يتقبل حقيقة تعرضه إلى ما اعتبره عجزه”. (26)
- أشار فرويد في 1931إلى شور وروث برونشفيك ” بوصفهما طبيبيه الشخصيين leibärzte leibarzt” وهو المصطلح الذي كان يستخدمه الملوك للإشارة للطبيب الشخصي. (30)
- كانت ابنته البكر صوفي بالنسبة له كدمية صينية: لقد كتب في قصاصة كتاب فتاته الصغيرة: “إلى الأصغر ولكن الأغلى في مجموعتي الصينية.”
- لقد خاب أمل وايس آنذاك بخيبة في مورسيلي. لقد سأل مورسيلي وايس عن أعمال فرويد، وداعاه لتقديم وجهات نظر التحليل النفسي في تريست، وبعدها وجه سهام نقده لفرويد، لم ينتظر وايس، الذي خاب ظنه في مورسيلي، أن يطلب منه فرويد مراجعة الدراسة، وكتب في شأنها نقدا.
- وصُدم فريدريك بارلز أيضا وأحبط من علاقته الشخصية بفرويد وإن بدرجة أقل (27)
- أشار فرويد مرة لمؤلفات مجموعة “جوتة ” ولاحظ أنه ” استخدم كل ذلك كوسائل للإخفاء الذاتي.” (8)
- الفصل الثاني، الفقرة الأولى
- لكن جاء على لسان فرويد فيما اُقتبس عنه ذات مرة قوله: ” لغتي هي الألمانية. ثقافتي وانجازاتي ألمانية. انا اعتبر نفسي ألماني فكريا، حتى لاحظت تنامي الآثار السلبية المترتبة عن معاداة السامية في ألمانيا والنمسا الألمانية، ومن ذلك الحين، لم أعد اعتبر نفسي ألمانيا، أفضل أن أعتبر نفسي يهوديا.” (2)
± كدليل على سذاجة فرويد السياسية، ذكر مارك برونشفيك أن فرويد كان يصدق كل الروايات عن انحرافات هتلر الجنسية-وبشكل خاص، شعوره بالمتعة عندما تتبول عاهرة في فمه. (6) وقد اعتبرت دراسة نفسية لهتلر لاحقا أن هذه الرواية حقيقة تاريخية. (7)
± في فبراير عام 1918 كتب فرويد معبرا عن “أسفه” عن ثروة الروسية “لأنها فقدت مصداقيتها بسبب سياساتها الراديكالية… ما يحتاجه الوحش الآدمي قبل كل شيء هو الكبت. باختصار ينمو المرء رجعيا…” (11)