مجلة حكمة

مفاهيم الطب النفسي – بول ماكهيو / ترجمة: يوسف الصمعان

41lxtJXZwhL._SX327_BO1,204,203,200_

مقاربة متعددة الأوجه للعقل والمرض والعقلي


توطئة 

نقرأُ الكتب من زوايا النظر المهنية المحظية والخاصّة بنا وبغاياتنا نحن. إن نكن مبتدئين، فلنتعلّم وإن نكن أطبّاء مُمارسين، فلنقوِّ معرفتنا وإن نكن محكمين ، فلنبحث عن ثبات آراء أو دحضها. قرأتُ مؤخّرًا نصوصًا في مبحث الطب النفسي لتُعينني على النظر بعمق في المستقبل. أُريد أن أعرف محطّة مسارنا الأخيرة وما عسانا نفعل للوصول إليها. وفي هذا الدّرب، جلُّ الكتب التي صدرت أخيرًا قد خاب ظنّي فيها فهي تنقسم إلى نوعيتين مختلفتين.

يحاول شقٌّ منها طمأنتي فتعبّرُ الكتب في هذا الفريق من جديد عن غبطتنا نحن الأطباء النفسانيين المعاصرين، فنحن نمتلك نظاما تشخيصيا بعيدا عن الريبة وقمين بالاعتماد عليه (الدليل التشخيصي والإحصائي: الطبعة الثالثة والرابعة (DSM 3/4، وفوق هذا نمتلك الأدوية النفسية المُعدّة للاستعمال لتلك الاضطرابات التي يُحدّدها الدليل التشخيصي والإحصائي. هذا، ويزعم البعض علاوة على ذلك فهمًا جديدًا لتهديد الكثير من الاضطرابات النفسية المتعلقة بـ ”صدمة” (في الحاضر، الماضي، في الذّاكرة الحاضرة أوالمكبوتة). فالمستقبل الذي يصفونه لهذا الحقل المعرفي هو: “إنّه للأمر نفسه لا غير”.

unnamed (11)

أمّا الكتب التي تنتمي إلى الفريق الآخر فهي تحاول إرباكي. فتكشف عن تذمّرها من تجاهل العلاج النفسي الفردي. كما تشير إلى الخيبات المتواترة للأدوية الفارماكولوجية وتَعجب لأمر القوّة المفسدة على فكرنا وممارستنا الذي ترعاه بتنافس متعصب شركات الأدوية . وتذكرنا هذه الكتب باستنكار حتى البحاح التأثير الواسع والمُلزم المفروض على مهنتنا وعلاج المرضى من قبل منظومة صحّة تُهيمنُ عليها سياسةُ تأمين دافعُها الربح ومنظمات الرعاية الصحيّة. فالمستقبل الذي يصفونه لهذا الحقل المعرفي هو: “العودة إلى فترة الستّينيات”.

تبقى الحقيقة كامنة في كلا الفريقين وباعتراف الجميع في بعضها أكثر من غيرها، ولكن من الممكن أن أبدي إحساسًا بالرضا أو بعدمه عن الوضع الحالي للطب النفسي دون قراءتها. كما أنّني على وعي تام بكيفية تطوّر الطب النفسي باهتمامه الكبير بالاضطرابات وبتقصيره في التفاصيل. هذا وتزايد الطب النفسي عرضةً للاتّهامات بالالتباس والابتداع. بالإضافة إلى ذلك أنا بصدد البحث عن الكتب التي تمدّ الباحث ببُنية مفهومية متناغمة لمبحث الطب النفسي. وهي تلك الكتب التي تسمح لنا بالتّقدّم، عوضًا عن التقهقر، نحو مستقبل نترقّبُ ظهوره بشغف.

4c1844d5-b8d5-4688-bff4-abf0cc06da77
ديلثي-فابر-بيرز-ياسبرز-جيمس

قد كتب الدكتور قائمي هكذا كتاب. فيحمل هذا الكتاب ما أبحث عنه وما يحتاجُه كما أعلمُ دارسو وزعماء هذا الميدان. فيقوم قائمي بتقييم الهيئة الحالية لميداننا مُستحسناً أساليب التفكير وطرق الممارسة أحيانًا ومُبديًا عدم رضاه عنها أحيانًا أخرى. غير أنّه قدّم بُنية تفكير عملية وشاملة قوامُها منهاجٌ معيّن لتُحفّز على إيجاد خطاب أكثر انتقادًا من الخطاب المألوف في الوقت الحاضر ومن شأنه أن يدفع بالممارسة والتدريس والبحث إلى الأمام. أرجو أن يشجّع كتابُه الآخرين للمواصلة على الدرب نفسه ويساعد على إيجاد مخرج من الطريق المسدود الذي أتحسّسه من قراءاتي لكتب أخرى، فيضبط الدكتور معيارًا ذا ميزة عالية لكلّ من سيخطو خطاه. بادئ ذي بدء، يلفتُ قائمي انتباهه لما يُمكن تسميتُه “مدرسة المنهج” للفكر الحديث وزعمائه. كما يسير على خطى وليام جيمس وويلهام ديلثي وماكس فابر مبتدئًا بنقاش ثري لشارلز ساندز بيرز، كما يختم بتقييم شامل وانتقادي للطبيب النفساني كارل ياسبرز.

 

 

9623538e-f174-4ea7-a98d-dd9ffbbfde0d
ماير-فرويد-كربلين

هذا، ويشير قائمي فقط إلى الدّاعي الذي يجعل ياسبرز خبيرًا في المناهج المتعلّقة بالطب النفسي وإلى الطريقة التي بها يُوضّحُ عملُه الميدان، ومتسلّحًا بأفكاره المدروسة حول ياسبرز. يقوم قائمي بعدها بترجمة المقاربات العلاجية لسيغموند فرويد وأدولف ماير وقبلهم إميل كربلين إلى لغة منهج كي نجعل مميزاتها وحدودها ظاهرة للعيان. ثم يمرّ إلى حاضرنا بتقديمه لوصف مُؤلّفي المعلومات المنتمين إلى الفترة الحديثة. نذكر منهم جيرالد كليرمان وإدوارد هانديرت وروبرت سبيتزر وأريك كاندل بما أنّهم يتفكّرون في الماضي، ويتصوّرون المستقبل، ويقودون التّفاعل إلى الأمام أحيانًا، ويُرجعونه إلى مجرّد قوالب مفهومية أحيانًا أخرى. ومع هذا كلّه، يناقش الدّكتور الآراء والوصفات العلاجية ذات الصادرة عن منهج وقاعدة ياسبرز، وهي القاعدة التي تركّز خصّيصًا على المناهج المستخدمة، ثم يستقصي الطرق المسلوكة اليوم ويحاسبها على ما تسمح به القاعدة ” الباسرية ” وما ترفضه.وعلى أساس هذه الذّائقة الفكرية الموسّعة والثّرية، ينتصر قائمي إلى ما أشار إليه هو والدكتور ليستون هافنس بـ ” التّعدّدية ” على مستوى الحيّز الفكري والتطبيقي في الطب النفسي وينتصر إلى ما نشير إليه في ‘جونس هوبكنز’ بـ ” التنظير “. فالتعدّدية، بأي اسم كان، ترتكز على ثلاث قضايا رئيسة، بل متواصلة فيما بينها. أوّلًا: يُعَدُّ الطب النفسي الميدان الطبي الوحيد الذي يهتمّ بتلك الاضطرابات التي تكون قابلةً للتشخيص والتّكهن والعلاج التي تظهر في مستوى الوعي الشّخصي وهو مجال ” العقل “، أكثر من كونه مجال ” الجسد “. ثانيًا: ثمّة عدّة أصناف مختلفة وتتطلّب مناهج متنوّعة لتفسيرها (ومن هنا ” التّعدّدية “). أمّا ثالثًا: فكل اضطراب يُعطّل ميزة وظيفية معيّنة للحياة الإنسانية العقليّة، ومن ثمّة تُبيّن- كنوع من التجريب في الطبيعة- الدور الطبيعي لهذه الميزة في الصّحة.

 

هذا ويُعرّف قائمي الأطبّاء النفسيين كأطبّاء مُمارسين يعملون بعدّة مناهج، كلّ واحد منها مستقلّ نسبيًّا عن الآخر حتّى وإن ترتبط فيما بينها ضمن أيّ تعريف شامل للميدان. كما يبرهن بأمثلة واضحة كيف أنّ العديد من النّقّاد الذين لديهم نيّة تقويم الطّب النّفسي ومكانته في الطّب (عامّة) لا يفقهون هكذا فكرة. إضافة إلى ذلك، عليهم فهم ذلك لأنّ التّعدّدية، بارتباط الطب النفسي بعلم المنهج (التي تُعرّف بدقّة كدراسة مناهج تفسير الطب النفسي، والهدف من ذلك الوُقوف عند تطبيقاتها وعناصرها ومواطن قُوّتها وحُدودها)، هي المفتاح الذي سيقودنا لمستقبل هذا الميدان. وبالخصوص، ستُقدّم التّعدّدية نظامًا تقسيميًّا يتجاوز مقاربة الدليل التشخيصي والإحصائي، (الطبعة الرابعة) المعجمية المتزايدة في التّوسّع. ستُقدّم، وفقًا للمفهوم، مقاربات لبيان شرعية هذه المساعي، والتي تحدّث عنها مُؤلفو الدليل التشخيصي والإحصائي: الطبعة الرابعة السبّاقون، لكونها كانت ستظهر على السّطح حالما أصبحت المصطلحات الفنّيّة للطب النفسي بالإمكان الاعتماد عليها.

للتعدّدية موقف ائتلافي بما أنّها تستطيع أن تزيل فوضى “التّجمعات” المتواصلة للمُعالجين التي تُثير حيرة مُتتبّعي ميداننا، ولكن ليس البعض منهم الذين يرمُون للعلاج. وبالتّالي فهي تُحوّل تفاعلنا من تفاعل فيما بين الخصوم بأجندات – بيولوجية، سيكو دينامية، بيو سيكو اجتماعية إلخ – إلى تفاعل وسط زملاء المهنة الذين يُلاحظون وجود إشكالات كلينيكية معقّدة وذات أهمية ويريدون إيجاد حلول.
أما الأكثر أهميّة هو أنّ الطالب المبتدئ، بشكل تفكير منهجي والذي على أساسه نضع المعلومات الحيّة، يستطيع أن يُلزم الأساتذة في محادثة ذات نسق تطوّري وتفاعلي حول ما نعلمُه وكيف نعلمه، مستخدمين التجارب الكلينيكية للتقدّم بعدها بسرعة على مستوى المهارة والفهم. نرجو جميعنا أن يدمج الطب أخيرًا في تبيان كيف أنّ الاضطرابات العقلية التي نعيها ليست ماهيات مفروضة من لا شيء على البشر، ولكنّها بالأحرى سيمائيات في حياة الإنسان تحت ظروف متغيّرة التي نعمل على إصلاحها. ولتحقيق هذا الهدف نحتاج إلى فهم كيف نتعامل مع المرضى وكذلك كيف نفكّر في وضعياتهم. اقرأ هاهنا وراقب المستقبل مراقبةً ليست على نحو مظلم وغامض يأمل بإلهام، بل وجها لوجه مع المناهج والتطبيقات التي ستدفع به إلى النجاح.

 

بول ر.ماكهيو