مجلة حكمة
كانط الإسلام تاريخ الإسلام في الفكر الألماني

تاريخ الإسلام في الفكر الألماني – إيان ألموند / ترجمة: فاطمة الزهراء علي


تصدير الترجمة العربية لكتاب (تاريخ الإسلام في الفكر الألماني)

تملَّكتني الحيرة عندما طُلِب مني أن أضع مقدمة قصيرة لهذه الترجمة لكتاب كتبته (أو أنهيتُ كتابته) قبل حوالي عشر سنوات. أشعر بالخجل لأنني لا أستطيع تذكر السبب الأصلي الذي دفعني إلى هذا الموضوع المهم ابتداءً، أو بشكل أكثر دقة؛ لا أثق بالسبب الذي أتذكره. إن «تأليف كتاب» في الواقع يعني ـ بعيدًا عن الإشارة إلى شيء محدَّد ـ الشُّروع في سلسلة من النشاطات والرغبات التي يمكن أن تمتدَّ لسنوات. تقوم بالبحث في الحواشي، وتُدقِّق في الفهارس، وتخربِش فقرة تلو فقرة (ما زلتُ أكتبُ على الورق) يومًا بعد يوم وشهرًا بعد شهر، وتنسى تدريجيًا الإحساس الجوهري الذي دفعك في المقام الأول إلى القيام بكل ذلك. تتشكَّل بعد مرور أربع أو خمس سنوات مجموعة كاملة من الألوان والأشكال والكلمات حول صندوق أصبح في مرحلة ما على طول الطريق فارغًا تمامًا.

إن السبب الواعي لتأليف هذا الكتاب (كما أخبرتُ نفسي) هو أنني كنتُ مأخوذًا بإحجام الكُتَّاب الألمان (وليس الكُتَّاب الألمان فحسب) عن الحديث عن الإسلام بأي طريقة غير استشراقية؛ إحجام عن التَّخلي عن النماذج المريحة وتوظيف قوائم لغوية قد تُجبِر المُستخدِم على مواجهة التشابه المُزعِج، ربما بما في ذلك رداءة إنسانية العرب والأتراك والمورو. وكانت إحدى نتائج ذلك أن أصبح الكتاب تقريبًا تاريخًا للإسلام على سبيل التخمين؛ تأريخ للمَسكوت عنه، وغير المكتوب، وغير المذكور. هل بإمكانك تأليف كتاب كهذا؟ في حالة هيغل؛ فإن الطريقة الوحيدة لمقاربة تاريخ كهذا قد تكون في إظهار ما كان يمكن أن يكتبه هيغل كمُحرِّر صحيفة لمدة عامين، مثل نوع المعلومات حول «الشرق» التي اطَّلع عليها، واختار بالرُّغم من ذلك عدم تكرارها أو عطفها على فلسفته.

حاولتُ أثناء كتابة هذا التاريخ ـ الذي هو في معظمه تاريخ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ـ ألا أفعل ما حذر منه سوديبتا كافيراج (*) : كتابة وصف للماضي من وجهة نظر الحاضر، والذي يُظهِر كيف أن الماضي افتقر باستمرار إلى الحاضر. ثمَّة تركيز على السياق ـ على المصادر، وحتى على مصادر المصادر ـ الأمر الذي قد يجعل القراءة مُرهِقة بالفعل. الكتابة كانت مُرهِقة بالتأكيد. قضيتُ في برلين فترات ما بعد الظهيرة منشغلاً بصُحُف هيغل، ورسائل ماركس، وتصريحات شليغل الطائشة في دفاتر ملاحظاته، وأتذكر تعجبي؛ ليس فقط من مقدار ما هو مكتوب، بل من مقدار ما تبقى من دون قراءة، وبلا أي فرصة للتعافي مطلقًا من الملاحظات التي تمَّ نشرها على نطاق واسع بشكل يمكن لشخص ما أن يفهمه على نحو ملائم وشامل (إلا إذا كان أحد تلك الألفاظ السحرية الشاملة من قصة لبورخيس).

عندما كنتُ أتحرك في متاهة أكوام الكُتب في مكتبة Staatbibliothek ببرلين، وأشعر أحيانًا بسكون مخدِّر يجعلني نصف نائم بسبب رائحة معينة في غرفة القراءة هناك، أتذكر أنني كنتُ أتساءل عمن سيقرأ هذه الفقرات غيري. كان لديَّ ذلك الشعور المألوف بالوحدة التي تنتاب العديد من الناس الذين يعملون في قسم الأرشيف. مزحة هيردر مع صديقه عن كونه راعي إبل، أو أفكار شليغل الأخيرة والمجنونة جزئيًا حول العلاقة بين الأتراك والقيامة، أو مجرد مراسلات ماركس اللانهائية، التي ليس لها نهاية بحق؛ كان من الصعب ألا تُشكّل ـ حتى بالنسبة لشخص مولع بسجلات الأرشيف ـ عبثية تامة لمشروعي تلوح باستمرار فوق جهودي مثل شبح.

كما أنني أدرك أن هذا التأريخ باللغة الإنكليزية للفكر الألماني سوف يكتسب بترجمته إلى اللغة العربية سياقه الخاص؛ وأعتقد أن هناك شدًا وجذبًا مستمرًا في المناقشات باللغة العربية حول إرث وقيمة (وبالطبع حول أصل) المفكرين الأوروبيين المعاصرين مثل كانط وهيغل ونيتشه. وأعتقد أن محمد إقبال في كتاباته المبكرة (لننتقل خارج اللغة العربية للحظة) أعرب عن ارتياحه للفكر التنويري الأوروبي الحديث، إذ شعر بأنه مرادف للإسلام. قد يختلف كثيرون مع هذا الطرح؛ وربما أكثرهم شهرة هو حسن حنفي الذي اقترح في مقدمته (*) جعل الاستشراق نفسه موضوعًا للدراسة وليس الفكر الغربي فحسب. بالرغم من أنني لم أؤلف هذا الكتاب وأنا أفكر في تلك النقاشات؛ إلا أن المعلومات التي يقدمها الكتاب حول معرفة المفكرين الألمان بالإسلام والثقافة الإسلامية (والطريقة غير الوافية التي عُرضت بها في الدراسات الغربية، بل وحتى تجاهُلِها) قد تكون مفيدة جدًا لأطراف عديدة.

على أي حال؛ فإن حِسّ الفكاهة عندي يمنعني من أخذ هذا الكتاب بجدية. إذا كنتَ مقتنعًا (كما هو الحال معي) بأن هناك تصورات جوهرية تمنع بعض الثقافات من أن تأخذ ثقافات أخرى على محمل الجد؛ إذن فأنا لستُ متأكدًا من الخير الذي يمكن أن يأتي من تأليف كتاب حول هذه الحقيقة. كنتُ أعتقد أن توضيح بُنْية وسببية التَّحيُّز سوف يؤدي إلى إزالته لحد ما؛ هذا الكتاب علَّمني خلاف ذلك.

بخصوص كتاب (تاريخ الإسلام في الفكر الألماني) وكتاب آخر ألفته سابقًا (عن التاريخ العسكري للتحالفات الإسلامية المسيحية، والذي ـ بالمناسبة ـ تُرجِم إلى اللغة العربية أيضًا)؛ فقد كان هدفي الأصلي في كلتا الـحالتـين (بالعودة إلى الأهداف والدوافع مرة أخرى) أن أُزيل رواية أوروبية بعينها، أو أن أُحرِّفها عن مسارها على الأقل، وأحاول إعادة الإسلام إليها باعتباره أحد مكوناتها المركزية. إن حقيقة أن كلا الكتابين قد تُرجِما إلى العديد من اللغات الشرق أوسطية (العربية، والفارسية، والتركية) لكنهما لم يُترجَما إلى لغة أوروبية واحدة (اللغة البوسنية/الصربية الكرواتية ستكون الأولى) تشير إلى أن هذه رواية لا يرغب كثير من الأوروبيين في سماعها.

في هذه اللحظة، أكتبُ هذه الكلمات في فيينا، وليس في برلين؛ المدينة التي ألَّفت فيها هذا الكتاب. فيينا ليست بعيدة عن إسطنبول التي تكاد تكون مدينة شقيقة لها؛ وتتربع إسطنبول على مركز إمبراطوريتها متعددة الثقافات (مثلما كانت «القسطنطينية»). من اللافت للنظر في القرن التاسع عشر كيف بدا أن القليل من الألمان على علم بذلك، وكيف كان العديد من الناس غير راغبين أو غير قادرين على رؤية مدينة مثل إسطنبول (أو بسبب ذلك أيضًا مدنًا مثل طهران أو بيروت)؛ مساحة جغرافية معقدة تتشارك الحداثة ذاتها مع المدن الأوروبية. إن الكتاب الذي بين أيديكم هو محاولة أولى لتشريح وفحص هذا التردد لدى ثمانية مفكرين، ويؤسفني أن أقول: إن أي حلول سيتعين عليك تقديمها بنفسك.

مقدمة

الكتاب الذي بين يديك ليس سوى تاريخ لتناول العالم الإسلامي في أعمال ثمانية من أبرز المفكرين الألمان، يبدأ مع خطة لايبنتز لغزو مصر (1671) وينتهي في مرحلة لاحقة بعد مئتي سنة مع ثناء نيتشه على الإسلام في (عدو المسيح)، وعلى الرغم من أن إحدى فقرات المقدمة تقضي بإيضاح سبب اختيار المؤلف لهذا المسار عوضًا عن التكهن بالمسارات التي لم يتم اختيارها فإنه عليَّ أن أُقرَّ ابتداءً بأن هذا ليس تمامًا هو الكتاب ذاته الذي شرعت في كتابته.

كانت خطتي الأصلية قبل حوالي ثماني سنوات هي أن أكتب تاريخ شيطنة الإسلام لدى الاتجاه العام في الفكر الألماني، وكيف تم استخدام تهديد الفضاء اللاأوروبي لتدعيم وتوطيد أصالة وعقلانية وحرية الفضاء الجغرافي الأوروبي، الأمر الذي أثاره العبقري إدوارد سعيد في نقوداته المتعددة للهيمنة الأوروبية (الاستشراق، الثقافة والإمبريالية)، وكنت أنوي الانتقال من مفكر إلى مفكر، ومن عصر إلى عصر، لأرسم بعناية خطوط المراحل المختلفة التي تم فيها تحجيم الإسلام من شيطان شرير إلى حاشية سُفلية.

على أي حال؛ كانت هناك مشكلتان فرضتا وجودهما منذ البداية، ليس بوصفهما عقبتين يتعذر التغلب عليهما وإنما كشكوك مزعجة ومراوغات متكررة لدرجة الاضطرار إلى إعادة النظر في المشروع وإعادة هيكلته بالكامل. الأولى تتعلق بالتباين المحيّر حقًا في ردود مفكر واحد على الإسلام عقيدة وثقافة، ردود ذات طبيعة ملتوية ومتناقضة حدّ أنها أجبرتني على إعادة النظر؛ ليس فقط في الكتاب وإنما في المفهوم الشامل للمؤلف، سواء كان مؤرخًا، مثل هيردر الذي يصف العرب في سنة بأنهم «شعب همجي» ثم يثني عليهم في السنة التالية بوصفهم شعراء عظامًا، أو كان فيلسوفًا، مثل ماركس الذي أظهر في إحدى رسائله تعاطفًا حقيقيًا مع الجزائريين بوصفهم ضحايا الاستعمار ثم صوّرهم بعد خمسة أيام في رسالة أخرى بأنهم مهرجون متخلفون، لقد بدا واضحًا أن أي مفهوم اصطلاحي للمؤلف باعتباره كيانًا مستقرًا ومستقلاً ليس كافيًا للمشروع.

كان من الضروري الوعي الدقيق بمدى فعالية أسلوب معالجة التجزُّؤ/الانقسام لدى المفكر الذي تتزامن لديه معتقدات متضاربة في نفس الوقت، وعوضًا عن النظر إلى المفكرين كمجموعات متماسكة منطقيًا ذات آراء ومعتقدات ذاتية التعديل تتموضع تدريجيًا وفق تناسق ذاتي أو علائقي، فقد تشكّل مفهوم مختلف للمؤلف (سواء كان فيلسوفًا أو مؤرخًا أو شاعرًا) يظهر فيه ما يكتبه كمساحة تتصارع فيها هويات فرعية ومفردات متضادة (دينية، سياسية، مهنية) مع بعضها البعض من أجل إحكام السيطرة عليه.

لم يعد المؤلف مفهومًا ساكنًا لمخزن قناعات راسخة بل أصبحت الفكرة التي يكتبها متقلبة باستمرار بفعل دوامة من الإكراهات المختلفة، وعلى الرغم من وجود إيقاعات وأنماط يصعب إنكارها في هذا التقلب إلا أن التنبؤ به مستبعد مقارنة بالعرض المنظم ذي القيمة الذي تطالعنا به تواريخ بعض الأفكار. في بعض الحالات ـ كما سنرى ـ كانت هذه الإكراهات قادرة على جذب المفكر لاتجاه مختلف تمامًا، وبقدر ما حاولتُ أن أصف بدقة ملامح التضارب والخلاف في هذه الاتجاهات وأحدد بشكل جوهري دورة التعاطف والتنافر في هذه الموضوعات الثمانية؛ فإن هذا التأريخ للإسلام في الفكر الألماني يُمكن أن يُسمَّى أيضًا بتشريح التحيز.

المشكلة الثانية ظهرت لدى الاطلاع على مصادر الاستشراق للقرن الثامن عشر والتاسع عشر التي استعملها مفكرون مثل كانط وغوته، هذا الجزء من المشروع كان موجهًا في الأساس لإبراز من أين أتى عرب كانط المتعصبون وأتراك هيغل الجهلاء؛ أو بعبارة أخرى؛ كيف ساهم تراث الاستشراق في تشويه العالم الإسلامي وإظهاره بمظهر شيطاني ومنحرف أمام هؤلاء المفكرين.

على أي حال؛ سرعان ما أدّت مسألتان إلى تعقيد هذه المقاربة: الأولى هي وجود عدد كبير من العلماء والمؤرخين في التراث الألماني (ريسكه، فون دييز، فون مولر) ممن كانوا على وعي مُتبصّر بمخاطر تأويل الثقافات الأخرى، وحاولوا في الوقت ذاته تقديم صورة أكثر دقة للعالم الإسلامي، التحذير غير العادي من الإسقاط الثقافي الذي أطلقه عام 1757 مستشرق مدينة لايبزيغ؛ جاكوب ريسكه، يحمل دلالة مهمة: «ماذا نقول لمحمدي لا يعرف لاهوتنا بإطاره الأوسع وقام بترجمة العهد الجديد وسكب عليه وحل فلسفته بشكل كامل؟» ، المصطلح المعياري (المعتمد بعد إدوارد سعيد) للمستشرق الأوروبي ذي النزعة المركزية العمياء تعرّض لإشكال مع وجود رموز من أمثال هنريتش فون دييز (أحد أهم مصادر غوته) ممن كرّسوا طاقاتهم لتصحيح صورة الأتراك لدى الأوروبيين بمجلد تلو آخر من الكتب التركية المترجمة.

المسألة الثانية لم تكن ببساطة وجود هؤلاء المستشرقين بل الحد الذي وصل إليه مفكرون من أمثال غوته وهيغل حين قرروا باستمرار أن يتجاهلوا ـ عند مقاربتهم للأتراك أو الإسلام ـ ما لدى هؤلاء المستشرقين من معلومات مع معرفتهم المسبقة بها، غوته كان على دراية وثيقة بمختارات الشعر والفكر العثماني، ومع ذلك فقد صوّر الأتراك بأنهم وحوش متعطشون للدماء، الصحيفة التي كان هيغل يقوم بتحريرها لمدة عام كانت مليئة بتقارير عن العثمانيين، ومع ذلك فالإسلام استمر بوصفه عقيدة تلاشت من التاريخ في نظر هيغل، شليغل أفنى حياة كاملة في تعلم العربية والفارسية واستيعاب ما لا يحصى من الكتب عن العرب والثقافة الإسلامية، لكن ذلك لم ينجح ـ في نهاية المطاف ـ في الحيلولة بينه وبين أن يرى العالم الإسلامي ظاهرة شيطانية.

وبدلاً من رؤية التحيز واللاحياد في تراث الاستشراق الذي سمَّم بمخزونه الخاص من الصور والكليشيهات الفضول الساذج للتيار الأدبي والفكري السائد؛ فقد بدأت تتضح لي أثناء بحثي ملامح عملية «فلترة» مستمرة تقوم خلالها النُّخَب الفكرية الألمانية عبر مختلف مدونات الاستشراق بتناول الشذرات التي يحتاجون إليها والتهميش أو الرفض المتعمد لكل ما يتعارض مع مقتضياتها. تعدد ذوات المفكرين الألمان كان إلى حد ما يتلاشى ظاهريًا (كنتيجة أو كسبب لم أقرر بعد)، تماشيًا مع هذه الفلترة للأرشيف الخاص بالمشرق الإسلامي.

السياق التاريخي: أوروبا والإمبراطورية العثمانية (1683 ـ 1856)

إن مفهوم الشرق بعد «فلترته» حاسم لأنه يلقي الضوء على سر تجاهل نخبة من المفكرين الألمان بشكل شبه تام لوجود مجتمع مسلم متطور للغاية ورفيع الثقافة على عتبة بابهم، هذا المجتمع على وجه التحديد هو المجتمع العثماني في القرن الثامن عشر/التاسع عشر، والذي يتكون من خليط متنوع من اللغات المختلفة (التركية، اليونانية، الأرمينية) والأديان (الإسلام، الأرثوذكسية، الكاثوليكية، اليهودية). قد يكون من المفيد أن نوضح للقارئ غير المختص دون إطالة السياق الذي ترد فيه عبارة «العالم الإسلامي» في هذا الكتاب حيث يُقصد بها العثمانيون.

كانت الإمبراطورية العثمانية ـ في ذروة اتساعها من شمال أفريقيا والمجر (غربًا) وحتى بلاد فارس (شرقًا) ومن اليمن (جنوبًا) وحتى شبه جزيرة القرم (شمالاً) ـ إسلامية في الاسم والشكل، لكنها تنضوي على نسيج متباين من الثقافات والأديان التي تم التوفيق بينها بشكل مُبهِر، وينبغي الابتعاد عن أي مقاربة عاطفية عفى عليها الزمن عند النظر لهذا الهجين متعدد الثقافات، فالعثمانيون كانوا قساة أحيانًا بقدر ما كانوا متسامحين، ومعاملتهم لغير المسلمين أو أهل الذمة تحمل في طياتها كل الغموض (حمايتهم وفي نفس الوقت الهيمنة عليهم) الذي اتسمت به معاملة أسرة هوهنشتاوفن (*) الملكية لأقنان بلاطها servi camerae (**) من العرب واليهود، بيد أنه من الصعب عدم الانبهار بكل هذا العدد من كبار الشخصيات ـ باشوات ووزراء وسفراء ـ في الإدارة العثمانية ممن كانوا يونانيين أو أرمنيين أو يهودًا.

لاحظ كل من غوته وهيغل على مضض أن الكنائس والمعابد ترُكت وشأنها طالما أن ملايين المسيحيين ممن يعيشون في الإمبراطورية العثمانية يحسنون التصرف سياسيًا (تسامح السلطان وحمايته للبروتستانتيين في المجر العثمانية كانا جليين لدرجة أن ميلانكتون (***) فكر في زيارتها ليقف على ذلك بنفسه) . التسامح كان غالبًا ما يجذب انتباه المراقبين الأوروبيين الناقدين للسياسات الطائفية في بلدانهم، الدعوة إلى ضرورة شعور الأوروبيين بالعار من التسامح الديني الراقي لجيرانهم الأتراك أصبحت فكرة معيارية وعبارة تتكرر بشكل مألوف، عبّر عنها مؤلف كراريس إنكليزي عام 1676 بقوله: «الأتراك هم عدو المسيحيين المشترك، ورغم ذلك فهم (عدو) يفضح عارنا الأزلي حين يدع المسيحيين تحت حكمه يعيشون بسهولة وبحُرية أكثر مقارنة بـ (حكم) المسيحيين» .

الوعي والاتصال بالثقافة العثمانية في البلدان الناطقة بالألمانية كانا بالتأكيد أكبر مما يتوقعه المرء في ذلك الوقت، وكما يشير الباحث ويلسون فقد تم افتتاح سفارة تركية ضخمة في برلين بحلول عام 1764 (عام صدور تأملات كانط حول الجميل والجليل) بدعوة من فريدريك العظيم (كانت باريس قد تلقت دعوة مماثلة في وقت مبكر عام 1721) . وكانت الصحف الإقليمية ـ مثل صحيفة بامبرغ (*) التي كان يحررها هيغل تنشر بانتظام تفاصيل لافتة لأخبار وتقارير عن ° Konstantinopel » (الاسم الأوروبي المستخدم للإشارة إلى إسطنبول من قبل كل كاتب ألماني تقريبًا).

بغض النظر عن صعوبة توثيق معلومات تفترض وجود قطاع من السكان المهاجرين/المغتربين إلا أن بعض الأتراك على الأرجح كانوا يقيمون في مدن مثل برلين في ذلك الوقت؛ الباحث البروسي دييز كتب (في رسالة إلى غوته) أنه يعمل بانتظام مترجمًا للوفود التجارية العثمانية، وإذا صدّقنا إنجلز فقد حضر طلاب أتراك محاضرةً ألقاها شلينغ عام 1838 .

على الرغم من أن ماركس هو المفكر الوحيد في هذا الكتاب الذي زار بلدًا مسلمًا (وعلى الرغم من أنه هو وغوته فقط الوحيدان اللذان تواصلا بشكل فعلي مع مسلمين) فإنه من الخطأ أن نتصور المجال الألماني في القرن الثامن عشر/التاسع عشر معزولاً بكلّيته تمامًا عن أي اتصال مع العالم العثماني الذي بالكاد يبدأ على بُعد مئتي ميل جنوب حدودهم.

بحلول الوقت الذي يستهل فيه هذا الكتاب كانت الإمبراطورية العثمانية في طور الضعف. انتهاء حصار فيينا عام 1683 (الذي صدم لايبنتز بشدة) كان نقطة تحول في مصائر العثمانيين، أصبحت سيطرتهم على البلقان تتآكل تدريجيًا، أرضًا تلو أرض، ونهرًا تلو نهر، حتى تم دفع الأتراك تقريبًا إلى الحدود الحالية لبلغاريا. ومع أن جدال المؤرخين لا يتوقف حول العلامات الأولى لبداية نهاية الإمبراطورية العثمانية فإنه من الواضح أنه ابتداء من سنة 1700 فصاعدًا لم يعد السلطان يفرض الاحترام العسكري ولا هيبة القوى الأوروبية التي كان يتمتع بها سليمان العظيم قبل ذلك بمئتي عام، والممالك العثمانية بدأت تتقلص حيث هوجمت القوقاز والبلقان وشبه جزيرة القرم من قبل قوات روسيا القيصرية وهوجم المغرب من قبل الفرنسيين.

الشيء الذي يجمع هؤلاء المفكرين في هذا الكتاب بلا استثناء هو اهتمامهم بهذه الحروب، سواء عموم الحروب التركية (انتهى آخرها عام 1792) وكذلك الحروب الروسية ـ التركية الكثيرة التي انتهت عام 1878. لايبنتز كتب مقالات عدة حول هذا الموضوع، هيردر التمس باستمرار أخبار الانتصارات الروسية على العثمانيين من صديقه أثناء سفره لفرنسا، غوته كان مُتيَّمًا بسلسلة لوحات موضوعها يحتفي بانتصار الروس في جشمه عام 1770، لدرجة أنه كتب وصفًا لها يقع في اثنتي عشرة صفحة، هيغل كان يُنقّب صفحات الجرائد كل صباح بحثًا عن أخبار أحداث في تركيا، ماركس كان منهمكًا بما فيه الكفاية في تطورات حرب شبه جزيرة القرم ليهرع إلى مكتبة ويقرأ بضعة كتب عن الأتراك.

ما كان يثير القلق لدى العديد من المفكرين الألمان هو بروز «المسألة الشرقية»؛ مصطلح دبلوماسي في القرن التاسع عشر لأزمة مستمرة هي دولة المسيحيين (الأرثوذكس اليونانيين والأرمن) الذين يعيشون تحت الحكم العثماني، ما بدا للكثيرين بأنه انهيار وشيك للإمبراطورية العثمانية كان حدثًا ـ على الأقل من وجهة نظر أوروبا الغربية ـ يثير مخاوف من احتلال روسي للشرق الأوسط، وتحويل إسطنبول إلى تسارغراد (الاسم السلافي للمدينة) وجلب نفوذ موسكو وسان بطرسبرغ إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

وبعيدًا عن الضغوط الخارجية فإن العثمانيين بكل تأكيد كانوا يتغيرون أيضًا من الداخل، التأثيرات الثقافية والسياسية الغربية وكذلك التكنولوجية كانت تمارس حضورها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: الزي الأوروبي في فترة التيوليپ (*) (1717 ـ 1730)، القصور على الطراز الأوروبي في عهد أحمد الثالث (ت: 1730)، الإصلاح العسكري التدريجي في عهد سليم الثالث (ت: 1808)…. الصراعات التي كانت تحدث في العاصمة العثمانية بين الإصلاحيين التحديثيين الراغبين بنظام جديد والمحافظين أو العلماء (صراع سوف تتابعه صحيفة هيغل بحرص بالغ) تشير إلى حالة اضطراب سياسي واجتماعي تفاصيلها معقدة ومتعددة الأوجه كما كان الحال في أوائل القرن التاسع عشر بأوروبا، في حين فشل وعي المفكرين الألمان بهذه التعقيدات واطلاعهم عليها في أن يعبر عن ذاته بأي صورة ذات مغزى في أعمالهم.

المؤرخون ينتمون للتاريخ، وتواريخ الأفكار ـ كحال كل التواريخ ـ كُتبت في مراحل محددة زمانيًا عبر أشخاص محددين ولأهداف محددة، هذا الكتاب كُتِب خلال الفترة بين عامي 2001 و2008، ونظرًا للتطورات الجيوبولوتيكية التي حدثت خلال تلك الفترة فمن السذاجة إنكار تأثيرها على هذا الكتاب، مع أنني حاولت بصدق وقدر الإمكان أن أزيل أي إسقاط أو تخمين في مقاربتي لهؤلاء المفكرين الثمانية، وأن أقوم بالاشتغال ببساطة على ما وجدته بدلاً مما أرغب في إيجاده، وأرجو ألا يُنظر إلى استعراضي لهؤلاء المفكرين بأنه افتئات أو تبرير؛ التحليل المعقد والكشف عما ينطوي عليه من إشكال أيدولوجي ليس مبادرة خلاصية بأي حال من الأحوال.

موقف النازيين من اليهود (سواء فيما يتعلق بشؤونهم أو فيتيشيتهم (*) أو محاولاتهم لتعلم اللغة العبرية) كان إشكاليًا بشكل ميؤوس منه، لكن لا أحد يفترض مطلقًا بأن هذه الإشكالية تبرِّئهم من مسؤولية كراهيتهم لهم. هذا الكتاب ليس حكمًا أو دفاعًا بل مجرد تحليل، وإن كان ثمة سبب يمثل قوة محرضة خلف تأليف هذا الكتاب السوداوي فليس سوى ارتياعي من قدرة العقل البشري على تجزئة مشاعره، وكيف يتأثر الناس حد البكاء لمحنة أطفال يعانون في «عدّاء الطائرة الورقية» (**) وفي نفس الوقت يؤيدون قصف أفغانستان.


هوامش

                 Cited in Jan Loop, Kontroverse Bemuhungen um den Orient, in Johann Jakob Reiske : Leben und Wirkung, ed. Hans-Georg Ebert and Thoralf Hanstein (Leipzig: Evangelische Verlagsanstalt, 2005), p. 80.

  1. Szakly, Türkenherrschaft und Reformation im Ungarn um die Mitte des 16 te Jahrhunderts , Etudes Historique Hongroises II (1985): 451.

          A Short Memorial of the Most Grievous Sufferings-cited in B. Kpeczi, Staatsrson und Christliche Solidaritt: Die Ungarischen Aufstnde und Europa in der zweiten Hlfte des 17. Jahrhunderts (Vienna: Boehlau, 1983), p. 135.

  1. Daniel Wilson, Humanitt und Kreuzzugsideologie um 1780 (New York: Peter Lang, 1984), p. 21.

          Karl Marx and Friedrich Engels, Collected Works (New York/London: International Publishers, 1975), 2:182.