مجلة حكمة
جاك لاكان اللاشعور

جاك لاكان – كاترين كليمان / ترجمة: محمد سبيلا

جاك لاكان
جاك لاكان ، طبيب ومحلل نفسي فرنسي

إن الوضعية الخاصة التي يحتلها جاك لاكان Lacan (المولود في 1901) في تاريخ حركة التحليل النفسي تتطلب عناية خاصة: فهو طبيب نفسي ذو تكوين طبي تقليدي، ومحلل نفسي ذو تكوين فرويدي، وقد أصبح حوالي 1960، أي في فترة إقصائه من الجمعيات الدولية للتحليل النفسي الرسمي، المحلل النفسي الذي تجاوز إشعاعه وتأثيره كثيرا مجال العلاج النفسي. فقد ثار بعنف ضد النتائج الإيديولوجية للتحليل النفسي على الطريقة الأمريكية برفع شعار “العودة إلى فرويد“. وقد مهد كل من هارتمان وأنا فرويد الطريق نظريا أمام تحول التحليل النفس إلى نوع من إعادة التربية الاجتماعية. وقد اتخذ جاك لاكان منذ البداية، في تعليمه الشفوي المستمر، موقفا انتروبولوجيا: إذ أكد على الدور الحاسم للممارسة اللغوية ولنظرية اللغة في التحليل النفسي، معيدا النظر في تراث فرويد على ضوء اللسانيات والاتنولوجيا، لكن أيضا مع متابعة نقد العلوم المسماة بالعلوم “الإنسانية” ونقد الخطاب المنتشر في المؤسسات الجامعية، وبذلك ملأ مكانا هاما وأساسيا في الميدان الثقافي: وقد استطاع جاك لاكان أن يعدل النظرية الفرويدية وأن يجعلها مقروءة من طرف من ليسوا اختصاصيين في التحليل النفسي، مساهما بذلك في نشر الفكر التحليلي. ومن حيث إنه كان الوحيد تقريبا الذي استطاع أن يفهم التأثير الايديولوجي لفرويد خارج مجال العلاج النفسي، فقد أنشأ، بعد مايو 1962، نظرية الخطابات بصفة عامة. يقسم جاك لاكان الخطابات إلى أربعة أنماط: خطاب السيد (Le disours du maître) وخطاب الهيستيري (Le discours de l’hysterique) وخطاب الجامعي (Le discours de l’Universitaire)، وأخير خطاب المحلل النفسي (Le discours du psychanalyste). الخطابان الأولان يشيران إلى علاقة السلطة (سلطة السيد) بالمعرفة (من حيث إن الهيستيري لا يمكن أن يشفى بواسطة المعرفة الطبية التقليدية، ” فهو الذات المنشطرة، أو بعبارة أخرى فهو اللاشعور في حالة عمل، وهو يحرج السيد ويجعله ينتج معرفة (savoir)”؛ إن الاكتشاف الذي قام به فرويد، عبر الاضطرابات الهيستيرية، يدعو إلى التشكيك الجذري في كل من المعرفة والسلطة. فالجامعي والمحلل النفسي هما، في تعاصرهما، في موقعين متعاكسين: أحدهما هو موطن معرفة، والآخر موطن عدم معرفة. الجامعي هو ذلك الذي ينقل الثقافة كمعرفة؛ والمحلل النفسي – من حيث أنه “يجهل ما يعرف” – فهو ذلك الذي لا ينقل شيئا، اللهم إلا ضبطا يمارس على كل ثقافة: مثل هذا الخطاب هو ذلك الذي يسميه خطابا ينتمي إلى الحقيقة، الخطاب الذي يتلكم بواسطة اللاشعور والذي يجعل من التحليل النفسي علما يحاول إرساء أسسه. يمكن أن نجعل منظومة جاك لاكان قائمة في العلاقة المتبادلة بين منطوقين خاصين به:

1 – اللاشعور هو خطاب الآخر،

2 – اللاشعور منتظم بنيويا على هيأة لغة.

الآخـر:

ليس المقصود بذلك شخصا آخر يكون لاشعوره هو الناطق باسمه. بل بالعكس فالآخرية (L’alterité) في المنظومة الجاك لاكانية تبدو متطرفة، أي خالية من أي قوام إلهي أو بشري.

الآخر هو المكان الغريب الذي ينبثق منه كل خطاب: مكان العائلة، مكان القانون، مكان الأب في النظرية الفرويدية، أو مكان التاريخ والمواقع الاجتماعية، المكان الذي ترجع إليه كل ذاتية؛ أن نقول إن اللاشعور هو خطاب الآخر معناه إعادة التأكيد بصورة حتمية على أن الخطاب “الحر” غير موجود، وذاك هو القانون الذي يحكم كل خطاب. والآخر أيضا موقع في بنية الذات: إذ مثلما أن الآخر ليس ذاتا، بل مكانا وموقعا، كذلك فإن الذات ليست نقطة بل هي نتاج بنية مركبة. و جاك لاكان ينشئ هذه البنية على حدث محدد بعينه يعترض الذات الفردية في مسارها وهو: مرحلة المرآة التي هي اكتشاف سريري قام به جاك لاكان والتي تقع في المراحل الأولى من الطفولة (بين ستة وثمانية عشر شهرا). وعن طريقها يأخذ الطفل في الإحساس بذاته كذات مستقلة ويكتسب فيها صورته عن ذاته بالتعرف عليها في المرآة. والطفل ما يزال في هذه المرحلة تابعا كليا لمن يعوله وغير قادر على الكلام وعلى التغذية؛ إن تعرف الطفل على صورته في المرآة تجعله ينتقل من عدم الاكتفاء إلى الاستباق: استباق ما سيكون جسمه البالغ، كجسم مستقل وواقع في شبكة اللغة.

إن الانتقال الذي يقع في هذه المرحلة انتقال أساسي: فهو يضمن للذات صورة كاملة عن نفسها ويضع الأنا كهيأة نفسية لكنه يضعها – بتعبير جاك لاكان – في “خط الوهم”. إن الأنا كوهم (fiction) ينتج عن التواجه القائم في المرآة بين الذات والمسافة التي تفصلها عن صورها؛ إن الوهم يأتي أيضا من بنية الذات التي تتأكد من ثمة بذاتها. إن الهيئات النفسية التي يضعها فرويد: الأنا الأعلى، والأنا والهو تجد نفسها داخلة في علاقة تجعل التشبيه المكاني المتضمن فيها يختفي. فالأنا الأعلى يصبح هو الرمزي Le symbolique، مجال النظام والقانون، ومكان الخطاب الأبوي (وبذلك ينخرط التحليل النفسي في الانتروبولوجيا: إذ أن الرمزي هو نظام الثقافة بالمعنى الاتنولوجي)؛ والأنا يصبح هو المتخيل (L’imaginaire)، مكان الوهم، والحقيقة، والتغير، والملاحق التجميلية للذات التي هي ملاحق متحركة وهشة. والهو ليس له مكان إلا مجازا فهو المكان الذي ليس له مكان وهو العلة الغائبة للبنية، ويطلق عليه جاك لاكان اسم الواقع (Le réel)؛ وإنتاجه يقع على مستوى موضوعات الرغبة. وموضوعات الرغبة، بالنسبة لفرويد، موضوعات متعددة، لكنها تابعة لعلاقة أساسية تحكم كل علاقة مع أي موضوع يدعوها جاك لاكان العلاقة بالموضوع؛ وبالنسبة لميلاني كلاين ينقسم الموضوع إلى موضوع “جيد” وموضوع “سيء”، وفق علاقة متحركة وغير مستقرة تتوقف عليها علاقة الذات بالعالم. ويذهب جاك لاكان بعيدا في إضفاء صبغة نسقية على الموضوع: فهو يطلق اسم “الموضوع أ الصغيرة” على الموضوع النوعي العام لكل موضوعات الرغبة: الجزئي والمنفصل، والمهمل؛ وهذا الموضوع هو الأثر والعلاقة الدالة على الغربة في قلب الذات، وهو علامة على قطيعة لا رجعية فيها: وهذا ما يجعل جاك لاكان يطبعه بشرطة مائلة في الكتابة $ وهي العلامة الدالة على الانشطار الذي أشار إليه فرويد.

مجلة الجابري – العدد السادس