مجلة حكمة
بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات

دراسة تحليلة لرواية “بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات” لمحمد برادة – عدنان زقوري

 محمد برادة في روايته بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات
غلافة رواية “بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات” لمحمد برادة

يطل علينا الروائي المغربي محمد برادة في روايته “بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات” بإشكالات عديدة نُسائل من خلالها التاريخ المغربي الحديث بصراعاته وتناقضاته، والموازنة بين فترتي الحماية والاستقلال، لقد اختار محمد برادة شخصياته بانتقائية تتحدث بلسان التاريخ وتُسائل تلك الفترات، لقد كانت رواية هذه حقا سجلا تاريخيا في طابع سردي روائي، طرح من خلالها قضايا ترتبط بالواقع المغربي في تلك الفترات؛ البطالة التي يجسدها الراوي الداخلي للرواية وهو الشاب الراجي، وكذا قضايا سياسية وهوياتية ثقافية…

سنُحاول في هذه القراءة النقدية مساءلة الشخوص الثلاث التي اختارها الكاتب لتتحدث بلسان التاريخ، نستشف بعضا من الأفكار التي لم يَقُلها الكاتب وإنما كانت ضمنية في السرد، ونُحاول أن نأخذ الرواية إلى أبعاد تأويلية قد نُصيب من خلالها وقد نُخطئ.

لعلي أظن أن اختيار المؤلف شخصية توفيق الصادقي كان نابعا من كونه مُخضرما عايش فترتين متناقضتين من حيث الظرفية السياسية وتحولاته؛ الانتقال من فترة الحماية إلى فترة (الاستقلال) وانتقال الصراع من الكفاح ضد الاحتلال وإجلاء المُحتل إلى النضال من أجل إرساء مُجتمع الديمقراطية وحقوق الإنسان والصراع ضد القصر وأذياله. لقد كان الصادقي الاختيار المُناسب في الكشف عن التغيرات التي حدثت بين الفترتين.

لكن يُمكن القول أنه بإمكاننا دراسة شخصية توفيق من منظور ثقافي، إنه تعبير عن صدمة الحداثة التي تكونت لدى نُخبة من الفرنكفونيين إبان الاحتلال، وما سيحدُث من تحولات بعد الاستقلال.

الصادقي لم يكُن مُلما مُدققا في تفاصيل الحركية السياسية التي عرفتها الفترتين، بل تَجده مُشاهدا من بعيد، أحيانا يسرد بعضا من الأحداث التي عرفتها الفترتين، ونأخذ بعضا من أقواله حتى نُبرز ذلك: في الصفحة 62 يقول الصادقي:بقدر ما تتعاقبُ الأحداثُ العامة ويستعر الصراع بين القصر والمُعارضة بقدر ما يتقلص اهتمامي بالشأن العام وأغدو مجرد ملاحظ من بعيد يسجل ويُقارن ويحتفظ لنفسه بخلاصة التأملات محترزا من الجدال وما قد يؤدي إليه انتقاد الأحوال من خُصومات وعواقب وفي الآن نفسه أنصرف بكليتي إلى رعاية أسرتي.”

غير أنه من خلال مجموعة من الملاحظات التي عبر عنها الصادقي يُمكن أن نستشف ونستكنه أهم الأحداث التي ميزت هذه الفترة سياسيا مُجيبين في ذلك على الأسئلة التي طلب الأستاذ الرحماني من الراجي طرحها على من سيُقابلهم. من قبيل ماذا تشكل لك فترة المقاومة وما الذي كنت تنتظره من الاستقلال؟ كيف ترى ان الأزمة عن نفسها الآن من خلال الواقع اليومي؟

لم يكُن تصعيد نضال الشعب المغربي إلا وعيا منه بضرورة تقرير مصيرها، وإجلاء المستعمر المتحكم في القطاعات الحيوية، وتزايد الهوة الإجتماعية بين المعمرين وخونة القضية وباقي أفراد الشعب المغربي، ولعل ما زاد من وتيرة التصعيد هو ذاك التلاحُم بين الشعب والعَرش.

ونطرحُ السؤال الآن بعد أن حصل المغرب على الإستقلال: ما الذي كان مُنتظرا من الإستقلال؟

لعل هذا السؤال يُمكن الإجابة عليه من خلال مواقف شخصيتين: علي أخ توفيق الصادقي، وخال هذا الاخير.

نورد أولا قولة لخال توفيق لنستشف الغاية التي كان يتوخاها المُناضلون بعد إجلاء المستعمر: ص51-52 قال لي إن مركز الثقل يوجد وراء ستار والذين يمسكون خيوطه يتحركون داخل الكواليس ويغوصون في مداولات ومناورات لا تَفْتر بين القصر والأحزاب وممثلي الإقطاع المتواطئين مع الحماية بالأمس القريب. سكت قليلا ثم أضاف وفي صورته أسى: أخشى أن يغدو الرهان هو تثبيت شرعية المخزن الموروثة عن عهد ما قبل الإستقلال المعتم بدلا من أن يكون هو تشييد مجتمع العدالة والتحرر الذي ناضلنا من أجله، ألا تلاحظ أن الحديث عن الديمقراطية والملكية الدستورية يتوارى وراء مؤمرات مصطنعة تحركها هياكل المخزن العتيقة وزبائنه الوارثين امتيازات تطلق أيديهم في المال ورقاب العباد.”

من منطلق الخال يمكن أن نستشف أن مناضلي الشعب المغربي كانوا يتبنون برنامجا سياسيا لفترة ما بعد الاستقلال، لم تكن الغاية قط مجرد إجلاء المحتل، إنما استمرارية النضال من أجل إرساء مجتمع الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان الكونية.

وهل تحقق البرنامج السياسي؟ لقد شكلت فترة حكم الحسن الثاني تصاعد الصراع بين القصر والأحزاب والتنظيمات اليسارية خصوصا بعد تصاعد المد الاشتراكي عبر العالم: كوبا، مصر، الإتحاد السوفياتي، فرنسا الكونغو…

ولعل علي يكشف لنا طبيعة المرحلة من خلال ممارسته السياسية التي اتخذت أحيانا طابعا راديكاليا، وهذا ما يوضحه توفيق الصادقي في قوله ص53:فاجأني التحول الذي طرأ على لهجته منذ 1959 أي بعد مضي سنة على التحاقه بالجامعة بدأت أحس كأنه يعتمد أن يستفزني من خلال الجهر بانتقاده مواقف القصر الملكي الذي لا يستجيب لمطالب الإصلاح اليسارية وعندما أقيلت حكومة عبد الله إبراهيم في 1963 ازدادت حدة مواقفي أخيلكن خطابه اتجه أكثر إلى جذرية بدأت تقلقني.”

 والملاحظ أن تشييد مجتمع الديمقراطية بعد الاستقلال كان مشروطا بصراع سياسي آخر بين القصر وأذياله من جهة وبين الأحزاب والجماهير الطلابية من جهة أخرى، وبذلك فإن البرنامج السياسي جُهض في فترة توالت فيها حدة الاعتقالات والاغتيالات، وخلق السموم داخل هذه التنظيمات، بل وتوطيد شرعية المخزن مقابل أفول وخفوت المد الجماهيري.

لعل في ثنايا كل هذا إجابة عن التساؤلات التي أثارت حفيظة كل من الراجي والرحماني، بينا أهم التحولات السياسية والمُجتمعية الممتدة بين فترتي الاحتلال و(الاستقلال).

أما شخصية توفيق الصادقي فيُمكن أن نحللها تحليلا ثقافيا، وأحيانا ثقافيا-سياسيا؛ لأن طبيعة الأجواء السياسية كان لها دور بناء الذهنية الثقافية لدى الصادقي وذلك مُلاحظ في قوله في الصفحة 60:أستشعر حرصا على المُوازنة بين الثقافة العربية والأجنبية نتيجة تأثير أمي وما ترسخ في لاشعوري خلال فترة النضال الوطني من أجل  الاستقلال.”

يبين هذا أن الأجواء السياسية لعبت دورا في استفزاز عقل الصادقي حول مسائل الهوية والثقافة الوطنية.

شخصية الصادقي تجسيد لذلك الصراع الفكري النفسي الذاتي الذي أصاب ثلة من المغاربة إبان فترة الاحتلال، وما شهدته من تسربات ثقافية جعلت هذه الثلة تنبهر من فِكر الحداثة وبدأت تُسائلُ التراث والهوية؟

وهذا يتجلى بشكل جلي في قول السارد الراجي في ص31:يستعيد توفيق ما رآه وسمعه ويستشرف بخياله ما سيقدم عليه. من قبلُ كان يتنظر متهيبا متلهفا السفر إلى فرنسا والاندماج في مجتمع مغاير يبدو له من خلال ما قرأه أو من خلال الفرنسيين الذين كانوا يترددون على خيام الضيافةوالاب الصادقي يحدث ابنه عن تلك الحركة ولم يكن متحمسا لتلك المطالب لأنه مبهور بمنجزات فرنسا وقوتها، وهو توفيق مشدود تماما إلى الأفق الجديد الذي انفتح أمامه منذ دخل الليسيه الفرنسي وتشبع بنموذج للعيش مخالف لما ألفه منذ طفولته.”

لكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفن الصادقي تُوفي الأب وأُلزم توفيق بالاستقرار في المغرب بعد ان كان يَهدِف إلى إتمام دراسته في فرنسا. تحول سيكون لهُ الأثر الجلي في شخصية الصادقي سيُعاود التفكير في الثقافة الوطنية سينجذب إليها بادئ انجذابا عفويا، ويُمكن القول انجذاب فطري طبيعي، ثم بعد ذلك الانجذاب العقلاني في محاولة المُوازنة بين الثقافتين الفرنسية والعربية بين المُكتسب والأصيل، بل تجد ان الثقافة الوطنية كانت النموذج المُعتمد في كثير من مواقفه؛ تقاليد زواجه، البرود الجنسي لزوجته حيث عبر عن خوفه من أقوال وتقولات الناس في قوله ص60:” قررت أن أجد حلا لمُشكلة البرود الجنسي عند زوجتي تلافيا للفضيحة والتقولات.”

 بل قد يصفني البعضُ بالمبالغة إذا قُلت أن الثقافة المغربية طغت بشكل أكبر وأعنف على شخصية الصادقي وذلك جلي في تصرفه تجاه دعوته أصهاره حيث قال في ص82:غادي نوريهم شكون هي عائلة الأستاذ الصادقي وش تسوى وكيف هي أصول الضيافة والكرم في المغرب.”

لكن سيحدث تحول آخر في شخصيته الثقافية إنه تزعزع ازدواجيته الثقافية، زعزعت ذلك التبجيل الذي يكنه للثقافة الفرنسية، إنها رسالة جورج جوبير التي دمرته تدميرا بل وكأن غضبه ذلك إنما دفاعا عن الثقافة المغربية يقول في ص84:اقرأ ما كتبه هذا الخنزير الذي دللته وزوجته العاقوص وابنه المغرور اقرأ لكي لا تظل مبهورا بالفرنسيين الأجلاف عديمي اللباقة.”

هي تحولات نفسية بين المكتسب والغريزي. إن اكتشاف الذات لا يكون إلا من خلال تحولات في المواقف، ولعل المُحيط والبيئة بما يحمله من مؤثرات ثقافية يُسهم إلى حد كبير في بناء الذات.

لقد كان توفيق الصادقي منبهرا إلى حد التشبع بالثقافية الفرنسية إبان الحماية إنه تعبير عن صدمة الحداثة غير أن الإستقلال حرك في عقله ضرورة العودة إلى الوراء وطرح السؤال حول الهوياتي الثقافي المحلي ليُعيد تشكيل ذهنيته وفق منطق الموازنة بين الثقافتين.

لعلي ملزم بأن أحلل شخصية فالح الحمزاوي من آخر كلماته في الرواية أو الحيز الورقي الذي خصص له، يقول فالح الحمزاوي ص132:”دائما يصعب علي أن أخمن من هو وراء الخديعة التي تسمم أيامي وتُفرغُني من تدريجيا من اندفاعي الحيوي. يذهب بي الظن إلى أن جميع المناضلين يستشعرون مع تقدم التجربة انتقال “مشاريع التغيير الثوري” من سماوات الشعر والتجريد إلى بطاح النثر والتسابق على النفوذ والسلطة، في ظل التباسات يُغذيها اللجوء الموسمي إلى استحضار أصول تأسيس الحزب وغلائل التخييل البدئية المقترنة بتحقيق الأمجاد.

وعندما أستعرض حياتي ضمن مجموع مكوناتها،أجد ظلال الخديعة تمتد إلى جنبات حياتي العاطفية والجنسية أيضا. تطوقني أسئلة شائكة حول علاقتي بلُبنى وقطيعتي المفاجئة معها، وزواجي المرتب بسميرة، ومغامرتي مع صوفيا، مغامرة هي بطعم الإعصار الذي خلخل ما هو غاف بالأعماق.”

إن مفهوم الخديعة هنا إنما تعبير عن تلك الصدمات التي تلقاها فالح الحمزاوي في حياته السياسية والعاطفية، هي هزات غيرت نظرته لمجموعة من المفاهيم والتصورات التي كان يتبناها.

في الجانب السياسي تجلت في ذلك التضعضع التي عرفه الحزب من حيث المبدئية والمواقف، لتُزال الحجب والستائر وتكشف عن عالم من الانتهازية والوصولية والتزلف داخل بعض من أعضاء الحزب، وذلك حسب تعبير فالح الحمزاوي في قوله ص129:“تساءلت آنذاك، هل يكفي أن نبتدع مثل هذه الجُمل الفضفاضة (خطأ في المنهجية الديمقراطية) لنحتج على إجراء تعسفي يعود بالبلاد إلى منطقة السكتة والشلل وبرلمانات السيرك؟ توقع الرأي العام ان ينسحب الحزب من الحكومة عقب تلك الإهانة العلنية الصراع، إلا أن فئة من المستوزرين والذين ذاقوا البزولة واستطابوا الكراسي سرعان ما زعموا أن الإنسحاب هو تخل عن برنامج الإنقاذ الذي طرحه الحزب، ومن ثم ضرورة المشاركة في الحكومة الجديدة للسهر على تطبيق ما بدؤوه، من سيسهر على ماذا؟ وأي سلطة يملكها من ينصب نفسه ساهرا على برنامج تطايرت محتوياته شذر مذر؟”

لعلها الضربة التي قسمت ظهر الحزب إلى يومنا هذا، ولعل الكاتب يتحدث عن حزب الاتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية. لقد شكلت فترة حكومة التناوب التي قادها عبد الرحمن اليوسفي خطوة نوعية نحو تحمل المعارضة المسؤولية في محاولة إرساء الشبه ديمقراطية في تلك الآونة، تم شيئا ما تحسين الموارد اللوجيستيكية والبشرية والمالية لمجموعة من القطاعات الحيوية، وتنزيل عدة مشاريع تنموية، لكن ستأتي الفاجعة على الحزب سنة 2002 عندما أبعد من رئاسة الحكومة لصالح ادريس جطو، وهنا كان الأجذر ان يتخذ الحزب موقف العودة خطوة للوراء حتى يحافظ الحزب على مكانته داخل أوساط الجماهير غير أن لعق الحذاء والرضاعة من ثدي المال جعل بعض أعضاء الحزب يتنكرون للمواقف فكانت ضربة شقت الحزب إلى اليَوم.

أما الجانب العاطفي والجنسي في إحساس الحمزاوي بالخديعة إنما يتجلى في تلك السقطات التي عاشها في بعض من علاقاته الحميمية مع لُبنى وصوفيا خصوصا، وإن كانت نهاية علاقته بهما مأساوية، فقد كشفت له عن أبعاد أنثوية أخرى، ولأكون أكثر تدقيقا ذلك الجانب الأنثوي المتمرد؛ المتمرد على الموروث والمحافظ، بل ذلك المتمرد على سنن الحياة (الزواج). إنها الأنثى التي لا تعيش أوهام الرومانسية والحب بل تمنح لجسدها حق التمتع وحرية الغربة ولا تخضع لمقتضيات الثقافة، الموازنة بين رغبة الجسد والرغبة في الإكتفاء الذاتي المعيشي.

لم يتنكر الحمزاوي لمبادئه ولا مواقفه تجاه الحزب، بل إن وجود الحمزاوي من وجود الحزب، يعلم الإرث السياسي  والدور الذي لعبه الحزب في محطات نضالية عديدة والتحضيات الجسيمة التي قدمها، غير انه يتسحر لما آلت له الأوضاع السياسية والحزب خصوصا، وكان أول ما نصح به ابنه بعد تخرجه من المعهد الزراعي أن يضع بينه وبين السياسة مسافة أميال وفي ذلك يقول الحمزاوي في ص150” وأنا لا أريد له أن ينخدع ويندفع باتجاه التطرف والطوبوية التي تؤدي تؤول إلى ضياع العنر وإعلان التوبة للحصول على الفتات.”

لقد عاش فالح الحمزاوي حياة ملؤها الانشقاقات والتصدعات، بل لم يربط الصفاء الذهني في حياته إلا من خلال محطات ثلاث يقول في ص149:” تضحية أختي الكبيرة من أجل ان أكمل أنا تعليمي الجامعي، وكلمات التشجيع التي كانت تغدقها علي. علاقتي العاصفة ب صوفيا التي حملتني إلى أصقاع مجهولة. وأيام النضال الشبابي مع صديقي حفيظ من أجل أن نغير العالم.”

لعل علاقة الحمزاوي بهذه الشخصيات الثلاث والفترات التي عاشها مع كل شخصية تميزت لذلك النوع من العلاقة السامية التي لا تشوبها شوائب النفاق أو الخداع بل كشفت له عوالم أخرى ثقافية سياسية وسلوكية. حفيظ المناضل المبدئي الذي بقي متمسكا بمواقفه والمحلل العلاقني للظروف السياسية وتطلعات الحزب. أخته التي جسدت معنى نكران الذات في سبيل مساعدته في بناء مشروعه المهني، ثم صوفيا التي عاش معها تجربة حميمية زعزعت لديه تلك النظرة للأنثى والتي كانت بحق كيانا مستقلا بذاته في وصفها ذاتا حرة تعبر عن رغباتها لا عن رغبات المجتمع.

عرج بنا الروائي محمد برادة إلى عوام أخرى في شخصيته الثالثة، عالم لا يقل أهمية عن المجال السياسي والصراعات الإيديولوجية في فترتي الحماية وما بعد الإسقلال، لعله عالم ممزوج بالثقافة والمُجتمع: إنه عالم المرأة ولعلي أكون أكثر تحديدا إذا قُلت قضايا المرأة في شموليتها.

لعل قضية المرأة من بين النقاشات التي كان لها صدى واسع ما بعد الإستقلال، المراة في علاقتها بالمجتمع وسيطرة النزعة الذكورية، والمرأة في علاقتها بالثقافة المغربية التي كانت آنذاك تحد من حريتها وتفرض عليها القيود، وتجعلها فضاء رحبا للدونية والإضطهاد.

يُطل علينا محمد برادة بشخصية فريدة في حياتها، قد تُشكل صدمة لذوي الحزازات وقد يشعر آخرون بالاستفزاز العقلي والنفسي وهم يتبحرون في عالم هذه الشخصية.

نبيهة سمعان المحللة النفسية التي آثارت من خلال التحليل النفسي أن تكشف عن بواطن النفس البشرية وتعقيداتها. ليست هذه الشخصة حاملة لقضية المرأة كفكر فقط بل كممارسة عملية للتحرر من القيود المثجتمعية، ولعل المثحيط الذي نشات فيه أسهم إلى حد كبير في تشكل رؤيتها للوُجود وللعالم ولنفسها كامرأة داخل عوالم الرجولة. تقول نبيهة سمعان في هذا السياق في ص155:“قبل كل شيء أُصارحك أنني منذ المراهقة كان لدي رفض جارف ل”الإنحباس الهوياتي” كما يمكن أن أعبر عنه بلغة اليوم. كان أبي موسرا وأمي متعلمة عصرية، مرتاحة داخل جلدها وحين اكتشفت العوالم التي تفتح نوافذها اللغة الفرنسية استولت علي رغبة جنونية في أن أصير غيري. ليس مجرد تمثيل طرائق عيش الأجانب بل الرغبة في أن اكسر الحواجر وأوهم النفس التي أنتمي إلى شساعة الدنيا وأحلق في الأجواء اللامحدودة.”

لقد خلف الاستعمار وراءه مخلفاته الإيديولوجية سياسيا واجتماعيا وثقافيا فيما عُرف بصدمة الحداثة وطرق العيش الحداثية، وقد شكلت قضية المرأة جزءا لا يتجزأ من هذه الصدمة خصوصا لدى الذين عاشوا فترة في فرنسا وتشبعوا بثقافتها وطرق عيش شعبها، وما نبيهة سمعان إلا تجسيد لذلك.

إذا كنا مع فالح الحمزاوي عشنا النضال السياسي كأداة للتغيير فإن أداة نبيهة سمهان للتغيير تكمن في النضال ضد الموروث والوصاية وضد التقاليد والأعراف فكان منظورها ثقافيا لا سياسيا، تقول في ذلك في ص160:“إلا أنني لم أكن أحس أن الإلتزام السياسي هو ما سيستجيب لتطلعاتي إلى تغيير المُجتمع. كنت أستشعر ثقل الموروث وفخامة المعوقات المتغلغلة في عمق النسيج الإجتماعي والسلوكي من ثم أقلب على قراءات موسعة في علم النفس ونظريات سيغموند فرويد مقتنعة أن هذا هو المدخل لاستجلاء الغوامض التي طالما حيرتني وانا أعيش مراهقتي ومطلع شبابي باحثة عن نموذج يتناغم مع الاحلام التي هدهدت فترة اكتشاف لذائذ الجسد اليانع، وسحر المعرفة وتجربة إثبات الذات وسط مجتمع يحمل عقابيل الذكورية الوصائية، ومراسيم دونية المرأة.”

لقد أطلقت نبيهة سمعان الحرية لجسدها من أجل التلذذ والمتعة وإشباع الرغبة، كانت في علاقاتها الحميمية تبتعد عن ذلك المعروف بالرومانسية والحب وأوهام المستقبل والتعاقدات والتعقيدات، إنما كان الإنتشاء الجسدي الغاية من كل علاقة.

ولعل أول تمرد جسدي ضد النزعة الذكورية عند نبيهة سمعان هو فض بكرتها ونحن الأعلم ما للبكرة من خصوصية في المُجتمع المغربي، إنه شرف العائلة الذي سالت من أجله الدماء الكثيرة، وما كان من نبيهة سمعان إلى التمرد على هذه الخصوصية الذكورية، المطية التي يمتطيها الذكر من أجل فرض السطوة.

لقد شكلت قضية المرأة إلى جانب التركيبة النفسية للمجتمع المغربي السبيل إلى امتهان نبيهة علم النفس في فرعه التحليل النفسي، تقول نبيهة في ص175:“دعني أقول لك وراء اختياري يمكن مطمح التعرف على سلوك الرجال والنساء من منظور الدوافع والعُقد ومكنونات اللاوعي وتجليات الجنس.” وتقول في فقرة أخرى في ص181:“وعندما جابهت وضعيتي كامرأة خاضعة لإرادة ذكورية تزيف علاقة الرجل بالمرأة، وتشعرني بالدونية. أخذ سؤال المرأة يستولي على اهتمامي ويقودني إلى أسئلة المُجتمع الذي أنتمي إليه وهذا ما جعلني أفكر في اختصاص يردم تلك الهوة التي فصلتني عن آخري الساكن بأعماقي.”

إلى جانت عيادتها فتحت نبيهة صالونا ثقافيا يجمع في ثناياه بين أطياف متعددة من المثجتمع: روائيين وكتاب وشباب مثقف، إنما الغرض من هذا الصالون طرح قضايا قد لا يستطيع الإنسان طرحها في أماكن أخرى، إنه فضاء من أجل كشف ما في النفوس تُجاه قضايا وطابوهات سياسية وثقافية، يجمع بين الرجل والمرأة في فضاء تصدح فيه الأفكار ويكون مرتعا للتعايش بين الطرفين دون سبق في المواقف ولا نظرات أحادية للطرف الآخر.

لقد كانت الشخصيات الثلاث التي اختارها محمد برادة وثائق تاريخية قبل أن تكون شخوص روائية، تتحدث بالتاريخ وتحولاته وصراعاته وتناقضاته، عشينا في ظل الصراعات السياسية في فترتي الحماية وما بعد الإستقلال وبين الصراعات الثقافية النفسية بين الموروث والمُكتسب وعشنا قضايا المرأة في بعدها النضالي الممارساتي لا التنظيري الفضفاض.

لقد كان محمد برادة جريئا في طرح قضاياه، ناقدا قبل أن يكون روائيا ساردا، لا يضع أمامه البتة الحواجز ولا الطابوهات، كاشفا عن حقائق تاريخية قد لا يُدركها إلا العالم بالتاريخ المغربي فترتي الاستعمار وما بعد الإستقلال لتكون هذه الرواية مجالا فكريا للتحليل والتأويل وتمثل التاريخ المغربي.