مجلة حكمة
ترجمة-جديدة-الاستشراق

ترجمة جديدة لكتاب “الاستشراق”: لم تَفِ بأمنية إدوارد سعيد ولا بوعود محمد شاهين

الكاتبحمزة بن قبلان المزيني

ربما يذكر الأعزاء أني كنت كتبت مذكرة ونشرتها في حسابي في تويتر ذكرت فيها تجربتي مع كتاب “الاسـتشراق” لإدوارد سعيد. وذكرت في تلك المذكرة أني ترجمتُه وحاولت الحصول من الناشر الأجنبي على إذن بنشر ترجمتي لكني أُبلغت بأن حقوق الكتاب ملك لأسرة الدكتور سعيد وأنه يلزمني الاتصال بهم لذلك الغرض.

وتلقيت في أحد الأيام بعد ذلك اتصالاً من الأستاذ الدكتور محمد شاهين، أستاذ الأدب الإنجليزي بالجامعة الأردنية في عمّان، يدعوني إلى الكتابة في مجلة يشرف عليها، وعرض في أثناء الكلام ذكرُ إدوارد سعيد، وأخبرني الدكتور شاهين بأنه كان على علاقة صداقة معه ومع أسرته. كما أخبرني بأن حقوق ملكية كتب إدوارد سعيد آلت إلى أسرته بعد وفاته عام 2003م.

فذكرت للدكتور شاهين أني تَرجمت الكتاب، ورجوت مساعدته بالتوسط لدى أسرة البروفسور إدوارد سعيد للحصول على إذن بنشر ترجمتي فرحب بذلك ووعدني بأنه سيتصل بهم.

ولما استبطأت منه الجواب كتبت إليه أسأله عما استجد في الأمر فأخبرني بأن السيدة مريم سعيد أصرت على أن تترجم الكتاب لجنةٌ من أربعة مترجمين موثوقين. فكتبت للسيدة مريم سعيد عن مشروعي وبأني أرغب في الاتفاق معها على شراء حقوق الترجمة. ولم أتلق جوابًا منها. ثم كتبت لابنة الدكتور إبراهيم لغد الذي أهدى سعيد الكتاب إليه ورجوتها أن تسعى عند السيدة مريم سعيد لتسهيل نشر ترجمتي، فأجابتني بأن السيدة مريم سعيد اتفقت مع دار الآداب اللبنانية على تكوين لجنة لترجمة الكتاب ونشر الترجمة.

ومضت سنوات ولم تُنشر الترجمة، ولم يعلن عن أسماء اللجنة التي يقال إنها تولتها. وكنت أسأل الأستاذة رنا إدريس حين حضرتْ لعدد من معارض الكتاب في الرياض عما حدث للترجمة فتجيبني أحيانًا بوجود خلافات بين المترجمِين أو بأن السيدة مريم سعيد ليست راضية عن مستوى الترجمة.

وعلمت قبل أكثر من سنة أن الترجمة في طريقها إلى النشر، لكني لم أعرف من هو المترجم. ثم بدأت الصحف الأردنية في نشر خبر الترجمة مبيِّنة أن المترجم هو المترجم الأردني المعروف الدكتور محمد عصفور.

وقد حصلتُ قبل أسبوعين على هذه الترجمة الرابعة الأخيرة!

والسؤال الآن: ماذا عن هذه الترجمة الأخيرة؟!

        وأول ما يلفت النظر فيها أن الأستاذ الدكتور محمد شاهين (نفسه) كتب مقدمة في 9 صفحات (5ــــــــ 13) ولم يتطرق فيها إلى الترجمات الثلاث السابقة. بل لم يتكلم عن هذه الترجمة نفسها بتفصيل يبين، مثلاً، الحاجة إليها أو ما تتفرد به عن الترجمات السابقة. وبدلاً من ذلك، راح يتكلم عن كتاب “الاستشراق” وعن علاقته هو به وعن علاقته بإدوارد سعيد ولقائه به ولقائه بأحد الصحفيين الغربيين المهتمين بالكتاب. كما تحدث عن موضوع الاستشراق نفسه.

ووُصفتْ ترجمةُ الدكتور محمد عصفور هذه، في صفحة معلومات النشر في الكتاب، بأنها “الطبعة الأولى عام 2022”. ويمكن أن يعد هذا الادعاءُ مبالغةً في تجاهل الترجمات السابقة، وربما أوحى لمن لا يعرف تاريخ الترجمات السابقة بأن الكتاب لم يترجم إلى اللغة العربية من قبل! ويقابل هذا التجاهلَ الكامل للترجمات السابقة أن الدكتور محمد عصفور يذكر ترجمة كمال أبو ديب (هامش ص 513) ويشير إلى بعض المصطلحات العربية التي أشار إليها إدوارد سعيد في كلامه عن ترجمة أبو ديب!

والطريف أن إدوارد سعيد وُصف في صفحة المعلومات بأنه “مفكّر فلسطيني”! ذلك مع أن الدكتور محمد عصفور يقول في هامش (ص 46): “كثيرًا ما يتحدث سعيد بصفته أميركيًّا”! فإذا كان إدوارد سعيد يتكلم بصفته أمريكيًّا (والخلاف في رسم الكلمة مقصود!) فكيف يجيز المترجم والمقدم ودار النشر الادعاء بأنه “فلسطيني”، سواء أكان مفكرًا أم لا؟!

يضاف إلى ذلك أن إدوارد سعيد لا يحب ألقاب الفخفخة مثل “مفكر” و”مثقف”.

كما أن إدوارد سعيد لم يتكلم في (ص 46) بصفته “أميركيًّا”، بل كان يتهكم بالساسة الأمريكان ومغامراتهم “في اليابان وكوريا والهند الصينية”!

وأبعد من ذلك أن إدوارد سعيد في سيرة حياته “خارج المكان” يؤكد على تشتت انتمائه بين فلسطين ومصر والولايات المتحدة الأمريكية وهو ما يسبب له فقد الهوية الواحدة.

بالمناسبة: لا أظن أن ترجمة عنوان سيرة إدوارد سعيد out of place بـ”خارج المكان” موحية، بل ربما ركيكة. ويبدو لي أن أقرب ترجمة موحية لذلك العنوان هي: “المُقْتَلَع”، أو إذا أحببنا مفردات ما بعد الحداثيين: “المُتَشَظِّي”. ولا يبعد عن ذلك أن يترجم بـ”القَلِق”! ذلك إن أخذنا وصف المتنبي لنفسه الذي ربما يتوافق إلى حد كبير مع حياة إدوارد سعيد حين يقول:

فما حاولتُ في أرض مقامًا

            ولا أَزمعتُ عن أرض زوالا

على قلق كأن الريح تحتي

             أوجِّهها جنوبًا أو شمالاً

وأبعد من ذلك أن وصف إدوارد سعيد بأنه “مفكر فلسطيني” ربما يصور نزعة “الاستحواذ” عند الدكتور محمد شاهين! ذلك أنَّ “حشْر” إدوارد سعيد في الهوية الفلسطينية إنما يعني تجريده من هوياته المتعددة الأخرى التي جعلت من إدوارد سعيد إدوارد سعيدًا. كما تتبين نزعة الاستحواذ هذه في المقدمة التي كتبها الدكتور شاهين للترجمة، إذ جعلها تدور عليه شخصيةً رئيسية معنيَّة بكتاب الاستشراق وتاريخه وترجمته. وأكثر من ذلك دلالة على استحواذ الدكتور شاهين أنه يشكر في نهاية مقدمته الأستاذةَ “. . . سوسن عصفور التي بذلت جهدً كبيرًا في مراجعة هذا الكتاب”! والمعهود أن مؤلف الكتاب أو مترجمه هو الذي يشكر الذين بذلوا جهدًا مّا في إخراج الكتاب. لكن الدكتور شاهين ربما يشعر بأن هذا الكتاب كتابه هو!

ومما كتبه الدكتور شاهين في مقدمته لهذه الترجمة أنه كان يتحدث مع إدوارد سعيد عن “ترجمة الاستشراق” فعلَّق “إدوارد” بالقول: لا بد في يوم من الأيام أن يحظى الاستشراق بترجمة ميسَّرة تختزل الكثيرَ من الصعوبات التي يمكن أن يواجهها القارئُ العربيّ” (ص7). [والتوكيد من عندي].

وأشار إلى أن أمر ترجمة الكتاب كان يؤرق السيدة مريم سعيد، أرملة الدكتور إدوارد سعيد، ورنا إدريس مديرة دار الآداب ومالكة حقوق ترجمة كتب إدوارد سعيد إلى العربية. ويقول في نهاية كلامه: و”انتهى الأمر بتوفير هذه الترجمة . . .، وهي في اعتقادي خيرُ ما يمكن توفيرُه من ترجمةٍ لــ الاستشراق بالعربيَّة”. [والتأكيد من عندي].

أما كلامه المختصر عن هذه الترجمة فيقول فيه إن من “حسن الطالع أن يقع الاستشراق في نهاية المطاف في يد محمد عصفور، الأكاديميّ والناقد والشاعر والمترجم الذي وظَّف مكوِّنات هذه المهامّ في إنجاز مهمَّة الترجمة. وقد شهدتُ بنفسي مدى المعاناة التي كان على الصديق محمد عصفور أن يمرَّ بها أثناء تعامله مع نصِّ يستعصي على الفهم المباشر، ويتطلَّب الرجوعَ إلى مصادرَ لا حصرَ لها من المعارف ومتابعة تقاطعها من أجل الوصول إلى بنيةٍ معقَّدةٍ لأطروحة تفضي إلى توصيل معرفةٍ معيَّنةٍ لواقعٍ نعيش فيه”. [والتأكيد من عندي].

وبعد أن يستعرض بعض ما في “الاستشراق” عن قضايا سياسية معاصرة بين الغرب والعالم العربي، يختم بالقول: “ربَّما لهذا السبب وغيره جرى الإعدادُ لإصدار ترجمةٍ جديدةٍ لــ الاستشراق تزيد من فرص التواصل لدى القارئ العربيِّ بعمل يثري موقع الهويَّة العربيَّة على خارطة العالم”. [والتأكيد من عندي].

ولم يلتفت الدكتور شاهين إلى أن إدوارد سعيد شدد النكير في “ملحق” كتابه على الذين قرأوه على أنه “دفاع” عن العرب والمسلمين أو عن القضايا العربية. فكيف يريد الدكتور شاهين أن تكون الترجمة تعزيزًا لــ”الهوية العربية؟!

والواقع أن مقدمة الدكتور شاهين لا يمكن وصفها إلا بأنها “تطفُّل” على “ترجمة” الدكتور محمد عصفور، فهو لم يتحدث عنها بقدر ما تحدث عن نفسه هو. وقد أسهمت هذه المقدمة المسهبة في إخفاء شخصية المترجم الذي لم يكتب عن ترجمته إلا أسطر قليلة لا تفيد شيئًا (ص 15).

وسوف أبيِّن أن ما قاله الدكتور شاهين عن هذه الترجمة ليس دقيقًا.

جاءت الترجمة في 534 صفحة من القطع الكبير. ويمكن الإشارة إلى الملاحظات التالية التي تبين قصور الترجمة هذه:

1ــ وأول ملاحظة شكلية عليها أن الترجمة تخلو من مسرد يبين أسماء الأعلام الكثيرين الذين أورد إدوارد سعيد أسماءهم. كما تخلو من مسرد للمصطلحات ومسرد للأماكن التي وردت في الكتاب. ويجعل هذا النقص الكتاب غير مفيد للباحثين خاصة ولعموم القراء كذلك. ذلك أنك لو أردت أن تقرأ ما قاله سعيد عن أي شخصية أو مكان أو مصطلح فسيضطرك ذلك إلى أن تقرأ الكتاب كله من أوله إلى آخره لتجد ما تريد، أو أن تنشئ أنت مسارد لهذه الأغراض.

2ـــ علَّق الدكتور محمد عصفور في مواضع كثيرة في الحواشي على بعض ما ورد في الكتاب لكن القارئ لا يعرف إن كان تعليق مّا من صنع المؤلف أم من صنع المترجم. والمشهور بين المترجمين أن يميز المترجم تعليقاته من تعليقات المؤلف بأن يختم تعليقاته هو بكلمة “المترجم”.

3ــ لا يذكر الدكتور محمد عصفور الترجمات العربية لبعض المراجع التي أوردها سعيد، بل يترجم عناوينها أحيانًا وكأنها لم تترجم، وهي كثيرة. ومنها مثلاً:

ــــ ص 26: لم يذكر الترجمة العربية لكتاب إدوارد سعيد الذي يضم سيرته الذاتية. وهو الذي ترجمه إلى العربية بعنوان “خارج المكان”، فؤاد طرابلسي، بيروت: دار الآداب، 2000م

ــــــ ص 48: ترجم عنوانَي كتابين لفوكو كالتالي: “اضبط وعاقب”، و” علم آثار المعرفة”.

      وعنوان الكتاب الأول بالإنجليزية، كما أورده إدوارد سعيد: Discipline and Punish 

وترجمه إلى العربية علي مقلِّد، وراجعه وقدَّم له مطيع صفدي، بعنوان “المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن” بيروت: لبنان، مركز الإنماء القومي، 1990م .

      والكتاب الثاني هو كتاب فوكو المشهور:

Knowledge and the Discourse on Language, trans. A. M. Sheridan Smith and Rupert Sawyer (New York: Pantheon Books, 1972).

            ترجمه سالم يفوت بعنوان: حفريات المعرفة، بيروت، الرباط: المركز العربي الثقافي (ط2) 1987م.

([وأخطأ إدوارد سعيد في ذكر المترجم، وهو ما يوحي بأن الكتاب ترجمه إلى الإنجليزية مترجمان اثنان. وتشير نسختي من ترجمة كتاب فوكو إلى الإنجليزية إلى أن مترجمه هو شيريدان سميث، فقط، أما سويير فقد تَرجم عن الفرنسية محاضرةً ألقاها فوكو في الكوليج دي فرانس وأُلحقت في آخر الكتاب. كما أورد سعيد اسم سويير خطأ، أما الصحيح فهو Swyer. والكتب والبحوث بالإنجليزية التي تشير إلا الكتاب لا تذكر إلا شيريدان سميث مترجمًا).

       ـــ ص 67: وردت إشارة إلى كتاب المستشرق الألماني يوهان فوك:

 Johann W. Fück, Die Arabischen Studien in Europa bis in den Anfang des 20. Jahrhunderts (Leipzig: Otto Harrassowitz, 1955)

    ولم يترجم اسم الكتاب ولم يَذكر أنه مترجم ولم يعرِّف بفوك.

     وقد ترجم عمر لطفي العالم هذا الكتاب بعنوان: “الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا حتى بداية القرن العشرين، بنغازي، ليبيا: (الطبعة الثانية) 2001.

ويوهان فك أحد كبار المستشرقين الألمان. ومن أهم كتبه “تاريخ القرآن”، ترجمه إلى العربية د. جورج تامر وآخرون، منشورات دار الجمل، 2008م، وكتاب “العربية” الذي تتبع فيه التطورات التاريخية في اللغة العربية منذ صدر الإسلام إلى العصر الحديث، وترجمه إلى العربية الدكتور عبد الحليم النجار في سنة 1951م، ثم نشره د. رمضان عبد التواب في 1981م مدعيًا أنه ترجمه (انظر حمزة المزيني، مراجعات لسانية، الرياض: كتاب الرياض (79)، ص ص 15ــــ43 [المترجم].

ـــــ ص 119: لم يذكر ترجمة كتاب باشلار إلى العربية:

Gaston Bachelard, The Poetics of Space, trans. Maria Jolas (New York: Orion Press, 1964).

    وقد ترجمه إلى العربية غالب هلسا بعنوان “جماليات المكان”، بيروت” المؤسسة الجامعية للطباعة والنشر، 1984م. فكيف لا يعرف، وهو المتخصص في الأدب، أن الكتاب مترجم منذ سنوات وأنَّ مترجمه هو مواطنه الأردني الدكتور غالب هلسا؟

ـــــ ص75: وردت إشارة إلى أحد كتب فوكو وترجمه بعنوان “نظام الأشياء”. وأسقط من المتن رقم الهامش الذي يشير إليه، والكتاب هو:

 The Order of Things: An Archaeology of the Human Sciences, 1990

    وهو مترجم إلى العربية بعنوان: “الكلمات والأشياء”. ترجمة مطاع صفدي وسالم يفوت وعز الدين عردوكي وجورج أبو صالح وكمال اسطفان. بيروت: مركز الإنماء العربي، 1989 ـــــ  1990م. 

ـــ ص 515 لم يشر إلى أن إدوارد سعيد “الثقافة والإمبريالية” ترجمه إلى العربية كمال أبو ديب، بيروت: دار الآداب، 2014م.

وغير ذلك كثير.

والإشارة إلى الترجمات العربية للكتب التي ذكرها إدوارد سعيد لازمة؛ وهي مفيدة من جوانب عدة:

فأولها أن الإشارة إليها بعناوينها المترجمة تُعفي المترجم من معاناة ترجمة عناوينها من جديد بعناوين ربما تختلف عن العناوين التي تُرجمتْ بها من قبل. وثانيًا أن من حق المترجمين الذين أنجزوا تلك الترجمات أن يُعتَرف لهم بجهودهم. وثالثًا أن القارئ العربي الذي لا يجيد اللغات الأصلية التي كتبت بها تلك الكتب سيُحرم، إن لم تذكر الترجمات، من الاطلاع على المواضع التي أشار إليها إدوارد سعيد في أصول تلك الكتب.

4 ــــ أن الدكتور محمد عصفور ينقل أحيانًا الأخطاء التي وردت في أصل كتاب الاستشراق كما هي في الترجمة. ويدل هذا على ثقة المترجم الزائدة بصحة ما ورد في أصل كتاب الاستشراق. وبهذا فهو يترجم تلك الأخطاء ويوحي لقارئ الترجمة بأنها صحيحة. ومن أمثلة هذه الأخطاء:

أـــ ذكرت آنفًا خطأ إدوارد سعيد في اسم مترجم محاضرة فوكو الملحقة بكتاب فوكو “حفريات المعرفة”؛ إذ أورد اسمه الأخير على أنه Sawyer مع أن الصحيح هو  Swyer. والمؤكد أن هذا خطأ بسيط يمكن أن يرتكبه أيّ أحد. والخطأ الثاني في إشارة إدوارد سعيد هذه أنه أشرك سويير في ترجمة كتاب فوكو هذا؛ وهو ما يخالف الإشارة إلى هذا الكتاب في البحوث والكتب الأخرى التي اطلعت عليها باللغة الإنجليزية.

  ولا يمكن أن يُعفى المترجم من مثل هذين الخطأين؛ إذ لا بد له أن يتحرى إن كان ثَمَّ خطأ في النص الذي يترجمه مهما كان ذلك الخطأ بسيطًا.

ب ــــ والمثال الثاني للثقة بنقل إدوارد سعيد للنصوص التي ينقلها خطأ ثم يترجمها الدكتور محمد عصفور خطأ ما وقع في المقطع الذي أورده إدوارد سعيد (ص٢٢٦) من قصيدة الشاعر البريطاني كبلنج التي عنوانها:

A Song of the White Men

“أنشودةُ الرجالِ البيض”.

فقد أورد إدوارد سعيد النص كالتالي:

Now, this is the road that the White Men tread 
  When they go to clean a land— 
Iron underfoot and the vine overhead 
  And the deep on either hand. 
We have trod that road—and a wet and windy road— 
  Our chosen star for guide. 
Oh, well for the world when the White Men tread 
  Their highway side by side! 

    وترجم الدكتور محمد عصفور (ص 357) الشطر الثالث في هذا المقطع كالتالي:

“الحديد تحت أقدامهم، والكرمة فوق رؤوسهم”

وهو الشطر الذي وردت فيه كلمة  vineومعناها المعجمي: “الكَرْم”، وهي شجرة العنب.

والمشكل هنا أن كلمة vine  “شجرة العنب” لا يتناسب ورودها الذي يوحي بالخمر والحياة الهانئة التي تظللها شجرة العنب (!) مع جو الطريق الموحش الذي يسلكه هؤلاء “البيض الأبطال”!

ومن هنا فلا بد أن ورود هذه الكلمة نشاز في هذا الشطر. لذلك خطر لي أنه ربما يكون هناك خطأ في نقل إدوارد سعيد لهذه الكلمة. لذلك رجعت إلى ديوان كبلنج نفسه لأتأكد من صحة الكلمة. وما وجدتُه أن الكلمة في الديوان levin، لا vine!

وهي كلمة تَذكر المعاجم الإنجليزية أنها تعود إلى اللغة الإنجليزية الوسيطة، ومعناها “البرق وقصف الرعود”. ومن هنا فالرواية الصحيحة لهذا الشطر هي:

Iron underfoot and levin overhead

وبهذا التصحيح يصير المعنى واضحًا ومتماشيًا مع جو الأنشودة، وربما أُترجِمه ترجمة تقريبية كالتالي:

“السفن تُقِلُّهم والبروقُ والرعود تُظِلُّهم”.

وينبغي القول إن الدكتور كمال أبو ديب والدكتور محمد عناني وقعا في الخطأ نفسه؛ إذ ترجم أبو ديب الكلمة بـ”الدوالي”! التي تعني شجرة العنب في لهجة أهل الشام..

وترجم الشطر بتمامه كالتالي:

“الحديد تحت الأقدام والدوالي فوق الرؤوس”

وترجمه عناني بــ”الكَرْمة”؛ وترجم الشطر بتمامه تبعًا لذلك كالتالي:

“إن الحديد تحت أقدامهم، وكَرْمةُ الأعناب من فوقهم”

ومحصلة القول أن الدكتور محمد عصفور لم يرجع إلى الأصول التي استخدمها إدوارد سعيد، كما وعدنا الدكتور محمد شاهين في مقدمته الطنانة!

5ــــ ومن الأمثلة الأخرى التي تدل على عدم عناية الدكتور محمد عصفور باستقصاء أصول النصوص التي يترجمها، ترجمته للنص التالي الذي ورد عند إدوارد سعيد (ص 37) من مقال للسياسي البريطاني المعروف لورد كرومر. يقول النص:

Even the Central African savage may eventually learn to chant a hymn in honour of Astraea Redux, as represented by the British official who denies him gin but give him justice.

      ويترجم الدكتور محمد عصفور هذه العبارة (93) كالتالي:

“حتى المتوحِّشُ في أفريقيا الوسطى قد يتعلَّم في نهاية المطاف أن يُنشدَ ترنيمةً على شرف العدالة التي يمثِّلها المسؤول البريطانيُّ الذي يحرمه مشروبَ الجن ويعطيه العدالة”.

لكن من يقرأ هذه الترجمة سوف يستغرب من هذه “القسوة” الاستعمارية التي تحرم الإفريقي “المتوحش” من “مشروب الجن”!

والسؤال الأول هل كان “الإفريقيُّ المتوحش” يعرف في الفترة التي كان يتكلم عنها كرومر “مشروبَ الجن” الذي يمثل أحد أشهر أنواع الخمور عند الغربيين؟! والسؤال الثاني: هل يعقل أن تَبلغ “الرأفة” الاستعمارية بـ”الإفريقي المتوحش” أن “يحميه” من شرب الخمر، سواء أكان “جنًّا” أو أيَّ شيطان آخر؟!

 ولا بد لمن يُقرأ هذا النص أن يقرأه في ضوء ما هو معروف من أن الاستعمار الغربي هو من أشاع شرب الخمور في كل مكان وصل إليه. وربما يكون المستعمِر أسعد ما يَكون لو ظل “الإفريقي المتوحش” سكرانَ أمد الدهر!

والسؤال الآن هل ترجمة الدكتور محمد عصفور لهذه العبارة ممكنة؟

   أما أنا فلم أقتنع، حين قرأت هذه الترجمة بأن المسؤول البريطاني يمكن أن يكون بهذا المستوى من “الرأفة” بهذا “الإفريقي” المتوحش”، أو ربما من هذه “القسوة” عليه! وخطر لي أن “مَنْع المسؤول البريطاني الإفريقي المتوحش من شرب الخمر” ليست الترجمة الصحيحة. ويوجب هذا البحث عن معنى آخر لكلمة gin التي وردت في العبارة.

لهذا فزِعت إلى معاجم اللغة الإنجليزية الموسّعة مرة أخرى ومنها معجم “وبستر”  Webster New Twentieth century Dictionary: Unabridged

وما وجدتُه فيه أن معنى كلمة  gin، كما وردت في سياق النص الذي أورده إدوارد سعيد، لا علاقة له بالحرمان من الخمر من أي نوع!

إذ يقول المعجم إنها جاءت من الكلمة gin, ginne في الإنجليزية الوسيطة بمعنى ingenuity “براءة، سذاجة”، أو contrivance “ماهر، خلاق”، أو حتى “سلاح”، بل حتى “استقلال”.

ومن هنا فالمعنى الصحيح لكلمة gin في هذا النص يشير إلى ما كان يتمتع به “الإفريقي” من حرية وحياة بسيطة طبيعية، وإلى مقاومته للمستعمر. ويتبين من هذا أن ما “مَنَع” المستعمرُ “الإفريقيَّ المتوحش” من التمتع به إنما هو حياته التقليدية التي كان يعيشها، وأسلحته البدائية التي كان يدافع بها المستعمِر، واستقلاله عن أي قوة خارجية. وذلك ما عوَّضه المستعرُ عنه، بالعدالة، فيما يَزعم!

  وتشير عبارة Astraea Redux إلى القصيدة التي نظمها الشاعر الإنجليزي جون درايدن عام 1660م ترحيبًا بعودة الملك تشارلز الثاني إلى عرشه. وتتضمن اعتذار الشاعر عن قصيدة سابقة نظمها تأبينًا لأوليفر كرومويل قائد الثورة التي أسقطت الحكم الملكي.

    أما ترجمتي الأولية لهذا النص فهي:

“بل ربما يتعلَّم حتى الإفريقي الهمجي في إفريقيا الوسطى في نهاية الأمر [الولاءَ للحكومة البريطانية] وسوف يتغنى بأنشودة “عودة (ربَّة) العدالة إلى الأرض” Astraea Redux، كما يمثِّل [تلك العدالة] المسؤولُ البريطاني الذي سلبَ [هذا الإفريقيَّ] حريتَه لكنه منحه العدل”.

6ــ أما إذا أردنا نموذجًا منغلقًا و”مضحكًا” من ترجمة الدكتور محمد عصفور فهو ترجمته (ص 301) لنص نقله إدوارد سعيد من مثال كتبه الكاتب الفرنسي المشهور بالكتابة عن الرحلات، ميشيل بوتور، ووصفه بأنه نص جميل. تقول ترجمة الدكتور عصفور:

“تبقى رحلة شاتوبريان في نظر نرفال رحلةً على السَّطح، أما رحلته هو فمحسوبة، تستخدم مراكز مدنٍ والتفاتاتٍ تحيط بالمراكز الأساسيَّة. وهذا يمكِّنه من اجتناب جميع الأبعاد التي تحتويها المصيدة، عن طريق تغيير زاوية النظر. ففي أثناء التجوُّل في شوارع القاهرة، أو بيروت، أو إسطنبول يكون نرفال بانتظار أيِّ شيءٍ يمكّنه من الإحساس بوجود كهفٍ يمتدُّ تحت روما، أو أثينا، أو القدس [وهذه هي المدن الرئيسية في مسار شاتوبريان]. . .

ومثلما أنَّ مدن شاتوبريان الثلاث تبقى على اتِّصال ـــ روما بأباطرتها ورؤساء كنيستها وهم يعيدون ترتيب التراث، أي تركة كلٍّ من أثينا والقدس ــ فإن كهوف نرفال . . .  تبقى على اتصال جنسي”!!

وأنا أتحدى أن يفهم أحد ماذا تعنيه هذه الترجمة!

وعلى رغم وصف إدوارد سعيد ما كتبه بوتور هنا بأنه “تعبير جميل” فهو مكتوب بلغة النقَّاد “الحداثيين” الذين يخلقون شيئًا مبهرجًا من لا شيء!

وأنا لا ألوم الدكتور محمد عصفور على “ورطته” في ترجمة هذا النص. بل ألومه على أنه لم يرجع إلى مقال ميشيل بوتور الذي أخذ إدوارد سعيد النص منه. ولو رجع لتبينت له الخطوط العامة على الأقل لمعنى هذا النص.

وقد رجعتُ إلى مقال بوتور الذي أخذ إدوارد سعيد النص منه، وهو مقال مترجم إلى الإنجليزية عن الفرنسية. ويتكلم بوتور عن تصنيف الرحلات عمومًا. وتكلم عن الصنف الأول منها وهو صنف أفقي الاتجاه، بمعنى أنها تسير على مستوى الأرض. أما الصنف الثاني فهو الرحلات “الرأسية”؛ وهي نوعان: الرحلة إلى الأعلى والرحلة إلى أسفل. وهو يقول عن ذلك (وهذه ترجمتي الركيكية!):

الرحلة إلى الأعلى: كأن تَصعد جبلاً (كما عند دانتي في Purgatorio)، أو أن تَصعد إلى الأعلى بواسطة بالون أو طائرة أو صاروخ؛ وتتصف هذه الرحلات بتزايد توسُّع الأفق أو [لنسمِّه تزايد توسُّع] نقطة القياس؛ [وفي هذه الحالة] نقيس نقطة الانطلاق من زاوية نقطة الوصول؛ إذ يُنجَز مسار القراءة بصورة طبيعية باكتشاف هذا التوجه الرأسي، وهو الذي لا بد أن يُنتهى منه ويقاس بـ[الاتجاه] المناظر [أي الاتجاه إلى ما تحت سطح الأرض]؛ أي الرحلة عن طريق النزول [إلى باطن الأرض] (كما عند دانتي في Inferno “الجحيم”، وفي صفحات كثيرة في كتاب هوجو Le Voyage au centre de la Terre “رحلة إلى باطن الأرض”)، التي يؤدي فيها انكماش الأفق مؤقتًا إلى فتح كهوف كبيرة للغاية تجعلنا نصعد إلى السطح على الجانب الآخر للأفق الطبيعي ونندد بهذا السطح بصفته كذبة. وهو نوع من الصعود المعكوس ــ والعاكس ــ حيث تحدد نقطةُ الوصول نقطةَ الانطلاق بجعلها تخضع لتغيير طبيعتها بإرغامها على أن تكون بمثابة افتتاحية [مقدمة] (وهذا هو سبب تخيُّل نقطة الوصول هذه في كثير من الأحيان على أنها “مركز”).

وبهذا التوصيف يصل إلى الكلام عن رحلة نيرفال. وهي رحلة تخيل فيها أنه يسبر أغوار الأرض ليكتشف الطرق الخفية التي تصل بين المدن التي تكلم عنها.

وإذا فهمتم شيئًا من هذا النص فبوتور يريد تصنيف رحلات نيرفال “المتخيَّلة” على أنها من الرحلات “الرأسية النزولية” أي التي تنزل إلى باطن الأرض بعكس رحلة شاتوبريان الأفقية التي تبقى على سطح الأرض.

أما ترجمتي الأولية التقريبية للنص “الحداثي” العويص الذي أورده إدوارد سعيد والذي ترجمه الدكتور عصفور بالصورة السابقة، فهي، إن فهمتُ النص حقَّ فهمه، كالتالي:

يَنظر نيرفال إلى رحلة شاتوبريان على أنها رحلةٌ لم تتجاوز ملاحظةَ الظاهر [ما فوق ظاهر الأرض، أي أنها لم تتعمق فيما وراء الظاهر كما هي رحلة نيرفال]، أما هو فقد خطط لرحلته بدقة واستفاد في تنفيذها من “مراكز انطلاق الرحلة ومراكز وصولها] ومن دهاليز المنعرجات التي تحيط بالمراكز الرئيسية كذلك؛ ومكَّنه ذلك كله من أن يدلل بجلاء، وبشكل تقابلي [بين المدن الثلاث التي اختارها والمدن الغربية الثلاث التقليدية]، على أمداء الاحتقار كلها التي تكنُّها المراكز المألوفة [الغربية لمدنه الثلاث]. وكان نرفال، في تجواله في شوارع القاهرة وما حولها يتحرى دائمًا أن يَعثر على أي شيء يسمح له بأن يكتشف نفقًا [أي دليلاً عميقًا] يمتد تحت روما وأثينا والقدس [وهي المدن الرئيسية التي كتب عنها شاتوبريان في كتابهItineraire  [إدوارد سعيد]]. . . .

 ومثلما أن مدن شاتوبريان الثلاث على تواصل دائم ــ حيث تعمل روما، بأباطرتها وبابواتها، على ترميم الآثار في أثينا والقدس وترعى “رسالتهما [الدينية]” ـــــ تنشغل ممرات نيرفال الأرضية بتقريب تلك المدن بعضها إلى بعض قليلاً كي تتواصل[1].

ولا يمكن أن يعفى إدوار سعيد من اللوم لأنه لم يورد بقية النص التي تبين طبيعة “التواصل” بين المدن الست. ومما زاد الأمر سوءًا أن الترجمة الإنجليزية استعملت كلمة intercourse  التي تدل في أحد معانيها على “العملية الجنسية”!

وهذا ما أوقع الدكتور عصفور، والدكتور أبو ديب من قبله، في هذه الورطة الترجمانية!

أما لو أورد سعيد النص كاملاً، أو لو رجع الدكتور محمد عصفور إلى مقال بوتور، لتبين له أن الأمر بعيد جدًّا عن “الاتصال الجنسي”!

وبقية النص في مقال بوتور التي تدل على طبيعة “التواصل” (غير الجنسي!) بين تلك المدن هي (بترجمتي):

. . . أنْ “. . . يَعيش مسيحُ الدروز عواطفَه في القاهرة، وبما أن عالم أدونيرام الأرضي [وهو جامع الضرائب عند الإمبراطور [النبي] سليمان، يمتد تحت القدس، ينتهي به الأمر إلى أن يحفر تحت روما نفسها”.

ويعني هذا كله أن نيرفال يتلمس في رحلاته تأكيد أولية المدن الشرقية (القسطنطينية والقاهرة وبيروت) على المدن الغربية مكانًا أو دينًا وهي (روما بمكانتها الإمبراطورية وأثينا بمكانتها العلمية والفلسفية والقدس بمكانتها الدينية التاريخية). (وتعني كلمة “مراكز” في نص بوتور نقطة انطلاق الرحلة والنقطة التي تنتهي عندهh).

الترجمة

يمكن أن توصف ترجمة الدكتور محمد عصفور لـ”الاستشراق” بالكلمة الإنجليزية bland  التي تعني أنها تفتقر إلى “الحيوية” التي يتميز بها أسلوب إدوارد سعيد، كما أنها تفتقر إلى الطاقة “الأدبية” الآسرة لأسلوب سعيد. ولهذا فأسلوب الترجمة أقرب ما يكون إلى الأسلوب العادي الذي لا يشد القارئ. يضاف إلى ذلك أنها تكاد تكون حرفية في كثير من المواضع.

ومما يشيع في هذه الترجمة، اتِّباع الأسلوب الإنجليزي في نظام الجملة؛ أي أنها كثيرًا ما تبدأ بشبه الجملة أو بالجمل الاسمية المصدَّرة بـ”إن”، وذلك ما يجعل الأسلوب ركيكًا. ومن المعروف أن الإنجليزية تعطف الكلمات المعطوفة قبل الكلمة الأخيرة باستعمال الفاصلة (،). وقد حافظ الدكتور عصفور على هذه الفواصل في مواضع كثيرة جدًّا بين الكلمات المتعاطفة وزاد عليها العطف بالواو. ومن ذلك، مثلاً، ما ورد في (ص 26): “. . . في إشعال نار التغيير، والصراع، والجدل، والآن الحرب. . .”، و: “. . . قضايا الثقافة، والأفكار، والتاريخ، والقوة. . . .” ( ص27).

ويورد سعيد في صفحة تسبق بداية كتابه إحدى مقولات كارل ماركس، وهي:

They cannot represent themselves; they must be represented.

-Karl Marks, The Eighteenth Brumaire of Lous Bonaparte

 فيترجمها الدكتور عصفور كالتالي (ص 23):

ليس بإمكانهم تمثيلُ أنفسهم؛ لا بدَّ من تمثيلهم.

           كارل ماركس، الثامن عشر من برومير في عهد لويس بونابرت

وإذا كانت عبارة ماركس مفهومة فعبارة “الثامن عشر من برومير في عهد لويس بونابرت” غامضة على القارئ العربي الذي لا يعرف تاريخ فرنسا!

أما هذه العبارة فهي عنوان كتيِّب صغير نشره كارل ماركس عام 1851م عن انقلاب لويس بونابرت على الثورة الفرنسية، وتُرجم إلى العربية. لذلك ينبغي أن تكون ترجمة اسم الكتاب:

“[انقلاب] لويس بونابرت في الثامن عشر من شهر برومير”.

وكانت الثورة الفرنسية (1789م) قد وضعت “تقويمًا جمهوريًّا” بدلاً من التقويم الميلادي يبدأ من السنة الأولى لتلك الثورة. ووضعت أسماء للشهور تذكرنا بالأسماء المضحكة التي وضعها القذافي للأشهر! ومن هذه الأشهر بأسمائها الجديدة شهر “برومير” (ويعني شهرَ البرد والضباب!) وهو الشهر الثاني من السنة الثامنة للثورة الفرنسية، ويوافق اليومُ الثامن عشر منه اليومَ التاسع من نوفمبر 1799م. وهو اليوم الذي انقلب فيه بونابرت على النظام الجمهوري الوليد.

نماذج من ترجمة الدكتور عصفور:

وسأورد فيما يلي نماذج يمكن أن تمثل ترجمة الدكتور محمد عصفور، وأورد بعدها ترجمتي.

يقول إدوارد سعيد (Pp.xi-xii):

Nine years ago, in the spring of 1994, I wrote an afterword for Orientalism in which, in trying to clarify what I believed I had and had not said, I stressed not only the many discussions that had opened up since my book appeared in 1978, but also the ways in which a work about representations of “the Orient” lends itself to increasing misrepresentation and misinterpretation. That I find the very same thing today more ironic than irritating is a sign of how much my age has crept up on me, along with the necessary diminutions in expectations and pedagogic zeal which usually frame the road to seniority. The recent death of my two main intellectual, political and personal mentors, Eqbal Ahmad and Ibrahim AbuLughod (who is one of the work’s dedicatees) has brought sadness and loss, as well as resignation and a certain stubborn will to go on. It isn’t at all a matter of being optimistic, but rather of continuing to have faith in the ongoing and literally unending process of emancipation and enlightenment that, in my opinion, frames and gives direction to the intellectual vocation. Nevertheless it is still a source of amazement to me that Orientalism continues to be discussed and translated all over the world, in thirty-six languages. Thanks to the efforts of my dear friend and colleague Professor Gaby Peterberg, now of UCLA, formerly of Ben Gurion University in Israel, there is a Hebrew version of the book available, which has stimulated considerable discussion and debate among Israeli readers and students. In addition, a Vietnamese translation has appeared under Australian auspices; I hope it’s not immodest to say that an Indochinese intellectual space seems to have opened up for the propositions of this book. In any case, it gives me great pleasure to note as an author who had never dreamed of any such happy fate for his work that interest in what I tried to do in my ((xii)) book hasn’t completely died down, particularly in the many different lands of the “Orient” itself.

ترجمة الدكتور محمد عصفور ( ص 25 ــ 26):

“كنتُ قد كتبتُ قبل تسع سنوات، في ربيع سنة 1994، مقالةً ختاميًّةً لكتاب الاستشراق شدَّدتُ فيها، في محاولةٍ منّي لتوضيح ما اعتقدتُ أنِّي قلتُه ولم أقله، ليس فقط على المناقشات التي ظهرتْ منذ أن ظهر الكتابُ سنة 1978، بل أيضًا على الطرق التي يتيح بواسطتها كتابٌ عن تمثيلات الشرق المجالَ للمزيد من سوء التمثيل وسوء التفسير. وأمَّا أنَّني أَجد أنَّ الشيء نفسَه يثير فيَّ هذه الأيَّام الإحساسَ بالمفارقة أكثرَ من إثارته للأعصاب، فعلامةٌ على مدى ما فعله تقدُّم العمر بي، إلى جانب ما يحفُّ الطريق نحو كبر السنِّ من تدنِّي التوقُّعات وتضاؤل الحماس للتَّعليم. لقد جلب فقدي حديثًا لمرشديَّ الشخصيَّيْن في الفكر والسياسة، إقبال أحمد، وإبراهيم أبو لُغد (وهو أحد الشخصيْن اللذين أُهديَ الكتابَ إليهما)، الحزنَ والخسارة، إلى جانب الاستسلام للواقع، وقدْرٍ من التصميم على المضيِّ قُدمًا. وليس هذا من قبيل التفاؤل، بل من قبيل التمسُّك بالإيمان بالعمليَّة التي لا تنتهي من التحرُّر والتنوُّر، وهي عمليةٌ تحيط بالحياة الفكريَّة وتضيئ لها الطريق.

        ومع ذلك، فإنَّ ما يثير دهشتي أنَّ كتاب الاستشراق لا يزال يُناقَش ويُترجَم في جميع أنحاء العالم بستٍّ وثلاثين لغة. وتتوافر الآن، نتيجةً للجهود التي بذلها الصديق والزميل العزيز البروفسور غابي بيتربيرج، الذي يعمل الآن في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، وكان يعمل سابقًا في جامعة بن غوريون في إسرائيل [الكيان الصهيوني]، ترجمةٌ عبريَّةٌ للكتاب أثارت قدرًا كبيرًا من النقاش والجدل بين القرَّاء والطلبة الإسرائيليين. كما ظهرتْ ترجمةٌ باللغة الفيتناميَّة برعاية أسترالية. وأرجو ألاّ يُعدُّ من باب الغرور أن أقول إنَّ الأفكار التي يتحدَّث عنها هذا الكتاب قد انفتحتْ لها مساحةٌ فكريَّةٌ واسعةٌ في الهند الصينيَّة. وإنَّه ليُسعدني في كلِّ الأحوال أن ألاحظ، بصفتي مؤلِّف الكتاب الذي لم يحلمْ يومًا بأن يحصل كتابُه على هذا المصير السَّعيد، أنَّ الاهتمام بما حاولتُ فعله في كتابي لم يُنسَ تمامًا، لا سيَّما في البلاد الكثيرة التي تَشَكَّل منها “الشرقُ” نفسُه”.

ملحوظات:

1ــــ يسمي سعيد ما كتبه قبل تسع سنوات بأنه afterword ويمكن أن تترجم هذه الكلمة بــ”ملحق”، لكن عصفور يترجمها بــ”مقالة”، وربما كان أصلها “مقالة لكن الترجمة الدقيقة يجب أن تلتزم بالاسم كما كتبه صاحبه في النص المترجم.

2ـــ I had and had not said ترجمها الدكتور عصفور بــ” قلتُه ولم أقله”. وهي ترجمة تجعل الكلام متناقضًا.

3ـــ لم يعرِّف بإقبال أحمد ولا بإبراهيم لغد، ولم يبين الشخص الآخر الذي “أهدى” سعيد الكتاب إليه.

4ـــ “أهديَ الكتابَ إليهما”، خطأ نحوي.

4ـــ التزيد في وضعه بين قوسين مركنين “الكيان الصهيوني” بعد ذكر إسرائيل. ولم يفعل هذا في المواضع الأخرى في الكتاب كلها التي ورد فيها اسم “إسرائيل”.

5ـــ إضافة إلى ما يظهر على الترجمة من الركاكة.

أما ترجمتي الأولية فهي:

كتبتُ قبل تسع سنوات، أي في ربيع عام 1994م، ملحقًا لـ”لاستشراق” حاولتُ فيه توضيحَ ما أَعتقد أني كنتُ قلتُه فيه وما لم أقلْه، وأكدَّتُ فيه تحديدًا، لا على النقاشات الغزيرة التي ظهرتْ منذ ظهوره عام 1978م وحسب، بل على الطرق التي صار بها كتابٌ عن تمثيلات “الشرق” ليَكون هو نفسُه موضوعًا لقَدْر متزايد من سوء التمثيل وسوء التأويل كذلك. أما أنِّي أَجد تلك [التمثيلات السيئة والتأويلات السيئة] نفسَها الآن على أنها من قبيل المفارقة لا الإزعاج، فإشارةٌ إلى تقادُم العُمرِ بي[2]، مع ما يَصحب ذلك من تضاؤل في التوقُّعات وتضاؤل في الحماس للتعليم وهو ما يؤطِّر الطريقَ نحو الكِبَر دائمًا[3]. وأدَّت وفاةُ صديقيَّ الناصحين الرئيسين فكريًّا وسياسيًّا، إقبال أحمد وإبراهيم أبو لُغد (وهو أحدُ اللذين أهديتُ لهما الكتاب)[4]، منذ فترة قريبة، إلى شعور بالحزن والفَقْد، إضافةً إلى شعورٍ بالتسليم [لواقع ذلك الفقد والحزن] مع نوعٍ من العزيمة على الاستمرار. ولا يعود ذلك كلُّه إلى كوني متفائلاً وحسب، بل لكونه نابعًا من ثقتي الدائمة بمسار التحرر والتنوير الذي لا تحدُّه، حَرْفيًّا، حدودٌ وهو المسار الذي يؤطِّر العملَ الفكري ويوجِّهه، كما أرى.

        ومما لا يزال يُدهشني، مع ذلك، استمرارُ “الاستشراق” موضوعًا للنقاش والترجمة في العالم كله، إذ تُرجم إلى ست وثلاثين لغة. وأود الإشارة هنا إلى أنه بفضل جهود صديقي العزيز الأستاذ الجامعي جابي بيتربيرج، الذي يَعمل الآن أستاذًا في جامعة كاليفورنيا ــــ لوس أنجلوس، وكان يَعمل قبل ذلك في جامعة بن جوريون في إسرائيل، توفرتْ نسخةٌ باللغة العبرية من الكتاب أثارتْ نقاشًا وحوارًا واسعيْن بين القراء والطلاب الإسرائيليين. بل لقد تُرجم إلى اللغة الفيتنامية بتمويل أسترالي؛ وآمل ألا يُعدَّ تفاخرًا أنْ أَقول إنَّ سياق الهند الصينية الفكري يبدو أنه قد انفتح لاستقبال أفكار هذا الكتاب. وأَسعدني كثيرًا جدًّا، بأي حال، أن أَلحَظ بصفتي مؤلِّفًا ــــ لم يَتوقَّع قطّ أيًّا من هذا المصير السعيد لكتابه ـــــ أنَّ ذلك الاهتمامَ بما حاولتُ عمله في كتابي لم يَنْطفئ تمامًا بَعدُ، لا سيما في بلدان كثيرة في “الشرق”[5] نفسِه.

سعيد ص 125:

These two characteristics—the didactic presentation to students and the avowed intention of repeating by revision and extract—are crucial. Sacy’s writing always conveys the tone of a voice speaking; his prose is dotted with first-person pronouns, with personal qualifications, with rhetorical presence. Even at his most recondite—as in a scholarly note on third-century Sassanid numismatics—one senses not so much a pen writing as a voice pronouncing. The keynote of his work is contained in the opening lines of the dedication to his son of the Principes de grammaire generate: “C’est å toi, mon cher Fils, que ce petit ouvrage a ete entrepris”—which is to say, I am writing (or speaking) to you because you need to know these things, and since they don’t exist in any serviceable form, I have done the work myself for you. Direct address: utility: effort: immediate and beneficent rationality. For Sacy believed that everything could be made clear and reasonable, no matter how difficult the task and how obscure the subject. Here are Bossuet’s sternness and Leibniz’s abstract humanism, as well as the tone of Rousseau, all together in the same style.

ترجمة عصفور ص 219:

“هاتان الصفتان ـــ العرض التَّعليميُّ والتَّصميم على التكرار بالمراجعة والاقتطاف ــــ بالغتا الأهميَّة. واللَّهجة التي يستخدمها ساسي في كتاباته هي لهجة الصوت المسموع. ونثره مليءٌ بضمير المتكلم، مع الحرص على تحديد المقصود، وعلى الحضور البلاغيّ. وحتَّى عندما يقدِّم معلوماتٍ بالغة التخصُّص ــ كما في حالة هامش علميٍّ عن القطع النقديَّة الساسانيَّة العائدة إلى القرن الثالث ــ فإنَّ الانطباع الذي نخرج به ليس صوت قلم يكتب، بل صوتُ إنسانٍ يتكلَّم. وتحتوي الأسطر الأولى من الإهداء الموجَّه لابنه في كتاب مبادئ النحو العامّ على النغمة الأساسيَّة التي تتخلَّل الكتاب كلَّه: “أخذتُ على عاتقي القيام بهذا العمل من أجلك، يا بنيَّ العزيز”؛ أي إنَّني أكتب لك (أو أتكلم معك) لأنَّك تحتاج لأن تعرف هذه الأشياء. وبما أنَّها غير موجودةٍ بأيِّ شكلٍ مفيد، فقد قمتُ بالعمل من أجلك. خطابٌ مباشر: فائدة: جهد: عقلانيَّةٌ حاضرةٌ مفيدة. ذلك أنَّ ساسي كان يؤمن بأنَّ بالإمكان توضيح كلِّ شيءٍ وجعله معقولاً بغضِّ النَّظر عن مدى صعوبته وعن مدى غموضه. هنا نجد تشدُّد بوسويه، ومجردات العلوم الإنسانيَّة عند لايْبنِتْز، مثلما نجد لهجة روسو؛ كلَّها معًا في الأسلوب نفسه”.

ــــ ملحوظات:

هناك ملاحظات كثيرة في ترجمة الدكتور عصفور لهذه الفقرة. وستتبين من مقارنتها بترجمتي التالية. لكني أود أن أشير هنا إلى أحد شواهد الترجمة الحرفية، في ترجمة هذه الفقرة، وهي التي نجدها في كثير من المواضع في الكتاب.

فتتبين هذه الحرفية مما ورد في الفقرة السابقة في السطر الثالث من أسفل، وهي: “خطابٌ مباشر: فائدة: جهد: عقلانيةٌ حاضرةٌ مفيدة”.

فتبدو هذه الكلمات المتناثرة مقطوعة عما سبقها وهي لا تكون جملة مفيدة. والنص بالإنجليزية المقابل لهذا الخليط واضح؛ ويعود ذلك إلى أن “الروابط بين الجمل” في الإنجليزية ضمنيَّةٌ في أكثر الأحيان، أما في العربية فلا بد من ظهورها حتى تترابط الجمل في الفقرة الواحدة. وسيتبين هذا من ترجمتي هنا.

ترجمتي:

وهاتان السمتان ـــــ أي التقديم التربوي للتلاميذ والقصد الصريح للتكرار بالتنقيح والتلخيص ــــ أساسيتان [في كتابات ساسي]. إذ تصوِّر كتاباته دائمًا نبرةَ كلامٍ ملفوظ؛ ونثرُه مطرَّز بضمائر المتكلم، وبمؤهلاته الشخصية وبحضوره الخطَابي[6]. بل إن القارئ ليُحسّ، حتى في أكثر كتاباته غموضًا [بسبب موضوعها النادر] ــــ كما في بحثه القصير عن نقوش النقود الساسانية في القرن الثالث [الميلادي]، لا بقلمٍ يَكتب بل بِفَم يَتلفظ. وتَبرز السمة الأساسية لعمله كله في الأسطر الأولى من فقرة الإهداء في كتابه “مبادئ النحو العام” الذي أهداه لابنه [إذ كتب]: “لقد كتبت هذا العمل المتواضع، ابنيَ العزيز، لك” ـــــ وهو ما يعني أني أكتب لك (أو أخاطبك) لأنك بحاجة لأن تَعرف هذه الأشياء، وبما أن [هذه الأشياء] لا توجد بأي صيغة أخرى أطمئن إليها، فقد نهضتُ إلى هذا العمل بنفسي من أجلك”. والصيغة المباشرة [لهذا الإهداء أن هذا الكتاب] عمَليٌّ وجادٌّ ومباشر ويمثل العقلانية الواضحة. فقد كان ساسي يعتقد أن بإمكانه أن يوضح أيَّ شيءٍ ويُعقلِنه مهما كانت صعوبته ومهما كان غموضه. و[يشهد أسلوبه هذا بمزج أسلوب] بوسويه المتجهِّم وأسلوب لايبنتز الأنسني التجريدي إضافة إلى أسلوب روسو [التربوي].

سعيد ص ص 126ــ127:

Yet when in 1802 the Institut de France was commissioned by Napoleon to form a tableau generale on the state and progress of the arts and sciences since 1789, Sacy was chosen to be one of the team of writers: he was the most rigorous of specialists and the most historical-minded of generalists. Dacier’s report, as it was known informally, embodied many of Sacy’s predilections as well as containing his contributions on the state of Oriental learning. Its title —Tableau historique de !’erudition francaise—announces the new historical (as opposed to sacred) consciousness. Such consciousness is dramatic: learning can be arranged on a stage set, as it were, where its totality can be readily surveyed. Addressed to the king, Dacier’s preface stated the theme perfectly. Such a survey as this made it possible to do something no other sovereign had attempted, namely to take in, with one coup d’oeil, the whole of human knowledge. Had such a tableau historique been undertaken in former times, Dacier continued, we might today have possessed many masterpieces now either lost or destroyed; the interest and utility of the tableau were that it preserved knowledge and made it immediately accessible. Dacier intimated that such a task was simplified by Napoleon’s Oriental expedition, one of whose results was to heighten the degree of modern geographical knowledge.”

ترجمة الدكتور عصفور (ص 221):

“ومع ذلك، فعندما كلَّف نابليون معهد فرنسا بعمل عرض عامٍّ عن حالة الفنون والآداب منذ سنة 1798 وما تحقَّق من تقدُّم، كان ساسي واحدًا ممَّن اختيروا لعضويَّة الفريق المكلَّف بالكتابة. كان ساسي أشدَّ المتخصِّصين صرامةً وأشدَّ غير المتخصِّصين تقيُّدًا بالبُعد التاريخيّ. وقد تضمَّن تقرير داسييه، كما كان يشار إليه داخليًّا، كثيرًا من ميول ساسي فضلاً عن ضمِّ مساهمته بصدد المعارف الشرقيَّة. ويشير عنوان العرض، وهو عرض تاريخيٌّ للمعرفة الفرنسيَّة إلى الوعي التاريخيِّ (في مقابل الوعي الدِّينيِّ). هذا الوعي ذو طبيعةٍ دراميّة: هذه المعرفة يمكن عرضها على مسرح، ويُمكن استعراضها كلُّها بسهولة. وقد عبَّرت مقدِّمة داسييه الموجهَّة إلى الملك عن الموضوع تعبيرًا بليغًا: هذا الاستعراض جعل بالإمكان عمل شيء لم يحاول أن يعمله أيُّ ملكٍ في السابق، ألا وهو أن يرى بنظرةٍ واحدةٍ كلَّ ما عرفته الإنسانيَّة. ولو كان عرضٌ تاريخيٌّ كهذا قد عُمل في السَّابق؛ فيما يقول داسييه، لكان لدينا الآن كثير من الرَّوائع التي إمّا أنَّها ضاعت أو أُتلفت. إنَّ فائدة العرض وما يثيره من اهتمامٍ تكمن في الحفاظ على المعرفة وفي جعلها متاحةً بصورةٍ مباشرة. وألمح داسييه إلى أنََّ هذه المهمَّة سهَّلتها حملة نابليون الشرقيَّة التي كانت إحدى نتائجها تعزيز المعرفة الجغرافيَّة الحديثة. (ونحن لن نرى في غير الشرح الكامل الذي قدَّمه داسييه ما يعادل الشَّكل الدراميَّ للعرض التاريخيَّ من حيث الفائدة إلاّ في أقسام المحلاّت التجاريَّة الكبرى).

وأترك الملحوظات على هذه الترجمة للقارئ الكريم.

ترجمتي:

ومع هذا فحين طلب نابليون من “المَجْمع العلمي الفرنسي”[7] عام 1802م إنجاز “إحصاءٍ عامّ”[8] يمثِّل حالة الفنون والعلوم والتقدم الذي حققته [في فرنسا] منذ عام 1789م[9]، اختير ساسي عضوًا في اللجنة [التي أُسنِد إليها [كتابة تقارير عن حالات الفنون والعلوم التي سترسم بيانيًّا في الجداول العامة]؛ ذلك أنه كان من أكثر المتخصصين دقة وأكثر غير المتخصصين اهتمامًا بالتاريخ. وتبنى تقريرُ داسييه، كما عُرف بهذا الاسم غير الرسمي، كثيرًا من اهتمامات ساسي إضافة إلى تضمُّنه البحثَ الذي أسهم به [في التقرير] عن وضع الدراسات المعنية بالشرق. وصَدَع عنوانُ [التقرير الرسمي] ـــــــ [وهو] “إحصاء تاريخيٌّ للإنجازات [العلمية والفنية] الفرنسية” ــــــــ ببزوغ وعيٍ تاريخيٍّ جديد (مقابل [الوعي] المقدَّس). وهو وعي درامي؛ إذ يمكن [من خلاله] أن تنظَّم المعارف العلمية كما لو كانت معروضة على “خشبةِ” مسرح ليمكِن فحصُها كاملة بنظرة واحدة. وتُبيِّن مقدمةُ التقرير التي كتبها داسييه وخاطب بها الملك [نابليون] موضوعَ [التقرير] بدقة. فقد أَنجز هذا الاستقصاء [كما يقول داسييه] شيئًا لم يحاول إنجازه أيُّ ملك سابق، وهو أن نَتمثَّل، بلمحة واحدة، المعرفةَ البشرية كلها. وتابع داسييه كلامه بأنه لو قد أُنجز مثل هذا “الإحصاء التاريخي” من قَبْل لكنا الآن نمتلك [إحصاء] لعدد كبير من الإنجازات [العلمية والفنية] الفريدة التي إما أنها ضاعت الآن أو دُمرت؛ وتمثَّل اهتمامُ “التقرير” وأهميته بالمحافظة على المعرفة والتمكين من تمثلها بصورة كلية مباشرة. وتَمَلَّق[10] داسييه [نابليونَ] بالقول إن مما سهَّل هذه المهمة حملةُ نابليون الشرقية التي كان من نتائجها توسيعُ المعرفة الجغرافية الحديثة[11]. (ولا يمكن أن نرى كيف يماثل الشكلُ الدرامي لــ”الإحصاء التاريخي” من حيث الاستخدام الأقسامَ المختلفة ومنصات التعامل مع الزبائن في المتاجر الكبرى الحديثة إلا في كامل خطاب داسييه)[12].

(سعيد ص 237)

The Arabian traveller is quite different from ourselves. The labour of moving from place to place is a mere nuisance to him, he has no enjoyment in effort [as “we” do], and grumbles at hunger or fatigue with all his might [as “we” do not]. You will never persuade the Oriental that, when you get off your camel, you can have any other wish than immediately to squat on a rug and take your rest (isterih), smoking and drinking. Moreover the Arab is little impressed by scenery [but “we” are]

ترجمة الدكتور عصفور (ص 372)

“الرَّحالة العربيُّ يختلف عنّا اختلافًا شديدًا. فالجهد المطلوب للانتقال من مكانٍ إلى آخر مصدر إزعاج له؛ فهو لا يستمتع ببذل الجهد [كما نستمتع “نحن”]، ويتذمَّر من الجوع والتعب بكُلِّ ما لدبْه من قوَّة [أمّا “نحن” فلا نفعل]. وأنت لن تستطيع إقناع الشرقيَّ عندما تنزل عن ناقتك بأنَّ لديْك أيَّ رغبةٍ غير الجلوس مباشرة على بساطٍ لكي تستريح، ولتدخّن وتشرب. أضف إلى ذلك أن العربيَّ لا تؤثِّر فيه المناظر الطبيعيَّة [مثلما تؤثِّر فينا “نحن”].

ترجمتي

يختلف الرحالة العربي عنا إلى حد بعيد. إذ إن جُهد التنقل عنده ليس إلا تعبًا وكفى، وهو لا يستمتع ببذل الجهد [كما نستمتع به “نحن” [سعيد]]، ويُفرِط في التشكي من الجوع أو التعب (بخلافنا “نحن” [سعيد]]. ولن تستطيع إقناع الشرقيَّ بأن بإمكانه، بعد أن يترجَّل عن راحلته، أن يفعل أي شيء يرغب فيه غير أن يتقرفص مباشرة على فراشه ليستريح ويدخن أو يشرب. وأكثر من ذلك أنَّ العربي لا تلفت مناظرُ الطبيعة الجميلة نظرَه إلا قليلاً [بخلافنا نحن”[سعيد]].

ملحوظات

والمشكل في ترجمة الدكتور عصفور أن كلام، الرحالة البريطاني سميث، هذا، يبدو كأنه يقول إن الذي يجلس بعد أن “ينزل” عن “ناقته” ليستريح ويشرب ويدخن هو الرحالة الغربي!

لكن هناك ثلاث كلمات في النص تدل على أن المقصود هو “الرحالة العربي”. تلك الكلمات هي “استراحة”، وكتبها بلفظها العربي، وهو ما يدل على أنه يصف تصرفات الرحالة العربي بكلمات الرحالة العربي. والكلمة الثانية هي squat  وهي تدل على الإقعاء الذي لا يمكن للغربي أن يصف به نفسه، والكلمة الثالثة هي rug ، وهي فراش من جلود الحيوانات مما يدل على فقر الرحالة العربي.

ولأن المعنى سيكون غامضًا إذا أَبقيت على ضمائر المخاطب المفرد التي في النص، فقد بدَّلتها بضمائر المفرد الغائب لكي يتضح أن المقصود هو “الرحالة العربي”.

ويتبين من النص أن سميث ربما كان يقول إن “الرحالة الغربي” إذا نزل عن راحلته لا يقعي على نِطْعِه مثل الكلب ويبحث عن الأكل والتدخين بل يمكن أن يبدأ في أعمال “مهمة” أخرى، كأن يكتب ملاحظاته عن رحلته، أو يكتب وصفًا للمكان الذي حلَّ فيه، أو قام بالعناية براحلته، إلى غير ذلك.

وأخيرًا:

أظن أن ما قدمته في هذه المراجعة يكفي في الدلالة على أن ترجمة الدكتور محمد عصفور لم تُنقذ كتاب “الاستشراق” من ضعف الترجمة العربية لهذا الكتاب الذي عدَّتْه صحيفة الجارديان البريطانية واحدًا من أهم مئة كتاب في القرن العشرين. وهي لا تزيد عن الترجمات السابقة إلا بكثرة الصفحات وثقلها!

والسؤال الآن: هل تحققت أمنية (أو رغبة) البروفسور إدوار سعيد التي مفادها أنه “لا بد في يوم من الأيام أن يحظى الاستشراق بترجمة ميسَّرة تختزل الكثيرَ من الصعوبات التي يمكن أن يواجهها القارئُ العربيّ”؟

وهل قول الأستاذ الدكتور محمد شاهين بأن ترجمة الدكتور محمد عصفور: “. . . خيرُ ما يمكن توفيرُه من ترجمةٍ لــ الاستشراق بالعربيَّة”؟

وهل عاد الدكتور محمد عصفور في ترجمته هذه إلى “. . . مصادرَ لا حصرَ لها من المعارف ومتابعة تقاطعها من أجل الوصول إلى بنيةٍ معقَّدةٍ لأطروحة تفضي إلى توصيل معرفةٍ معيَّنةٍ لواقعٍ نعيش فيه”؟

وهل نجحت هذه “الترجمة الجديدة” في زيادة “. . . فرص التواصل لدى القارئ العربيِّ بعمل يثري موقع الهويَّة العربيَّة على خارطة العالم”؟

وجوابي أنَّ أي قارئ لهذه “الترجمة الجديدة” سوف يجيب عن هذه الأسئلة كلها بالنفي.

أود القول أخيرًا، استباقًا للتهم المحتملة (!)، إن ما دفعني لكتابة هذه المراجعة المختصرة لهذه الترجمة ليس إلا الحرص على أن يظهر هذا الكتاب المهم باللغة العربية بترجمة تسرُّ البروفسور إدوارد سعيد لو كان حيًّا، وتسر أسرته الكريمة، وتسر القارئ العربي الذي لا يقرأ الإنجليزية حين يقرأ الكتاب بلغة عربية تقارب لغة إدوارد سعيد جمالاً، وأن يقرأ الكتاب كما كتبه إدوارد سعيد، وأن يطلع بيسر على هذا الكتاب الذي غرَّبت بذِكره اللغات الأخرى وشرَّقت، وحُرمت اللغة العربية منه.

(ملاحظة أخيرة: سيلاحظ القارئ أن الخط الذي استخدمتُه في كتابة هذه المراجعة هو Simplified Arabic والمشكلة فيه أنه يفرِّق في كتابة “الشدَّة المكسورة” بين الشدة والكسرة فيضع الشدة فوق الحرف والكسرة تحته، بدلاً من المعهود من وضعهما معًا فوق الحرف. وهذا تنبيه للقارئ حتى لا يتهمني بالعبث بالحركات!).


[1] – Michel Butor, “Travel and Writing,” trans. John Powers and K. Lisker, Mosaic 8, no. (Fall 1974): 13.

[2] يقصد المؤلف: أن كتاب “الاستشراق” نفسه صار عرضة لسوء التمثيل وسوء التأويل. وهذا المعنى الأكثر احتمالاً، وهو ما حدث فعلاً [المترجم].

3 ربما يعني أن تقدمه في السن جعله أقل حماسًا للدخول في معارك ضد نقاد كتابه [المترجم]. واستعمل إدوارد سعيد هنا كلمة seniority  التي تدل أيضًا على الأقدمية في الرتب الأكاديمية الجامعية (مثل رتبة بروفيسور) التي يتبعها تخفيف العبء التدريسي عنه مما يؤثر في حماسه للتعليم [المترجم].

[3]

[4]– إقبال أحمد (1933ــ 1999م)، أستاذ جامعي أمريكي من أصول باكستانية متخصص في العلوم السياسية وكاتب وناشط ضد الحروب، وتتركز إسهاماتُه الرئيسية في نقد الهيمنة الأمريكية والتشدد الديني. وإبراهيم أبو لغد (1929ــــ 2001م) أستاذ جامعي أمريكي من أصول فلسطينية له إسهامات كثيرة في النشاط السياسي الفلسطيني بالإضافة إلى تأليفه عددًا من الكتب والدراسات. وكان إدوارد سعيد قد أهدى “الاستشراق” إلى إبراهيم أبو لغد وزوجته جانيت ليبمان، وهو ما يظهر على صفحة الإهداء في الكتاب [المترجم].

[5] – يستخدم إدوارد سعيد هنا مصطلح Orient في الدلالة على “الشرق”. وهو مصطلح جاء من الكلمة اللاتينية oriens التي تعني “الشرق” (وحرفيًّا: “بزوغ” Orior، أي المكان الذي تبزع منه الشمس. ويستخدم سعيد Orient وEast  أحيانًا مترادفتين لكنه يستخدم Orient كثيرًا في الإشارة إلى المعنى الخاص الذي يتصل بالنشاط الغربي المعرفي عن الشرق، كما في هذا الموضع (للتوسع عن المصطلح، انظر: ميجان الرويلي وسعد البازعي. دليل الناقد الأدبي: إضاءة لأكثر من سبعين تيارًا ومصطلحًا نقديًّا معاصرًا، بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، (ط3)، 2002، ص ص33ــــ38) [المترجم].

[6] أي أنه يستخدم أسلوبًا يشعر القارئ بأنه يكلِّمه [المترجم].

[7] أُنشئ “المجمع العلمي الفرنسي” Institute de France عام 1795م، وهو يضم عددًا من المجامع الفرعية المتخصصة في فروع العلوم والآداب والفنون واللغة [المترجم].

[8] استخدمتُ مصطلح “إحصاء” تيمنًا بكتاب الفيلسوف الفارابي المشهور بــ”إحصاء العلوم”! [المترجم].

   وهو ما يعني أن هذا الإحصاء سيبين حالة كل فرع من العلوم والآداب والفنون التي تمثل المنجزات الفرنسية في الاهتمامات العلمية والأدبية والفنية المختلفة كلها [المترجم].

[9] السنة التي قامت فيها الثورة الفرنسية[المترجم].

[10] استعمل إدوارد سعيد الفعلَintimated  الذي يمكن أن يترَجم كذلك بـ”جامَلَ” أو “نافق” أو داهن” للدلالة على أن داسييه كان يريد أن يشعر نابليون بالرضا عن النفس [المترجم].

[11] – Bon Joseph Dacier, Tableau historique de l’érudition française, ou Rapport sur les progrès de  l’histoire et de la littérature ancienne depuis 1789 (Paris: Imprimerie impériale, 1810), pp. , 35, 31.

             [ويشير داسييه في كلامه عن توسع المعارف الجغرافية إلى حملة نابليون على مصر 1798ـــ 1801م [المترجم]].

[12] ربما يعني تعدد أقسام التقرير وتشابك العلاقات بينها [المترجم].