مجلة حكمة
خارج فلسطين درويش

خارج فلسطين: الإزاحة والشتات وحلم العودة في أعمال إدوارد سعيد و محمود درويش – سعاد العنزي


مقدِّمة

   في هذا الفصل، سيجري تحليل ثلاثة موضوعات رئيسة تتعلَّق بالهويَّة الفلسطينيَّة، نتجت جميعها عن النكبة مباشرةً، في عملَي سعيد ودرويش، وهي الإزاحة والشتات وحلم العودة على وجه التحديد. فيما يتعلَّق بسعيد، سيكون التركيز على نحو أساسيٍّ على «خارج المكان: مذكّرات» (1999) و«بعد السَّماء الأخيرة: حيوات فلسطينيَّة» (1986)، وهو عمل تعاونيٌّ تمَّ توضيحه بالصور التي أنشأها المصوِّر الوثائقيُّ السويسريُّ جان مور. في حالة درويش، يُدرس هذا الموضوع في مجموعة شعريَّة مختارة من جميع مراحل عمله الثلاث، الأمر الذي يسمح لنا بتتبُّع التطوُّر الزمنيِّ لفهمه وتعبيره عن مفهوم الهويَّة الفلسطينيَّة فيما يتعلَّق بثلاثة مفاهيم رئيسة أثَّرت في حياته الشخصيَّة وكتاباته على حدٍّ سواء، وتعدُّ على نحو عامٍّ جوانب مهمَّة للهويَّة الفلسطينيَّة المعاصرة. نتجت المفاهيم الثلاثة جميعها مباشرةً عن النكبة، أي الإزاحة والشتات وحلم العودة. فيما يتعلَّق بالمقاربة المنهجيَّة، يتبنَّى هذا الفصل مقاربة موضوعيَّة لأعمال هذين الكاتبين، مع التركيز على نحو خاصٍّ على استخدام التحليل النصّيِّ الوثيق من أجل الكشف عن أكثر الدوافع السائدة المتعلِّقة بالهويَّة الفلسطينيَّة المعروضة في إطار عملَيهما. كما يحلِّل استخدام درويش للسرد التاريخيِّ كنصٍّ بينيٍّ.


4.2 الإزاحة الفلسطينيّة

   كان أحد الآثار المباشرة للنكبة الإزاحة الجسديَّة للفلسطينيِّين من الأراضي التي كانوا يسكنونها، وبذا تمَّ تحويلهم إلى أشخاص نازحين داخليّاً. يشرح أشكروفت وآخرون هذا الشرط بالعبارات التالية:

«إنَّ الأشخاص الذين تعرَّضوا للإزاحة داخليّاً (IDPs) هم أشخاص أو مجموعات من الأشخاص الذين أجبروا أو أُلزموا بالفرار أو مغادرة منازلهم أو أماكن إقامتهم المعتادة، ولا سيَّما إن كان ناتجة عن آثار النزاع المسلَّح، أو حالات العنف المعمَّم، أو انتهاكات حقوق الإنسان أو الكوارث الطبيعيَّة أو من صنع الإنسان أو من أجل تجنُّب هذه الأمور، ممَّن لم يعبروا حدود الدولة المعترف بها دوليّاً»[1].

   في حالة الفلسطينيِّين، انطوت هذه الإزاحة الداخليَّة على نقلهم من أماكن سُكناهم التقليديَّة وإعادة توطينهم في مخيَّمات للَّاجئين من دون عبور الحدود، وكان لذلك تأثير حاسم في شكل الهُويَّة الذاتيَّة التي تربط ذاكرة الشعب بوطن أجدادهم. لاحظ أشكروفت وآخرون أنَّ مركز مراقبة الإزاحة الداخليَّة التابع لمجلس اللاجئين النرويجيِّ يسلِّط الضوء على ثمانية آثار رئيسة للإزاحة: «عدم ملكيَّة الأراضي، البطالة، التشرُّد، التهميش، انعدام الأمن الغذائيّ، زيادة معدَّلات الاعتلال والوفيات، فقدان الوصول إلى الممتلكات المشتركة، والتفكُّك الاجتماعيّ»[2].

   كما أوضحنا أعلاه، تمثِّل الإزاحة فصلاً مادّيّاً بين الأشخاص وأمَّتهم ومنازلهم وقراهم وزملائهم من السكَّان. وفاقاً لتعريف أشكروفت وآخرين للإزاحة، فإنَّ معظم الفلسطينيِّين يشكِّلون جزءاً من أمَّة مهجَّرة، وقد عانوا على نحو مفجع نتيجة لذلك. تشير ليانة بدر إلى أنَّ: «الإزاحة قد أصبحت قاعدة مفروضة على اللاجئين الذين جُرِّدوا من جميع ممتلكاتهم وأُلقي بهم للعيش في المخيَّمات. أدَّى هذا المعيار الجديد تدريجيّاً إلى هويَّة جديدة للَّاجئين»[3]. ممَّا لا يثير الدهشة أنَّ هذه الإزاحة أو الانفصال عن الوطن أصبح موضوعاً رئيساً في الأدب الفلسطينيِّ، ومحوراً للنقد الأدبيِّ الذي يحاول فكَّ رموز صور الهويَّة الفلسطينيَّة بعد الإزاحة، ويظهر على نحو بارز في أعمال كلٍّ من سعيد ودرويش.

الإزاحة في عمل إدوارد سعيد

   على غرار درويش، يخبر سعيد عن إزاحة أسرته الممتدَّة وأصدقائه في مذكّراته «خارج المكان» (1999) و «بعد السَّماء الأخيرة» (1986)، مستحضراً صوراً من أجل تصوير حقيقة النكبة للفلسطينيِّين الـمُزاحين عن أرضهم. في وقت سابق من هذين العملين، يستكشف المعنى الأوسع للإزاحة الفلسطينيّة، في حين يستذكر سعيد في سيرته الذاتيَّة ذكريات أكثر حميميَّة عن نزوح أسرته الخاصّ. في سبيل المثال، تظهر قصَّة الإزاحة الشخصيَّة لعمَّته نبيهة مرَّة أخرى في مذكّراته، حيث يروي سعيد كيف أُجبرت تدريجيّاً على مغادرة القدس، مع سقوط حيِّ الطالبيَّة في يد القوَّات الصهيونيَّة، في حين غادر حفيدها يوسف إلى قرية البقعة العليا.

   في الفصل الثاني من كتاب «بعد السَّماء الأخيرة»، يستكشف سعيد جوانب من الحياة داخل فلسطين وإسرائيل، حيث يُعدُّ الفلسطينيُّون، حسب قوله، «منفيِّين في الوطن، وكذلك في الخارج»[4]. إنَّ الفلسطينيَّ المنفيَّ داخل فلسطين هو الموضوع الرئيس في هذا الفصل الذي يحمل عنوان «الدَّاخل»، إذ يستفيض في معنيَي الإزاحة، الجسديَّة والنفسيَّة، ويتأمَّل التحوُّلات التي حدثت في الحياة اليوميَّة للفلسطينيِّين.

   فيما يتعلَّق بالمعنى الجسديِّ للإزاحة، يُشير سعيد:

«إنَّ استقرار الجغرافيا واستمراريَّة الأرض، هما أمران اختفيا تماماً من حياتي وحياة جميع الفلسطينيِّين. إذا لم يتمَّ إيقافنا عند الحدود، أو اقتيادنا إلى مخيَّمات جديدة، أو منعنا من معاودة الدخول والإقامة، أو منعنا من السَّفر من مكان إلى آخر، يُؤخذ المزيد من أراضينا، وتمنع أصواتنا من الوصول إلى بعضها بعضاً، وتقتصر هويَّتنا على الجزر الصغيرة المرعوبة في بيئة غير مضيافة من القوَّة العسكريَّة المتفوّقة التي تسيطر عليها المصطلحات التحليليَّة للإدارة البحتة»[5].

   يصف سعيد هنا الخريطة المجزَّأة المتغيّرة باستمرار، التي تشكِّل حياة الفلسطينيِّين الـمُزاحين داخل فلسطين «نقتصر على جزر صغيرة مرعوبة». إنَّه يربط، على نحو حاسم، بين انقطاع تاريخ فلسطين والافتقار إلى الاستقرار في جغرافيّتها من الإزاحة المستمرَّة. يكتشف سعيد أنَّ مجموعة القرى التي عاش فيها أفراد أسرته الممتدَّة في مناطق مثل حيفا والناصرة وعكَّا، قد نُقلت إلى السلطات الإسرائيليَّة. وبالمثل، حينما يزور القرية التي نشأ فيها، بدلاً من الفلسطينيِّين الأصليِّين الذين يتذكَّرهم، فإنَّه يصادف سكَّاناً جدداً، وهم مهاجرون أمريكيُّون وألمان لا يميِّزهم، يمنعونه من الدخول لإلقاء نظرة سريعة على المنزل الذي أمضى فيه طفولته. يجد أنَّ القدس الغربيَّة قد أصبحت مدينة يهوديَّة بالكامل، حيث تمَّ طرد سكَّانها السابقين إلى الأبد في منتصف عام 1948.

   يستخدم سعيد طرد إسرائيل لعرب حيفا كي يُجسِّد حقيقة أنَّ الإزاحة الذي قادها الجيش قد تركت الفلسطينيِّين وهم يحملون «المفاتيح ووثائق البيوت»[6]، وهو رمز قويٌّ لحلمهم بالعودة، على الرَّغم من حقيقة أنَّ المنازل التي خلَّفوها وراءهم هي الآن مملوكة لشخص آخرَ[7]. علاوة على ذلك، بعد الإزاحة، غُيِّرت أسماء الأماكن، ضمن عمليَّة منحتها هُويَّة إسرائيليَّة جديدة، وأولاء الذين كانوا يوماً أشخاصاً منتمين إلى المكان قد أصبحوا دخلاء.

   إنَّ التأثير النفسيَّ لهذه الإزاحة الجسديَّة، إلى جانب تعامل إسرائيل بطيش، وعلى نحو سريع مع الخريطة، لم يترك الفلسطينيِّين مُشكِّكين في إحساسهم بأنفسهم كفلسطينيِّين فحسب، بل في جغرافيَّة الدولة الفلسطينيَّة في حدِّ ذاتها أيضاً، كما يوضِّح سعيد:

«نحن أيضاً فقدنا الإحساس بالمكان. نحن لا نفكِّر في فلسطين بأنَّها “دولة فلسطينيَّة واسعة النطاق” بل بوصفها قطعة أرض صغيرة مزدحمة للغاية تمَّ طردنا منها. إنَّ كلَّ جهد نبذله بغية الاحتفاظ بهويَّتنا الفلسطينيَّة هو أيضاً محاولة للعودة إلى الخريطة، لمساعدة هؤلاء الموجودين في الداخل لأجل الحفاظ على موطئ قدمهم غير المستقرَّة»[8].

   تشير كلمات سعيد إلى أنَّ الطريقة الوحيدة للاحتفاظ بالهويَّة الفلسطينيَّة هي المقاومة داخل فلسطين ضدَّ عمليَّات الإزاحة، نظراً لكون الإزاحة هي سبب فقدانهم إحساسهم بالمكان، ومعها تصوُّرهم لأنفسهم كفلسطينيِّين. يُنظر إلى محاولات مقاومة الانفصال والمزيد من التشتُّت بأنَّها استراتيجيَّة للاحتفاظ بالشعور بالهويَّة الوطنيَّة المهدَّدة بالتحلُّل خلافاً لذلك.

   في كتابته عن تفتُّت الأمَّة الفلسطينيَّة بعد التهجير كنتيجة للقوَّة الإسرائيليَّة، يعبِّر سعيد عن نفسه بعبارات طباقيَّة على نحو أنموذجيٍّ:

«الاستمراريَّة بالنسبة إليهم، أي السكَّان المسيطرين، الانقطاع بالنسبة إلينا، أي المحرومين والمشتَّتين. قد اكتملت الدائرة، على الرَّغم من ذلك، حينما نعترف نحن الفلسطينيِّين بأنَّ الأطروحة عينها يتمُّ الالتزام بها من قِبل العرب وغيرهم من الدول حيث توجد مجتمعات فلسطينيَّة كبيرة. إنَّنا هناك أيضاً في مخيَّمات ومناطق وأحياء ونطاقات مشتَّتة؛ إنَّما على عكس نظيراتها الإسرائيليَّة، فإنَّ هذه الأماكن ليست نتاجاً علميّاً للتخطيط البحت أو التخطيط السياسيّ. إنَّ البقعة، مخيم في عمَّان، الحيَّ الفلسطينيَّ في حولِّي في الكويت، موجودان ببساطة هناك»[9].

   لقد استقرَّ الفلسطينيّون في هذه الأماكن خارج فلسطين نتيجة إجبارهم على ترك منازلهم عندما نُقلت الأرضُ من السلطة الفلسطينيَّة إلى الحيازة الإسرائيليَّة نتيجة النكسة، بالإضافة إلى الخسارة الأولى -والأكبر- لفلسطين في حدِّ ذاتها في النكبة. وبناءً على ذلك، فقد أصبحوا شعباً مجزَّأً ومشتَّتاً. كما يشير إبراهم[10]، فإنَّ هذه التجربة هي التي دفعت سعيد إلى رؤية الجغرافيا بأنَّها قابلة للتحويل، كما الهويَّة، نظراً لأنَّ خريطة فلسطين كأرض هي غير مستقرَّة وتفتقر إلى الاستمراريَّة. ينعكس هذا الشعور بالمرونة، الذي توجد فيه كلٌّ من الجغرافيا والهويَّة، في بيانه: «ببطء، تتحلَّل حيواتنا، مثل فلسطين نفسها، إلى شيء آخر»[11].

   لم يكن لهذه الإزاحة أثرٌ نفسيٌّ فحسب، بل أثر سياسيٌّ أيضاً على الفلسطينيِّين. يشير سعيد إلى حقيقة أنَّ الفلسطينيِّين قد نُقلوا من مكان إلى آخر داخل فلسطين وإسرائيل، إلى مخيَّمات اللاجئين مثل تلك الموجودة في الأردن، وإلى وجهات مختلفة في جميع أنحاء العالم العربيِّ وما وراءه، هو أمر يمنعهم من البقاء على اتصال مع بعضهم بعضاً بوصفهم شعباً. يقول: «لا نستطيع نحن (الفلسطينيّون) الاحتفاظ بالمركز لفترة طويلة»[12] لأنَّ هذا التشرذم والتشتُّت يضعف روابطهم كمجتمع ويؤثِّر في كيفيَّة النظر إليهم على نحو جماعيٍّ كأمَّة. وهذا يمنعهم ضمنيّاً من التحدُّث بصوت موحَّد ومن توحيده في التعبير عن حقوقهم والمطالبة بالاعتراف السياسيِّ.

 

4.2.2 رؤى درويش حول الإزاحة

   على عكس سعيد، عانى درويش من أقسى أشكال الإزاحة مباشرةً، فقد طُرد وأسرتُه من قريتهم وصُودرت أراضيهم، وهي تجربة تسبَّبت في جعله يصوِّر هذا الحدث في عمله أصلاً بأنَّه سرد شخصيٌّ للإزاحة، وتحويلها بعد ذلك إلى تمثيل لرواية فلسطينيَّة جماعيَّة. يجري هنا استكشاف هذا التحوُّل من الشخصيِّ إلى الجماعيِّ.

   في «يوميَّات الحزن العاديّ» (1973)، وهو شعر نثريٌّ جزئيّاً، ويوميَّات في الجزء الآخر، يصف درويش كيف سوَّغ الإسرائيليُّون سياسة الإزاحة الجسديَّة للفلسطينيِّين على النحو التالي:

«إنَّ الإسرائيليِّين يأخذون من خروج العرب ذريعةً للادِّعاء بغياب حسِّ الانتماء إلى الوطن والافتقار إلى الجدارة بوطن تخلّوا عنه بسهولة»[13].

   عبر استخدام الأسلوب الساخر الأنموذجيِّ في هذا العمل، يسلِّط درويش الضوء على المنطق الملتوي الذي يستخدمه الإسرائيليّون من أجل تسويغ الإزاحة. بعد إجبار الفلسطينيِّين على اتِّخاذ خيار مستحيل بين مغادرة قراهم والعيش، أو البقاء ومواجهة الموت، ادَّعى الإسرائيليّون بعد ذلك أنَّه بما أنَّ الفلسطينيِّين قد هجروا منازلهم بسهولة، فمن الواضح أنَّهم لا يمتلكون روابط حقيقيَّة بأرضهم الأصليَّة، وتالياً فهم لا يستحقُّون الاحتفاظ بها. وبحسب درويش، فإنَّ إجبار الناس على ترك أراضيهم كان استراتيجيَّة صهيونيَّة أيديولوجيَّة مخطَّطاً لها، تركِّز على امتلاك أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينيَّة قبل تأسيس إسرائيل، في أثناء الحرب وبعدها، من أجل إثبات حقِّهم في فلسطين. وعلى الرَّغم من ذلك، بقي العديد من الفلسطينيِّين، على الرَّغم من أنَّ الإمكانات المحدودة لظروف معيشيَّة كريمة كانت لتجبرهم على الهرب من هذه الحياة المؤلمة.

 

الشتات الفلسطيني:

نحو تعريف الشتات

في الاستخدام الشائع، يُستخدم مصطلح الشتات على نحو عامّ للإشارة إلى، إمَّا:

  1. اليهود المنفيُّون خارج فلسطين أو دولة إسرائيل الجديدة، وإمَّا:

  2. مجموعات الأشخاص الذين يعيشون خارج وطنهم في دولة أجنبيَّة ويتشاركون الثقافة عينها[14].

   كما تشير جولي بيتيت Julie Peteet: «إنَّ مصطلح الشتات يستحضر أوجه تشابه مع الشتات اليهوديِّ الأنموذجيِّ، البالغ من العمر 3000 عام، والشتات الأرمنيِّ الأكثر حداثة من الناحية التاريخيَّة»[15]. على الرَّغم من ذلك، وفاقاً لأغنيشكا وينر[16] Agnieszka Weinar، فقد بدأ استخدام مصطلح الشتات مؤخَّراً بمعنى أوسع بكثير، من أجل الإشارة إلى أيِّ مجموعة سكانيَّة تقريباً تتحرَّك دون مرجعيَّات محدَّدة إلى السياق الذي توجد فيه. إنَّ من المفيد إذاً قبل دراسة كيفيَّة تأطير سعيد ودرويش لمفهوم الشتات في السياق الفلسطينيِّ، أن يجري توضيح ما الذي يميِّز الشتات أو شعب الشتات.

   في مقالته «الشتات في المجتمعات الحديثة: أساطير الوطن والعودة» Diasporas in Modern Societies: Myths of Homeland and Return، حاول ويليام سافران William Safran تحديد عدد من السمات التي تميِّز الشتات، على وجه التحديد، على عكس المهاجرين والمغتربين واللاجئين والعمَّال الضيوف ومجتمعات المنفى والمجتمعات الخارجيَّة والمجتمعات العرقيَّة. وجادل، أوَّلاً، في أنَّه، في جميع الحالات، يمكن القول إنَّ مصطلح الشتات يحمل إحساساً بالتهجير الجغرافيِّ. يجد شعب الشتات نفسه منفصلاً عن أراضيه الوطنيَّة وأوطان أجداده (مركزه)، ثمَّ فإنَّه ينتشر أو يتشتَّت على مساحة جغرافيَّة أكبر (المحيط الخارجيّ) لأيِّ سبب كان. ويشير إلى أنَّ القرن العشرين، على وجه الخصوص، شهد إجبار ملايين لا حصر لها على مغادرة أوطانهم بحثاً عن ظروف معيشيَّة أكثر أماناً في أجزاء أخرى من العالم، نتيجة لعوامل سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة ودينيَّة مختلفة. وعلى الرَّغم من ذلك، يؤكِّد سافران أنَّ حركات الشتات هذه ليست ظاهرة حديثة بحتة، وعلى مرِّ التاريخ كان هناك العديد من التشتُّت الجماعيِّ ذي الطبيعة غير الطوعيَّة، ومن أفضل الأمثلة المعروفة، تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسيِّ للشعوب الأفريقيَّة إبَّان القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر[17].

   تجدر الإشارة إلى أنَّه بينما يحمل مصطلح الشتات، بالنسبة إلى بعض التخصُّصات، مثل دراسات الشتات ودراسات ما بعد الاستعمار، دلالات سلبيَّة على نحو خاصّ في الغالب، فيما يتعلَّق بإعادة التوطين القسريِّ التي نتجت عن الطرد أو العبوديَّة أو العنصريَّة أو الصراع، ولا سيَّما من النوع القوميِّ، إلَّا أنَّ سافران لا يحاول معالجة المقدار الذي كانت الحركة الأصليَّة عنده طوعيَّة أو قسريَّة، بل يركِّز ببساطة على تأثير الحركة.

   ووفاقاً لسافران، فإنَّ السِّمة المميّزة الثانية لجماعات الشتات هي أنَّها تحتفظ بذاكرة جماعيَّة أو خطاب أسطوريٍّ يتعلَّق بوطنها. إنَّهم يميلون، على وجه الخصوص، إلى التركيز على تذكُّر موقعه الفعليِّ، حتَّى لو لم يعد يظهر على الخرائط ككيان. كما أنَّهم يحتفظون بسرد تاريخيٍّ عنه ويفخرون بالإنجازات التي يتذكَّرونها[18]. علاوة على ذلك، يواصل أعضاء مجموعات الشتات حسبان موطن أجدادهم بأنَّه موطنهم الحقيقيُّ، وعادةً ما يراودهم الأمل، أو في الأقلِّ الرغبة في أنَّهم سيتمكَّنون، هم أو أحفادهم، من العودة إلى هناك في وقت ما في المستقبل، إن كان لا يزال موجوداً بأيِّ معنىً من المعاني الحقيقيَّة.

   أخيراً، تستمرُّ شعوب الشتات في الحفاظ على علاقة خاصَّة بأوطانها إلى الحدِّ الذي يمكن القول معه إنَّها تشكِّل هويَّتها، أو كما يقول سافران: «من المهمِّ الإشارة إلى أنَّ وعيهم وتضامنهم المجتمعيَّ والعرقيَّ يُعرَّفان من خلال وجود مثل هذه العلاقة»[19]. يمكن أن يكون أحد الجوانب السلبيَّة لهذه العلاقة هو أنَّ أفراد الشتات يشعرون أنَّ مجتمعهم المضيف لا يقبلهم تماماً ولا يستطيع أبداً أن يفعل ذلك، ما يعني أنَّهم، كمجموعة، يظلُّون «منسلخين ومعزولين عنه»[20].

   في دراستها «بين وسمَي الشتات والنفي: رواية لبنانيَّة»[21]، تدرس نجيب الاختلافات المحتملة بين تجربتَي النفي والشتات. يشير المصطلحان كلاهما إلى الإزاحة أو الانفصال الجغرافيِّ عن الوطن، لكنَّهما ينطويان على أنواع مختلفة من التجارب. إنَّ المنفى هو في الأساس تجربة فرديَّة عندما يغادر شخص ما منزله/منزلها لأسباب قد تكون ذات طبيعة شخصيَّة، اجتماعيَّة و/أو سياسيَّة. وعلى الرَّغم من ذلك، فإنَّ تجربة الشتات هي تجربة جماعيَّة، وغالباً ما تكون نتيجة لتغيُّرات مأساويَّة، بل وكارثيَّة حتَّى، إذ تكون ناجمة عن كوارث من صنع الإنسان، مثل الحروب أو الكوارث الطبيعيَّة التي تجبرهم على مغادرة منازلهم. إذاً، بالنسبة إلى نجيب، يمكن أن تُشكِّل الأبعاد المختلفة الطريقة التي يُنظر بها إلى تجربة التهجير من المنزل. أوَّلاً، المدى الذي يُنظر به إليها على أنَّها تجربة فرديَّة أو جماعيَّة؛ ثانياً، المدى الذي يُنظر به إلى الإزاحة على أنَّها طوعيَّة أو قسريَّة؛ وثالثاً، المدى الذي تُفهم بها على أنَّها عمل بشريٌّ أو كارثة طبيعيَّة/ فعل من أفعال الإله.

   فيما يتعلَّق بكيفيَّة اختيار الكتَّاب لتمثيل تجاربهم في الإزاحة، يميّز الكاتب نيكو إسرائيل Nico Israel أيضاً بين المنفى والشتات، إذ إنَّه يتَّفق مع نجيب في أنَّ الأولى هي تجربة فرديَّة وأنَّه فيما يخصُّ التمثيل النصّيَّ فإنَّ هذا يميل إلى إنتاج «موضوع متماسك» قد يكون لديه «تصوُّر محدود عن الوطن»[22]. حينما تكون تجربة الشتات مرتبطة، فغالباً ما يوثِّق الكتَّاب «صلة أكثر قوة لتضامن مجموعة الأقليَّات»، وغالباً ما يستجوب عملهم مفاهيم مثل «الهيمنة الثقافيَّة والموقع والهويَّة»[23].

 

4.3.2 الشتات الفلسطينيُّ

   تعلِّق بيتيت على حقيقة أنَّ أحد العناصر التي تجعل تجربة التهجير التي يعيشها الشعب الفلسطينيُّ مثيرة للسخرية والمأساويَّة، على نحو خاصّ، أنَّ «القابِلة (لولادة الشتات الفلسطينيّ) كانت عودة يهود الشتات إلى الوطن»[24]. بعبارة أخرى، في تناسق مروّع، كان الإعلان الرسميُّ عن تأسيس دولة إسرائيل وعودة الشتات اليهوديِّ قد مثَّل مرحلة الخروج إلى الشتات الفلسطينيِّ. في الغالب، لا يزال الفلسطينيُّون الذين فقدوا أراضيهم ومنازلهم وأجبروا على الخروج من أراضيهم نتيجة نكبة عام 1948 مشتَّتين في مواقع مختلفة، خارج الأرض التي تشكِّل فلسطينَ التاريخيَّة[25]. كنتيجة لهذه المجموعة الفريدة من الظروف التاريخيَّة والسياسيَّة، واجه الفلسطينيُّون العاديُّون معضلة مؤلمة، وأُجبروا على الاختيار بين ما يرون أنَّه أهون الشرَّين: إمَّا الإزاحة الداخليَّة التي تستلزم الإقامة في الأراضي المحتلَّة الإسرائيليَّة، وإمَّا الإزاحة الخارجيَّة التي قد تعني الشتات خارج الوطن، غير واثقين من المكان الذي سينتهون إليه في نهاية المطاف.

   نتيجة لتهجير النكبة عام 1948، والنكسة عام 1967 (التي عجَّلت بها حرب الأيَّام الستَّة) وسلسلة من النزاعات اللاحقة في المنطقة، يمكن الآن تقسيم الشعب الفلسطينيّ كأمَّة إلى أربع مجموعات رئيسة:

   أولى هذه المجموعات، الفلسطينيُّون الذين يعيشون داخل الأراضي التي كانت فلسطين سابقاً، ويمكن تقسيمهم إلى مجتمَعَين منفصلين. إنَّ مَن يسمَّون بعرب إسرائيل هم هؤلاء الفلسطينيُّون الذين استقرُّوا في إسرائيل، وعلى الرَّغم من أنَّهم يعيشون في ما كان سابقاً وطنهم، فقد قيل إنَّهم ما زالوا يعانون من آثار الإزاحة الداخليَّة، حيث يُعاملون على أنَّهم مواطنون من الدرجة الثانية، وهم محرومون من حقوقهم الأساسيَّة في مجالات عدَّة، مثل التعليم والخدمات الصحيَّة[26]. في هذا الصدد، كما لاحظ أشكروفت وجريفثس وتيفين: «لقد حوَّل تاريخ فلسطين الداخليَّ (العربيَّ الفلسطينيَّ) إلى خارجيّ»[27]. يعبِّر درويش عن هذا الموقف في سطر بيتٍ يظهر في «عاشق من فلسطين»:

«ولكنّي أنا المنفيُّ خلف السُّور والباب»[28].

   أمَّا المجموعة الثانية من الفلسطينيِّين فهم الذين بقوا في وطنهم السابق يعيشون في ما تبقَّى من المدن الفلسطينيَّة بعد الصراع العربيِّ الإسرائيليِّ عام 1967. كما أنَّهم يعانون من ظروف معيشيَّة قاسية في بلادهم، غير أنَّهم يرفضون المغادرة لأنَّهم يسعون إلى الدفاع عن حقِّهم في الوجود في وطنهم. تمَّ منح هاتين المجموعتين تسمية محدَّدة وهي «من الداخل»، كما يوضِّح سعيد في «بعد السَّماء الأخيرة»:

«إنَّ عبارة من الداخل لها صدى خاصّ في الأذن الفلسطينيَّة، إذ إنَّها تشير […] إلى المنطقة الداخليَّة لإسرائيل، إلى مناطق وشعب لا يزالان فلسطينيَّين على الرَّغم من حالات الاعتراض المتمثِّلة في الوجود الإسرائيليِّ. وعليه، حتَّى عام 1967، كانت تعني الفلسطينيِّين الذين كانوا يعيشون داخل إسرائيل، بعد عام 1967، توسَّعت العبارة لتشمل سكَّان الضفَّة الغربيَّة وغزَّة ومرتفعات الجولان، ومنذ عام 1982 كانت تعني أيضاً الفلسطينيِّين (واللبنانيِّين) في جنوبي لبنان»[29].

   عبَّر سعيد ودرويش، وكثيرٌ من الكتَّاب الفلسطينيِّين الآخرين، في كتاباتهما عن إحباط الفلسطينيِّين الذين يضطرُّون إلى الكفاح من أجل السَّفر، إمَّا بين مواقع داخل فلسطينَ وإمَّا إلى أماكنَ خارج فلسطينَ، لأنَّ الحركة يسيطر عليها الإسرائيليُّون أو مسؤولون من الدول المجاورة. وفاقاً لسعيد، تمَّ استكشاف هذا الموضوع على نحو ثريٍّ في رواية إلياس خوري «باب الشمس»[30] (1998).

   يصوِّر درويش القيود التي يواجهها العديد من رفاقه الفلسطينيِّين، التي كان يتعرَّض لها هو أيضاً. إنَّ الافتقار إلى حريَّة التنقُّل هذا يخلق صعوباتٍ لأولئك الذين يرغبون في رؤية أقاربهم أو العثور على عمل، لمجرَّد أنَّهم لم يحصلوا على تصريح للسفر من السلطات الإسرائيليَّة. لـمَّا كان درويش يعيش في فلسطين، لم يكن مسموحاً له بالتنقُّل بين المدينة التي كان يعيش فيها ومنزل أسرته في مكان آخر. توضِّح مانسون Mansson  أنَّ الشاعر سُجن ذات مرَّة بسبب سفره إلى القدس من أجل المشاركة في حفلٍ شعريٍّ دون وثيقة السفر الصحيحة[31].

   إنَّ المجموعة الثالثة من الفلسطينيِّين، هم أولئك أعضاء الشتات الـمُزاحون خارجيّاً، الذين هم لاجئون في دول مجاورة، مثل لبنان وسورية والأردنّ، أو استقرُّوا في دول عربيَّة أخرى، مثل مصرَ أو الخليج العربيِّ. على الرَّغم من الترحيب بالفلسطينيِّين في الأصل من قِبل إخوانهم وأخواتهم العرب، إلَّا أنَّهم ما زالوا يعانون من مشاعر الخسارة والنفي العميقة، وبوصفهم لاجئين فإنَّهم غالباً ما يُعاملون على نحو غير متساوٍ، ولم يُمنحوا الجنسيَّة الكاملة. في كثير من الحالات، يُمنعون من ممارسة حقوقهم السياسيَّة داخل البلد المضيف، وفي أحسن الأحوال، يُعاملون على أنَّهم «ضيوف أبديُّون».

   لقد تأثَّر العديد من هؤلاء اللاجئين الفلسطينيِّين بالنزاعات اللاحقة في المنطقة. وهكذا، في سبيل المثال، لـمَّا غزت قوَّات صدَّام حسين الكويت عام 1990، دعم الرئيس الفلسطينيُّ الراحل ياسر عرفات العراق. وكنتيجة لذلك، لـمَّا تمَّ تحرير بلدهم عام 1991، كان ردُّ فعل الكويتيِّين ضدَّ الفلسطينيِّين الذين يعيشون هناك من خلال إنهاء إقاماتهم[32]. كما حدثت عمليَّات طرد جماعيٍّ أخرى من ليبيا (1996) والعراق (2003) وسورية (2011)، إزاحة داخليَّة مختلفة داخل لبنان[33]. وكما عبَّرت الجيوسي عن ذلك بشاعريَّة، فإنَّ الشتات الفلسطينيَّ مشتَّت «حيثما تدفعهم رياح السياسة»[34].

   تتكوَّن المجموعة النهائيَّة من الفلسطينيِّين المقيمين في الدول الغربيَّة في أوروبا وأمريكا وأماكن أخرى. يتمتَّع أفراد الشتات في هذه المجموعة بمستوى أعلى من التعليم وفرص العمل والحقوق السياسيَّة في البلدان المضيفة لهم. وعلى الرَّغم من ذلك، فإنَّ الغالبيَّة منهم لا يميلون إلى الاستقرار على نحو دائم في هذه البلدان الجديدة لأنَّهم لا يزالون يرغبون ويتبنَّون، على نحو واعٍ، الاعتقاد بأنَّهم سيعودون في نهاية المطاف إلى وطنهم الأمِّ.

   من المهمِّ أن نلاحظ أنَّ الفلسطينيِّين في جميع هذه المجموعات الأربع لا ينظرون عادةً إلى وضعهم الحاليِّ من ناحية المنفى الدائم بل بأنَّه غيابٌ مؤقَّت عن وطنهم. وتالياً، فإنَّ حلم العودة يشكِّل جزءاً أساساً من وعي الشتات الفلسطينيِّ، الأمر الذي يمنع عن غير قصد اندماجهم الكامل في المجتمع المضيف، ويمكن تفسيره بأنَّه نقص في الولاء للبلد الذي يستضيفهم.

   لخَّص سعيد الوضع المعقَّد الذي يجد الشتات الفلسطينيُّ نفسه فيه على النحو التالي:

«هم إمَّا “عربُ يهودا أو السامرة”، وإمَّا في إسرائيل هم غير اليهود. يُشار إلى بعضهم بأنَّهم “الحاضرون الغائبون”. توجد في الدول العربيَّة، باستثناء الأردنّ، بطاقات خاصَّة تعرّفهم بأنَّهم “لاجئون فلسطينيُّون” حتَّى عندما يكونون مهندسين أو مدرِّسين أو رجال أعمال أو فنّيِّين محترمين، فإنَّهم يعرفون أنَّهم في نظر البلد المضيف سيبقون أجانب دائماً»[35].

 

من الإزاحة الفلسطينيَّة إلى الشتات الفلسطينيِّ

   وبحسب سعيد، فإنَّ «التجربة الفلسطينيَّة الجوهريَّة […] تحدث عند أحد الحدود، أحد المطارات، ونقطة تفتيش ما»، لأنَّه بالنظر إلى الفلسطينيِّين «فإنَّه يتمّ التعبير عن الواقع الأكثر حقيقيَّة في العبور من مكان إلى آخر»، وأصبحت الإزاحة «الجوهر العميق لهويَّتهم»[36]. ينعكس هذا في حياة درويش الخاصَّة عندما أُزيح بالفعل مرَّتين من فلسطين، على غرار الآلاف من مواطنيه، فقد انتقل إلى لبنانَ، غير أنَّ حصار بيروت عام 1982 «أدَّى إلى إزاحة جديدة للفلسطينيِّين: ليس من وطنهم الأصليِّ، لكن من مكان لجوئهم»[37]. يبدو أنَّ سطراً في قصيدته «إلى فدوى طوقان»، وهي شاعرة فلسطينيَّة زميلة، يعكس على حدٍّ سواء تعباً وغضباً من حياة الإزاحة المستمرَّة:

«أنا لستُ مسافراً، ووطني ليس حقيبة سفر»[38]

   وعليه، وعلى الرَّغم من حقيقة أنَّه كان قد تعرَّض للإزاحة مرَّات عدَّة، فإنَّ درويش يشير إلى أنَّه ليس مسافراً، لأنَّ السفر يكون عادة بدافع الإرادة الحرَّة، وليس بقوة الغزو وعواقبه. والأهمّ من ذلك أنَّه يؤكِّد أنَّ وطنه ليس حقيبة سفر، كأنَّه يحتاج إلى أن يؤكِّد للقارئ ولنفسه أنَّه يمتلك وطناً مادّيّاً ينتظر العودة إليه. ومن المفارقات، على الرَّغم من ذلك، أنَّ إنكاره لوضعه في السفر في حدِّ ذاته لا يؤدِّي إلَّا إلى تسليط الضوء على واقع وضعه ووضع زملائه الفلسطينيِّين الـمُزاحين كلاجئين أُجبروا على العيش خارج بلدهم.

   إنَّ لحظة الإزاحة، في حين يغادر الفلسطينيُّون منازلهم ومجتمعاتهم غير متأكِّدين ممَّا سيحدث لهم، هي صورة متكرِّرة في قصائد درويش. يصف نصُّ «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا» عدم الاستقرار هذا على النحو التالي:

مدينته لا تنام، وأسماؤها لا تدوم. بيوت تغيَّر

سكَّانها. والنجوم حصى.

وخمسُ نوافذ أخرى، وعشر نوافذ أُخرى تغادر

حائط[39].

   يمكن تفسير هذه الأبيات بأنَّها إشارة إلى فعل الإزاحة في تلك اللحظة المحدَّدة من الزمن حين دخل السكَّان الجدد (اليهود) المنطقةَ وغادر السكَّان الفلسطينيّون الأصليُّون. إنَّ مدينة سرحان (القدس) غير قادرة على النوم لأنَّ الصراع بين الإسرائيليِّين والفلسطينيِّين لا يسمح بوجود أيِّ شعور بالأمن، إضافة إلى كون كلِّ شيء في حالة تغيُّر مستمرٍّ. تمَّ تغيير أسماء الأماكن التي تعمل كنقاط مرجعيَّة، من العربيَّة الأصليَّة إلى العبريَّة. استُبدل بسكَّان المنازل من الفلسطينيِّين الأصليِّين المستوطنون اليهود. كما هي الحال غالباً في شِعر درويش، يمكن تفسير الإشارة إلى «النوافذ التي تغادر الجدار» بطرائقَ عدَّة، وكلّها تتحدَّث عن الدَّمار أو الغياب. قد يعني هذا أنَّ الأضواء التي شوهدت في النوافذ قد تمَّ إطفاؤها، وهي علامات واضحة على المغادرة الجماعيَّة للسكَّان الأصليِّين. حين دمجها بالعبارة المبهمة إلى حدٍّ ما «والنجوم حصى»، فإنَّ هذا يستحضر صورة الحصى التي يتمُّ رميها عبر النوافذ الزجاجيَّة، تاركة الشكل الخشن المميَّز، الذي يذكِّرنا بشكل نجمة. مرَّة أخرى، تتحدَّث الصورة عن الدَّمار والتخلِّي. إنَّ الاحتمال الثالث هو أنَّ هذا يمثِّل تذكُّر درويش الدقيق لعمليَّات السلب والنهب التي رافقت، في كثير من الأحيان، عمليَّة الإزاحة، عندما كان المستوطنون اليهود يفكِّكون أيَّ أجزاء يستطيعون تفكيكها من منازل العرب من أجل إعادة بناء مساكنهم، مع إيلاء تقدير للنوافذ والأبواب على نحو خاصٍّ[40].

   تستمرُّ صورة الرحيل في الظهور، في قصيدة «النزول من الكرمل»، وهي قصيدة من المرحلة الثانية:

وكانت شهادةُ ميلاد أمِّي قابلةً للنقاش

وكانت أناشيد أهلي العربْ

تُرتِّبُ أمتعة اللاجئين.

وتبني جسورَ العبور.

وصارت فلسطينُ أقرب.

فاختلف اللاجئون على موسم القمح والبرتقال[41]

   مرَّة أخرى، ينصبُّ التركيز على مغادرة مكان منشأ المرء والانتقال إلى مكان آخر، والتعامل مع طبقة الموظَّفين الرسميِّين، وحمل متعلَّقاته مع الاستمرار في التفكير في المنزل. تعيد الأصوات المألوفة «أناشيد أهلي العرب» ذكريات المنزل، وتبني جسراً بين هنا وهناك، غير أنَّ اللَّاجئين قد بدؤوا بالفعل في نسيان جوانب حيواتهم السابقة. يقيس الفلَّاحون، كونهم مرتبطين بأرضهم، الوقت بدورات الزراعة والحصاد، والمواسم الجافَّة والممطرة. لقد فقدوا هذه الصلة، لأنَّهم غدوا هائمين لاجئين، وهم الآن غير متأكِّدين من موعد حصاد القمح والبرتقال، ويسعون من أجل تذكُّر ما كان في السابق مناسبات خاصَّة لمجتمعهم.

   في «خطبة الهنديّ الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض»، يقارن درويش بين معاملة المستوطنين البيض للقبائل الأمريكيَّة الأصليَّة ومصير شعبه الـمُزاح. لأنَّه كما كان السكَّان الأصليّون في أمريكا الشماليَّة يجوبون أراضي أجدادهم بحريَّة، لكن تمَّ بعد ذلك إزاحتهم واحتجازهم في محميَّات، كذلك تمَّت إزاحة الفلسطينيِّين من وطنهم إلى جيوب الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة. يمكن أيضاً قراءة قصيدته كتعليق أكثر عموميَّة على إزاحة الشعوب وفقدان ذكرياتها الثقافيَّة، الذي يحدث عندما يمارس المستعمِر سلطته على المستعمَر.

   يشكِّل هذا جزءاً من استراتيجيَّة درويش الإبداعيَّة التي بدأها، كما يوضِّح سنان أنطون، من أجل تنفيذ المرحلة الثانية من عمله، ولا سيَّما بعد مغادرته القسريَّة لبيروت، فقد بدأ:

«… بغية تناول مجموعة مختلفة من التجارب التاريخيَّة، الروايات والأساطير من أجل وضع الملحمة الفلسطينيَّة في السياق الأوسع لمآسي ما بعد الاستعمار التي حدثت منذ عام 1492»[42].

   إنَّ كلمات الزعيم القبليِّ، الزعيم سياتل، الذي يدعو شعبه إلى الحصول على حصَّة من الأرض التي سكنوها منذ آلاف السنين، تصبح صوت درويش، مدافعاً عن قضيَّة المعاملة العادلة للفلسطينيِّين:

لكُمْ ما لكُمْ… ولكُمْ ما لنا من هواءٍ وماءْ

لَنا ما لنا من حصىً… ولكُمْ ما لكُمْ من حديدْ

تعالَ لنَقتَسِمَ الضوءَ في قوَّة الظِّلِّ، خذْ ما تُريدْ

من اللَّيل، واترُكْ لنا نجمتَين لندْفن أمواتَنا في الفَلَكْ

وخُذْ ما تريدُ من البَحْرِ، واتْرُك لنا مَوْجَتيْن لصَيْد السَّمَكْ

وخُذْ ذَهَبَ الأرضِ والشَّمسِ، واترُكْ لنا أرضَ أسْمائِنا

وعُدْ، يا غَريبُ، إلى الأهْلِ… وابْحَثْ عن الهِنْدِ[43].

   ثمَّة اعتراف فوريٌّ بأنَّ هذا صراع غير متكافئ من حيث القوَّة، وأيضاً دليل على أوجه التشابه التي رسمها درويش في عبارة «لَنا ما لنا من حصىً… ولكُمْ ما لكُمْ من حديدْ». يمكن تفسير هذا على وجه التحديد بأنَّه إشارة إلى رمي الحجارة الذي يستخدمه الفلسطينيُّون تقليديّاً كشكل من أشكال المقاومة ضدَّ القوَّة المتفوِّقة للبنادق والدبَّابات الإسرائيليَّة. وعلى الرَّغم من ذلك، فهو تعليق بعبارات أكثر عموميَّة على الصراع غير المتكافئ الذي استمرَّ دائماً بين المستعمَر والمستعمِر. تشير هذه العبارة بوضوح أيضاً إلى أنَّه إذا كان هناك تفاوض، إذاً فإنَّ من غير المرجَّح أن تكون شروط الاتفاقيَّة عادلة. وهناك اعتراف أيضاً بأنَّ المستعمرين لا يهتمُّون بالأرض لأنَّ لها قيمة رمزيَّة كما هي الحال لدى شعبها، لكونها الأرض التي دُفن فيها أجدادهم أو لأنَّها توفِّر الضروريَّات اليوميَّة للحفاظ على الحياة، بل هم مهتمُّون باستغلال ثرواتها «ذَهَب الأرضِ» وتوسيع أراضيهم.

   يبدو أنَّ الزعيم يطلب الحدَّ الأدنى فقط، واعداً بأنَّه لن تكون هناك مقاومة لاستغلالهم جميع الموارد التي توفِّرها الأرض والبحر. على الرَّغم من ذلك، في الأسطر الأخيرة، هناك إدراك بأنَّ هذه ليست مفاوضات، لأنَّ الطرف الأقوى سيأخذ كلَّ ما يريده. ثمَّ أصبحت كلماته الأخيرة التماساً: «واترُكْ لنا أرضَ أسْمائِنا/ وعُدْ، يا غَريبُ، إلى الأهْلِ… وابْحَثْ عن الهِنْدِ»[44]. مرَّة أخرى هنا، يشير درويش إلى إعادة تسمية الأماكن، محو الذكريات الثقافيَّة المنقولة في اللُّغة، وهي ممارسة نفَّذها العديد من المستعمِرين تاريخيّاً لتمثيل ملكيَّتهم للأراضي على نحو رمزيٍّ، وهو شكل من أشكال الإزاحة الثقافيَّة. يعمل هذا أيضاً بمنزلة تذكير بالأسماء العربيَّة للأماكن التي حلَّت محلها أسماء عبريَّة في فلسطين، وكان كلُّ تغيير يشير أيضاً إلى الإزاحة الجسديَّة لمستوطنة فلسطينيَّة.

   في قصيدة «مطار أثينا»، يعكس درويش واقع تجربة اللَّاجئين كما يجسِّد جوهر الحياة التي يعيشها الشتات الفلسطينيُّ في المنفى:

مَطَارُ أَثِينَا يُوزِّعُنَا لِلْمَطارَاتِ. قَالَ المـُقاتِلُ: أَيْنَ أُقَاتِلُ؟ صَاحَتْ بِهِ

حَامِلٌ: أَيْنَ أُهْدِيكَ طِفْلَكَ؟ قَالَ المـُوَظَّفُ: أَيْنَ أُوَظِّفُ مَالِي؟ فَقَالَ

المـُثَقّفُ: مَالِي وَمَالكَ؟ قَالَ رِجَالُ الجَمَارِكِ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُم؟ أَجبْنَا: مِنَ

البَحْرِ. قَالُوا: إِلَى أَيْنَ تَمْضُون؟ قُلْنَا: إلى البَحْرِ. قَالُوا: وَأَيْنَ عَنَاوِينُكُم؟

قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جَمَاعَتِنَا: بُقجَتِي قَرْيتِي. فِي مَطَارِ أَثِينَا انْتَظَرْنَا سِنينَا. تَزَوَّج

شَابُّ فَتَاةً وَلَمْ يَجِدَا غُرْفَةً لِلزَّوَاجِ السَّرِيعِ. تَسَاءَلَ: أَيْنَ أَفُضُّ بَكَارَتَهَا؟

فَضَحِكْنَا وَقُلْنَا لَهُ: يَا فَتىً، لَا مَكَانَ لهَذَا السُّؤالِ. وَقَالَ المـُحلِّل فِينَا:

يَمُوتُونَ مِنْ أَجْلِ أَلَّا يَمُوتُوا. يَمُوتُونَ سَهْواً. وَقالَ الأَدِيِبُ: مُخَيَّمُنَا سَاقِطٌ

لا مَحَالة. مَاذَا يُريدُونَ مِنَّا؟ وَكَانَ مَطَارُ أَثينَا يُغَيِّرُ سُكَّانَهُ كُلَّ يَوْمٍ. وَنَحْنُ

بَقَيْنَا مَقَاعِدَ فَوْقَ الـمَقَاعِدِ نَنْتَظِرُ البَحْرَ، كَمْ سَنةً يَا مَطَارَ أَثِينَا![45]

   على أحد المستويات، يعدُّ مطار أثينا مكاناً حقيقيّاً يُستخدم لإرسال الفلسطينيِّين إلى وجهتهم التالية، ويصف درويش طبقة الموظَّفين المسؤولين المعتادين هناك. إنَّ الأسئلة حول المغادرين والوجهات والعناوين تبدو منطقيَّة في السياق المعتاد للسفر، لكن بالنظر إلى اللاجئين والمنفيِّين، فإنَّ هذه الأسئلة لا معنى لها، كما الردود التي يحاولون تقديمها: نقطة البداية ونقطة النهاية هي الموقع المتغيِّر وغير المؤكَّد عينه، أي البحر. كما يقول إيان تشامبرز Ian Chambers ببلاغة:

«إنَّ السفر يعني التنقُّل بين المواقع الثابتة، موقع المغادرة، نقطة الوصول، معرفة خطِّ سير الرحلة. كما أنَّه يشير إلى عودة نهائيَّة، عودة محتملة إلى الوطن. إنَّ الهجرة، على العكس من ذلك، تنطوي على حركة لا تكون فيها نقاط المغادرة، ولا نقاط الوصول ثابتة أو مؤكَّدة»[46].

   إنَّ اللاجئين الفلسطينيِّين في القصيدة لا يمتلكون عنواناً محدَّداً لأنَّهم كما المرأة التي تحمل قريتها على ظهرها، فإنَّهم لا يمتلكون منازلَ. يعيد وصف المرأة القرويَّة، هنا، إلى الأذهان صورة استخدمها درويش في مكان آخرَ، في «غبار كثيف على الجسر»[47]، حيث يشبِّه المنفى بسلحفاة تمشي متثاقلة، مع كلِّ ممتلكاته الدنيويَّة، منزل من نوع ما، على ظهره:

سأحمل بيتي على كتفيَّ… وأَمشي

كما تفعل السلحفاةُ البطيئة[48].

   إنَّما الفرق هو أنَّ السلحفاة، في الأقلِّ، مهما كانت بطيئة، لديها إحساس بالتقدُّم. بالنظر إلى أولئك الذين يعبرون في الفضاء الرمزيِّ لمطار أثينا، ويعيشون في منفى دائم خارج فلسطين، مثل الشخصيَّات في الدراما العبثيَّة الشهيرة لصمويل بيكيت «في انتظار غودو» (1953)، ليس هناك أمر سوى الانتظار… يبقى كلُّ فلسطينيِّي الشتات «مثل الشواطئ في المحطَّة […] ينتظرون البحر بفارغ الصبر». إنَّ «الشواطئ» التي يصفها درويش هي مجرَّد مساحات شاسعة من الأراضي القاحلة في المطار، وسيبقى المنفيُّون عالقين على نحو دائم، تماماً كما لن يصل المدُّ إليهم أبداً.

   نظراً لكون سعيد لم يختبر الإزاحة والنفيَ على نحو مباشر قطُّ، فقد كان شعوراً غامراً بعض الشيء لديه عندما حاول تخيُّل ما تعنيه النكبة من الناحية الإنسانيَّة للأفراد: «إنَّ المنفى هو سلسلة من الصور من دون أسماء، من دون سياقات. إنَّ الصور غير مفسَّرة ومجهولة الاسم ومكتومة الصوت إلى حدٍّ كبير»[49]. إنَّما «في مطار أثينا»، فإنَّ المنفيِّين لدى درويش بلا أسماء، لكنَّهم ليسوا صامتين، ولكلٍّ منهم قصَّة يرويها في جملة واحدة، عن حياة معلَّقة: المقاتل الذي لم يعد لديه بلد يدافع عنه؛ الأمّ المستقبليَّة التي لا تعرف أين سيكون مكان ولادة طفلها؛ رجل الأعمال الذي لا يعرف ما يفعل بماله؛ المثقَّف الذي يريد الانسحاب إلى برجه العاجيِّ؛ الفلَّاحة التي ليس لديها قرية تعود إليها، والشابّ الحريص على إتمام زواجه.

   يشير درويش أيضاً، في يأس الشابِّ المتزوّج حديثاً، إلى شيء من الاشتياق إلى المنفى. إنَّ مشاعره جسديَّة وروحيَّة على حدٍّ سواء. يتوق إلى متعة الاتِّحاد مع عروسه الشابَّة، إنَّما هذا مؤجَّل إلى أجل غير مسمَّى. تحمل هذه الصورة صلات مع إشارات درويش الأخرى إلى فلسطين بوصفها حبيبة، وفي أماكن أخرى في «النزول من الكرمل»، يصف منفاه من الوطن بالمصطلحات عينها التي يمكن للمرء أن يستخدمها واصفاً الانفصال المؤلم عن الحبيب.

   يجري التعبير عن تأثير المنفى في الهويَّة الفلسطينيَّة، على نحو شاملٍ، في قصيدة «مقعد في القطار»:

… في كلِّ جيبٍ مفاتيحُ بيتٍ وصورةُ عائلة.

كُلُّ أهلِ القطارِ يعودون للأهلِ، لكنَّنا لا نعودُ إلى أيِّ بيت

نسافرُ بحثاً عن الصفرْ كي نستعيدَ صوابَ الفراش

نوافذُ ليست لنا، والسلامُ علينا بكلِّ اللُّغات

تُرى، كانت الأرضُ أوضحَ حين ركبنا الخيولَ القديمة؟

أين الخيولُ، وأين عذارى الأغاني، وأين أغاني الطبيعة فينا؟

بعيدٌ أنا عن بعيديَ[50].

   كما فعل سابقاً في «مطار أثينا»، يُداخل درويش هنا مع التفاصيل المرصودة بدقَّة لمحطَّات السكك الحديديَّة الحقيقيَّة وسفر القطار مع الرحلة المجازيَّة للَّاجئين الفلسطينيِّين الذين «لا يعودون إلى أيِّ وطن (و) يسافرون بحثاً عن الصفر». يؤكِّد درويش كثيراً، في مكان آخر من القصيدة، على حقيقة أنَّ محطَّات السكك الحديديَّة، بوصفها مواقع المغادرة والوصول، هي أيضاً مواقع الوداعات الدامعة واللقاءات السعيدة مع الأسر والعشَّاق. وعلى الرَّغم من ذلك، ليس لدى اللَّاجئين الفلسطينيِّين مَن يودِّعهم، ولا أحد يرحِّب بهم، لأنَّ رحلتهم هي رحلة لا تنتهي. ومن ثمَّ فإنَّ نوافذ القطار لا تخدم أيَّ غرض، حيث لا يوجد مَن يجري تبادلُ التحيَّة معه. وعلى الرَّغم من ذلك، في خضمِّ الرحلة غير المتناهية، يحلم جميعهم بالعودة، كما يلمِّح درويش في المقطع «في كلِّ جيب مفاتيح منزل وصورة عائليَّة».

   تعمل المفاتيح المذكورة هنا كرمز لخسارات الماضي وحلم العودة المستقبليِّ على حدٍّ سواء، وعليه، فهي صورة تجمع بين اثنين من الموضوعات الرئيسة في شعر درويش. إنَّها علاقة ملموسة للحياة التي عاشها المنفيّون ذات يوم، مفاتيح منازلهم. تمثِّل ملكيَّة المفاتيح أيضاً ملكيَّة المنزل والأرض التي كان عليها؛ إنَّها بمنزلة دليل على حقِّهم في العودة واستعادة ما هو حقٌّ لهم.

   درس عالم الأنثروبولوجيا الفلسطينيُّ خلدون بشارة الأهميَّة الرمزيَّة للمفاتيح في ثقافة الشتات الفلسطينيِّ، موضِّحاً:

«بعد اتفاق أوسلو (1993) أصبح من تقاليد اللَّاجئين الفلسطينيِّين النزول إلى الشوارع، وإحياء ذكرى النكبة. في هذه المظاهرات الاحتفاليَّة يسلِّم كبار السنِّ القطع الأثريَّة التي تبقَّت من منازلهم الأصليَّة إلى الأجيال الشابَّة. اكتسبت المفاتيح القديمة الأصليَّة، على وجه الخصوص، مكانة خاصَّة. لقد أصبحت أحد العناصر الأكثر فاعليَّة في الذاكرة الجماعيَّة الفلسطينيَّة، على نحو عامّ، وهويَّة اللاجئين الفلسطينيِّين على نحو خاصٍّ»[51].

   يشير بشارة إلى هذا المشهد الأساسيِّ في القصيدة «لماذا تركت الحصان وحيداً؟» التي كتبها درويش، وتمثِّل لحظة التهجير من بيت الأسرة:

إلى أينَ تأخُذني يا أبي؟

إلى جهة الرِّيحِ يا ولدي… […] نرجع حين يعود الجنودُ إلى أهلهم في البعيد

ومَن يسكنُ البيتَ من بعدِنا يا أبي؟

سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي!

تحسَّس مفتاحَه مثلما يتحسَّسُ أعضاءَه، واطمأنَّ […]

لماذا تركتَ الحصانَ وحيداً؟

لكي يُؤنسَ البيتَ، يا ولدي، فالبيوتُ تموتُ إذا غابَ سُكَّانُها […]

متى يا أبي؟

غداً، ربَّما بعدَ يومين يا بُني![52]

   في مشهد قد يذكِّرنا بالإزاحة التي اختبرها درويش بنفسه مباشرةً، يمسك الأب بالمفتاح بحبٍّ، كأنَّ هذه الرغبة ستكون كافية لضمان عودتهم.

   يستخدم درويش نصّاً بينيّاً دينيّاً، في إشارة إلى قصَّة هاجر، والدة إسماعيل، من أجل أن يضع سلسلة من التشابهات العميقة التاريخيَّة والمعاصرة في قصيدته «الخروج من ساحل المتوسّط»:

بدموع هاجَرَ. كانتِ الصحراءُ جالسةً على جلدي

وأوّلُ دمعةٍ في الأرض كانت دمعةً عربيَّة

هل تذكرونَ دموعَ هاجَر -أوَّلِ امرأةٍ بكتْ في

هجرةٍ لا تنتهي؟[53]

   رويت قصَّة هاجر بأكملها في كتاب العهد القديم من سفر التكوين. كما ورد ذكرها في القرآن، في دورها كزوجة إبراهيم. لذلك، هي معروفة لدى اليهود والمسيحيِّين والمسلمين على حدٍّ سواء. خرجت في الصحراء مع ابنها الرضيع إسماعيل. وبعد البحث المحموم عن الماء وبكاء الدموع الغزيرة، أُنقذت عبر التدخُّل الإلهيِّ واكتشاف معينٍ لا ينضب[54].

   يصوِّر هذا المقتطف من عمل درويش لحظة الرحيل، وفي هذه الأبيات، تشكِّل دموع الراوي الفلسطينيِّ عند تهجيره على أيدي الإسرائيليِّين تشابهاً تاريخيّاً مع قصَّة هاجر العربيَّة، التي نفتها سارة، العشيقة اليهوديَّة القاسية. يستخلص درويش أوجه التشابه بين قصَّتَي الاضطهاد والنفي من أجل إثبات أنَّ هذه موضوعات متكرِّرة في تاريخ العرب وفلسطين، إذ إنَّ السرد الإنجيليَّ الأصليَّ قد ورد في كنعان، أحد الأسماء القديمة للمنطقة. ومن هنا جاء تعليق الراوي الساخر المباشر على هاجر، الذي صدر من ضحيَّة إلى أخرى:

«يا هاجر، احتفلي بهجرتي الجديدة»[55].

   لا شكَّ في أنّ درويش يدرك أيضاً رمزيَّة هاجر كشخصيَّة، إذ ينظر إليها المسلمون والمسيحيُّون على حدٍّ سواء من منظور بطوليٍّ، ووفاقاً لعالمة اللاهوت النسويَّة سوزان شولتز Susanne Scholz، فقد استُخدمت قصَّتها مراراً وتكراراً في الأدب والفنِّ من أجل توضيح «أنَّ البقاء في قيد الحياة ممكن حتَّى في ظلِّ أقسى الظروف»[56]. بالنظر إلى أنَّ درويش غالباً ما جسَّد وطنه فلسطينَ كامرأة، تشكِّل هاجر هنا أيضاً ممثلة للفلسطينيِّين بوصفهم أمَّة، كما يشير ضمناً، سوف تنجو من أيِّ مصاعبَ يتعيَّن عليهم تحمُّلها.

   أكَّد روبرت كروتي Robert Crotty، الخبير في مقارنة الأديان، في مقاله الذي يستكشف أهميَّة سرد هاجر في الثقافة الإسلاميَّة المعاصرة، الأهميَّة الرمزيَّة التي اكتسبتها هذه الشخصيَّة الأنثويَّة في جميع أنحاء العالم الإسلاميِّ:

«إنَّ هاجرَ […] قد أصبحت لدى بعض العرب المعاصرين، حتَّى لدى بعض الإسرائيليِّين، تجسيداً لروح العرب الفلسطينيِّين، الذين أزاحهم الإسرائيليُّون عن وطنهم. بل إنَّ بعض القوميِّين الإسرائيليِّين يعدُّون هاجرَ رمزاً للمصالحة المستقبليَّة بين دولة إسرائيل والفلسطينيِّين أو العالم العربيّ على نحو عامّ»[57].

   من غير الواضح ما إذا كان درويش قد وضع في ذهنه أيضاً الرمزيَّة الأخيرة عندما صاغ هذه الأبيات في الأصل، إنَّما يمكن قراءتها بهذه الطريقة من قِبل الجمهور المستقبليِّ، الحريص على تفسير هذه السطور بأنَّها التماسٌ للتقارب بين الخصوم القدامى.

   عدَّ درويش، كما هي الحال مع سعيد، أنَّ اتفاقيَّات أوسلو تتويج لعمليَّة سلام لا نهاية لها، على ما يبدو، كتطوّر سلبيٍّ في التاريخ الفلسطينيِّ. في حين أنَّه لم يرَ الاتفاق الذي تمَّ التوصُّل إليه في نهاية المطاف بشروط كارثيَّة تماماً كما تمَّ النظر إلى كلٍّ من النكبة والنكسة، غير أنَّه اعتقد أنَّه «معيب وغير قابل للتطبيق، ومن المرجَّح أن يؤدِّي إلى تصعيد الصراع بدلاً من إنتاج دولة فلسطينيَّة قابلة للحياة أو سلام دائم»[58]. استقال من السلطة التنفيذيَّة لمنظَّمة التحرير الفلسطينيَّة في اليوم التالي للتوقيع.

   احتفلت مجموعته الشعريَّة «أحد عشر كوكباً»، التي نُشرت عام 1992، بتاريخ رحلة كريستوفر كولومبوس إلى العالم الجديد، التي كانت بمنزلة نهاية لأسلوب حياة الشعوب الأصليَّة في الأمريكتين، وشهدت أيضاً نهاية الحكم العربيِّ في الأندلس، آخر بؤرة متبقية للإسلام في أيبيريا. كما أنَّها تصوّر جانباً من تشاؤم درويش فيما يتعلَّق بنتائج الجولة الأخيرة من محادثات السلام. كما هي الحال مع استخدامه لشخصيَّتَي هاجر والزعيم سياتل، التاريخيَّتين، عمل الشَّاعر عمداً على رسم أوجه الشبه بين تجربة النكبة للفلسطينيِّين وترك العرب لإسبانيا. كما يلاحظ براهمة:

«بالنسبة إلى درويش وكلِّ فلسطينيٍّ تقريباً، فإنَّ الإحباط واليأس والهدف بعيد المدى المتمثِّل في العودة إلى وطنهم […] يشبه على نحو جماعيّ الإرث الضائع للمسلمين في الأندلس قبل خمسة قرون»[59].

   يستسلم درويش، ويزجي الوداعَ إلى تاريخ فلسطين الذهبيِّ في قصيدة تُدعى «أنا واحد من ملوك النهاية»:

مِثْلمَا قُلْتَ لِلأصْدِقاءِ الْقُدامى. ولا حُبَّ يَشْفَعُ لي

مُذْ قَبلْتُ (مُعاهَدَةَ التِّيهِ) لَمْ يَبْقَ لي حاضِرٌ

كَيْ أَمُرَّ غداً قُرب أَمْسي. سَتَرفَعُ قَشْتالَةُ

تاجَها فَوْقَ مِئْذَنَة الله. أَسْمَعُ خَشْخَشَةً للْمَفاتيحِ في

بابِ تاريخِنا الذَّهَبيِّ، وداعاً لِتاريخنا، هَلْ أَنا

مَنْ سَيُغْلِقُ بابَ السَّماءِ الأَخيرَ؟ أَنا زَفْرةُ الْعربَيِّ الأخيرَةْ[60].

   كي نفهمَ تماماً الأهميَّة الثقافيَّة لفقدان غرناطة في العالم العربيِّ، يجدر بنا الاقتباس بعض الشيء هنا بشيء من الإسهاب من رواية نظير أحمد «سقوط غرناطة»، المأخوذة من «تاريخ الإسلام» The History of Islam:

«حتَّى يومنا هذا، تستحضر الأندلس بين المسلمين الحنين إلى عصر ذهبيٍّ عندما كانت التلال تدوّي بصوت الصلاة كلَّ صباح، ويتمُّ تكريم اسم النبيِّ محمَّد كلَّ يوم. لم يكن ثمَّة بلدٌ آخرُ مُتنازع عليه بين المسلمين والمسيحيِّين بمرارة كما كانت إسبانيا. استمرَّ النضال 500 عام. لـمَّا انتهت المعارك، ورُفع الأذان الأخير من فوق أسوار غرناطة عام 1492، فقد المسلمون أهمَّ أجزاء المغرب. وسرعان ما تعرَّضوا للتعذيب والطرد مع اليهود من أرض عدُّوها حديقة الغرب. هُدمت آثارهم، دُمِّرت مساجدهم، أُحرقت مكتباتهم، وأُرسلت نساؤهم كإماء إلى المحاكم الأوروبيَّة؛ لقد كانت نقطة تحوُّل وعلامة فارقة وحدثاً غيَّر، على نحو جذريٍّ وعميق، تدفُّق الأحداث العالميَّة»[61].

   ليس من المستغرب، إذاً، أنَّه يتوجَّب على درويش أن يختارَ إبرازَ ما رآه أنَّه أوجه تشابه واضحة بين النكبة ومصير الفلسطينيِّين ورحيل العرب عن الأندلس.

   إنَّ رواية نظير أحمد، أعلاه، التي تركِّز على زوال الأندلس، لا تذكر أوجه تشابه معاصرة أخرى ذات صلة كان درويش يقدِّرها. توقَّع العديد من المؤرِّخين أنَّ انتهاء الوجود العربيِّ في إسبانيا لم يكن مجرَّد نتيجة للقوَّة العسكريَّة المتفوّقة للقوَّات المسيحيَّة، بل للقتال الداخليِّ السياسيِّ بين العرب أنفسهم، إذ كان أيضاً عاملاً مُسهماً رئيساً، لأنَّه أضعف الدولة على نحو كبير، أو كما يعلِّق هيلغارث: «لقد ضمنت الصراعات على الخلافة أنَّ غرناطة كانت في حرب أهليَّة منخفضة المستوى مستمرَّة تقريباً»[62]. كان درويش أيضاً على دراية، حين كتابة هذه المجموعة الشعريَّة، بالتوترات المتزايدة بين فتح وحماس، التي ستنتقل في نهاية المطاف إلى أعمال عنف واسعة النطاق بين الفصيلين. علَّق لاحقاً على ما عدَّه فصلاً آخرَ في المأساة الفلسطينيَّة بسخرية متذمِّرة معتادة: «لقد أصبحنا مستقلِّين. أصبحت غزَّة مستقلَّة عن الضفَّة الغربيَّة، ويوجد لشعب واحد بلدان وسجنان»[63]. قد يفسِّر هذا أيضاً السبب الذي دفع درويش، في استحضاره للأندلس، إلى التركيز بشدَّة على عواقب الاستسلام، وليس على الأحداث التي أدَّت إلى ذلك.

   ينظر الراوي إلى اللَّحظة الفعليَّة التي سيصبح فيها انتصار الملكة إيزابيلّا ملكة قشتالة والملك فرديناند ملك أراغون واضحاً أمام أعين الجميع، في الدلالة التي تحمل رمزيَّة بالغة، والمتمثِّلة في رفع لواء الملوك الكاثوليك فوق مئذنة إسلاميَّة. في السياق التاريخيِّ، فإنَّ الإشارة إلى «اتِّفاق السلام» هي معاهدة غرناطة التي كانت على نحو فعَّال بمنزلة الوثيقة التي تفصِّل شروط الاستسلام العربيِّ. قد توجد هنا أيضاً إشارة بين النصوص إلى ما يُعتقد عموماً أنَّه قصَّة ملفَّقة تتعلَّق برحيل العرب. كما يشرح تيري فلاور Terry Flower:

«في جبال غرناطة توجد قمَّة رمليَّة منخفضة تسمَّى El ltimo Suspiro del Moro “زفرة المسلم الأخيرة”. على هذا التلَّة المنخفضة، حدَّق أبو عبد الله، محمَّد الثاني عشر، للمرَّة الأخيرة إلى قصر الحمراء، وهو في طريقه إلى المنفى في أفريقيا. […] ثمَّ جاء أقسى جرح على الإطلاق، لأنَّه لـمَّا ابتعد أبو عبد الله، محمَّد الثاني عشر، وهو يبكي، وبدأ رحلته الطويلة إلى المنفى، سخرت أمُّه الـمُهابة: ابكِ مثل النساء مُلكاً مُضاعاً لم تحافظْ عليه مثلَ الرِّجال!»[64]

   إنَّ إنهاءه للمقطع بعبارة «زفرة المسلم الأخيرة»، يستحضر هذا الزفير، وربَّما أيضاً الكبح الخانق للدموع، كما في القصَّة. قد يُذكِّر هذا أيضاً القرَّاء بدموع هاجر المنفيَّة، وهي طبقة أخرى من الصدى. ربَّما كان الجانب الأكثر إثارةً للاهتمام في هذه القصيدة هو كيفيَّة دمج درويش لعناصر من تهجير النكبة، والأحداث المعاصرة المتعلِّقة باتِّفاقات أوسلو، والسرد التاريخيّ للأندلس، وربطها معاً بالإشارة إلى «أَسْمَعُ خَشْخَشَةً للْمَفاتيحِ في بابِ تاريخنا الذَّهَبيِّ». فيما يتعلَّق بالواقع التاريخيِّ، فقد سلَّم أبو عبد الله، محمَّد الثاني عشر، بالفعل، مفاتيحَ قلعة غرناطة للملوك الكاثوليك كجزء من مراسم الاستسلام الرسميَّة[65]، على الرَّغم من أنَّ ذكر «بابِ تاريخنا الذَّهَبيّ» يشير أيضاً إلى معنىً مجازيٍّ، لأنَّ هذه هي نهاية حقبة ذهبيَّة في التاريخ الإسلاميِّ تقترب من نهايتها. في سياق النكبة، بالطبع، وكما ذكرنا سابقاً، فإنَّ صورة المفاتيح هي بمنزلة رمز لحيازة مفقودة، وتذكيرٍ حرفيٍّ ومجازيٍّ بفقدان المنزل/الوطن. كما يشير سعيد في تحليله للقصيدة، حين النظر إلى هذه الصورة مقابل الأحداث التي وقعت في وقت تأليف القصيدة، ألا وهي قرار منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة الدخول في عمليَّة السلام التي ترعاها الولايات المتَّحدة وروسيا، فإنَّها تخدم كتحذير للزعيم الفلسطينيِّ آنذاك ياسر عرفات، لتذكُّر دروس التاريخ وعدم تسليم المفاتيح بكلِّ المعاني الممكنة.

   إنَّه ليس من المستغرب، إذاً، كما يشير سعيد، أنَّ:

«لـمَّا نُشرت القصيدة في الأصل في صحيفة القدس، وهي صحيفة فلسطينيَّة يوميَّة تُحرَّر في لندن، تمَّت قراءة نبرة القصيدة الحزينة والساخطة على الفور بحسبانها قصَّة رمزيَّة ونقداً للاستنفاد السياسيِّ لعرفات […] تتميَّز الأبيات بلهجة من الكسل الـمُحبَط، والقدريَّة المهزومة، التي، بالنسبة إلى العديد من الفلسطينيين، قد صوَّرت التدهور الاستثنائيَّ السريع لثروات فلسطين، التي انتقلت، كما هي الحال في الأندلس، من قمَّة ثقافيَّة كبرى إلى الدرك الأسفل من نزع الملكيَّة، على نحو فعليٍّ ومجازيٍّ على حدٍّ سواء»[66].

إنَّ هذه القصيدة مثالٌ جيّد على موهبة درويش في تصوير مزاج مواطنيه الفلسطينيين في عمله.

   يرى العديد من نقَّاد الأدب العرب أنَّه لـمَّا بدأ درويش المرحلة الثالثة من شعره، أصبح عمله متعمِّقاً على نحو أكبر، واختار عن عمد تجاهل القضيَّة الفلسطينيَّة ونضال أمَّته. خالف مطاوع بشدَّة هذا الرأي، معتقداً أنَّ درويش لم يكن يمتلك أيَّ نيَّة في نسيان محنة أقرانه المواطنين، لكنَّه سعى، بدلاً من ذلك، إلى نقل الثقافة الفلسطينيَّة من الأطراف إلى المركز «على أساس انخراطها في الاهتمامات الجماليَّة والقضايا العالميَّة»[67].

   يعدُّ من المهمِّ أن نلاحظ أنَّ درويش في أسلوبه المتأخِّر يستخدم النصوص التاريخيَّة من أجل استكشاف موضوعات المنفى والقمع. في حين أنَّ بعضها مأخوذ من الروايات الإسلاميَّة، في سبيل المثال، الطرد من الأندلس، فإنَّ بعضها الآخر يتعمَّد الربط مع روايات من تاريخ الشرق الأوسط، التي تشير إلى التراث الثقافيِّ المشترك، مثل قصَّة هاجر. لا يزال آخرون يعمِّمون محنة الفلسطينيِّين من خلال ربط هذا الأمر، عبر الزمان والمكان، بأمثلة تاريخيَّة عن الاضطهاد. يتَّضح هذا على نحو خاصٍّ في استخدامه للإشارات إلى التاريخ الثقافيِّ للهنود الأمريكيِّين الأصليِّين، مستخدماً الزعيم سياتل كصوت ليس لقبيلته فحسب، بل لجميع أولئك الذين تعرَّضوا للقمع نتيجة الاستعمار. عبر هذه الطريقة، يعمِّم درويش المعاناة الإنسانيَّة في شِعره، من خلال إقامة روابط من هذا النوع بين المضطَهَدين، بما في ذلك الفلسطينيين، ومن ثمَّ كتابتها في خطاب تاريخيٍّ أكبر بكثير عن الظالم والمظلوم.

   انتقل درويش، كما يشرح شكري الماضي، من أيديولوجيَّة السياسة إلى أيديولوجيَّة الشِّعر من خلال تبنِّي قضايا إنسانيَّة مختلفة بدلاً من اختيار التركيز ببساطة على أجندة معيَّنة مثل القضيَّة الفلسطينيَّة[68]. كان هدفه النهائيُّ في استخدام موضوعات من هذا القبيل هو تحرير شعره من رؤية ضيِّقة للعالم، من أجل أن يصبح شاعراً حرّاً في عالم الشِّعر. في التسعينيَّات، انتقد أعماله الخاصَّة السَّابقة على أساس أنَّها «كانت تفتقر إلى الفهم الثقافيِّ للعلاقة بين الشِّعر والواقع»[69]. وجادل في أنَّ فهماً حقيقيّاً للدور الثقافيِّ للشّعر يعني أنَّ الشاعرَ لا يرى بالضرورة عمله/عملها بأنَّه انعكاس مباشر لواقع اجتماعيٍّ معيَّن.

   بالنظر إلى درويش، كان الشعر الفلسطينيُّ في حاجة إلى أن يكون أكثر من مجرَّد نظرة إلى الداخل، حول الحداد على فقدان منزل الأسرة أو التركيز على المظالم السياسيَّة على نحو ضيِّق، كما يعتقد بعض زملائه الكتَّاب من أدب المقاومة الفلسطينيَّة، بالأحرى كان يعتقد أنَّه يتوجَّب عليه استكشاف قضايا أكبر من الظالم مقابل المظلوم، وهي موضوعات شائعة عبر تاريخ البشريَّة جمعاء.

حلم العودة

   في مقالته «الشتات، المنفى في الشِّعر العربيِّ والفلسطينيِّ»، يشير صادق جوهر إلى أنَّ موضوع العودة إلى فلسطين هو مفهوم جماعيٌّ واحد في الأدب الفلسطينيِّ، ويصرِّح بدقَّة: «هؤلاء الشعراء الذين ينتمون إلى مجتمع المهجَّرين، يمتلكون أملاً قويّاً في أنَّهم سيحقِّقون يوماً ما حلم العودة إلى قراهم ومدنهم بعد إحياء فلسطين»[70]. إنَّ حلم العودة هو موضوع رئيس عُبِّر عنه في الأدب الفلسطينيِّ نتيجة التهجير الأصليِّ والفصل العنيف للفلسطينيِّين عن وطنهم، كما سيجري تناوله في هذا القسم. كما لاحظ محرِّرو كتاب «الكتابة عبر العوالم: الأدب والهجرة»، فإنَّ حلم العودة هذا يشكِّل أيضاً سمة متكرِّرة للأدب الَّذي كتبته شعوب الشتات «بين جميع أدبيَّات الهجرة، تتعامل أعلى نسبة بطريقة ما مع أفكار العودة، سواء كانت محقَّقة أم بقيت خياليَّة»[71].

   يجادل سعيد في أنَّ فكرة العودة هذه في الواقع يمكن أن تعني أشياءَ مختلفة تماماً لأشخاص مختلفين، كما يوضِّح في «بعد السَّماء الأخيرة»:

«وهكذا، على الرَّغم من أنَّ كلمة “عودة” بالنسبة إلى الفلسطينيِّين اليوم حيويَّة وتقف في صميم مسعانا السياسيِّ لتقرير المصير الذاتيِّ، فإنَّها تعني لدى البعض العودة إلى دولة فلسطينيَّة إلى جانب إسرائيل، غير أنَّها تعني لدى الآخرين العودة إلى فلسطينَ الكاملة»[72].

    بالإشارة إلى أنَّ العودة هي أحد المفاهيم المركزيَّة للأيديولوجيَّة والحياة الفلسطينيَّة، تحدِّد جوليان هامر Juliane Hammer عنصرين مترابطين، لكنَّهما متباينان في هذه الفكرة. الأوَّل هو حقُّ العودة، الذي تحدِّده هي بأنَّه «موضوع يخصّ القانون الدوليَّ، والمطالب الفلسطينيَّة والرفض الإسرائيليّ»[73]. إلَّا أنَّ حلم العودة:

«يحمل معنى بالغ الرمزيَّة وشبه أسطوريٍّ للفلسطينيِّين. إنَّه يربط نفيهم ومعاناتهم وتشرُّدهم بالمكان الذي توجد جذورهم فيه، ويركّز جهود حياتهم على العودة إلى المكان الذي توجد فيه أصولهم، وتالياً إيجاد الاستقرار والسياق المفقودين في تجاربهم في الشتات. بالنسبة إلى الفلسطينيِّين داخل فلسطين، يتعلَّق الأمر بلمِّ شمل الأسرة وإنهاء عقود من الشوق إلى الأقارب المقرَّبين على نحو شخصيٍّ مرَّة أخرى»[74].

   يُثار حلم العودة هذا باستمرار في خطاب السياسة والأدب الفلسطينيَّين، على حدٍّ سواء، وله مكانة خاصَّة في قلوب الفلسطينيِّين العاديِّين. إنَّه «لا يتمُّ التخلِّي عنه أبداً، بل يجري دمجه في الحياة اليوميَّة بطرائق متنوِّعة»[75] لأنَّه يعكس تفاؤلهم وإيمانهم القويّين بأنَّهم سيعودون إلى وطنهم في وقت ما في المستقبل. تؤكِّد جين سعيد مقدسي، شقيقة إدوارد سعيد، أنَّ غالبيَّة الفلسطينيِّين لا يستطيعون التغلُّب على روابطهم الأساسيَّة مع الوطن[76]. بغضِّ النظر عن الصعوبات الفرديَّة والجماعيَّة التي يواجهونها، فإنَّهم كشعب ما زالوا يحلمون بالعودة، وتنعكس هذه الأحلام في عمل العديد من الأشكال الفنيَّة الفلسطينيَّة.

   إنَّ هذه الرغبة في الوطن تربط الهويَّة الفلسطينيَّة على نحو وثيق بالمستقبل، والاعتقاد بأنَّهم سيعودون يوماً ما إلى ديارهم، وإذا لم يحقِّقوا هم أنفسهم هذا الحلم، فإنَّ أطفالهم أو حفداءَهم سيفعلون ذلك. بدلاً من ذلك، فإنَّ فكرة بناء وطن للأجيال القادمة تحفِّزهم ليس فقط للحفاظ على الهويَّة الوطنيَّة الفلسطينيَّة، لكن أيضاً للعمل من أجل إعادة بناء الوطن. يعني هذا البحث في تاريخهم من أجل إثبات حقِّهم في ملكيَّة أراضي أجدادهم والعودة إلى وطنهم. إنَّه يعني السعي إلى الحصول على اعتراف سياسيٍّ بفلسطين المحتلَّة داخل منظَّمة الأمم المتَّحدة، وإنشاء مؤسَّسات سياسيَّة واجتماعيَّة جيِّدة التنظيم.

   وتالياً، لا يعلِّق الفلسطينيُّون بالضرورة آمالهم ورغباتهم على دمج أنفسهم في البلدان المضيفة لهم، وهو ما يمكن أن يعني أنَّ الفلسطينيِّين الذين يعيشون في الشتات يواجهون مشكلة صعبة وعسيرة، كما يشير الخالدي[77]. إنَّ كثيراً منهم لا يرتبطون ببلدانهم المضيفة الجديدة، ويصرُّون على أنَّ إقامتهم هناك مؤقَّتة فقط. وهؤلاء الفلسطينيُّون في قلوبهم وعقولهم ما زالوا موجودين في فلسطين، غير أنَّهم يدركون الظروف الصعبة التي ستنتظرهم إذا ما حاولوا العودة إلى ديارهم، في ظلِّ الضوابط الصارمة التي أصدرتها الحكومة الإسرائيليَّة لمنع عودة الفلسطينيِّين. إنَّ حقيقة معرفة أنَّ من غير المحتمل أن يتمكَّنوا من العودة إلى هناك، تجعلهم عالقين في نوع من النسيان الذي يجعلهم يشعرون بأنَّهم عديمو الجنسيَّة، على نحو دائم، وهو شكل آخرُ من أشكال التشرُّد.

   افترضت عالمة الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة جولي بيتيت أنَّ هناك فرقاً كبيراً بين الطريقة التي يختار بها الفلسطينيُّون الذين يعيشون على نحو قريب مادّياً من وطنهم السّابق، ومَن يعيشون في مجتمعات الشتات على مسافة مادّيَّة أبعد بكثير، النظرَ إلى العودة. بعد استكشافها لروايات حلم العودة التي عبَّر عنها الفلسطينيّون الذين يعيشون في كندا وأبناء وطنهم في مخيَّمات اللاجئين في الأردنّ، خلصت إلى أنَّ:

«مع زيادة المسافة من الوطن، كما في الحالة الكنديَّة، تسهّل الأمرَ الروابطُ المجتمعيَّةُ وتتحوَّل العلاقات مع المكان إلى مستوى أكثر تخيُّلاً؛ إنَّ قرب عمَّان (العاصمة الأردنيَّة)، الذي يسهِّل الزيارات الدوريَّة، يفسح في المجال لعلاقات اجتماعيَّة أوثق ومشاعر الانتماء»[78].

   في ضوء فرضيَّة بيتيت، من المثير للاهتمام التكهُّن بما إذا كان، في حالة درويش، في حال كانت الحقيقة المتمثِّلة في أنَّه وجد نفسه بعيداً عن الوطن، بالمعنيين الجغرافيِّ والزمنيِّ على حدٍّ سواء، قد أثَّرت في اختياره في شعره الأخير لتحديد موقع تجربته في المنفى وحلمه بالعودة على نحو متزايد فيما يتعلَّق بالنصوص الأسطوريَّة أو التاريخيَّة التي أشارت إلى روايات المنفى دون وجود ختام: النفي من الجنَّة، سقوط غرناطة، وطرد العرب من الأندلس، ومشقّة هاجر. ربَّما أدرك الشاعر، كما تنبَّأ صديقه سعيد، أنَّ الحلم الفلسطينيَّ بالعودة «سيؤجَّل إلى أجلٍ غير مسمَّى»[79].

   في إشارة إلى تمثيل العودة في النصوص، من قِبل الكتَّاب الذين عاشوا في المنفى، علَّق كلٌّ من كينغ وكونيل ووايت King, Connell and White أنَّ هذا غالباً ما يوصف في الأدب من حيث خيبة الأمل أو الخداع:

 «إنَّ العودة لها بُعدان، زمنيّ ومكانيّ. بالنظر إلى الفرد الَّذي يعود إلى ماضيه ومكانه “الخاصَّين” فإنَّه نادراً ما يكون ذلك مرضياً تماماً: تتغيَّر الظروف، وتتغيَّر الحدود من جميع النواحي، وتتغيَّر الهويَّات أيضاً»[80].

   علَّقت شيلي واليا Shelly Walia أنَّه في «يوميَّات الحزن العاديّ»، يذكر درويش، على نحو مفصَّل، كيف «في إحدى زياراته إلى (فلسطين) وجد أنَّ التضاريسَ تغيَّرت، والطرق لم تعد تحمل أسماء مألوفة، والقرى اختفت تماماً، والأصدقاء والناس الذين عرفهم ذات مرَّة قد رحلوا». يشير هذا إلى أنَّه، على الرَّغم من إدراك درويش أنَّه قد يكون قادراً على الذهاب جسديّاً إلى الأرض التي ولد فيها، إلَّا أنَّه لم يستطع العودة إلى وطنه الذي فقده، وهذا يفسِّر الكآبة التي سادت شِعره الأخير. لقد أدرك أنَّ نظرته الشعريَّة التي يتخلَّلها الشوق ستكون إلى الأبد نظرة فوق كتفه، بالعودة إلى التاريخ، مقدَّراً لها أن تكرِّر ليس فقط حكم آخر حكم عربيٍّ، محمَّد أبي عبد الله، تاركاً الأندلس إلى الأبد، إنَّما أيضاً نظرة جدِّه الخاصَّة الذي «مات وبصره مثبت على أرض مسجونة خلف سور»[81]. بينما يعدُّ أمراً صحيحاً أنَّ درويش كان يعيش في رام الله، وهي مدينة فلسطينيَّة، قبل وفاته، إلَّا أنَّ هذه لم تكن عودة حقيقيَّة إلى الوطن لدى الشَّاعر، لأنَّ أقوى ذكرياته، وتلك التي كان يتذكَّرها باستمرار في كتاباته، بقيت ذكريات عن خسارته ونفيه من قريته البروة. إنَّ الحقيقة المتمثّلة في أنَّ هذا لم يعد موجوداً يعني أنَّه لن يتمكَّن أبداً من العودة حقّاً إلى الزمان والمكان اللذين ظلَّ يتوق إليهما، إلى منزل طفولته. من ناحية، إذاً، لم تكن عودته الأخيرة إلى رام الله هي العودة المجيدة التي يتوق إليها، إلى الوطن، فقد جعلته وجهاً لوجه مع الواقع المؤلم لشعب فلسطينيٍّ منقسم سياسيّاً أكثر من أيِّ وقت مضى. على نحو أساس، إذاً، لم يعطّل هذا التصنيف ثلاثيَّ المراحل الذي تمَّ استخدامه في هذه الأطروحة من أجل دراسة التطوُّر الشعريِّ لدى درويش، لم يغيِّر أسلوب كتابته على نحو ملحوظ، ولم يسمح له بالشعور «كأنَّه في المنزل» مع نفسه. لقد احتفظ بفهمه للهويَّة بأنَّها بناءٌ هجينٌ ومتطوّر، واستمرَّ ينظر إلى نفسه كمواطن عالميٍّ في العالم بدلاً من ترسيخ نفسه كشاعر قوميٍّ ضيِّق، ينظر في الوقت عينه إلى الداخل، إلى روحه الخاصَّة وإلى الخارج، إلى الكون.

الحاتمة:-

   تناول هذا الفصل ثلاثة عناصر أساسيَّة للهويَّة الفلسطينيَّة وطرائق تمثيلها في كتابات سعيد وشِعر درويش. بالنظر إلى سعيد، ستبقى تجربة الإزاحة في الأساس شيئاً تعلَّمه على نحو غير مباشر، إمَّا من خلال روايات الآخرين وإمَّا من خلال تمثيل هذا في النصوص أو الصور. إنَّما بالنظر إلى درويش، كان هذا شيئاً قد واجهه شخصيّاً، وسيترك تذكُّره لهذا الأمر علامة على كلِّ أعماله الشعريَّة، وسيلهمه أيضاً لربط تجربته الحميمة الخاصَّة في المعاناة على نحو نصّيٍّ بينيٍّ مع روايات المنفى المتنوِّعة، وتالياً جلبُ بُعدٍ عالميٍّ إلى عمله. على الرَّغم من أنَّ كلا الرَّجلين كان عضواً في الشتات الفلسطينيِّ، إلَّا أنَّ رواية سعيد الشخصيَّة ليست الإزاحة المتكرِّرة لدرويش. بوصفه أكاديميّاً، بدا سعيد كأنَّه يجد تجربة الشتات تجربة محفِّزة حقّاً من الناحية الفكريَّة، وكانت تحمل سمات إيجابيَّة أكثر من السمات السلبيَّة. إنَّه، في هذا الصدد، يشبه كتَّاباً آخرين منتمين إلى فترة ما بعد الاستعمار، مثل هومي بابا وسلمان رشدي، اللذين استمتعا بوضعهما كمهجَّرَين منفيَّين، أو كونهما خارج المكان، كما وصف سعيد الأمر في عنوان مذكّراته الخاصَّة «خارج المكان». من المحتمل أيضاً أن يتَّفق الثلاثة بصدق مع عبارة ستيوارت هول، الَّتي يجري اقتباسها كثيراً: «الهجرة رحلة في اتِّجاه واحد. ليس هناك “منزل” للعودة إليه»[82].

   يبدو أنَّ درويش نفسَه قد توصَّل في النهاية إلى نتيجة مماثلة انعكست في أعماله اللاحقة. كان حلم العودة لديه شخصيّاً أن يبقى توقاً من طرف واحد إلى وطن بعيد المنال، كما هي الحال مع العرب المنفيِّين من الأندلس. وعلى الرَّغم من ذلك، لم يتوقَّف عن الاعتقاد بأنَّ حلم العودة سيستمرُّ في إلهام الشعب الفلسطينيِّ، لأنَّه «طالما يستمرُّ النضال، فإنَّ الجنَّة ليست ضائعةً بل تظلُّ محتلَّة وقابلة للاستعادة»[83].

 

 


الهوامش:

[1] Ashcroft, Griffiths, and Tiffin, Post-Colonial Studies: The Key Concepts an electorinic copy, Displacement

[2] Ibid.

[3] L. Badr, “The Impact of Place on Identity”, This Week in Palestine, Available online at: http://www.thisweekinpalestine.com/details.php?id=4220&ed=228&edid=228. Accessed on: 9/8/2014.

[4] E. Said, After the Last Sky, p. 11.

[5] Ibid., pp. 19-20.

[6] Ibid., p. 14.

[7] Ibid., p. 38.

[8] Ibid., p. 62.

[9] Ibid., p. 20.

[10] M. Abraham, “Tracing the Discourse of Defiance: Remembering Edward Said through the Resistance of the Palestinian Intifada”, Nebula 2 (2), 2005, 21-32.

[11] E. Said, After the Last Sky, p. 32.

[12] Ibid.

[13] M. Darwish, Journal of an Ordinary Grief, trans. I. Muhawi, Brooklyn, NY: Archipelago, 2010, p.18.

[14] The New Penguin Compact English Dictionary, Harmondsworth, Penguin, 2001, p.237.

[15] J. Peteet, “Problematizing a Palestinian Diaspora”, International Journal of Middle East Studies, 39, 4 (2007), 627-646, p. 633.

[16] A. Weinar, Diaspora and Transnationalism: Concepts, Theories, Methods, Amsterdam: Amsterdam University Press, 2010, p.75.

[17] W. Safran, “Diasporas in Modern Societies: Myths of Homeland and Return”, Diaspora: A Journal of Transnational Studies 1 (1), 1991, 83-99.

[18] Ibid., p. 83.

[19] Ibid., p. 84

[20] Ibid., p. 84

[21] A. M. Naguib, “Between the Exilic and Diasporic Labels: A Lebanese Novel”, Available online at: http://www.interdisciplinary.net/wp-content/uploads/2010/06/naguibpaper.pdf . Accessed on: 06/03/2014.

[22] N. Israel, Outlandish: Writing Between Exile and Diaspora, Bloomington: Stanford University Press, 2000, p.3.

[23] Ibid., p. 3.

[24] J. Peteet, “Problematizing a Palestinian Diaspora”, International Journal of Middle East Studies, 39, 4 (November, 2007), 627-646, p. 633.

[25] J. Butler, “What Shall We Do without Exile?”, p. 31.

[26] N. Luz, “The Politics of Sacred Places, Palestinian Identity, Collective Memory, and Resistance in the Hassan Bek Mosque conflict”, Environment and Planning D: Society and Space , 26(6) 2008, 1036-1052.

[27] Ashcroft, Griffiths, and Tiffin, The Empire Writes Back, p.130. 

[28] M. Darwish, ‘Ashiq min Filastīn (A Lover from Palestine), p. 83.

[29] E. Said, After the Last Sky, p.51.

[30] E. Said, After the Last Sky, p. 16

[31] A. Mānsson, Passage to the New Wor(l)d; Exile and Restoration in Mahmoud Darwish’s Writings 1960-1995, Uppsala: Uppsala University, 2003, p. 59.

[32] E. Said, After the Last Sky.

[33] N. Erakat, “Palestinian Refugees and the Syrian Uprising: Filling the Protection Gap during Secondary Forced Displacement,” International Journal of Refugee Law, 26 (4), 2014, 581-621.

[34] S. K. Jayyusi, Modern Arabic Poetry, pp. 35-36.

[35] E. Said, After the Last Sky, p.12.

[36] Ibid., p. 164

[37] N. Rahman, “Threatened Longing and Perpetual Search: The Writing of Home in the Poetry of Mahmoud Darwish” in Mahmoud Darwish: Exile’s Poet Critical essays, pp. 41-56, p. 41.

[38] M. Darwish, abibatī tanhau min nawmihā (My Lover Awakes from her Sleep), p. 41.

[39] Ibid, p. 98.

[40] K. Bshara, “A Key and Beyond: Palestinian Memorabilia in the Economy of Resistance”, Working Paper, Centre for Global Peace and Conflict Studies, University of California Irvine, 2010. Available online at: www.cgpacs.uci.edu/files/docs/2010/Bshara_WorkingPaper.doc. Accessed on: 05/05/2015.

[41] M . Darwish, Muhawala raaqam sab’a (Attempt Number Seven), online Access: http://www.darwishfoundation.org/atemplate.php?id=854

[42] S. Antoon, “Every Beautiful Poem Is an Act of Resistance- Mahmoud Darwish”. Available online at: http://www.solidarity-us.org/site/node/1896 . Accessed on: 07/10/ 2014.

[43] M. Darwish, ʼAhada ‘ashara kawkaban ‘ala akhir al-mashhadi al-Andalusī (Eleven Stars over the last Andalusian scene), Available online at: http://www.darwishfoundation.org/atemplate.php?id=733 Accessed on: 05/05/2015.

[44] M. Darwish, Eleven Stars, p. 71. In the historical context of the original arrival of European colonisers in the Americas in 1492, Christopher Columbus was actually looking for a sea route to the Far East (India).

[45] M. Darwish, “Athens Airport”, Translated by M. Akash and C. Forche Available online at: http://www.gazamom.com/2009/04/darwish-therapy-athens-airport/ Accessed on: 05/05/2015.

[46] I. Chambers, Migrancy, Culture, Identity, Routledge: London; New York, 1994.

[47] M. Darwish, If I Were Another.

[48] M. Darwish, “Exile”, in If I Were Another p. 165.

[49] E. Said, After the Last Sky, p. 12.

[50] M. Darwish, Unfortunately, it was Paradise, p.180.

[51] K. Bshara, “A Key and Beyond: Palestinian Memorabilia in the Economy of Resistance”, Working Paper, Centre for Global Peace and Conflict Studies, University of California Irvine, 2010. Available online at: www.cgpacs.uci.edu/files/docs/2010/Bshara_WorkingPaper.doc. Accessed on: 05/05/2015.

[52] M. Darwish, Why Did you Leave the Horse Alone?, pp:28-30.

[53] M. Darwish, Muhāwala raqam sab’a (Attempt Number Seven).

[54] Hagar’s story is also commemorated in the rituals of the Muslim Hajj which involve pilgrims walking between the hills of Safa and Marwa (sa‘y) and drinking water from the Zamzam spring.

[55] M. Darwish, Eleven Stars

[56] S. Scholz, 2004, “Gender, Class and Androcentric Compliance in the Rapes of Enslaved Women in the Hebrew bible”. Lectio difficilior: European Electronic Journal for Feminist Exegesis

1, 2004, pp. Available online at: http://www.lectio.unibe.ch/04_1/Scholz.Enslaved.htm Accessed on: 050/05/2015.

[57] [57] R. Crotty “Hagar/Hajar, Muslim women and Islam: Reflections on the historical and theological ramifications of the story of Ishmael’s mother”, in Women in Islam; reflection on historical and contemporary research, edited by T. Lovat, New York; London: Springer, 2012, 165-185, p.180.

[58] M. Jaggi, “Poet of the Arab World”, The Guardian, 8 June 2002. Available online at: http://www.the guardian.com/books/2002/jun/08/featuresreviews.guardianreview19 Accessed on: 05/05/2015.

[59] Y. Barahmeh, The Poetry of Mahmoud Darwish: A Study of the Three Developmental Phases of his Poetic Career, p.17.

[60] M. Darwish, “Eleven Stars over Andalusia”, Translated by M. Anis, N. Ryan, A. S. Ali and A. Dallal, Available online at: http://www.grandstreet.com/gsissues/gs48/gs48c.html. Accessed 24/04/2015.

[61] N. Ahmed, “The Fall of Granada”, in The History of Islam: An Encyclopedia of Islamic History. Available online at: Historyofislam.com/contentment/the-classical-period/the-fall-of-granada/ Accessed on: 05/05/2015.

[62] J. N. Hillgarth, The Spanish Kingdoms: 1250-1516, Oxford: Oxford University Press, p. 367.

[63] BBC News, “Palestinian Poet Derides Factions”, 16 July 2007. Availble online at: http://www.bbc.co.uk/1/hi/world/middle_east/6900624.stm Accessed: 15 June 2014.

[64] T. Flower “El Último Suspiro del Moro”, My Telegraph, September 18 2010, Available online at http://mytelegraph.co.uk/ariel/ariel/5345293/5345293/#disqus_thread. There have also been numerous artistic representations capturing this famous scene.

[65] J. Hillgarth, The Spanish Kingdoms: 1250-1516, p. 369.

[66] E. Said, “On Mahmoud Darwish”, p. 114.

[67] K h. Mattawa,“When the Poet Is a Stranger”, p.143.

[68] Sh. al-Māḍī , Shi‘r Mahmoud Darwish: al-‘aaydyulūjyaā al shi‘riyah wa al siyaāsiyah (The Poetry of Mahmoud Darwish: the Political and Poetic Ideology), Beirut: Arabic Foundation of Publication and Research, 2013.

[69] Kh. Mattawa,“When the Poet Is a Stranger”, p.136.

[70] S. M. Gohar, “Narratives of Diaspora and Exile in Arabic and Palestinian Poetry”, Rupkatha Journal on Interdisciplinary Studies in Humanities, 3 (2), 2011, 228-242, p. 231.

[71] R. King, J. Connell and P. White P (eds), “Introduction”, in Writing across Worlds: Literature and Migration, London: Routledge, 1995, p. 14.

[72] E. Said, After the Last Sky, p.52

[73] J. Hammer, Palestinians Born in Exile: Diaspora and the Search for a Homeland, Austin: University of Texas Press, 2005, p.74

[74] Ibid., p. 85.

[75] Ibid., p.74.

[76] J. Makdsidi, Teta, Mother, and Me,  London: Saqi, 2005

[77] R. Khalidi, Palestinian Identity: The Construction of Modern National Consciousness.

[78] J. Peteet, “Problematizing a Palestinian Diaspora”, p. 634.

[79] E. Said cited in S. Walia, “A Life of Exile”, Frontline, 29 (12), 2012 Available online at: http://www.frontline.in/static/html/fl2912/stories/20120629291207900.htm Accessed on: 04/06/2014.

[80] R. King, J. Connell and P. White P (eds), “Introduction”, in Writing across Worlds: Literature and Migration, p. 14.

[81] M. Darwish, Memory for Forgetfulness, 1982.

[82] S. Hall cited in Chambers Migrancy, Culture, Identity, p. 9

[83] M. Darwish, Journal of an Ordinary Grief, New York: Archipelago, 2010, p. 8.