مجلة حكمة

الهوغونوتية / ترجمة: مشرف بك أشرف


الهوغونوتية Huguenot عبارة، تطلق على كل من كان ينتمي إلى المدرسة البروتستانية المسيحية في فرنسا فيما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، وعذب وامتهن لعقيدته وقناعته. أما جذور كلمة “Huguenot” فليس عندنا ما يسوغ لنا البت فيها، ولكن المتبادر أنها مشتقة من كلمة “aignos” التي اشتقت من الكلمة الجرمانية ” Eidgenossen” التي تعني “الجماعة المتحالفة” وكانت تطلق فيما بين السنة العشرين والسنة الرابعة والعشرين من القرن السادس عشر، على مواطني جنيف الذين أنشأوا تحالفا مناويا لدوق “سافوي”. أما التغير في حروفها ترتيبا فلعله بأثر علم رجل ” Hugues“، فإن أحد قادة الحركة الجنيفية كان اسمه ” Besançon Hugues” (وتوفي سنة ألف وخمسمائة واثنتين وثلاثين 1532)

لقد قامت في ألمانيا في سنة ألف وخمسمائة وسبع عشرة (1517) حركة أصلاحية، وسرعان ما انتشرت شرارتها في فرنسا وخاصة في المناطق الفرنسية التي كانت ترزح تحت حمل الأزمة الاقتصادية، وكان أرحب الناس بها صدرا من كان يشكو من النظام الملكي القائم. ولكن النظام القائم الفرنسي بطش بهذه الحركة بطشا، ونكّل بالذين دانوها تنكيلا، وكان أول مضحّ بحياته منهم  “جان فالير” الذي أحرق حيا في باريس بآب سنة ألف وخمسمائة وثلاث وعشرين (1523). واستمرت الحركة على الرغم من الاضطهاد، إلا أن النظام التقليدي شدّد وصعّد الإجراءات المتخذة ضد المنشقين الإصلاحيين بعد “قضية اليافطات” التي حدثت سنة ألف وخمسمائة وأربع وثلاثين (1534)، ووجد فيها الناس يافطات، تنتقد القداس الإلهي، بل وجدت واحدة لدى باب مخدع الملك فرانسيس الأول في أمبواز، وازداد إثر هذه الموقعة البروتستانيون النازحون من فرنسا ونزح جلهم إلى ستراسبروغ التي كانت آنذاك مدينة مستقلة من الدولة (الأمبراطورية) الرومانية المقدسة، وكانت فيها كنيسة إصلاحية، أسسها مارتن بوتر. كان من النازحين واحد، طار صيته، وهو “جان كالفن”، شد رحاله إلى  مدينة بازل (من سويسرا) في ربيع ألف وخمسمائة وأربع وثلاثين (1534)، ويغلب على الظن أنه في بازل عمل عمله الشهير “تأسيس الديانة المسيحية” ووضع في مقدمته كتابا، خاطب فيه الملك فرنسيس الأول يناشده أن يشد أزر الحركة الإصلاحية في فرنسا. هذا ولبّى جان كالفن دعوة من مارتن بوتر، فزار ستراسبروغ في سنة ألف وخمسمائة وثمان وثلاثين (1538)، وأسس فيها جالية فرنسية. وحينما نسج أول مجتمع هوغونوتي في حدود فرنسا، مدينة مو، سنة ألف وخمسمائة وست وأربعين (1546)، نسج على منوال الجالية الفرنسية الستراسبروغية، ثم وضع حجر أساس الكنيسة الهوغونوتية من السنة التالية، وظلت الحركة الإصلاحية تنمو وزدهر في فرنسا على رغم أنف الاضطهاد.

وانتهى الأمر أن انعقد، في أيار ألف وخمسمائة وتسع وخمسين (1559)، أول مجلس للكنيسة البروتستانية الفرنسية، حضره اثنان وسبعون ممثلا من جميع محافظات فرنسا، وشهدوا وأقروا بعقيدة مصبوغة بصبغة أفكار جان كالفن، فعادت الكنيسة البروتستانية الفرنسية إصلاحية غير لوثرية، وشهدت فرنسا بعد هذا المجلس تزايدا مذهلا في عدد أتباع النزعة الإصلاحية، فكانت الكنائس الممثلة في المجلس الأول البروتستاني خمس عشر، وبلغ هذا العدد في المجلس المنعقد بعد سنتين في سنة ألف وخمسمائة وواحدة وستين (1561) ألفين ومائة ونصف مائة (2150)، وأنزل هذا العدد المتزايد الحركة الإصلاحية في أودية السياسة القومية.

لقد دبّر هوغونوتيون في آذار سنة ألف وخمسمائة وستين (1560) مؤامرة، تعرف بالمؤامؤة الأمبوازية، لاختطاف الملك فرانسيس الثاني الشاب والإطاحة به، و لم تنطل حيلتها وباءت بالفشل، وأعدم كافة المتآمرين ماعدا لويس بوربون الأول، أمير كوندي، ولكن كان قد اشتد عود الإصلاحيين حتى بلغ بهم الأمر أن أشهر قادتهم، جاسبار دي كوليجني، احتجّ متحدثا باسمهم في جلسة جميعة الأعيان في “فونتينبلو” في آب ألف وخمسمائة وستين (1560)، ورفع صوته بسلمية على أنواع انتهاكات حرية الضمير، ولكن احتجاجه السلمي لم يقدم شيئا ولم يؤخر، وحينما أقام جنود آل جوايس الكاثوليكيين مجزرة في الهوغونوتيين المجتمعين في حظيرة في فاسي للعبادة، صدع “لويس كوندي” بأنه لامأمول إلا الله ثم السلاح، وأمضى قادة الهوغونوتية في مدينة أورليان بالثاني عشر من نيسان ألف وخمسمائة واثنتين وستين (1562) منشورا لهم، أعلنوا فيه أنهم أتباع أوفياء للقساوسة المضطهدين المجحف بهم، ويدعوهم وفاؤهم هذا أن يسلوا سيوفهم من غمودها يرفعوا أسلحتهم، وكان الإعلان في الحقيقة إيذانا ببداية عهد الفوضى والعنف في فرنسا، ونفخا في بوق ما يعرف بالحروب الدينية التي لم تنطفأ شرارتها إلا بنهاية القرن. من وقائع ذلك العهد التي تقمن بها الإشارة في هذا السياق “مجزرة القسيس بارتيليمي”، لقد اجتمع الملك تشارلز التاسع ووالدته “كاترين ميديسيس” ودوق أنجو الذي أصبح فيما بعد هنري الثالث، و آل جوايس يتشاورون، وأسفر اجتماعهم هذا عن مجزرة بشعة، أدوعت بحياة قرابة جميع قادة الهوغونوتية في باريس عند اليلة الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من آب ألف وخمسمائة واثنتين وسبعين (1572)، وشهدت المدن الأخرى ما شهدت فرنسا من ذبح الإصلاحيين بالآلاف، وحلف من نجوا منهم بالمعارضة المستمية الشديدة، وألّفوا حزبا سياسيا في مدينة نيم سنة ألف وخمسمائة وثلاث وسبعين (1573). كان فيليب مورني شخصية بارزة بروزا في هذه الفصول، وهو شهير باسم “دو بليسيس مورني”. لقد انعقد أمل الهوغونوتيين في أول الأمر على أن الملك القادم سيكون منهم، ولكن لما رأوا أن آمالهم ستحبط حتما وأيسوا منها، ناضلوا لكامل الحرية الدينية والمدنية في الدولة.

استمرت الحرب بعد مجزرة القسيس بارتيليمي بفواصل متقطعة قصيرة واستوعبت عهد الملك الممقوت الذي ورث العرش من تشارلز التاسع في سنة ألف وخمسمائة وأربع وسبعين (1574)، فإن هذا الملك بقي يقدم رجلا وتؤخر أخرى في أمر هذه الحرب، وظل مترددا فتجرّأ الناس وكونوا تحالفا “مقدسا” لدحر تيار الهوغونوتية، ثم ورث العرش بعد ما اغتيل هنري الثالث سنة ألف وخمسمائة وتسع وثمانين (1589) هنري الرابع الذي كان منتميا إلى المذهب البروتستاني، فلم يجد مندحة لتهدئة الأمور وإخماد الفتنة أن يخلع البروتستانية ويتقمص الكاثوليكية، وقد أعلن ذلك على الملأ في تموز سنة ألف وخمسمائة وثلاث وتسعين (1593)، وفقد التحالف المقدس  بإعلانه هذا مسوغا لمعارضته.  هذا ولم تزل الفئة الهوغونوتية مجاهدة ومرابطة ومصاربة لأربعين سنة قبل أن تفوز باستصدار “مرسوم نانت” الذي أصدره هنري الرابع في نيسان ألف وخمسمائة وثمان وتسعين (1598)، ونص على منح الحرية الدينية والحرية السياسية للطائفة الهوغونوتية.

صدور هذا المرسوم لايعني أن كان طبّق الأمن بعد ذلك أبد الآباد، بل اشتعل فتيل الحروب الأهلية مرة أخرى في عهد الملك لويس الثامن في العقد الثالث من القرن السابع عشر، وذهبت بريح الطائفة الهوغونوتية، وأدت إلى صدور “مرسوم أليس” الذي سلّم حق الطائفة وانتزع منها حقها في السياسية، وعادت بعد ذلك رعية للملك وفية، وفقدت حضورها على مشهد فرنسا السياسي. أما سائر حقوقها وبقيتها التي ضمنها “مرسوم نانت” فقد أقر بها وأكدها النظام الملكي سنة ألف وستمائة وثلاث وأربعين (1643) نيابة عن الملك لويس السابع عشر الذي كان طفلا آنذاك.

ولكن لم تكن الكنيسة الكاثولوكية الفرنسية لتستسيغ الهوغونوتية وحقوقها، وعملت على حرمانها منها، وعم وطم في أنحاء فرنسا الإرهاب وإكراه البروتستانيين على الكاثولوكية لسنوات طوال حتى وصل الأمر بهذه الطائفة أن أصدر الملك لويس السابع عشر في الثامن عشر من تشرين الأول سنة ألف وستمائة وخمس وثمانية (1685) أمرا بإلغاء “مرسوم نانت”، واضطرت على إثره أن تهاجر فرنسا، لقد نزح في السنوات التالية ما يربو على أربع مائة ألف هوغوناتي عددا إلى أنجلترا، وبروسيا وهولندا وأمريكا، ولم ينزحوا إليها فقط، بل أصبحوا مواطنين لها صالحين. أما فرنسا على أثر هذه الهجرة فتضررت في عصر الثورة الصناعية تضررا بما أن كثيرا من المهاجرين كانوا متحضرين متمكنين من الاقتصاد والصناعة.

أعلن لويس السابع عشر سنة ألف وسبعمائة وخمس عشرة (1715) أنه استأصل شأو المذهب البروتستاني في فرنسا، وطمس كل أثر له، وكأن فرنسا خلت من الهوغونوتيين في بداية القرن الثامن عشر، ولكن اجتمع في السنة نفسها – سنة ألف وسبعمائة وخمس عشرة (1715) – بمدينة نيم، فئة بروتستانية، قد شمرت لإعادة الاعتبار إلى الكنيسة البروتستانية، فمهما كان قد تضاءل البروتستانيون عددا، فقد بقيت البروتستانية في فرنسا.

ثم استؤنف اضطهاد الهوغونوتيين فيما بين سنة ألف وسبعمائة وخمس وأربعين (1745) وسنة ألف وسبعمائة وأربع خمسين (1754)، إلا أن الرأي العام في فرنسا كان قد بدأ يعزف عن الاضطهاد ويرغب عنه، وكانت النتيجة أنه صدر سنة ألف وسبعمائة سبع وثمانين (1787) – على رغم أنف رجال الكهنوت – مرسوم ملكي رد إلى الهوغونوتيين بعض ما ألغي من حقوقهم، وحينما أشرقت شمس الثورة الفرنسية في تشرين الثاني من ألف وسبعمائة وتسع وثمانين (1789) سنت الجمعية الوطنية قانون حرية الدين، وفتحت أمام البروتستانيين أبواب المكاتب الحكومية وسمحت لهم باحتراف ما شاءوا من الحرف وامتهام ما أرادوا من المهن.

 

 

 


قمت بترجمة هذه المقالة من الموسوعة البريطانية (أو بريتانيكا) وفيما يلي تفصيل المصدر: