مجلة حكمة
جمود الفلسفة التقدم

جمود الفلسفة: يبدو بأن جل ما قام به الفلاسفة هو التساؤل والجدال. لماذا تقاوم القضايا الفلسفية الحل؟ – كريس دالي / ترجمة: عبير الوليعي

هل توقف نمو الفلسفة؟

جمود الفلسفة: يظهر بأن الفلسفة قد انتهت إلى طريق مسدود، تلحق بتاريخها الغربي ذي الألفين وخمسمائة عام قائمة طويلة من القضايا المستعصية، من تساؤلات حول ماهية الموجود، وماذا نعرف عنه، وهل نملك إرادة حرة مثلاً؟ وهل العالم الخارجي موجود؟ وهل الله موجود؟ وهلم جرا. هناك أيضًا تساؤلات حول التحليل والتعريف، مثلًا: ما الذي يجعل من الجملة صحيحة؟ وما الذي يجعل الفعل نزيهًا؟ ما هي السببية؟ وما هو الجوهر؟ ما هذا إلا غيضٌ من فيض ما أثاره الفلاسفة من تساؤلات حول أي فكرة مجردة.

بالرغم من مضي قرون على طرح هذا الكم الهائل من الأسئلة والبحث فيها ومحاولات الفلاسفة الطويلة المضنية للإجابة عليها؛ لم ينتج عن محاولاتهم إجابات شافية، وسرعان ما رأى بعضهم الثغرات في إجاباتهم وكشفوا عيوبها أو الغموض فيها، ثم ترقَّع هذه الثغرات وتطرح للمناقشة مرة أخرى إلا أن ثغرات جديدة تستمر في الظهور، أو تتمزق الرقاع وتظهر الثغرات ذاتها. تبدو الفلسفة وكأنها سلسلة لا متناهية من الجدل، وتساؤلاتها مشكلات مستعصية الحل.

محاضرة عن أسباب توقف التقدم الفلسفي وجمود الفلسفة

نطرح هنا مسألة مولينو إحدى روائع القرن الثامن عشر، إكرامًا لصاحبها العالم والسياسي الإيرلندي ويليام مولينو (1656-98) الذي طرح سؤالًا حيَّر الفلاسفة إلى يومنا هذا، تخيل بأن أعمى بالولادة تمكن من التَّعرُّف على مكعب وكرة والتفريق بينهما باللمس، ثم منَّ عليه بالبصر؛ هل سيستطيع التعرف على المكعب والكرة عند رؤيتهما فقط؟ تخيل أنه يقف على بعد مسافة منهما هل سيستطيع التفريق بينهما؟

تقترن بها التجربة الفكرية المُسمَّاة الآن بحجة المعرفة؛ بقراءة الكتب المناسبة تستطيع أن تتعلم كل ما يتعلق بكيمياء الأمونيا، وبقراءة المزيد من الكتب ستتعلم كل ما يتعلق بعمل نظام حاسة الشم لدى البشر وتفاعله مع جزيئات الأمونيا على وجه الخصوص، والتغيرات المُحدَّدة التي تطرأ على الغشاء المخاطي والأعصاب الشَّمَّيَّة. مع هذه المعرفة النظرية هل تستطيع الإحاطة بكل ما يمكن معرفته حول رائحة الأمونيا؟ هل هناك ما لا يمكن إدراكه حول تلك الرائحة الحادة واللاذعة للأمونيا بالقراءة فقط بمعزل عن التجربة؟

ينشأ عن هذه التجارب الفكرية جدلًا واسعًا ومستمرًا، لا يتطلب الأمر الانحياز إلى أحد الرأيين فقط، فيمكن تقديم حجج متينة ومدعومة لكل منهما بالرغم من تناقضهما. وفق التجربة الفكرية الثانية؛ يظهر بأن رائحة الأمونيا الحقيقية من الأمور التي لا يمكن معرفتها بقراءة الكتب فقط، فهل يوجد حقائق حول التجربة الإنسانية لم يحط بها العلم؟ وما الذي تقوله المراجع العلمية حول هذا؟ هل بقي منا (من الإنسان) مالم يصفه العلم؟ إذا كان الأمر كذلك فالبشر ليسوا أنظمة ماديَّة مجردة؛ إنما هم الاستثناء مما تخبرنا به العلوم الطبيعية عن العالم.

هل تجلِّي التجربة الفكرية الطبيعة الإنسانية أم أنها انحرفت عن قصدها؟ هذا مما لم تفتِ هيئة المحلفين فيه بعد، كما هو الحال مع جميع القضايا الفلسفية. تبدي الفلسفة إبداعًا متزايدًا لا ينشأ عنه اتفاق، وبالطبع التقدم لا يقتضي الاتفاق، فقد حلَّ بعض الفلاسفة بعض القضايا التي لم يعترف بها على جميع المستويات، لكن وجود الاتفاق من عدمه في أحد المجالات يشير إلى مدى التقدم المحرز فيه.

إن التفاوت بين العلم -الذي بدأ بعد الفلسفة- والفلسفة صادمًا، لا يستطيع الفلاسفة الاتفاق حول ما قدموه سوى الجدال القاسي والنقاش العقيم، بينما قطعت العلوم الطبيعية شوطًا طويلاً على صعيدي التقدم والاتفاق. إن الكثير من القضايا العلمية تخضع إلى التجربة واختبار الفرضيات، أما الفلسفة فما تزال متذبذبة.

يثير هذا التفاوت بين العلم والفلسفة ردين بديهيين يشككان بالتصور المسلَّم به لبناء العلم للمعرفة حجرًا بحجر، أكّد كارل بوبر في كتابه (منطق البحث العلمي 1959) بأن العلم عرضةً للدحض والتخطئة من خلال التجربة والمشاهدة، وأضاف بأن هذا يعني أن الفرضيات العلمية المطروحة خاطئة – دحضتها التجربة- ولا يعني بأن أي من الفرضيات العلمية صحيحة أو حتى يُحتمل أن تكون صحيحة. بإمكاننا أن نطبق ما قاله بوبر على الفلسفة والتي تتبع ذات النهج من طرح تخمينات جريئة غير مثبتة يمكن دحضها بالدليل. 

إن النتيجة التي تتضمنها فكرة بوبر” دور المشاهدة يقتصر على النفي والتخطئة في العلم” هي انعدام وجود دليل مثبت ومشاهد على أي فرضية علمية، ولا يخفى على الناظر وقوعها في موضع ريبة. لنضع جانبًا صحة وصفه للمنهج العلمي من عدمها ولنتجه إلى تطبيق فكرته على الفلسفة، غالبًا الفرضيات الفلسفية لا تتوقع ما نشاهده، وبالتالي لا يمكن دحضها باكتشاف الخطأ في توقعها لمشاهداتنا. عندما عرض جورج بيركلي مبدأ المثالية عام 1710، الذي يقول بأن العناصر المادية ماهي إلا مجموعة من الأفكار في عقولنا أو في عقل الرب، لم يكن يطلق أي توقعات حول ما نشاهده؛ إنما هي توقعات تناقض فرضيات فلسفية أخرى منافسة لها، وفقًا لبركلي فإن كل ما نشاهده هو مجرد أفكار في عقولنا، شاهد ما تشاء كما تشاء فلن تثبت بطلان ما قاله بركلي. إذا أردنا أن نطبق فكرة بركلي حول المنهج العلمي على الفلسفة فما هو نظير المشاهدة فيها، وهنا يظهر الإشكال.

تطرح الفكرة الفلسفية الجديرة بالاهتمام عامةً ادعاءات مبهمة، لا جدوى من طرحها إن لم تكن كذلك، وبضاعة الفيلسوف الرائجة هي الحجاج؛ فقد وقع على عاتقه الحجاج بشأن هذه الادعاءات، ولابد للحجة من مقدمات نصل بها إلى النتيجة، تعطي المقدمات سببًا لتصديق النتيجة، مما يثير السؤالين التاليين: من أين تأتِ مقدمات الحجة الفلسفية؟ وما الذي يجعلها مقبولة؟

جمود الفلسفة: بديهيّات الفلاسفة ماهي إلا نظائر رديئة لمشاهدات العلماء

إحدى إجابات السؤال الأول- الإجابة التي تروق العديد من الفلاسفة- هي القول بأن مقدمات حجتهم مبنية على “البديهيَّة” التي أيقظها التفكير بهذه القضية الفلسفيَّة. قد تدرك بديهيًا بعد سماعك بقضيَّة مولينو بأن الأكمه لم يستطع التمييز بين الأشكال، وقد تدرك لا منطقيَّة ممارسة البشر للرذائل بديهيًا أيضًا. هؤلاء الفلاسفة المعاندين لديهم الكثير من البديهيَّات، أحد الإشكالات هنا هو اشتراك بعضهم في بديهيَّات متناقضة؛ إذ لا يمكن لجميع بديهياتهم ان تكون صحيحة، وحتى لو اتفق جمع غفير من الفلاسفة على صحة بديهيات معيَّنة فإنها لا تتفق مع بديهيات غير الفلاسفة في ثقافات أخرى غير غربية، وهذا إشكال آخر. وأخيرًا ما الجدوى من اتفاقنا على البديهيات التي لا نعرف مصدرها؟ لو كنا نعرف مصدرها لعرفنا على ماذا نبني بديهياتنا؛ لكننا لا نعرف، قد نكون جميعنا على خطأ. بديهيات الفلاسفة ما هي إلا  نظائر رديئة لمشاهدات العلماء.

ذكرت الرد الأول بشأن التفاوت المجحف بين العلم والفلسفة، أما الرد الثاني فيستند على أعمال الفيلسوف توماس كون حول العلم، يرفض توماس في كتابه “بنية الثورات العلمية 1962” الفكرة الشائعة بأن للعلم تاريخ حافل بالتقدم المتسمر، إذ يكمل العلماء بلا توقف ما بدأه من قبلهم من بناء تراكمي للحقائق العلمية جيلاً بعد جيل. أشار كون إلى سذاجة هذه الفكرة لما فيها من تصديق لسجلات تاريخية كتبت لخدمة مصالح ذاتية كتبها الناجحون، هؤلاء الناجحون هم بذاتهم مروجي هذه البرامج البحثية من العلماء.

يدافع كون عن فكرته من خلال تتبع السرد التاريخي؛ إذ لا يوجد ترابط في الأفكار بين البرامج البحثية والثورات العلمية، ويزعم بأنه لا يوجد خلفية مشتركة للأفكار، لا بين أرسطو وغاليلي، ولا بين إسحاق نيوتن و ألبرت اينشتاين، إذ تتحدث جميع الأطراف في آن واحد ولا يستمع أحد. فحين يحدث تقدمًا علميًا فإنه يحدث خلال هيمنة برنامج بحثي معين، يستحدث البرنامج ثم يهيمن على مجاله لفترة من الزمن ثم يطوى.

إن أفكار كون مربكة ومثيرة للجدل، كان الأوْلى الرد ردًا مقتضبًا بشأن التفاوت بين العلم والفلسفة. تغير الكثير في الفهم العلمي للأشياء خلال العقود الماضية، فالأبحاث في أكثر الفرضيات العلمية ظنية في أوج تقدمها الآن، وسيتغير الكثير في المستقبل بلا شك. ولكن الكثير أيضًا في الفهم العلمي للأشياء لم يتغير، حلَّت الكثير من المشكلات العلمية حلولًا ما يزال المجتمع العلمي واثقًا منها، إذ لا يوجد ما يدعو إلى النظر فيها أو العدول عنها. ومن الشواهد عليها القوانين التجريبية الموثوقة كقوانين التربيع العكسي التي تتحكم بالضوء والصوت، وقوانين كولوم للتفاعل المغناطيسي والكهربائي، وقوانين اوم وامبير وفاراداي، جميعها قوانين مثبتة ورصينة، هل يمكننا وصف أي أمر من أمور الفلسفة بذلك؟ لا، حتى قوانين المنطق قابلة للنقاش.

بعد بيان الوضع الراهن للفلسفة سننتقل الآن إلى التحليل، أين الخلل؟ لماذا تقاوم المشكلات الفلسفية الحل؟ سأطرح خمس إجابات، الأخيرة منها هي إجابتي.

تتحدى الإجابة الأولى المتشائمين، إذ تحمل أخبارًا سارَّة بقولها بأن بعض المشكلات الفلسفية قد حُلَّت، يزعم نعوم تشومسكي مثلاً بأن معضلة العقل والجسد [1] قد حُلَّت منذ قرون، عندما طرح رينيه ديكارت هذه المعضلة اعتبر الجسد مادة موجودة في نطاق مكاني، تتأثر الأجساد وتؤثر بالأشياء من حولها بالتلامس فقط، على النقيض من العقل فهو مادة مُدرَكة وعيًا غير محصورة في نطاق معين، وبما أن الأجساد لا تتلامس مع العقول بالمعنى الحرفي فهي لا تستطيع التفاعل معها، وهنا تظهر المشكلة: كيف تتفاعل الأجساد مع العقول؟ ولكن نيوتن جعل الأشياء تؤثر ببعضها بلا تلامس عندما اكتشف الجاذبية. وهذه المعضلة باطلة إذ لا يوجد من يترافع لصالح أحد طرفي المعضلة؛ فلا وجود لما يسمى بالجسد “المادة”.[2]

لو افترضنا صحة ما قاله تشومسكي؛ فهو ليس حلًا للمشكلة وحسب، بل حلاً مبنيًا على العلم أيضًا، لكنني لم أقتنع به بعد، أظهر نيوتن –برأيي- خللًا في فهم ديكارت لماهية الجسد، فقد كانت نظريته بشأن الجسد باطلة، فلا وجود للجسد كما تصوره ديكارت، ولكن لا يعني هذا القول بأنه لا وجود للجسد أصلاً. يوجد نظريات باطلة بشأن البشر والنجوم، ولا يعني هذا بأنه لا وجود للبشر أو النجوم، بل لا وجود للبشر والنجوم كما وصفتها هذه النظريات. فالجسد والمادة موجودان تمثلهما  الكواكب ورؤوسنا أيضًا. وتبقى معضلة ديكارت قائمة؛ كيف ترتبط العقول بخصائصها المذهلة بالأجساد بالرغم من الاختلاف الشاسع في خصائصهما. يتضح من استمرار هذه المعضلة مدى صعوبة العثور على مشكلة فلسفية قد حلَّت.

التحليل الثاني وهو أقرب للرفض؛ القول بأن المشكلات الفلسفية ليست مشكلات حقيقية، وإن فشل الفلسفة في حل مشكلاتها يفضح زيفها وتفاهتها، إذ يفتعل الفلاسفة مشكلات مختلقة وألاعيب لغوية يستمرون في ركلها فيما بينهم.

هذا التحليل السطحي هو التافه برأيي، أولاً: لم يوضح سبب مقاومة المشكلات الفلسفية للحل، إذا كانت هذه المشكلات ضربًا من العبث اللغوي – ألغازًا تتضمن توريات وتشبيهات- فلماذا تستغرق وقتًا وتستنزف جهدًا لحلها والفراغ منها؟ كان لابد من حلها بسهولة حل لعبة الكلمات المتقطعة صباحًا، في الواقع هي ليست كذلك أبدًا، إنها تقاوم الإجابات السهلة المبتذلة. وثانيًا: يظهر بأن هذا التحليل التعسفي والبدائي واللامنطقي معاندًا للقضايا الفلسفية التي تناقش ما يهمنا، قضايا بشأن حياتنا كيف نعيشها، وكيف نعيش مع الآخرين، وقضايا حول الأخلاق والسياسة.

 لا يوجد قضية يترتب عليها نتائج حتمية كنتائج قضية “كيف نعيش حياتنا”

إن القواعد الأخلاقية –وأشياء أخرى- تمسك بزمام حياتنا، قواعد تصف المحظورات (الأشياء الخاطئة أخلاقيًا)، والمباحات (الأشياء الجائزة أخلاقيًا). ولكن ماهي القاعدة الأخلاقية؟ ما هو مصدر الأخلاق؟ هل هو مشاعرنا أم عقولنا أم شيء آخر؟ وأسئلة أخرى مثل: لماذا على أحدهم الالتزام بالأخلاق؟ ما الذي يجنيه منها؟ اعتنى أفلاطون بهذه الأسئلة عنايةً خاصة، يرى أفلاطون بأن المخطئ يرتكب خطأً معرفيًا حين يشرع في الخطأ قبل التفكير به مليًا، ويزعم بأن المعرفة الحقة بخيرية الأخلاق تلزمنا باجتناب الأخطاء، إذ معرفة الخير تقتضي حُبه.

يختلف معه هنا عدد من الفلاسفة؛ إذ لم يربطوا الأخلاق بالعقل، من بينهم ديفيد هيوم الذي زعم بأن المشاعر هي المسؤولة عن ضبط حياتنا وليس العقل، فقد قال في كتابه (رسالة في الطبيعة البشرية 1739) بأسلوب استفزازي بأنه لا يوجد ما ينافي العقل في الاهتمام بحك أصبعك أكثر من الاهتمام بمصير البشرية. نستقي من هذا الخلاف بين أفلاطون و هيوم بأن هذه المشكلات ليست كالعبث اللغوي الذي لا يترتب عليه نتائج، بل لا يوجد قضية يترتب عليها نتائج حتمية كنتائج قضية “كيف نعيش حياتنا”.  إن وصف قضية كهذه بالعبث اللغوي ما هو إلا مراوغة للتملص من حل مشكلة فكرية صعبة، وليست مشكلة واحدة؛ فلدينا العديد من المشكلات التي تثير مشكلات أخرى ملحَّة أخلاقيًا؛ كالجدل حول واقعية المسؤولية الأخلاقية، أو منطقية العقوبة، أو الوضع الأخلاقي للحيوانات.

التحليل الثالث هو الزعم بأن القضايا الفلسفية أصعب بكثير من القضايا العلمية؛ لهذا السبب لم يتمكن أحد من حلها حتى الآن. يقدم هذا التحليل توضيحًا سخيفًا لبقاء المشكلات الفلسفية بلا حلول. لم أهتدِ إلى مقياس دقيق لقياس مدى صعوبة المشكلة الفلسفية مقارنة بالمشكلات العلمية سوى تناسب صعوبتها طرديًا مع مقاومتها للحل.

يكمل التحليل الرابع ما بدأه الثالث، وهو القول بأن المشكلات الفلسفية مشكلات حقيقية، لكننا نستهين بها بوصفها صعبة. نحن لسنا أهلًا لإدراكها؛ إن عقولنا مهيَّأة لاكتساب مهارات محددة مثل تعلم اللغات، أو تقدير المسافة التي تقطعها كرة التنس على حساب مهارات أخرى والتي من بينها حل المشكلات الفلسفية. نحن لسنا مؤهلين لحلها.

إن هذا القول مثير للاهتمام، فما يعجز البشر عن إدراكه هو قضية تجريبية غير محسومة بحد ذاتها، ومن الطرافة الزعم بأننا نعجز عن حل المشكلات الفلسفية بينما بوسعنا فهمها ووضع فرضيات بشأنها ونقد أو تعديل هذه الفرضيات، إن هذا لهو انفصام عجيب.

التحليل الخامس والذي يفسر الكثير بنظري، لا يشير فقط إلى سبب واحد لعدم إحراز الفلسفة لأي تقدم، بل يزعم بأنه اجتماع عدة عوامل وتفاعلها. كما هو الحال في مسألة البديهيات، فلا تتناقض فرضيات الفلاسفة فقط، بل حتى وسائلهم في جمع البيانات لدعم فرضياتهم أو البيانات ذاتها متناقضة أيضًا. بالإضافة إلى الطبيعة المعقدة للمشكلات الفلسفية؛ فاقتراح حل لمشكلة فلسفية واحدة يستلزم استحداث افتراضات حول مشكلات أخرى محل نزاع. لدينا مشكلة ماهية الأخلاق مثلًا، وما الذي تجنيه الأفعال أو البشر من كونهم أخيار أو أشرار، لا يمكن اجتزاء هذه المشكلة، فعند مناقشة طبيعة الأخلاق لابد أن تقترن بها مشكلة قبول رؤى أخلاقية معينة فضلاً عن غيرها، ومشكلة لماذا نهتم بالأخلاق أيضًا. فلدينا مجموعة مشكلات هنا: تعريف المشكلة (ماهي الأخلاق؟)، مشكلة معرفية (كيف نميِّز ما هو أخلاقي عن غيره؟)، مشكلة الدوافع (لماذا الأخلاق مهمة؟). حل هذه المشكلات سيستحدث افتراضات حول الواقع وحول عقولنا والتي تثير بدورها مشكلات أخرى فتتشعب القضايا.

إذا كان هذا التحليل هو فعلًا ما يعرقل الفلسفة؛ فما هو العلاج؟ كيف نُمارس الفلسفة ممارسة أفضل؟ علينا بذل المزيد من الجهد بلا شك، لكن الجهد لا يخبرنا أي الوسائل نعتمد وأيها نستبعد. قد يساعدنا التقدم في الذكاء الاصطناعي، إن التوقعات صعبة كما يقال خاصة إذا كانت حول المستقبل، فما نحتاجه هو برمجيات تستحدث أنماطًا استدلالية، ولكن صعوبة صياغة هذه الأنماط تُعسِّر برمجتها، بالإضافة إلى أنه لابد لمعايير الاستدلال أن تُحدد ترجيحاتها وفق طرائق متنوعة مما يُحمِّل المُبرمجين من البشر نوعًا من المسؤولية المعرفية. وفي ذات السياق؛ زاد توظيف الأساليب الشكلية[3] من تحرِّي الدقة والانضباط في الفلسفة. فنظرية الألعاب ونظرية القرار[4] مثلًا قد ساهمتا في شحذ التفكير في مجالات فلسفة الأخلاق التي تُعنى بالمنطقية والتعاقدية.

لا تساهم المدخلات في العلوم في تسوية المشكلات الفلسفية ولكنها مصدرًا هامًا لاستقاء الدروس منه، فقد ساهمت بعض البحوث النفسية التجريبية (منها ما يتعلق بعمليات إزالة المياه البيضاء من العين مثلًا) في الإجابة على مشكلة مولينو. وطريقة العلماء في العمل التعاوني بين فريق من المتخصصين قد تفيد الفلاسفة أيضًا، ولكن قد تثير المعارضات الفردية المستمرة نزاعات داخلية مألوفة.

لدينا الآن ما نضيفه إلى قائمة المشكلات الفلسفية: لماذا الفلسفة صعبة وكيف نخرج بنتائج موثوقة فيها؟ التفكير بهذا السؤال يجعلنا مترددين وحذرين في اتخاذ مواقفنا الفلسفية. وأضيف مترددًا بأن هذا الأسلوب ليس بالأسلوب السيء لاتخاذ أي موقف.


 

[1] وتسمى أيضًا ثنائية العقل والجسد.(المترجمة)

[2] يزعم تشومسكي بأنه لا يوجد مفهوم محدد للجسد فطرح المعضلة لا يستقيم من أساسه؛ ولم ينفِ وجود الجسد أو المادة تمامًا. (المترجمة)

[3]  الأساليب الشكلية: هي نوع خاص من أنواع التقنيات القائمة على الحاسب. (المترجمة) 

[4] نظرية القرار: هي القول بان قرارات الأفراد لا تؤثر ولا تتأثر بقرارات أفراد آخرين. نظرية الألعاب: هي القول بأن قرارات الأفراد تؤثر وتتأثر بقرارات أفراد آخرين. (المترجمة)