مجلة حكمة
فضح السياسات لـ بطوط

بطوط: العقيدة الاستعمارية في رسومات ديزني

الكاتبدان بيبنبيرغ
ترجمةسعيد الغامدي
دان سياسات بطوط
دان بيبنبيرغ، كاتب في مجلة النيويوركر بطوط

الأجندة السياسية في بطوط 

في سانتياغو عاصمة تشيلي في أوائل سبعينيات القرن العشرين كان الكاتب أرييل دورفمان يعمل مستشارًا ثقافيًّا للرئيس التشيلي سلفادور أليندي . كانت هناك حمى ثورية في الأجواء ، و كما كتب دورفمان في مذكراته “متجهٌ جنوبًا ، قاصدٌ شمالًا” : “تشعر بحماسة تلك اللحظات العظيمة القليلة في حياتك حين تعلم أنَّ كلَّ شيءٍ ممكنٌ”. لقد أبدع كلَّ شيءٍ من الأشعار و التقارير السياسية إلى القصص المصورة للأطفال و أغاني الإذاعة .

“تركتُ الإسبانية تتدفقُ مني كما لو كُنْتُ نهرًا !”

لكن أبقى أعماله في تلك السنين هو كتابٌ عنوانه “كيف نقرأ بطوط: العقيدة الاستعمارية في رسومات ديزني” ألفه بالمشاركة مع الاجتماعي البلجيكي أرماند ماتيلارت .

 

بين جماهير أمريكا الشمالية كانت ديزني أكثر شهرة بأفلامها و مدن ملاهيها ، لكن في الخارج كانت رسومات ديزني لها عدد كبير من القراء ، فقامت جحافل من الرسامين المستقلين بكسو شخصياتها و إعادة كتابتها بما يناسب الأذواق الدولية . و في تشيلي كان بطوط هو أشهر شخصيات ديزني على الإطلاق . لكن دورفمان و ماتيلارت جادلا أن بطوط كان بوقًا ناطقًا بلسان مَنْ يقاومون التغيير ، مثبطًا للروح الثورية ، معززًا للرضوخ للواقع ، و مُجمّلًا لخطايا الاستعمار . أي نوع من القدوة كان هذا البط الخصي الذي يبحث فقط عن الشهرة و الثروة ، الذي يتجاهل محنة الطبقة العاملة ، الذي يقبل المعاناة الأبدية كأنها قدر محتم عليه ؟

“قراءة ديزني” – كما كتبا – “تشبه أن يُستغل أحدهم بحشر العسل في حلقه .”

 

“كيف نقرأ بطوط” نُشِر عام 1971 م و كان أفضل الكتب مبيعًا في تلك اللحظة . لكن سنةَ 1973 م احتاز أوغستو بينوشيه السلطة بانقلاب عسكري عنيف ، و تحت حكم بينوشيه مُنِع الكتاب بوصفه رمزًا لطريقة تفكير سقطت . فأصبح ميكي و بطوط أبطالًا للثورة المضادة . و علق أحد المسؤولين وجوهَهما على جدران مكتبه ، الذي كان في عهد سلفه تُعلّق عليه الشعارات الاشتراكية . كما شاهد دورفمان الجنود في التلفاز يقذفون كتابه في النار ، و صادرت البحرية عشرة آلاف نسخة تقريبًا من كتابه و ألقتها في قناة فالبارايسو المائية . و حاول سائق سيارة دعسه في الشارع و هو يهتف “يعيش بطوط !” ”Viva el Pato Donald !“ و هاجمت أفواج المتظاهرين منزله متحججين بهجومه على براءتهم بينما كانوا – بشكلٍ أقلَّ براءةً – يقذفون الصخور من خلال نوافذ منزله .

في الخمسينيات فَرَّت عائلة دورفمان من أمريكا إلى تشيلي هربًا من قبضة المكارثية ، و الآن بينما يعود إلى أمريكا منفيًّا من تشيلي ، لن يستطيع العودة إلى تشيلي مرةً أخرى لما يُقارب العقدين .

 

نما فضول العالم في هذه الأثناء حول “كيف نقرأ بطوط” . فتُرجِم الكتاب إلى حوالي عشر لغات من ضمنها الإنجليزية و باع نصف مليون نسخة . ( و أشاد جون بيرغر بالكتاب على أنه ”كتيب إنهاء الاستعمار“ ) لكن الناشرين الأمريكيين خافوا من احتمالية أن يتعرضوا لدعوى قضائية يخسرونها من ديزني ، التي كانت معروفة بمقاضاتها عاجلًا في أغلب الأحيان . و في 1975 م وافقت مطبعة على خط إنتاج متواضع لحوالي أربعة آلاف نسخة ، و طُبعت الكتب في بريطانيا ثم شُحِنت إلى الولايات المتحدة ، لكن عند وصولها إلى نيويورك صادرتها الجمارك لشبهة “النسخ القرصني” . إذ أن الكتب أعادت إنتاج رسومات من قصص ديزني المصورة بلا إذن .

دعت الجمارك المحامين من كلا الطرفين لطرح قضاياهم ، و حاججت ديزني أن الآباء قد يقتنون الكتاب معتقدين بحسن نية أنه من إصدارات ديزني ، فيقدمون دعاية متطرفة لأطفالهم دون علم . اصطفت الجمارك في النهاية مع المؤلفَين ، لكن طبقًا لمادة غامضة في قانون الاستيراد وُضعت لمكافحة وصول الكتب المزورة من الخارج فقد اعترفت الوكالة بخمس مئة نسخة فقط إلى الولايات المتحدة ، و لم يحاول أي ناشر آخر نشر هذا الكتاب حتى هذا الصيف الماضي . إذ قدمت دار OR للنشر [ OR books ] فرصة جديدة للأمريكيين لاكتشاف “القبضة الحديدية خلف قفاز الفأر [ ميكي ]” كما يقول مترجم الكتاب إلى الإنجليزية ديفيد كَنْزل David Kunzle .

 

هل كان يستحق الانتظار ؟ وفقًا لدورفمان فإن “كيف نقرأ بطوط” قد كُتِب “خلال عشرة أيام محمومة على الشاطئ” هذا ما عليه الأمر في كل الأحوال . الكتاب يمتلك روح دعابة تتمم روحه المحاججة . كأفكاره العميقة المتعلقة بالحياة العملية في مدينة البط ، تلك المدينة الجهنمية التي كان بطوط و أبناء أخته ؛ كركور و فرفور و زرزور ، يعدونها وطنًا لهم . تلك المدينة الموبوءة بالأدخنة و الاختناقات المرورية “هي عالم مرعب ، على شفا الانهيار دائمًا ، و لتنجو فيها يتطلب الأمر فلسفة استسلامية” كما كتب دورفمان و ماتيلارت .

 

بطوط عاطلٌ دائمًا ، لكن ليس بسبب التشوهات الهيكلية للرأسمالية ، بل لأنه عاجزٌ كسول . “أنت مطرود يا بطوط !” يصرخ مديره في المخبز راكلًا إيَّاه من الخلف على موضع بنطاله ؛ عدا أنَّ بطوط لا يرتدي أي بنطال . “هذه هي المرة الثالثة التي تنام فيها داخل خلاطة العجين !”

يقفز بطوط من نهاية مسدودة إلى أخرى، مشاركًا فيما يسميه الكاتبان “المطاردة المحمومة لأجل المال” التي تدفع “دوامة سوء استغلال الثروة” في مدينة البط .

 

و لأن عِيشة المدينة ضنكى فإن بطوط و أبناء أخته دائمًا ما يطيرون إلى بِقاع عجيبة ، كإنكا بلِنْكا و فوضى-ستان حيث “كل أزعر يريد أن يصبح ملكًا” وفقًا للقصص المصورة ، و هناك “دائمًا شخص يطلق النار على شخص آخر” . الحرب متفشية و عبثية على ما يبدو في هذه الديار ؛ و أهل هذه الديار هم همج حمقى في غيهم يعمهون .

 

لكن لحسن الحظ فإن بطوط اعتاد على الاضطرابات المدنية كما يعتاد البط الماء ، فنجده يسحق التمردات و يستخلص الكنوز أينما حَلَّ . العالم الثالث يعج بالكنوز ، و غالبًا في هيئة قطع أثرية قديمة مدفونة من حقوب غابرة عفى عليها الزمن . و لا أحد يعرف أو يهتم بأصل هذه الكنوز ؛ هي فقط مهمة لأنها قيمة . لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن فغالبًا ما تطير إلى هذه الكنوز براثنُ العم دهب ، عم بطوط ، الوَلوع بالسباحة في أكوام الذهب . العم دهب هو أقرب شيء إلى الأب عرفه بطوط . مدينة البط ليست مكانًا لتنشئة أسرة ؛ فهي تحتضن فقط الأعمام و أبناء الأخت و أبناء العم و الخطيبات ، لكنها لا تحتضن أبدًا أمهاتًا أو أبناءً . فباسم الطهارة و العفة تخلصت ديزني من الأبوة و الأمومة كليهما و معهما وقائع الحياة و الحب . “عالم ديزني هو مَيْتم في القرن العشرين” كما كتب دورفمان و ماتيلارت ، مليء بالانضباط الصارم و الطاعة لرموز “سلطة العم” التعسفية بمعاملاتها الاجتماعية القاسية التي تسيّر الحياة . في قصة ما ترقص بطوطة حبيبة بطوط الأزلية من غير إذن عمتها الرافضة ، فترد عمتها بأن تحرم بطوطة من ميراثها .

 

لم يكن دورفمان و ماتيلارت قطعًا أول من استشعر العفن المستشري في ديزني لاند . سمى غلبرت سلدز ديزني بـ “المُعَدِّن الجَشِع” في “مناجم ذهب القصص و الأساطير” . و ازدرى ماكس هوركهايمر روح الاستوديو التجارية كاتبًا “أشعة الشمس في ديزني تكاد تتوسل لأن تحمل علامة تجارية لصابون أو معجون أسنان ليزينها .” و أقر جيمس إيجي أن “إغراء” ديزني “المخنث” يجعله “يشعر بالغثيان” . و لُمِّع والت ديزني نفسه من البيت الأبيض على أنه “مُنْشئ فلكلور أمريكي” مُضْفيًا عليه رداء البراءة و واصفًا ميكي بأنه “الشاب العظيم الصافي الذي لا نقص فيه .” لكن كانت هناك دائمًا شقوق في مكان ما من واجهة ديزني العامة . ففي عام 1931 م حظرت جمعية الفلم الأمريكي و الموزعون في أمريكا فلم رسوم متحركة لديزني يظهر فيه ضرع بقرة يتمدد و يُسحب بشكل مثير . و خلال الحرب العالمية الثانية ظهر بطوط في فلم يحتفل فيه لأن شخصًا ما قد دفع ضرائبه .

 

تميل الجماهير اليوم إلى قبول أن كل الترفيه لا بد أن يحمل جانبًا سياسيًّا ، لكن هذه الفكرة كانت عسيرة القبول في عام 1971 م . و كما كتب دورفمان و ماتيلارت فإن “هناك دائمًا ذاك الانطباع أن السياسة لا تستطيع دخول مناطق ”الترفيه المَحْض“ خاصةً ذلك الذي يُصمّم للأطفال .” و بينما تطورت ديزني من استوديو للرسوم المتحركة إلى عملاق الشركات البَهِيمُوث¹ بمدن الملاهي و خط إنتاج و محتوى يُبَثّ حول العالم  ، فإن “كيف نقرأ بطوط” و تفنيده للثقافة الاستعمارية ليس فيه مجال للشك . في إصدارات ديزني للقصص المصورة البارزة في تشيلي لمح دورفمان و ماتيلارت توجّهًا مستمرًا إلى هذا اليوم : و هو الفكرة الغالبة للحلم الأمريكي الذي ليس فيه شاحنة لنقل العمال و لا الضيق بالنضال ، من شركة تبدو للناظرين طيبة النية . و لعل هناك نوعًا من العدالة في وصول الكتاب المتأخر إلى الولايات المتحدة ، في نقض للتقدم الأمريكي . البلد الذي ابتكر بطوط هو آخر من يكتشف سخريته ، و يا لها من سخرية بالغة .

في إحدى القصص المصورة يقول ملك أمة مزقتها الحرب لكركور و فرفور و زرزور : “لقد ساعدتمونا في إيقاف الثورة ، و سأكون دائمًا ممتنًّا لكم ، فكيف أستطيع رد جميلكم ؟” فيرمقهم بطوط بفخر قائلًا : “آمُلُ أن يطلبوا الكثير من المال !”

المصدر