مجلة حكمة
تضامنات عابرة للحدود ل ديفس

تضامنات عابرة للحدود: مقاومة العنصرية، الإبادة الجماعية، و الاستيطان الاستعماري – آنجلا ديفس / ترجمة: إبراهيم الفواز

تضامنات عابرة للحدود
محاضرة (تضامنات عابرة للحدود) مفرغة في كتاب انجلا ديفس بعنوان (الحرية كفاح مستمر)

يظلّ هرانت دينك رمز مهم للنضال ضد الاستعمار، ضد الإبادة الجماعية و ضد العنصرية. من ظنّوا بإمكانية القضاء على حلمه بالعدل و السلام و المساواة، لا بد أن يعرفوا الآن أنهم بضربه، أعداد لا تُحصى خُلقت منه، فالناس من أنحاء الأرض يصرخون: “أنا هرانت دينك”. نعرف أن نضاله للعدل و المساواة يحيا قُدُمًا. الجهود المستمرة لخلق بيئة فكرية، تناقَش في أوساطها التأثيرات المعاصرة للإبادة الجماعية للأرمن، مركزية بإعتقادي لنضال عالمي ضد العنصرية، الإبادة الجماعية، و الاستعمار الإستيطاني. روح هرانت دينك تحيا و تزداد قوّة يومًا بعد يوم.

سعيدة بمنحي هذه الفرصة للإنضمام لقائمة طويلة من المتحدثين البارزين، الذين أشادوا بهرانت دينك. أستطيع القول بأنني متخوّفة قليلًا أيضًا. أعرف أن الذين اعتادوا منكم على الحضور لهذه المحاضرات قد حظوا بفرصة الاستماع لأرونداتي روي و نعومي كلاين و نعوم تشومسكي و لويك فاكون. لذا أرجو أن أرقى لمستوى توقعاتكم.

دعوني أقول أيضًا أنني مسرورة بأن الاحتفاء بحياة و أعمال هرانت دينك، أعطتني مناسبة لزيارة تركيا للمرة الأولى لي. يصعب تصديق أن الأمر استغرق مني عقود لزيارة هذه الدولة، لا سيّما و أنّي أحلم بإسطنبول مذ كنتُ طفلة، تحديدًا عندما علمتُ عن التأثير المحوري لجغرافيا تركيا و سياساتها و حياتها الفكرية، و تأثير هذه الجامعة تحديدًا،  على صديق مقرّب و مؤثر، جيمس بولدوين. أستطيع أن أشارككم أيضًا أنّي كناشطة شابّة، و كلما كبرتُ، يبدو لي أنني أشبّ أكثر في ذكرياتي و أفكاري – أتذكّر القراءة و شعور الإلهام من كلمات ناظم حكمت، كما شعر كل شيوعي خيّر في تلك الأيام.  حريّ بي القول بأنّي عندما سُجنت، شجعتني و آزرتني رسائل التضامن و وصوف المحافل التي نُظّمت على شرفي هنا في تركيا. و كما قلت، لا أصدّق أن هذه هي رحلتي الأولى لتركيا. عندما كنت أدرس في فرانكفورت دراساتي العليا، حظيت أختي برحلة رائعة إلى تركيا، و الآن أستطيع إخبارها أنني لحقتُ بها أخيرًا بعد خمسين عامًا.

بما أن هذه هي رحلتي الأولى إلى تركيا، أودّ أن أشكر كل من شارك شخصيًا في حملة إطلاق سراحي تلك الأيام، أو من كان والديه أو ربما جديه، منخرطين في الحركة العالمية للدفاع عني. أعتقد أن ما هو أهم من حقيقة أنني كنت في قائمة المطلوبين العشرة الأهم للمباحث الفيدرالية الأمريكية – الأمر الذي يحظى بالتصفيق هذه الأيام؛ ينبئك عن القوة التحويلية للتاريخ، لو عشت مدة كافية لتشهدها – هو الحملة العالمية الهائلة التي حققت ما خُيّل عدم إمكانية تحقيقه. ما يعني أننا، خلافًا لكل الاحتمالات، انتصرنا في مواجهة أقوى رموز السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك. دعونا لا ننسى أن رونالد ريقان كان حاكم ولاية كاليفورنيا و ريتشارد نيكسون كان رئيس أمريكا، و جاي إدقار هوفر كان رئيس المباحث الفيدرالية.

كثيرًا ما يسألني الناس عن ما أرغب أن أُذكر به. أردّ بأنّي لا أهتم بالطرق التي ربما سيتذكرني بها الناس شخصيًا. ما أريد أن يتذكروه هي حقيقة أن الحملة المطالبة بحريتي انتصرت. كان نصرًا في مواجهة احتمالات مُعجزة، رغم براءتي؛ كان الافتراض أن قدرة تلك القوى في أمريكا كانت بالدرجة التي سينتهي بها مصيري إلى غرفة الغاز أو لقضاء بقية حياتي خلف القضبان. بفضل الحركة، أقف أمامكم الآن.

علاقتي بتركيا شُكّلت بحركات تضامن أخرى. مؤخرًا أسهمتُ بجهود التضامن مع المناضلين ضد السجون من نوع إف (سجون تركية تفصل السجناء لمجموعات معزولة)، من ضمنهم سجناء صاموا للموت احتجاجًا. كنت فاعلة أيضًا في جهود حشد التضامن مع عبدالله أوجلان و معتقلين سياسيين أُخُر، مثل بينار سيليك.

نظرًا لأن علاقاتي التاريخية بهذه الدولة شُكّلت بظروف تضامن عالمي، عنونت كلمتي “ تضامنات عابرة للحدود: مقاومة العنصرية، الإبادة الجماعية، و الاستيطان الاستعماري،” لهدف استدعاء مستقبل محتمل، دوائر ممكنة تربط الحركات في أماكن مختلفة من العالم، خصوصًا، في الولايات المتحدة الأمريكية، تركيا، و فلسطين المحتلّة.

مصطلح “إبادة جماعية” تم حجزه لظروف معينة تم تعريفها وفقا لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي تم اعتمادها في 9 ديسمبر 1948، إثر الآفة الفاشية في الحرب العالمية الثانية. من المحتمل أن يكون بعضكم على دراية بالصياغة الحرفية للاتفاقية، لكن دعوني أشارككم إياها: “أي فعل من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة وطنية أو عرقية، أو إثنية أو دينية، مثل: قتل أعضاء من الجماعة، وإلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة، وفرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، ونقل الأطفال قسرًا من جماعة إلى أخرى.”

الاتفاقية أُقرّت عام 1948، لكن لم تصادق عليها الولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 1987، بعد أربعين عامًا تقريبًا. على أية حال، بعد ثلاثة أعوام من إقرار الإتفاقية، قُدّمت عريضة للأمم المتحدة بواسطة مجلس الحقوق المدنية للولايات المتحدة الأمريكية، يتّهمها بالإبادة الجماعية للسود في أمريكا. وُقّعت هذه العريضة من قبل نجوم لامعين مثل دبليو.إي.بي دو بوي، الذي كان يتعرض للهجوم من قبل الحكومة الأمريكية آنذاك. قُدّمت العريضة للأمم المتحدة في نيويورك بواسطة بول روبسون، و في باريس بواسطة  محامي الحقوق المدنية ويليام إل. باترسون. باترسون كان يترأس مجلس الحقوق المدنية آنذاك. كان عضوًا أسودًا في الحزب الشيوعي، محامٍ بارز دافع عن فتية سكوتسبورو التسعة. صودر جوازه عندما عاد لأمريكا. كان هذا في الفترة التي كان يتعرّض فيها الشيوعيون و من اتّهم بالشيوعية للهجوم.

في مقدمة العريضة، يُقرأ: ”من حواري السود غير الإنسانية في المدن الأمريكية، من مزارع القطن في الجنوب، يظهر سجل حافل بالقتل الجماعي على أساس العرق، سجل بحيوات شُوّهت و أُخلّ بها عمدًا بالخلق المقصود لظروف هيّئت للوفاة المبكرة، و الفقر والمرض. سجلٌ يستدعي الإدانة، لوضع حد للجور المريع الذي يشكّل انتهاكًا يوميًا متناميًا لاتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية.” تستمر المقدمة، “نُبقي، تباعًا، مواطني الولايات المتحدة الأمريكية الزنوج المضطهدين، مفصولين، مميّز ضدهم، أهداف للعنف طويلًا، يعانون من الإبادة الجماعية نتيجة للسياسات المتسقة و الواعية و الموّحدة من كل سلطات الحكومة.”

بعدها يكملون بالإشارة إلى أنهم سيقدمون أدلة تثبت، وفقًا للاتفاقية، قتل أعضاء من الجماعة. يشيرون للقتل من الشرطة – هذا عام 1951- قتل من عصابات، من الكو كلكس كلان، و مجموعات عنصرية أخرى. يشيرون إلى أن الدليل يتعلق بآلاف الأشخاص الذين “ ضربوا للموت مربوطون بالسلاسل، و في الغرف الخلفية لمكاتب الضبّاط و في زنازن سجون المقاطعات و مخافر الشرطة و في الشوارع، و من لُفقت لهم تهم و قُتلوا باستمارات قانونية زائفة و بالبيروقراطية القانونية.” يشيرون أيضًا إلى أن عددًا كبيرًا من السود قُتلوا لتخلّفهم عن قول “سيدي” لشخص أبيض، أو لتخلّفهم عن رفع قبعاتهم، أو التحرّك جانبًا.

أذكّر بهذه العريضة التاريخية المناهضة للإبادة الجماعية بدءًا لأن تهم مشابهة يمكن أن تُلقى آنذاك بناء على القتل الجماعي للآرمن، المواكب الجنائزية، و سرقة الأطفال و محاولة خرطهم بالثقافة السائدة. حظيتُ بفرصة قراءة المذكرات المؤثرة “جدّتي”، مذكرات أرمينية تركية لفتحية تشاتن. متأكدة بأن جميع من في الغرفة قد قرأوا الكتاب. علمتُ أيضًا أن ما يصل لمليوني تركي يحتمل أن لهم على الأقل جد من خلفية أرمينية، و بسبب العنصرية السائدة، عدد كبير منهم مُنعوا من بحث تواريخ عائلاتهم.

عند قراءة “جدتي” فكّرت بأعمال عالم أنثروبولوجي فرنسي ماركسي باسم كلود مياسو. هذا الصمت المفروض حيال النسب ذكّرني بأنّ تعريفه للعبودية يحتوي مفهوم الموت الاجتماعي في صلبه. عرفّ العبد كخاضع لنوع من موت اجتماعي- العبد كشخص لم يولد، non née. بالطبع، هناك دمار نفسي جمعي جليل نتيجة لعدم الإعتراف بالشخص في سياق نسبه. هؤلاء الذين ينحدرون من سلالات إفريقية في الولايات المتحدة الأمريكية بعمري يعرفون معنى عدم القدرة على تتبع أنسابهم، كما في حالتي، إحدى جداتي. الحرمان من النسب يؤثر على الحاضر و المستقبل. بالطبع، “جدتي” يفصّل عملية التطهير العرقي، الموكب الجنائزي، القتل على يد الشرطة، حقيقة أنهم عندما كانوا يعبرون الجسر، جدّة الجدّة  ألقت بحفيديها في الماء و لم تلق بنفسها حتى تأكدت من موتهما. هذا المشهد يشابه الوصوف التاريخية لأمهات العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية اللآتي قتلن أبنائهن لكي يعفوهم من عنف العبودية. رواية توني موريسن “محبوبة” التي حازت جائزة نوبل إثرها، بُنيت على سردية مشابهة، سردية مارقريت قارنر.

أستحضر عريضة الإبادة الجماعية عام 1951 أيضًا لأن كثير من الظروف المذكورة في العريضة يستمر وجودها في أمريكا اليوم. هذا التحليل يساعدنا على فهم مدى عمق تجذّر عنف الدولة العنصري المعاصر في تواريخ الإبادة الجماعية، من ضمنها، بالطبع، الإبادة الجماعية الاستعمارية للسكان الأصليين في الأمريكيتين. يناقش كتاب صدر مؤخرًا للمؤرخ كريق وايلدر المدى الذي به جامعات Ivy league، الجامعات التي يعرفها جميع البشر في كل أنحاء العالم- ذكرتَ اسم هارفارد الذي يُُميّز في كل مكان في العالم تقريبًا- هارفارد، ييل، برينستون، إلخ، أُسست و تورطت بشدّة في مؤسسة العبودية. لكن- و باعتقادي أن هذا أهم جوانب بحثه- يكتشف أنه ليس بإمكانه حكاية قصة العبودية و التعليم العالي الأمريكي إلا تزامنًا مع حكاية قصة الإبادة الاستعمارية للأمريكيين الأصليين.

أعتقد أنه من المهم الانتباه إلى التبعات المنهجية الأوسع لمثل هذا النهج. تواريخنا لا تتكشّف في معزلة عن بعضها البعض. لا نستطيع حقًا تبيّن ما نعتبره تواريخنا بدون معرفة القصص الأخرى. في الغالب نكتشف أن هذه القصص هي في الواقع قصصنا. من هنا ينبع التوبيخ “تعرّفوا على قصص أخواتكن” من عالمة الاجتماع النسوية السوداء جاكي أليكساندر. إنها عملية جدليّة تتطلّب منّا باستمرار أن نعيد حكاية قصصنا، أن نراجعها، ثم نعيد حكايتها و إطلاقها. يتسنّى لنا بعد ذلك ألّا نتظاهر بعدم معرفتنا بارتباطات العرق و الطبقة و الإثنية و القومية و الجنسانية و القدرة.

لا أستطيع وصف قدرة الأتراك- تعلّمت في هذه الأيام منذ قدومي هنا (في الواقع، هذا يومي الثاني و النصف هنا) لذا من الأفضل الإشارة لهم ب”الناس الذين يعيشون في تركيا.” لا أستطيع وصف قدرتكم على التعامل مع الماضي الإمبريالي لهذه الدولة. لكنّي أعلم، لأني تعلمت هذا من هرانت دينك، من فتحية تشاتن، و آخرين، أنه يجب أن يكون بالإمكان الحديث بحرية، أنه يجب أن يكون بالإمكان المشاركة في حرية التعبير. عملية التطهير العرقي، من ضمنها ما يُدعى بالتبادل السكّاني في نهاية الإمبراطورية العثمانية، الذي ألحق أشكال لا تُحصى من العنف بقوميات عدّة- اليونانيين و السوريين، و بالطبع الآرمن- يجب أن يُعترف بها في السجل التاريخي. لكن نقاشات شعبية حول هذه الأحداث و حول تواريخ الأكراد في هذه المساحة يجب أن تحدث قبل أن يكون باستطاعتنا تخيّل أي تحوّل اجتماعي حقيقي، ناهيك عن أن يصبح ممكنًا.

نحن في الولايات المتحدة الأمريكية في وضع غير مؤات لأننا لا نعرف كيف نتحدّث عن الإبادة الجماعية المّلحقة بللسكان الأصليين. لا نعرف كيف نتحدث عن العبودية، و إلّا لم يُفترض ببساطة أنه بإنتخابنا لرجل أسود واحد للرئاسة سنقفز إلى عصر ما بعد عرقي. لا نستوعب أننا نعيش على أرضٍ مستعمرة. إبّان هذا، يعيش الأمريكيون الأصليون في أحوال مُعوزة في محميّات. لديهم معدل سجن مرتفع للغاية- أعلى معدل سجن للفرد- و يعانون من أمراض كإدمان الكحول و السكّري بشكل غير متكافئ مع باقي السكان. أثناء ذلك، لا تزال الفرق الرياضية تهزأ بالسكان الأصليين بحملهم لأسماء مهينة، مثل “هنود حمر واشنطن”. لا نعرف كيف نتحدّث عن العبودية، باستثناء، ربما، في إطار الضحية و الجاني، إطار يستمر في التفريق و التضمين.

لكن يمكنني القول أن النشطاء اليافعين يتعلمون، بازدياد، التعرّف على تقاطعات هذه القصص، و الطرق التي تظلل بها تقاطعات هذه القصص و تُغطّى. لهذا، عندما نحاول أن نطوّر تحليلًا للعنف العنصري المستمر، الموجه ضد الشباب السود عمومًا، و الذي نسمع الكثير عنه في الفترة الماضية، لا يمكننا أن ننسى أن نضع هذا العنف العنصري في سياقه.

كلكم، في تركيا، على دراية بأنه في الخريف و الصيف الماضي في فيرقسون، ميزوري، و في كل أنحاء الدولة- في نيويورك، في واشنطون، في شيكاقو، في الساحل الغربي- أيضًا، بالطبع، في أجزاء أخرى من العالم، نزل الناس للشوارع معلنين جمعًا أنهم يرفضون قطعًا المصادقة على عنف الدولة العنصري. نزل الناس للشوارع قائلين “لا سلام بلا عدالة، لا للشرطة العنصرية.” إضافة لقولهم أنه، خلافًا لأعمال الشرطة المتكررة و بالرغم من تواطؤ النواب العامين معهم، حياة السود تهم. حياة السود مهمة. سننزل للشوارع و نرفع أصواتنا حتى نتيقّن أن التغيير قادم. فاضت مواقع التواصل الاجتماعي برسائل التضامن من كل أنحاء العالم في الخريف، لا حيال التخلّف عن إدانة ضابط الشرطة الذي قتل مايكل براون في فيرقسون، ميزوري، فقط، لكن كرد أيضًا على قرار هيئة المحلفين حيال قضية إريك قارنر. هذه المظاهرات في كل أنحاء العالم، حرفيًا، أوضحت بشدّة أن هناك إمكانية هائلة لصقل التضامنات العابرة الحدود.

بمعنى ما، يعني هذا أننا قد نُمنح الفرصة للخروج من الفردانية التي أُؤوينا فيها في هذه الحقبة النيوليبرالية. تدفعنا الأيديولوجية النيوليبرالية للتركيز على الأفراد، أنفسنا، ضحايا أفراد، جناة أفراد. لكن كيف يمكن حلّ المشكلة الهائلة لعنف الدولة العنصري بإستدعاء ضباط شرطة أفراد ليحملوا عبء ذاك التاريخ، و افتراض أنه بمحاكمتهم، بالإنتقام منهم، سنحرز تقدمًا بطريقة ما في القضاء على العنصرية؟ لو افترض أحدهم أن أشكال التضامن الهائلة حول العالم كانت موجّهة فقط لحقيقة أن ضباط شرطة أفراد لم يحاكموا، عندها لن تكون مفهومة. لا أعني أن الأفراد لا يجب أن يحاسبوا. كل فرد يشترك في أعمال عنف عنصرية، إرهابية، يجب أن يحاسب. ما أعنيه هو أننا يجب أن نحتضن المشاريع التي تتطرق للشروط التاريخية الاجتماعية التي مكّنت هذه الأفعال.

انخرطت، منذ مدة، في جهود إلغاء عقوبة الإعدام و السجن كأشكال رئيسية للعقاب. يجدر بي القول أنّ فعلي لم يكن ببساطة تعاطفًا مع ضحايا الإعدام و السجن فقط، الذين هم بأغلبية ساحقة من الملونين. لكن بسبب أن أشكال العقاب هذه لا تجدي. هذه الأشكال لا تجدي، عندما نضع بالإعتبار، أن غالبية من هم في السجن، يقبعون هناك بسبب أن المجتمع خذلهم، بسبب عدم توفّر فرص التعليم أو العمل أو السكن أو العناية الصحية. دعوني أقول أيضًا أن التجريم و السجن لا يمكنهما حل مشاكل أخرى.

لا يحلّون مشاكل العنف الجنسي أيضًا. “النسوية الإعتقالية” هو مصطلح بدأ يُتداول مؤخرًا- النسويات الإعتقالية، لنقل، هي نسويات تطالب بتجريم و سجن من يقدم على عنف جندري- تقوم بعمل الدولة. تقوم النسويات الإعتقالية بعمل الدولة بالتأكيد، بتركيزها على عنف الدولة و قمعها كحل للأبويّة المغايرة و كحل، تحديدًا، للإعتداء الجنسي. لكنّها لا تجدي أيضًا، [أشكال العقاب]، للمتورطين مباشرة في أعمال قمع الدولة. بقدر تأثر العديد من ضباط الشرطة بالعنصرية التي تجرّم مجتمعات الملوّنين- لا ينحصر هذا التأثير على الضباط البيض؛ الضباط السود و الملوّنين معرّضين بالطريقة ذاتها التي تُعرِّف بها العنصرية عمل الشرطة بنيويًّا- لكن حتّى مع تأثّرهم بهذه العنصرية، ما فعلوه لم يكن من نتاج أفكارهم الفردية. لذا ببساطة، من خلال التركيز على الفرد كما لو كان حالة شاذة، ننخرط، بغير قصد، في عملية إعادة إنتاج العنف ذاته الذي نفترض محاربته.

كيف نتجاوز إطار التركيز الرئيس على الجناة الأفراد؟ في حالة مايكل براون في فيرقسون، ميزوري، تعلّمنا بسرعة عن عسكرة الشرطة من خلال ملابسهم العسكرية، مركباتهم العسكرية، و أسلحتهم العسكرية. عسكرة الشرطة في الولايات المتحدة الأمريكية، عسكرة كل قوات الشرطة في كل أنحاء الدولة، كانت قد أنجزت، جزئيًا بدعم من الحكومة الإسرائيلية، التي استمرّت تشارك تدريبها مع كل قوات الشرطة في كل أنحاء الدولة منذ الفترة المعقبة للحادي عشر من سبتمبر. في الواقع، قائد شرطة مقاطعة سانت لويس، تيموثي فيتش— و سانت لويس، بالطبع، هي الإطار الذي وقع فيه العنف في فيرقسون؛ و فيرقسون هي بلدة صغيرة في مقاطعة سانت لويس— قائد الشرطة هذا تلقّى تدريب “مكافحة الإرهاب” في إسرائيل. كان، و ما زال نقباء المقاطعات و قادة الشرطة من كل أنحاء الدولة، و عملاء المباحث الفيدرالية، و فنيو القنابل، يسافرون إلى إسرائيل لتلقّي دروس في مكافحة الإرهاب.

ما أنوي إثارته، هو أنه، بينما يمتدّ عنف الشرطة العنصري، خصوصًا ضد السود، في التاريخ إلى حقبة العبودية، السياق المعاصر حاسم للغاية. و عندما ينظر الشخص للطرق التي تمت بها إعادة إنتاج العنصرية و تعقيدها بنظريات و ممارسات الإرهاب و مكافحة الإرهاب، يبدأ بتصوّر إحتمالية تحالفات سياسية تدفعنا قدمًا في طريق تضامنات عابرة للحدود . ما آثار إهتمامي خلال مظاهرات فيرقسون في الصيف الماضي، هو أن النشطاء الفلسطينيين لاحظوا من الصور التي رأوها على مواقع التواصل الاجتماعي و التلفاز، أن عبوات الغاز المسيل للدموع التي استُعملت في فيرقسون تطابق تلك التي استُخدمت ضدهم في فلسطين المحتلة. في الواقع، هي شركة أمريكية، يطلق عليها اسم شركة النظم المجتمعة المتحدة، تعلّم “CTS” (النظم التكتيكية المجتمعة) على عبوات الغاز المسيل للدموع. عندما لاحظ النشطاء الفلسطينيون هذه العبوات في فيرقسون، ما فعلوه هو التغريد، عبر تويتر، بنصائح للتعامل مع الغاز المسيل للدموع لمتظاهري فيرقسون. اقترحوا، علاوة على أشياء أخرى، “لا تبقوا بعيدين عن الشرطة، لن يستطيعوا إطلاق الغاز إن كنتم قريبين،” لأنهم بالتالي سيطلقون الغاز على أنفسهم. كان هناك العديد من التعليقات المثيرة للإهتمام للنشطاء اليافعين في فيرقسون، الذين كانوا يواجهون الغاز المسيل للدموع للمرة الأولى في حياتهم. لم يملكوا الخبرة التي يملكها بعض منّا، النشطاء الأكبر، مع الغاز المسيل للدموع.

أحاول الإشارة إلى أن هنالك صلة بين عسكرة الشرطة في أمريكا، الذي يقدّم سياق آخر لنا لنحلل عنف الشرطة العنصري مستمر الانتشار و الاعتداء المستمر على الناس في فلسطين المحتلة، في الضفة الغربية، و بالأخص في غزة، نظرًا للعنف العسكري الملحق بالناس في غزة الصيف المنصرم.

أريد أيضًا أن أدرج في الحوار واحدة من أهم المعتقلين السياسيين في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. اسمها أساتا شاكور. تعيش أساتا الآن في كوبا مند ثمانينات القرن المنصرم. صنّفت، قبل مدة ليست بالبعيدة كواحدة من أخطر عشر إرهابيين في العالم. و طالما أنني أُدرجت مسبقًا في قائمة المطلوبين العشرة الأهم للمباحث الفيدرالية، أريد منكم أن تفكّروا عن دوافع إدراج هذه المرأة، أساتا شاكور، في القائمة. يمكنكم قراءة تاريخها. سيرتها الذاتية آسرة. اتّهمت زورًا واحتيالًا بعدة جرائم. لن أذكرها. يمكنكم القراءة عنها في سيرتها. تمت تبرأتها من كل التهم إلًا الأخيرة. قدّمتُ الطبعة الثانية من سيرتها الذاتية. أساتا، التي تصغرني عمرًا بعدة سنوات، هي في أواخر الستين من عمرها الآن. استمرّت تعيش حياة مثمرة في كوبا، تدرس و تدرّس و تنخرط بالفن. إذن لم قررت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية فجأة أنها من أخطر عشر إرهابيين في العالم؟

هذا التجريم بأثر رجعي لحركات تحرر السود في أواخر القرن العشرين من خلال استهداف إحدى قاداتهم النساء آنذاك، بشكل منهجي، ما هو إلا محاولة لثني الناس عن الانخراط في نضال سياسي راديكالي هذه الأيام. لذا أتحفّظ دائمًا على استخدام مصطلح “إرهابي”. أتحفّظ، لمعرفتي أننا تحمّلنا تاريخًا من الإرهاب غير المعترف به. و كشخص ترعرع في أكثر مدينة مفصولة فصلًا عنصريًا في الجنوب، أولى ذكرياتي كانت تفجّر القنابل قبال منزل أسرتي، ببساطة لأن شخصًا أسودًا اشترى منزلًا. في الواقع، كنّا نعرف هويّات  أعضاء الكو كلكس كلان، الذين كانوا يفجّرون المنازل و الكنائس. ربما تكونون على دراية بتفجير كنسية الشارع السادس عشر المعمدانية، الذي حصل في 1963، عندما قُتلت أربع فتيات صغار، جميعهن كن مقربات لأسرتي. لكن يجب أن تعرفوا أن هذه لم تكن حادثة غير معتادة. هذه التفجيرات تحدث دائمًا. لم لم يعترف بها كحقبة إرهابية؟ لذا أتحفّط بشدة على استخدام هذا المصطلح، لأنه يطلق عادة بدافع سياسي.

دعوني أقول، بينما أقترب من ختام حديثي، أنني أريد أن أكون أكثر تحديدًا في أهمّية النظرية النسوية و التحليل. لا أتحدّث ببساطة للنساء في الحضور، لأني أعتقد أن النسوية تقدّم توجيه منهجي لكلّ منّا، ممن يشتغلون بالبحث الجاد و العمل الناشط المنظّم. النهج النسوي يحثّنا على تطوير فهم للعلاقات الاجتماعية، التي عادة ما تُقدَّر صِلاتها فحسب بدءًا. يألف الجميع شعار “الشخصي سياسي”— الذي لا يعني فقط أن ما نختبره على صعيد شخصي له مآلات سياسية، بل أن حيواتنا الداخلية، حيواتنا العاطفية مدادها الأيدولوجيا. عادة ما نعمل عمل الدولة في و من خلال حيواتنا الداخلية. ما نفترض عادة أنه ينتمي بشكل حميمي لأنفسنا و لحياتنا العاطفية قد تم إنتاجه في مكان آخر و جنّد ليعمل عمل العنصرية و القمع.

أصرّ بعضنا دومًا على إنشاء روابط، في أعمال السجون، بين الإعتداء على النساء في السجن و المشروع الأكبر و هو القضاء على السجن. و يتطلّب منّا هذا المشروع الأكبر أن نفهم أين نوجّه جهود التضامن عابر الحدود. يعني هذا أنه يجب علينا تفحّص أبعاد مختلفة من حيواتنا- من العلاقات الاجتماعية، السياقات السياسية- و حيواتنا الداخلية أيضًا. من المثير للإهتمام أنه في حقبة الرأسمالية العالمية هذه، تعلّمت الشركات كيفية عمل ذلك: تعلّمت الشركات كيفية الوصول لجوانب مختلفة من حيواتنا مما أدى بنا للتعبير عن أعمق أحلامنا في صيغ سلع رأسمالية. إذن بطّنّا القيمة التبادلية بطرق لم تخطر على بال مؤلف “رأس المال”. لكن هذا موضوع محاضرة أخرى.

ما أريد الإشارة إليه هو أن الشركات الكبرى أدركت بوضوح صِلات ما كنّا نعتبرها غالبًا مشاكل مختلفة. إحدى هذه الشركات، جي 4 إس، كبرى شركات الأمن في العالم— أستحضرها لأني متيقّنة أنهم سيحاولون الإستفادة في فرنسا من الوضع الحالي بطريقة تستحضر تحليل نعومي كلاين لرأسمالية الكوارث— جي4إس، كما يعرف بعضكم، لعبت دورًا هامًّا في الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين: بإدارة السجون، و المشاركة في تكنولوجيا نقاط العبور. تورّطوا أيضا في موت مهاجرين بلا وثائق. قضيّة جيمي موبينقا مهمّة. قُتل على أيدي حرّاس جي 4 إس في بريطانيا في خضم ترحيله إلى أنقولا. تشغّل جي 4 إس سجون في جنوب إفريقيا. جي 4 إس هي أكبر شركة موظّفة في كل قارة إفريقيا. جي 4 إس، هذه الشركة الكبرى المنخرطة في امتلاك و تشغيل سجون، الشركة التي تزوّد جيوش بالأسلحة، تزوّد المشاهير بالحماية، تشغّل أيضًا مراكز للنساء المعنّفات و لل”فتيات المعرضات للخطر.” أذكر هذا لأنه يبدو أنهم أدركوا صِلات وجب علينا إدراكها منذ زمن.

بالحديث عن الشركات الكبرى، سمعت أن تظاهر الطلاب ضد ستاربكس آتى بثماره. هل اليوم هو آخر يوم لوجود ستاربكس في الحرم الجامعي؟ هاللويا. خاصة بالنظر إلى أن القهوة التركية تتخطى بمراحل أقصى ما تتأمله ستاربكس.

مثالي الأخير هو مثال من الولايات المتحدة الأمريكية، لكنّه يعكس جائحة عالمية لا تسلم منها أي دولة. أعني العنف الجنسي، التحرش الجنسي، الإعتداء الجنسي. العنف الحميمي ليس بمنقطع عن عنف الدولة. من أين يتعلّم مرتكبي العنف الحميمي كيفية الإنخراط في ممارسات العنف؟ لكن هذا، بالطبع، سؤال آخر. أريد استحضار قضيّة لشابّة باسم ماريسا أليكساندر. تعرفون اسمي مايكل براون و إريك قارنر. أضيفوا اسم ماريسا أليكساندر لتلك القائمة، شابّة سوداء اضطرّت أن تفعل  أعتى ما تستطيع فعله لمنع زوجها المعنِّف من مهاجمتها. أطلقت رصاصًا في الهواء. لم يصب أحد. لكن في نفس الدائرة القضائية التي قتل فيها تريفون مارتن— تتذكرون اسمه، و التي فيها تمت تبرئة قاتله جورج زيمرمان، حكم على ماريسا أليكساندر بالسجن عشرين عامًا لمحاولتها الدفاع عن نفسها. واجهت مؤخرا احتمالية تمديد المدة إلى ستين عامًا، لذا أجرت اتفاق تفاوضي لتخفيف العقوبة، ما يعني أنها ستلبس سوار إلكتروني في الفترة القادمة.

ممارسات العنف العنصري و الجنسي لا يتم التسامح معها فقط، بل تشجّع بكل صراحة— وإن لم تشجّع صراحة فبشكل ضمني. عندما نميّز أشكال العنف هذه— و عادة ما تُخفى أو تُجعل غير مرئية— يتبيّن لنا أنها أبرز الأمثلة على الإقصاء البنيوي والتمييز. أعتقد أنه من المهم المواصلة في تطوير هذا التحليل، لكنّي سأختم بقولي أن أعظم تحد يواجهنا في تشكيل تضامنات عابرة للحدود و صِلات عبر الحدود الدولية هو فهم لما تطلق عليه النسويات عادة “التقاطعية”. تقاطعية النضالات لا الهويات.

دعونا لا ننسى أثر ميدان التحرير و حركة “احتلّوا وول ستريت” على العالم. وبما أننا مجتمعون هنا في إسطنبول، دعونا لا ننسى مظاهرات حديقة غيزي. يجادل الناس عادة بقولهم أن الحركات التي ظهرت مؤخرًا لم تمتلك قادة، ولا بيان رسمي ولا أجندة ولا مطالب، لهذا فشلت. لكنّي أريد الإشارة إلى أن ستوارت هول الذي مات قبل سنة، حثّنا أن نفرّق بين النتيجة و الأثر. يفترض الكثير من الناس أنه بسبب أن المخيمات اختفت ولم ينتج شيء ملموس، لم تكن هناك نتيجة. لكن عندما نفكّر في أثر هذه الأعمال المتخيّلة و المبتكرة، و في اللحظات التي تعلّم فيها الناس كيف يكونوا معًا بلا سقالات الدولة، عندما تعلّموا كيف يحلّون مشاكلهم بدون الاستسلام لرغبة الاتصال على الشرطة، هذا يجب أن يخدم كإلهام حقيقي للعمل الذي سوف نعمله في المستقبل لنشكّل هذه التضامنات العابرة للحدود. ألا نريد أن يكون بإمكاننا تخيّل توسّع الحريّة و العدالة في العالم، كما حثّنا هرانت دينك— في تركيا، في فلسطين، في جنوب إفريقيا، في ألمانيا، في كولومبيا، في البرازيل، في الفلبين و في الولايات المتحدة الأمريكية؟

إذا أردنا ذلك فيجب علينا فعل شيء غير عادي: يجب أن نبذل قصارى جهدنا. لا يمكننا أن نستمر كالمعتاد. لا نستطيع أن نحوّر المركز. لا نستطيع أن نكون وسطيين. يجب أن نكون على إستعداد لنقف و نقول: لا، بجموع أرواحنا، بجموع عقولنا، و أجسادنا العديدة.

المصدر