مجلة حكمة
تلخيص الآثار العلوية ابن رشد

قراءة في كتاب: تلخيص الآثار العلوية لأبي الوليد ابن رشد – محمد مزور


صدر للأستاذ جمال الدين العلوي رحمه الله تحقيق لكتاب “تلخيص الآثار العلوية” لأبي الوليد بن رشد. والكتاب صادر عن دار الغرب الإسلامي، ط.I. 1994، ويحمل تقديما للأستاذ محمد المصباحي.

يتكون الكتاب من أربع مقالات، هي بمثابة أجواء للكتاب. وكما هو معلوم فقد ترك ابن رشد شرحين لهذا الكتاب: أحدهما “جوامع الآثار العلوية” طبعة حيدر آباد بالهند(*) ، وثانيهما “تلخيص الآثار العلوية” الموجود بين أيدينا اليوم. وكتاب “الآثار العلوية” يأتي في المرتبة الرابعة ضمن المنظومة الطبيعية الأرسطية، أي بعد “السماع الطبيعي” و”السماء والعالم” و”الكون والفساد”. وكما هو واضح من العنوان فالأمر يتعلق بالظواهر الفيزيائية التي تحدث في الغلاف الجوي، مثل الرياح والبرق والرعد والأمطار والثلوج والبرد وقوس قزح.. الخ. فعنوان الكتاب هو ترجمة عربية لكلمة Meteorologica أو Météorologiques الفرنسية، التي لا يزال كتاب أرسطو يحملها.

قبل تحقيق كتاب “التلخيص” لم نكن نملك سوى “الجوامع الصغار” كما يسميها ابن رشد. لأن “تلخيص الآثار العلوية” هو كتاب مفقود في أصله العربي، ويوجد فقط في نص عبري. ومن هنا إمكانية تصور مدى الجهد الذي قام به المحقق: فبالإضافة إلى نقل النص من الحرف العبري إلى الحرف العربي مع ما يستدعيه ذلك من مقابلة النسختين المعتمدتين في إخراج المخطوط، بذل الأستاذ جمال الدين العلوي مجهودا ثانيا هو مقابلة النص الرشدي بالترجمة العربية لكتاب أرسطو الذي حققه الباحث -الليتواني الأصل- كازيمير بترايتس Casimir Pétraitis. كما تمت المقابلة بين التلخيص والجوامع، مع إشارات إلى بعض الإشكالات المعرفية التي لم تجد تفسيرها بعد ضمن المسار الفكري لابن رشد. يضاف إلى هذا كله حالة المعاناة مع المرض، التي وسمت الجهد المضاعف بصبر نادر.

يمثل كتاب “تلخيص الآثار العلوية” إحدى المناسبات التي تفصح عن إعلان المشروع الرشدي، أي الانتصار الواضح للأرسطية. فالتلاخيص جاءت لفتح طريق إصلاح الفلسفة، بما يميز هذا الطريق من جدة عز مثلها في التقليد الفلسفي الإسلامي كما لاحظ الأستاذ جمال الدين ذلك في “المتن الرشدي”. فهذا النوع من التأليف الذي توصل إليه ابن رشد في التلاخيص ليس له نظير عند فلاسفة الإسلام سواء عند ابن باجة في الغرب أو عند ابن سينا في المشرق، إذا اقتصرنا على هذين النموذجين. نظرا لكون مؤلفات الفارابي الطبيعية لم تصل إلينا، ونظرا لكون مؤلفات ابن طفيل لم تسر في هذا الاتجاه.

إن أول انطباع يمكن أن يخرج به قارئ “التلخيص” هو الاختلاف الواضح بين النص الرشدي والنص الأرسطي، خاصة فيما يتعلق بترتيب فقرات المقالة الأولى. يقول الأستاذ جمال الدين العلوي عند هذا الاختلاف: “وهذا مما يدل على أن ابن رشد في تلخيصه هذا لا يتابع دائما ترتيب المباحث الوارد في النص الأرسطي. فترتيب أرسطو نجده هكذا: المجرة، ذوات الذوائب، عمود النار والشهب، الألوان التي تظهر في الهواء، المطر.. وترتيب ابن رشد هاهنا: في العمود والشهب، الألوان التي تظهر في الهواء، ذات الذوائب، المجرة، المطر..”، ثم يضيف الأستاذ جمال الدين: “وهذا كما ترى ليس هو ترتيب أرسطو” (الهامش 2 من ص.35).

ترى بماذا يمكن تفسير هذا “الاختلاف” المشار إليه؟

يلزم أن نطرح هذا السؤال واضعين نصب أعيننا في الوقت نفسه ذلك الوفاء الذي يكنه ابن رشد لروح النص الأرسطي، ولشخص الحكيم. وما يزيد من حدة السؤال هو كون “الاختلاف” الملاحظ لا يغير من جوهر المقالات، أي أن مضمون الكتاب يظل على حاله. فإذن ما الداعي الذي جعل ابن رشد يعرض عن متابعة الترتيب الذي وضعه الحكيم في كتاب “الآثار العلوية”؟ هل يمكن حل الإشكال بالاعتماد على الملاحظة التي نبه إليها الأستاذ كازمير بترايتس في الصفحة 9 من تحقيقة لكتاب أرسطو الذي ترجمه ابن البطريق؟ تقول الملاحظة: “إن ترتيب فقرات المقالة الأولى في الترجمة العربية جاءت على الشكل التالي: 1، 2، 3، 8، 6 (7 لم تترجم بتاتا) 4، 5، 9، 10، 11، 12، 13 و14” (الهامش 2 من ص.9 من كتاب أرسطة “الآثار العلوية”، تحقيق كازمير بترايتس، دار المشرق – بيروت 1967).

إذن فالاختلاف الملاحظ ليس اختلافا بين النص الرشدي والنص الأرسطي، بل هو اختلاف بين النص الرشدي والترجمة العربية التي لم تحترم النص الأرسطي! والملاحظة التالية للأستاذ بترايتس تعزز هذا التأويل:

It is to be moted that Ibn Rusd in his medium commentary on the meteors though constantly reffering to the translation fo Ibn al-Bitriq follows the sequence of chapters as they are to be found in the original Greek” (نفس الصفحة والهامش).

والغريب كيف خفيت هذه الإحالة على ذهن الأستاذ جمال الدين، مع ما ألفناه من ذكائه المتوقد! خصوصا والإحالة ليست بسيطة، بل تقدم ما يشبه أن يكون حلا للتناقض السابق بين ترتيب ابن رشد وترتيب أرسطو لفقرات المقالة الأولى.

فإذا سلمنا بما يذهب إليه الأستاذ بترايتس، فسيرتفع الإشكال كليا. لأن ابن رشد رغم اعتماده على نسخة ابن البطريق، فهو يتابع ترتيب الفقرات كما وردت في النص الإغريقي الأصلي. بمعنى أن النص الرشدي يوافق النص الأرسطي، ويخالف الترجمة العربية التي لم تحترم ذلك الترتيب. ومما يشهد لذلك وجود ثغرات أوبتر في ترجمة ابن البطريق، في حين يحتفظ النص الرشدي بالمتن الأرسطي (الهامش 1 من ص: 60 ضمن كتاب الآثار لأرسطو). يضاف إلى هذا أن ابن رشد كان ينظر في تفسير الإسكندر لهذا الكتاب، ويقارن ما ذهب إليه مع ما يقوله ابن سينا -خاصة فيما يتعلق بـ “الجسم الحار اليابس”- لينتقدهما بعد عرضه لموقفيهما (انظر الصفحات: 27-28-29-30-31 من تلخيص الآثار العلوية).

كما أن الترجمة العربية ليست أمينة للنص الأصلي في كثير من المواضع، ويحصل بينهما تناقض أحيانا. تقول ترجمة ابن البطريق مثلا في الصفحة رقم 89 بصدد الحديث عن “قوس قزح” ما يلي: “إن القوس ترى مستديرة”. وعندما قارن الأستاذ بترايتس هذه الترجمة بنفس الموضع من النص الإغريقي، سجل في الهامش التعليق التالي: “Just the contrary of the Greek original“. أما إذا قارنا مع النص الرشدي فيما يخص نفس الموضع ونفس العبارة، فهو يقول: “إن قوس قزح لا ترى تامة الاستدارة” (ص.47 من تلخيص الآثار العلوية). وهذا فعلا عكس ما ذهبت إليه الترجمة العربية، كما ورد في التعليق المذكور.

يمكن متابعة المقارنة بين النص الرشدي والترجمة العربية لنص أرسطو، لبيان مدى الدقة التي تحكم” تلخيص الآثار العلوية”. فمثلا في صفحة 90 من الترجمة العربية وبصدد الحديث عن ألوان قوس قزح، تقول الترجمة العربية: “وترى في كل قوس ثلاثة وأربعة لا أكثر منها”. وكما ترى فهذا الكلام لا معنى له: فألوان قوس قزح إما أن تكون ثلاثة أو تكون أربعة! (طبعا حسب التصور القديم). يعلق الأستاذ بترايتس على هذه الترجمة في الهامش 3 من نفس الصفحة بقوله: “هذا غير موجود في الأصل اليوناني! This is not in the original Greek” لأن أرسطو كان يعتبر أن ألوان قوس قزح ثلاثة: فهو يجمع بين الأحمر والبرتقالي والأصفر من جهة، وبين الأزرق والبنفسجي من جهة أخرى، بالإضافة إلى اللون الأخضر (نفس الهامش والصفحة).

إذا عدنا إلى النص الرشدي، ماذا سنجد؟

يقول ابن رشد: “وترى في كل قوس ثلاثة ألوان لا أكثر ذلك، وهذه الثلاثة الألوان غير متبدلة ولا متغيرة في كل قوس” (ص.148 من تلخيص الآثار العلوية). وهذا التطابق بين أرسطو وابن رشد يمكن أن يدفعنا إلى طرح السؤال التالي: ما هي مرجعية ابن رشد في قراءة كتاب “الآثار العلوية” لأرسطو؟ فمن الواضح أنه لم يكن “يلخص” ترجمة ابن البطريق، رغم أن الأستاذ بترايتس يزعم أن ابن رشد يحيل عليها (هامش 2 من ص.9). ولسنا ندري ما هو معتمده في هذا الزعم، خاصة وأنه يعود في الهامش 1 من ص.88 ليقول:

Ibn Rusd, who must have used a different translation (or probably found it in the commentary of Alexander), we have both terms precisly translated into arabic..”.

وهذا يعني أننا أمام ثلاث احتمالات على الأقل، توحي بافتراض مفاده أن ابن رشد لربما كان يملك ترجمة ابن البطريق (التي لم يعتمد عليها في التلخيص) بالإضافة إلى نسخة أخرى قد تكون مستقلة، وقد تكون متضمنة في تفسير الإسكندر. ومثل هذا الكلام يحتاج إلى توثيق، وجهد فيلولوجي ليس بالهين. خاصة إذا وضعنا أمامنا النص الرشدي الموجود بين أيدينا الآن، للتنقيب عن الإشارات التي يمكن أن تسعفنا لحل الإشكال.

من بين تلك الإشارات التي يمكن الاستعانة بها، ما ورد عند ابن رشد في الصفحة: 55 من “تلخيص الآثار العلوية” حيث يقول: “وظاهر كلام أرسطو في النسخة التي وقعت إلينا هو القول الأول…”. وكذا ما ورد في الصفحة: 101 من نفس الكتاب، حين يؤكد: “فهذا هو السبب الذي نجده في النسخة التي وصلفت إلينا من نص كلام أرسطو..”. وهذه الإشارات ترجح أن ابن رشد كان يملك نسخة يتيمة، ومن حسن حظه أنها كانت النسخة الأقرب إلى النص الأصلي. وما يرجح هذا الاعتقاد هو المنهجية المألوفة لديه، عندما يكون بصدد عملية التفسير أو التلخيص. فهو عادة ما يصرح بوجود أكثر من نسخة واحدة، فيعمد إلى المقارنة ومن ثم يصل إلى الاستنتاج. فتعابيره مألوفة ومعروفة لدى القارئ، مثل قوله: “ووجدنا في نسخة أخرى ما هذا نصه..” أو “وفي ترجمة أخرى نجد كذا..”. وبعد عرض المعاني المختلفة للترجمات والنسخ التي يملكها، يبحث عن صيغة أقرب أو حل ممكن للإشكال الذي يناقشه، بناء على حدسه الفلسفي، واعتمادا على ألفته للنص الأرسطي. أما أن يرد التركيز في غير ما موضع على الإشارة إلى نسخة وحيدة، فالأمر يستدعي الميل إلى القول إن ابن رشد كان يجهل ترجمة ابن البطريق.

ومن هذه الجهة فـ”تلخيص الآثار العلوية” لا زال في حاجة إلى مزيد من الجهد، خاصة بعد إنجاز النصيب الأوفر من طرف الأستاذ المرحوم جمال الدين العلوي. ومن جهة أخرى يقدم لنا هذا الكتاب مناسبة فريدة أشار إليها المحقق في غير ما موضع من هوامشه؛ ألا وهي ذلك الإشكال الذي أرق ابن رشد كثيرا: إشكال العلاقة بين العلوم. وخاصة ما يتعلق في هذا الكتاب بعلاقة العلم الطبيعي بعلم المناظر (البصريات)، وبعلوم التعاليم (الرياضيات) بشكل عام.

إن موقف ابن رشد من إشكال العلاقة بين العلم الطبيعي والبصريات، لا يقدم نفسه بوضوح كاف. وقد لاحظ المحقق ذلك مرارا، ونبه على ضرورة توثيق هذه العلاقة أكثر؛ وكذا البحث عن دلالتها. ومن الأمثلة على هذا الموقف المتذبذب ما ورد في الصفحة: 60 من “التلخيص” عند حديثه عند انعكاس الضوء، إذ يقول: “إنه تبين في علم المناظر أن إضاءة القمر من الشمس ليس يمكن أن تكون بانعكاس؛ وقد بين ذلك ابن الهيثم في مقالة مفردة له”. ويظهر من هذه الصيغة وكأن ابن رشد يصادق على ما قاله بان الهيثم، ويوافقه الرأي. فتوظيفه لابن الهيثم في سياق الحديث، جاء من قبيل الاستشهاد الذي يدعم الرأي. ولكن عندما تنتقل إلى الصفحة: 143، سنعثر على موقف مضاد تاما. فرغم أن موضوع الحديث هو انكسار الأشعة، فإن اللجوء إلى ابن الهيثم جاء في صيغة انتقاد وليس في صيغة استشهاد. يقول: “وهذه الأشياء كلها التي ذكرناها قد بينها ابن الهيثم في مقالة له مشهورة بأيدي الناس. وهي كما قلنا ليست من هذا العلم وإنما من علم المناظر، ولذلك لم يعرض لها أرسطو هاهنا.. ومن جمع بين النظرين فقد أخطأ، كما فعل ابن الهيثم”.

لقد أخطأ ابن الهيثم لأنه خلط بين علمين متباينين هما العلم الطبيعي والبصريات، ومن ثم فقد خلط بين نوعين من العلل لنفس الظاهرة. لأن البصريات هي فرع من علوم التعاليم -حسب التصنيف القديم- وتعتمد على براهين الأسباب، بينما يعتمد العلم الطبيعي على براهين الوجود. ونفس الخطأ كان قد وقع فيه ابن رشد في مرحلة سابقة من تطوره الفكري، هي مرحلة الجوامع والمختصرات. وذلك حين كان يعتقد بإمكانية نقل البرهان من مجال الرياضيات (علوم التعاليم) إلى مجال العلم الطبيعي، “على ما كنا ظننا نحن في “الجوامع الصغار” فأثبتنا هنالك العلل التعاليمية في هذه الأشياء على جهة المصادرة” (ص.144).

وبالعكس من هذا الفصل بين علم المناظر (البصريات) والعلم الطبيعي، يجوز الحديث عن وجود تعاون بين فرعين علميين هما الهندسة والبصريات. إذ يمكن نقل البرهان من مجال الهندسة إلى مجال البصريات لأنهما ينتميان لحقل علمي واحد هو علوم التعاليم. وما يبرر هذا النقل هو أن الأسباب التي يبينها علم الهندسة في مجال علم المناظر هي أسباب ذاتية لهذا الأخير، بينما الأسباب الطبيعية هي أسباب بعيدة وغير ذاتية. ولهذا السبب فنقل البرهان من علم إلى علم داخل نفس الحقل المعرفي أمر جائز، أما نقله من حقل علمي إلى حقل علمي مغاير فهو أمر مستحيل. ولذلك “ليس حال علم المناظر من هذا العلم [يقصد العلم الطبيعي ] في إعطاء هذه الأسباب كحال علم المناظر مع علم الهندسة، أعني أن علم المناظر يتسلم أسباب كثير من الأمور الموجودة فيه من علم الهندسة.. فإن تلك أسباب ذاتية في صناعة المناظر أعني ما تبين من ذلك في علم الهندسة، إذ كانت أسبابا قريبة” (ص.145). وقد يكون هذا السبب هو الذي غلط ابن الهيثم أي أنه اعتقد أن العلاقة بين المناظر والهندسة، تشبه العلاقة بين المناظر والعلم الطبيعي!

غير أن ما يظل غامضا في هذه العلاقة نفسها عند ابن رشد، هو ذلك التناقض الذي نبه عليه المحقق في غير ما موضع من هوامشه. إنه التأكيد المثير من طرف ابن رشد في الصفحة 141 حين يقول: “وأما علل هذه الرؤية الخاصة القريبة، فيعطيها صاحب علم المناظر”. ثم يعود في الصفحة 145 ليقول: “إن العلل التي يعطيها صاحب هذا العلم [يقصد العلم الطبيعي ] في ذلك هي علل بينة بنفسها، والتي يعطيها صاحب علم المناظر فهي البعيدة للأشياء المنظور فيها في هذا العلم”. وهذا أمر غريب حقا! إذ لا يعقل أن يصدر مثل هذا التناقض عن رجل في مكانة ابن رشد. ولهذا يعلق الأستاذ جمال الدين على هذا التناقض في الهامش 6 من ص.141 بالقول: “وهكذا سيكون علينا أن نفصل مواقف ابن رشد من هذا الإشكال، لنقف على المتقدم منها والمتأخر، ولنقارنهما بما أورده في الجوامع”. فهل يتعلق الأمر بآثار المراجعة لنص التلخيص من طرف ابن رشد في فترات متباعدة من حياته العلمية؟ أم أن الأمر قد يكون راجعا إلى خطأ من الناسخ؟ أم ماذا؟

نترك مثل هذه الأسئلة وما شابهها لدراسة مفردة ومعمقة، إذ ليس هذا موضع النظر فيها.

مجلة الجابري – العدد الرابع عشر