مجلة حكمة
حوار مع ريجيس دوبري: ماذا تبقى من المقدس؟ - ترجمة: سعيد بوخليط

حوار مع ريجيس دوبري: ماذا تبقى من المقدس؟ – ترجمة: سعيد بوخليط


مع إصداره : [Jeunesse du sacré] (غالمار)، يتوخى ريجيس دوبري، تفتيت قشرة، الشعائر الدينية المعاصرة.

دوبري، المختص في دراسة منظومة وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية، يحاول هنا، الاستفادة من معطيات سذاجتنا. فالإنسان المعاصر، يظن نفسه قد تحصن حاليا ضد الطقوس، وتخلص من كل إجلال مقدس، مادام نيتشه والأنترنيت، قد عبرا المكان. لذلك، يدعونا، دوبري في دراسته الحديثة “فتوة المقدس”، إلى إعادة النظر  في المشهد. ما نعرفه قليلا، بخصوص فصله عن الإلهي، فالمقدس هذا “الخيال العنيد”، يشمل كل شيء. ما هو المقدس ؟ كل : ((ما يبرر القربان، ويمنع التدنيس)) يكتب دوبري. لقد سمعتم، كلاما عن الأضرحة الستالينية، وشعلة الجندي المجهول، وهضبة مدفن عظماء الأمة، والنصب التذكارية لمؤسسة “ياد فاشيم” في القدس، ثم قبو كنيسة، يخلد المقاومة الفرنسية ؟  هل تعلمون، أن السرداب البيزنطي الجديد لمعهد باستور، يضم جسد العالم الكبير ؟ بدون شك، تخلق هذه المزارات صورة، لكنها غير واضحة بما يكفي. يشرح دوبري، بنباهة مداخل المقدس المعاصر. ألا ينص، البند  الثاني من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على ضرورة احترام “الخاصية المقدسة للحياة” ؟. ألا تحول الورود التي تبعثر على قبر المغني “جيم موريسون”، زاوية من مقبرة « Père-lachaise » إلى هيكل هاميّ ؟ ألم يستحضر، فاغنر “تمثلا مقدسا”، حين حديثه عن “مهرجان تمثيلي” ؟.

يبين دوبري، كيف يتسرب  مقدس دنيوي، إلى طقوسنا اللائكية. إن حفلا، للتنصيب داخل الإليزي، يحافظ على قداسة، يروج لها.

هي، تسميات مختلفة : الحق في الإضراب، التراث، العطل، واجب الذاكرة. قد أضحت عبادات، يستحيل المساس بها. ألا يدفع قانون الزمان، نحو تقديس  محتوم للضحايا ؟ دون التكلم عن أنصار البيئة، الذين يضفون شعيرة مطلقة على السيدة، الطبيعة. إن الحاجة إلى الشعائري، تتآلف ، يكتب  صاحب مؤلف : [Scribe : genèse du politique].

يميز دوبري، بين مقدس نظام (المآثم الوطنية) ثم مقدس وحدة الشعور (مآثم سارتر). نخلق بمحض إرادتنا، جماعة انطلاقا من مقدس : استعراضات، مواكب، طواف، حفلات تذكارية. احترام السّري، يصنع منه قانونا، لذلك، لا يمكننا ولوج معبد ماسوني بغير التوفر على بطاقة دعوة. حين علمنة المقدس،  قد يقود إلى مفارقة : إذا قارنّا جمهورا  متحفظا جدا، جالسا داخل قاعة محكمة، مع حشد من السياح يرتدي أفراده سراويل قصيرة، خلال زيارتهم لكاتدرائية، سيبدو حينئذ المقدس الدنيوي أكثر إلحاحا من المقدس المذهبي.

عندما نقرأ هذا العمل، نلاحظ أن الرفيق السابق لتشي غيفارا، صار منافسا لمالرو، كاتب عمل : [Voix du silence]، والدعابة فوق ذلك. ألم يدرج في مدفنه الخاص بالعظماء، أسماء  أمثال : جوليان غراك، جون بيز،  وكذا كورتومالتيس ؟ فالإنسان : ((يعتبر، الحيوان الثديي الوحيد، الذي يدرك أنه سيموت)) هو بعيد، عن التخلص من اندفاعه نحو ولع، يوشك على تحويل فرنسا إلى : ((متحف هائل للقديم )) أفزع معه، مارك بلوخ سنة 1940.

 

1) س ـ ريجيس دوبري، أنتم فيلسوف وكاتب. لكن، لماذا هذا القدر من الصور في كتابكم ؟ ألا تكفيكم الكلمات ؟

ج ـ لا، لقد كنت محتاجا إلى أن أرى وأنقل ذلك إلى القارئ، والقطع تحديدا، مع الإكليشيهات. نتيجة تكاسل فكري، نكتفي باستيعاب المقدس عبر الديني والصوفي أو ما فوق الطبيعي. أقصد، تنقية المقدس من زخارفه الباطنية والتعزيمية. بتسليط الضوء على قصور العدالة، والمقابر الكبيرة، وهذا النصب التذكاري أو ذاك، والملاعب، أتوخى الكشف عن ما نفضل إخفاءه، سواء أن نتسامى به في إطار حالات وعي، أو بجعله فولكلور يرتد إلى الماضي. المقدس، بعد غامض ومكبوت بين طيات حداثتنا، لا نلامسه إلا سلبيا  من خلال الحواشي، عبر الانتهاكات والشتائم وكذا الفضائح. لهذا، اقترح متابعة معاصرة لليومي. فكتابي، دعوة لرفع الغطاء : يشمل المقدس، الحجر والأصوات والآثار والأغاني.

 

2) س ـ ما هو، مبرر هذا الإخفاء ؟

ج ـ يشبه، المقدس قليلا، وأعتذر عن التعبير، ميزان حرارة في مؤخرة المجتمع، ونكره أخذ قياس حرارته. لا نريد تلمس، ما يوحيه لنا هذا الشعور غير القابل للانحباس. ننزعج أيضا، فالحقل يتضمن تنظيما وموانع وعواقب. تناولوا حيثيات جثة ومقبرة، أرستا حيزا للمقدس : القانون الجنائي، يتدخل في الأمر. هكذا، فكما يسمح  بنقل الأعضاء، يرفض أن نصنع من جسد ما، أي شيء. والحال  أنه، حتى لو احترمت كل ثقافة خطوطها الحمراء، دون التصريح بذلك، تتوخى حقبتنا حظر المحظورات. فأولى طابوهاتنا، مفهوم الطابو نفسه.

 

3) س ـ في كل الأحوال، أنتم لا تخفون شيئا. فالمقدس يمثل منذ سنوات عديدة، أحد موضوعات اهتماماتكم ! هل تتحسرون لاختفائه أو دفعه ما دام  بحسبكم، المقدس أساس الجماعة. لكنكم، ألم تضيعوا رؤية حسنات، زوال صفة القداسة ؟

ج ـ بالتأكيد لا. فلا أشعر، أني علماني أكثر من ذي قبل. لكن، محكاة ل فاليري Valéry، هناك معطيان، يهددان مجتمعا من المجتمعات : المقدس والمدنس. إذا اتصف كل شيء بالقداسة، سنصير متجمدين. حينما يحدث العكس، وينتفي كل تقديس، تكتسحنا الميوعة. يكمن، السر إذن، في تقدير الجرعة. سابقا، أدركت الجمهورية، كيفية القيام بذلك. غير، أنه حاليا، اختل لديها هذا الأمر. لكل جماعة،  مقدساتها الخاصة : لا نتقاسمها معها أبدا.

 

4) س ـ الإشكال، أن المقدس العلماني، لا يمثل وزنا أمام المقدس الديني ؟

ج ـ إن اختفاء الأول، يشكل في كل مكان قضية للثاني. عمليا، مدفن العظماء لم يعد له نفس الوقع، بينما تعيش المساجد والأديرة، وضعية جيدة. الطوائف، أيضا. تأملوا أيضا، مكر التاريخ : موازاة، لآخر أيام الأنظمة الماركسية اللينينية، ازداد زخم المقدس. فترة أولى أسفاري إلى الاتحاد السوفياتي، فُزعت وأنا أشاهد، ضريحا للينين وأيقونات  القيادة العليا للحزب الشيوعي. هل زرتم ضريح ماو ؟. إن المقدس تغص به مجتمعات، أللا-إله.

 

5) س ـ ربما، لكن في مجتمعنا، تضاءل الطابع العلماني للمقدس. فمن بقدرته اليوم، الادعاء أنه مستعد للموت في سبيل الوطن . من هو، رئيس الدولة الذي بوسعه بحث  حماسة كهذه؟ يكفي  تصفح كتابكم : ففي غضون نصف قرن، انتقلنا من دوغول إلى زيدان ؟

ج ـ نعم، أصبتم. المقدس، متغير. ينمو، ينحدر ويتحول دون توقف. المؤكد، أن جميع المجتمعات تفرز فضاءاتها المقدسة، سواء  القصر الإمبراطوري المتواجد في قلب العاصمة الصينية بكين أو ضريح مصطفى كمال بأنقرة، وأيضا النصب التذكاري لضحايا 11 شتنبر. أوروبا، التي تخلصت من المسيحية وصارت دنيوية،  عرفت خلال القرن العشرين “معَاوِل المقدس”، شكلتها الديانات الدنيوية كالفاشية والشيوعية. حاليا، سيخلي هذا المقدس  السوسيوسياسي، مكانه لديانة ذات طبيعة قبل ـ مسيحية، تجعل من الطبيعة كائنا حيا. هذا  سيؤثر في الكنيسة الكاثوليكية التي  سترفض الاعتراف بوسائل منع الحمل وكذا التقنيات الطبيعية باسم نظام طبيعي مقدس ومتعال.

 

6) س ـ لماذا،  يستحيل الاستدلال بمقدس كوني ؟

ج ـ سأجيبكم، من خلال نموذج الهلال الأحمر : لقد أراد مؤسسه « Henry Dunant » بالضبط، أن هذا الشعار يرمز إلى مقدس للمعاناة، يحترم في كل مكان بالرغم من تنوع الاعتقادات والبواعث. لكن، هذا الصليب الأحمر، فوق  حيز أبيض، يستحضر كثيرا صليبا آخر: سيبتكر المسلمون الهلال الأحمر. واليهود،  نجمة داوود الحمراء …باختصار، استحوذ عليه، تصادم المقدسات. هنا، يعني  ربما، أن تقديس الطبيعة، عبر الهم الإيكولوجي، يمنح أكبر قاسم مشترك لمختلف شعوب الأرض، أي، ما أسميه بمقدس الربيع، الذي عنده تنتهي رحلتي.

 

7) س ـ جيد، لا أقاطعكم : ما هو المقدس ؟

ج ـ المقدس، هو ما يفرض القداس ويحظر التدنيس. بمعاني أخرى، ما يضفي عليه قداسة لا يوجد في ذاته. إنه ليس مطلقا لا زمانيا، وتكتفنه أسرار تضمنا وتحتوينا، بل رابطة بعينها، مؤرخة ومنحصرة بين جماعة وأشياء، فضاءات وأشخاص. كما لو من أجل تجاوز العابر والهروب من الموت، نحتاج إلى أشياء تتجاوزنا وتسبقنا وتتعقبنا. رافد أساسي، يبقي على تماسك هيئات منظمة ومجتمعات ومجموعات. المقدس، قدر مضاد يعترض سبيلنا. بل في الواقع، وبشكل مفارق، قدرنا المتعذر تجاوزه.

 

8) س ـ  حين تلاحقون المقدس في كل مكان، ألا تجازفون بالإسراع نحو انكماشه ؟

ج ـ بالعكس، أدلي بثوابت فعلية، ومختبرة على أرض الواقع. ومفهوم سُلّم القداسة، يخول تجاوز التعارض الأكاديمي بين المقدس والمدنس. تنطوي أساطيرنا المقدسة، على الزائد والناقص، جيد. لا حظوا، أن مؤشرات مثبت الحرارة،  ترتفع ثانية، فترة الأزمة وكذا الحرب : لقد أجبر، حادث فوكوشيما، إمبراطور اليابان على الظهور في شاشة التلفزة. هناك مقدسات قوية، وأخرى ضعيفة فترة أوقات الطمأنينة، كما حدث قديما مع الآلهة وأنصاف الآلهة أو مجرد أبطال. فليس  أبدا، كل شيء أو لا شيء.

 

9) س ـ لكن، يبدو لي حقا، أن المقدس الضعيف هو ضعيف جدا :  ألا يشكل ربما أفق الليبرالية، إسمنتا كافيا لمجتمعاتنا ؟

ج ـ لا. إنها تبدد وتقسم المقدسات. لنأخذ القواعد التذكارية : هل، تعتبر  شيئا آخر، غير قواعد حول الشتم، حتى وإن انعدم كليا التصريح بهذه الكلمة ؟  على امتداد العالم، تضاعفت نزاعات المقدس، وتعددت جراء تشظي طائفي. في إسرائيل، اليهود الأرثودوكسيون المتطرفون، الذين تظاهروا بلباس نوم مزركش، ونجوم صفراء، انتهكوا المقدس الإسرائيلي للمحرقة، باسم مقدسهم الديني. وداخل تركيا، نشاهد تصاما بين مقدس مرتبط بالوطن والدولة يجسده أتاتورك، مقابل مقدس إسلامي وعثماني. ويمكن مواصلة اللائحة، بشكل لا نهائي.

 

10) س ـ إجمالا، لكل واحد مقدسه. في خضم هذه الشروط، ألا يعمل المقدس على التقسيم أكثر مما يوحد، لاسيما في فرنسا ؟

ج ـ صحيح بالضبط. لكن، صحيح أنه لا يمكننا التوحد دون الانقسام. لقد عرفت فرنسا خلال فترة طويلة، نزاعا داخليا للمقدس. من جهة، الفتاة البكر للكنيسة، المجتمعة حول قلب يسوع، ومن جهة ثانية، الفتاة البكر للأنوار التي تحمل بقايا إميل زولا إلى مدفن العظماء.  بالتأكيد، تمثل قضية القائد “ألفريد دريفوس”، نقطة التغيير المفاجئة، لكن حرب 1914 صنعت الشيء الكثير من أجل التوفيق بينهما، حيث مقدس كاثوـ لائكي، يتأرجح خلال الوقت ذاته بين المدرسة والأستاذ في منبره، ثم الوطن بفضل تضحية الجندي. حاليا، كل هذا يتداعى. والرابطة الوطنية، في طريقها إلى الاختفاء، بالتالي، لا تبرز مهمة سياسية مستعجلة، أكثر من موضعة محاور القداسة التي لازالت قادرة على أن تضم في اتحاد فيدرالي، مختلف “كل واحد في ذاته”. إذا، لازالت السياسة حتى اللحظة، اشتغالا جديا، فالسؤال الذي يطرح على المرشحين للانتخابات الرئاسية، كالتالي : لماذا أنتم  مستعدون للتضحية بحياتكم ؟ ما الذي يقض مضجعكم ؟ حتما، المجال الأوروبي المتعدد الاختصاصات في وظائف التواصل، يهيء لكل منهم جوابا، يرسم  أرضية مشتركة، لكننا نميز  بسرعة  الزائف من الأصيل.

 

11) س ـ كيف تعلقون على تجمع العظماء، كما تجلى في كتابكم ؟. نكتشف، من بينهم : كورتومالتيز، سيمون سينيوري، أورسن ويلز، غيفارا، وفيديل كاسترو، لكن إلى جانبهم أيضا، صورة تستحضر لنا أولى الإجازات المؤدى عنها ؟

لقد كرست، بكل وضوح، هذا الصرح الصغير والحميمي إلى إثني عشر صورة (الوحيدان المتبقيان على قيد الحياة، هما : جون بيز وفيدل كاسترو). لم يتم الأمر بناء على نزوع نحو الاستعرائية، لكن من أجل تحريض كل شخص  كي يؤلف، متحفه الشخصي المنتقى. فبغير، الوالدين والأبناء، ما الذي يدفعك نحو البؤرة ؟ تمرين، ليس مجانيا. إذا أستقطناه على الأوطان، فإننا نخطو خطوة حاسمة نحو تفاهم مشترك وتجنب الالتباسات. المقدس الألماني، ليس بالمقدس الفرنسي أو الإيطالي. ماذا تنتظر اللجنة الأوروبية، كي تطرح مع كل أعضائها في الاتحاد، عن الذي تعتبره مقدسا ! أريد القول : غير قابل للتفاوض ؟ قد يبدو، السعي ساذجا يمس آثارا حية. لكن، لا يقوم شيء عظيم، بدون سذاجة.

 

12) س ـ لديكم، حنين إلى زمان الأفكار الخالدة. لكن، هل نسيتم، أنه سحق وحطم وأحرق ملايين الكائنات البشرية.

ج ـ مؤسف، لكن الأمر هكذا، فالمقدس يصنع السعادة للجماعات على حساب شقاء الأفراد. القضية، أن الأشخاص، يحتاجون لإطار جماعي، وعلينا تدبر أمر الحتمي كي نتجنب الأسوأ. لأنه، إذا واصل الجمهوريون، تنصيب الحواجز أمام مبادئنا المشتركة، فالأقبح هو الآتي.

 

 


  [1] ـ عن مجلة “لوبوان”، العدد 2052. ص 46-50.