مجلة حكمة
النقد الأدبي في المغرب

تطور النقد الأدبي الحديث بالمغرب: بحثا عن الاتساق النظري والإنتاجية المعرفية – عبد الحميد عقار


الفضاء العربي للتطور

يمثل النقد الأدبي بالمغرب في تكونه وتحولاته صورة أخرى للنقد الأدبي العربي ككل. فنشأة الأول وصيرورته لم تنجزا في عزلة ولا في تعارض أو تضاد مع فضاء الحركة الأدبية والنقدية بالمشرق العربي، وبخاصة في مصر ولبنان وفي آثار النقاد والمفكرين العرب بالمهجر. والتفاوت الملحوظ في تاريخ التكون، وفي إيقاع التحول، وفي كم التراكمات المنجزة، يتم تداركه وتعويضه برحابة الأفق المنهجي والمعرفي لما هو متميز ونوعي وذو كفاية تمثيلية في منجز الخطاب النقدي بالمغرب على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة تقريبا. وخصوصية تفاعل هذا الخطاب في مرجعياته النظرية والإجرائية مع ثقافة “الآخر” وما لهذه الثقافة من حضور كثيف في مستوى التمثل والإحالة، كل ذلك لا يستقل عن تعميق الصلات والحوار مع الآثار الإبداعية والنقدية العربية ذات القيمة. ويتساوى في ذلك أن تكون هذه الآثار تنتمي إلى الحاضر، أو إلى التراث ببعديه العالم المدون والمالك لسلطة المعرفة، والشعبي الشفوي أو المكتوب الباحث عن هذه السلطة. بل إن عوامل التطور وأسئلته ورؤاه تتماثل وتتداخل بفعل تأثيرات نابعة من مناخ سوسيو ثقافي متشابه، أو متقارب الخصائص والهواجس على الأقل.

من هنا تتحدد وضعية النقد الأدبي بالمغرب قياسا إلى خصوصيات حركيته، وقياسا إلى عمق تفاعلاته مع المشرق ومع الآخر، وقياسا إلى ما يعرفه الإبداع المغربي من تطور وبحث عن المغايرة.

لقد شهد النقد الأدبي العربي منذ عشرينيات هذا القرن تطورات عميقة ومأزقية أحيانا، تمت بوتيرة سريعة الإيقاع متداخلة المكونات والرؤى. هذه التطورات مست بنيات هذا النقد، وافتراضاته النظرية، وطرائقه في التحليل والمقاربة، ووظيفته، وموقعه من النسق الثقافي والرمزي الناظم للثقافة العربية على امتداد هذه الحقبة.

ومن نقط الارتكاز الأساسية في مسارات هذا النقد نحو حاضره أو لحظته الآنية بروز اتجاه واضح نحو ترسيخ خصوصية النقد الأدبي من حيث هو خطاب معرفي له تميزه وفرادته وشروط فعاليته. خطاب النقد يتحرر تدريجيا من الفهم الأداتي الذي ينظر إلى النقد أو يحصر مجاله في كونه “وسيطا” بين الإبداع موضوع نشاطه، وبين القارئ المتلقي وضمنه الكاتب موضوع فعاليته أو تأثيره المحتملين. خطاب يمتلك الكفاية الذاتية الخلاقة لأن يكون في الآن ذاته:

*نشاطا تحليليا يكتنه هويات النصوص والآثار الإبداعية واللغوية والعلائقية والثقافية؛

*وحقلا للتنظير ومصدرا له يؤسس في ضوء ذلك نسقية الخطاب وطاقته التفسيرية والتأويلية والمعرفية، ما دام الأدب ليس مجرد ركام من الأعمال المتجمعة بل هو “نظام من الكلام يجعل العلم ممكنا”.

بهذه الكفاية يصبح الخطاب النقدي كيانا من الفكر والمعرفة له وجوده القائم الذات، ويحاور النصوص والآثار الإبداعية ويستلذ بها و “يستخرج من صلبها كتابة مغايرة” تتجاوز مآزق السيرورة والتطور المتسارعي الإيقاع. يتعلق الأمر بتشييد أفق في القراءة مداره يتمثل في بناء عقل نقدي تنظيري يتحرر من إسار التقليد ومن “قمع” النموذج، ويحاور الآثار الأدبية بألفة وحميمية منطلقهما “العلم” والعشق معا.

إن هاجس التأسيس والمغايرة وسم تطورات النقد الأدبي العربي على امتداد لحظات تشكله المتداخلة، فأضفى عليها روحا دينامية تتصف بالقلق والتوتر، وبالمراجعة والتساؤل، وبالنسبية، وبالطموح في تشييد تفكير نقدي لا ينفصل فيه التأمل والنظر عن التحليل والممارسة، تفكير تحليلي ونسقي في الآن ذاته. هذا الهاجس كيف اشتغال الخطاب النقدي في اتجاه ثلاثة اهتمامات متضافرة:

*اهتمام النقد العربي بإعادة الاكتشاف والفهم والاستلذاذ والتأويل لموضوعه أي الأدب والآثار الإبداعية عامة؛

*وبإعادة صياغة كيانه منهجيا ومعرفيا ونظريا وأفقا.

*وبتشييده لشروط إنتاجه وإنتاجيته ومساهمته في بناء النسق الثقافي والرمزي والقيمي وإثرائه ومساءلته.

لقد عيشت هذه الاهتمامات بوعي ومرجعية وأفق متباين بعض الشيء بتباين لحظات تشكل هذا النقد، وبتباين فضاءاته الجغرافية ذات التطور الأدبي والنقدي اللامتكافئ من حيث تاريخ النشوء وإيقاع التطور ووتيرته. من هذا المنظور تمثل الخطابات النقدية بالمغرب في مفارقات تكونها وتحولاتها صورة أخرى للنقد العربي، الصورة لا بمعنى الظل أو الانعكاس، بل بمعنى المرآة أو الينبوع. فـ النقد الأدبي المغربي في وضعيته الراهنة يجسد أحد الينابيع التي بها تغزر “قناة” النقد العربي.

إرهاصات النشأة والتكون

تعود الإرهاصات الأولى للنقد الأدبي الحديث بالمغرب إلى العشرينيات من هذا القرن. فبحلول سنة 1998 سيكون هذا النقد قد شارف الخامسة والسبعين عاما من تاريخ انطلاقه(1). والمثير للانتباه في هذا السياق، هو أنه بينما كان النقد المغربي ما يزال يتلمس طريقه للوجود، عبر إحياء تقاليد التقريظ والتحيلة، وصناعة المنتخبات، وكتابة تاريخ للنبوغ المغربي في مجالي الأدب والنقد، كانت الحركة الأدبية والنقدية بمصر وأقطار عربية أخرى وبالمهجر تشهد رسوخ ما اصطلح على تسميته آنئذ بـ”المدرسة الجديدة”. لقد نهضت هذه الحركة على التجاور بين الاستيحاء الرومانسي بتوجهه الذاتي التعبيري والتأثري، والاستيحاء الكلاسيكي الجديد بتوجهه التحليلي الوضعي الحريص على “تعقيل” الحدوس وعمليات التذوق والتقويم للآثار الأدبية”(2).

هذا التفاوت المشروط تاريخيا سيضفي على مسار النقد المغربي قدرا مضاعفا من السرعة في الإيقاع، ومن الاختزال والتداخل في المراحل والتوجهات، وهو ما سيفضي إلى نوع من المفارقة في وضعية هذا النقد: فهناك من جانب هذه المحدودية الملحوظة في نسبة التراكمات الكمية المنجزة والمنشورة على امتداد هذه الحقبة قياسا إلى نظيرتها بالمشرق العربي، وهناك من جانب ثان هذا الثراء والعمق المميزين لبعض التجارب النقدية والتي لها مشروع ثقافي حوارية تسائل ذاتها وموضوعها باستمرار.

هذه المفارقة هي التي تفسر كذلك ما يطبع مفهوم النقد الأدبي بالمغرب إلى اليوم من تداخل وتمازج في التصورات والأدوات والوظائف والغايات، تمازج بين النقد والتاريخ الأدبي والحضاري تارة، والبحث الأكاديمي تارة أخرى، وعمل الباحث في مجالي العلوم الإنسانية وعلوم التأويل تارة ثالثة. إنه تمازج يمس أحيانا الاختيارات المنهجية والمرجعية التي توجد في أصل استراتيجيات القراءة أو التحليل والتأويل. وهكذا فالنزوع إلى الانتقاء والتوليف، ذاك الذي وسم الإنتاج النقدي لجيل رواد “المدرسة الجديدة” بين العشرينيات والأربعينيات من هذا القرن، سيتعرض للانتقاد ومحاولة التجاوز من لدن نقاد الأجيال اللاحقة. لقد أخذ هذا النزوع بالكيفية التي تمت بها ممارسته قبل الخمسينيات حظه من التشبع ومن الاستجابة لوضع ثقافي وتربوي مداره التنوير بأفق ليبرالي. لكن الأمر سيتغير مع منتصف السبعينيات وما بعدها عربيا ومغربيا، إذ سيميل النقد الأدبي نحو تفضيل المقاربات المبنية على أساس التكامل المعرفي. فالنزوع إلى التوليف أو التوفيق بهذا المنظور سيصير اختيارا قصديا تسوغه أسئلة منهجية ومعرفية ونصية جديدة أو أعيد اكتشافها. ويتمثل مضمون هذه الأسئلة في ظهور الحاجة الثقافية إلى بلورة نقد حواري، لا تحجبه الخصوصيات المحتملة للموضوع وللظواهر وللمنتجين عن إدراك واستيعاب كونية البنيات والآليات والمقولات التي تحكم اشتغال الذهن والفكر البشريين وتنظمهما.

سيرورة التحولات

إن النقد الأدبي بالمغرب سيحقق في ظل هذا الوضع المفارق لتكونه انتقالات أساسية، تمت عبر ثلاث لحظات من تطوره، متعاقبة من حيث تاريخ التشكل، لكنها مشابكة من حيث الدلالة والأبعاد الفكرية.

اللحظة الإحيائية بين العشرينيات ونهاية الخمسينيات تقريبا. وتتميز بنزوع واضح نحو الاستقراء الأولي للظواهر وللأعلام وللنصوص الأدبية. ويتجلى هذا الصنيع في وضع المنتجات والاختيارات الشعرية المغربية(3)، وفي تبني النقاد والعلماء لدواوين الشعر الصادرة حديثا بالمغرب عبر تصديرهم لها بالتقريظات والتحليات، وفي عناية المقالات النقدية منذ أواخر الأربعينيات تقريبا بفني القصة والرواية الوليدين بالمغرب، وببعض أعلام الرواية الأوروبية كثير بانطيس وبلزاك وفلوبير وأندري جيد(4)… لقد شهدت هذه المرحلة اتساعا في دائرة السجال بين الأدباء والمثقفين المتأدبين. هذا الاتساع أملته الصراعات الثقافية والسياسية المحتدمة بصدد الموقف من اللغة، ومن الصراع بين “القدماء والمحدثين”، ومن النموذج الأنسب للاحتذاء: التقليدي الموروث، أو المشرقي الحديث، أو الغربي المنقول عبر الترجمة والاقتباس، وبصدد الهوية الممكنة للأدب المغربي. لقد تغذى هذا السجال فكريا من تباين الرؤى والتكوين الثقافي والمرجعي للمساهمين فيه. وتمثل الموازنة والأحكام الذوقية والانطباعية أسلوبا مهيمنا في المقالات النقدية والأدبية خلال هذه المرحلة. إنه أسلوب يلائم الحاجة إلى كتابة تاريخ للأدب المغربي وما يقتضيه هذا التاريخ من اختيار وتحقيب، ومفاضلة وتبويب وتصنيف، مثلما يلائم الهدف من هذا النشاط النقدي الوليد والمتمثل في تشييد المقال النقدي، وفي إضفاء “الشرعية” الفنية والجمالية على نصوص الأدب المغربي الحديث تكريسا للهوية الأدبية للمغرب(5).

اللحظة التنويرية بأفق جدلي(6). وهي تغطي الفترة الممتدة بين نهاية الخمسينييات ونهاية السبعينيات. وخلالها سيعرف النقد الأدبي بالمغرب البداية المنظمة والمنهجية الأولى لبعض تحولاته الأساسية والناسجة لبعض خصوصياته باعتباره خطابا ليس له موضوعه المحدد فحسب، بل له كذلك إطاره النظري الفكري والمنهجي المتميز والمتفاعل مع غيره من الدراسات و “العلوم” المجاورة. إنها مرحلة ظهور ما يمكن الاصطلاح على تسميته بـ “ناقد الجمهور”(7). الناقد من حيث هو قارئ يمتلك ذوقا مثقفا وخبرة وحصافة في تلقي الآثار الأدبية وفي تقويمها. غاية هذا الناقد ليست هي بلورة بناء نظري للأدب، بل هي التحليل العملي للنصوص والآثار الإبداعية المفردة من قصة ورواية وشعر ومسرح ونقد، بهدف تجسيد “الكيفية التي يتم بها استعمال الأدب في المجتمع”، والوظائف التي يضطلع بها الأدب في الصراع الثقافي والقيمي والرمزي. إن مدار نشاط هذا الناقد هو التحليل بغاية استخلاص خصائص النصوص… ومكوناتها الأسلوبية والتأليفية والجنس أدبية، والتفسير عبر ربط الأدب والنقد بالواقع وبالإيديولوجيا، والتقويم من خلال تحديد مكانة الأثر الأدبي والنقدي، ومنزلتهما تجاه قضايا اللحظة الراهنة وأسئلتها، وتجاه الآثار النظيرة مغربيا وعربيا، وتجاه حاجة المتلقين للأدب والنقد إلى تحقق التوافق المفترض بين الفن والحياة. ناقد الجمهور هذا يتميز كذلك بمتابعاته النقدية المنتظمة للآثار الحديثة الصدور، وبتركيزه في صياغة خطابه النقدي وتبليغه على الأشكال المتقطعة من التخاطب والتواصل من قبيل المحاضرة والندوة والمقال السيار. إن ذاتية الناقد هنا وحدسه المرهف كلاهما أكيد الحضور والفعالية. هكذا سيصبح النقد الأدبي بالمغرب أحد مكونات الخطاب الاجتماعي والإيديولوجي، وسيمارس قراءة وتدريسا من حيث هو موقف والتزام، أو من حيث هو ترجمة فكرية وأدبية لخطابات الثورة والتحرر. وذلك هو ما يفسر الجاذبية التي مارستها الماركسية والوجودية على الأدباء والمثقفين في المستوى النظري والتصوري، والتجاوب الملحوظ لديهم مع أطروحات لوكاش وبريخت والبنيوية التكوينية في المستوى المنهجي والإجرائي.

لقد ساهم هذا التجاذب والتجاوب في رواج تصورات ومفاهيم نقدية وإن ظل فهمها غير دقيق، إلا أنها أدت إلى إثراء النقد والدراسة الأدبيين بأبعاد معرفية جديدة، وإلى تحريرهما من أسلوب الموازنة والتلخيص والشرح، والتعليق الشارد. لقد اتجه النقد بدل ذلك نحو استجلاء العناصر التأليفية، ومقومات الجنس الأدبي، والأبعاد الدلالية المحتملة. من هذه المفاهيم نستحضر البنية والبناء، الصياغة الفنية، جدلية الصياغة والمضمون، السياق التاريخي والاجتماعي، البطل الإشكالي، الانعكاس، الرؤية للعالم. وهي عبارات ومفاهيم بقدر ما تحيل على التصور المرجعي، تحدد بهذا القدر أو ذاك ما شهده النقد الأدبي خلال هذه المرحلة من تحول وارتياد للجديد. لقد كان هذا التحول من دون شك ثمره ميلاد تيار إبداعي يتجاوز الاستيحاء الرومانسي والكلاسيكي. من هنا تستمد هذه اللحظة النقدية أهميتها كذلك من كونها تمثل الرحم الثقافي لمخاضات الحداثة والتجريب، تلك التي ستميز النقد والدراسة الأدبيين بالمغرب لما بعد السبعينيات.

لحظة التجريب والتنظير، وهي حقبة تتواصل منذ أواخر السبعينيات إلى اليوم. وخلالها سيتحول النقد الأدبي عن الوقوف عند حدود الاستقراء الأولي للنصوص والظواهر واستنطاق الدلالة الاجتماعية لها، ليتجه نحو محاولة استنتاج “المبادئ” الشعرية والسيميائية العامة، تلك التي تنظم اشتغال الخطابات الأدبية وتشكلاتها، وتفسر تداولها وتلقيها وتحولاتها. لقد أصبح النقد الأدبي في صورته الأكاديمية والمقالية معا، ينطلق من فرضيات أساسية “ترى الظواهر التي تتناولها بوصفها أجزاء من كل”.

وصارت “ماهية” النقد في ضوء هذا التصور هي تشييد نسق منظم من المعرفة(8)، نسق يحلل خصوصيات الآثار الأدبية للثقافة أو المنظومة الرمزية المغربية والعربية في ضوء كونية آليات ومقولات اشتغال الفكر والذهن البشريين. وهكذا سيغدو النقد الأدبي خلال هذه الحقبة في نماذجه وتجاربه البارزة على الأقل كتابة ثانية، سيصير بدوره خلقا وإبداعا يعيد اكتشاف الأدب من حيث هو ظاهرة لغوية مزدوجة الشفرة أو الكود، وذات بعد دلالي وثقافي وتاريخي، لكن منبع هذا البعد يكمن في بنية الأثر ونظامه اللغوي. هذا المنحى سيضفي على الممارسات النقدية طابع كونها مقاربات لها افتراضاتها النظرية التي توجد في أصل عمل الناقد، ولها طرائقها في التحليل والمساءلة النقدية والتي يتبعها الناقد، وتظل نتائجها مع ذلك احتمالية ونسبية غير نهائية ولا حاسمة. إذ لم تعد “الحقيقة” الثاوية في النص هي الهدف، بل النص نفسه: إيقاعه، نظامه، والقوانين المتحكمة في إنتاجه وتداوله، وتشكلات مكوناته، ونسيجه العلائقي؛ باختصار ممكناته التي لا تنتهي. وحتى ذاتية الناقد لن تكون حضورا لأناه، بل لخبرته وتجربته في الاستلذاذ بقراءة النصوص وبالكتابة عنها، أو ببناء نسقها المعرفي الشمولي. هكذا يعيد النقد الأدبي تأسيس ذاته من حيث هو معرفة واكتشاف، وتذوق واستلذاذ، ومساءلة وحوار، وإعادة تشكيل معرفي ونسقي لعوالم النص الممكنة. سيصير النقد مثل الأدب ومثل باقي الخطابات الفكرية الأخرى متعدد المراكز، متنوع التجليات، حواري التوجه والصياغة والفهم. يترابط فيه ويتداخل التحليل بالتنظير، ويبحث في الآثار الأدبية المدروسة عن نظام أو كلية تنتظم خصوصياتها وتثري أبعادها ودلالاتها المحتملة. إن أفق هذه التحولات في مسار النقد الأدبي بالمغرب وبالعالم العربي راهنا هو التجريب بما هو نشدان متواصل للبدائل، وتذويب واع متواصل عن التجاوز وعن إعادة الاكتشاف المتجدد للظواهر والآثار والخطابات.

ومن بين عوامل كثيرة ساهمت في تسريع وتيرة هذه التحولات في مسار النقد الأدبي بالمغرب بحثا عن التكافؤ مع الحركة النظيرة له عربيا وكونيا نذكر: دور الجامعة بعد أن تكاثر خريجوها واتسع اهتمامها وانفتاحها على النظريات والمعارف الحديثة، وتطور وسائط الإعلام الأدبي والثقافي(9)، واتساع حركة الترجمة لأصول النقد الجديد بمختلف تياراتها وفلسفاتها وتصوراتها بأوروبا وأمريكا(10)، وما يشهده الإبداع الأدبي والفني بالمغرب من تطور وبحث عن التجدد والمغايرة. إن التحولات الراهنة للنقد الأدبي بالمغرب تتغذى بشكل قوي مما تشهده الكتابة والتأليف في حقلي العلوم الإنسانية والاجتماعية واللسانيات من ثراء وتنوع في الرؤى والخطابات.

أسئلة المنهج والتراث في رحم التحول

والجدير بالملاحظة أن الاهتمام بالمنهج يمثل شاغلا حقيقيا للنقد الأدبي المغربي في مساره التطوري. إن اتساع الاهتمام بقضايا المنهجية ولحد التضخم أحيانا، يؤشر على وجود تراكم معين في مستوى الإنتاج الأدبي والفكري، وعلى تنوع الإشكالات التي تثيرها قراءة هذا الإنتاج، وعلى حدوث تغير نسبي في النظرة إلى الأدب وإلى التراث وإلى الآخر. فقد أدرجت ضمن الأدب خطابات ظلت مبعدة من اهتمام الناقد والدارس للأدب؛ وذلك من قبيل الخطابات الصوفية والمنقبية، وخطاب الكرامات، ومختلف أنماط التعبير الفني والثقافي الشعبي شفويا كان أو مدونا(11). ولم تعد العلاقة بالتراث تقف عند حدود التحقيق والتحضير العلميين لنشره وتداوله، ولا عند حدود دراسته من منظور التاريخ الثقافي والحضاري المقارن(12). لقد اغتنى هذا التوجه بأن أصبح التراث موضوعا لإعادة القراءة والاكتشاف والبناء في ضوء منظورات نقدية تستوحي نظريات الخطاب وتداخل المعارف، وفي ضوء أسئلة الحاضر، وعلاقات التجاذب الممكنة بين الخصوصي والكوني. إن التراث صار فضلا عن ذلك موضوعا لإعادة الاستلذاذ والتجنيس(13). وغدا حضوره في النقد الأدبي لذلك إشكاليا، إذ يسعى النقاد من خلال أشكلته إلى البحث عن نسق ينظم “فوضى” هذا التراث ويستنبط قوانين إنتاجه واشتغاله وتداوله، ويستكشف منابع “سلطته” المتجددة التأثير.

وتبدلت النظرة إلى الآخر. فالمسافة الفاصلة بين مرحلة الاستعمار المباشر وبين حاضر الاستقلال الوطني أصبحت كافية ضمن عوامل ثقافية أخرى لخلق “شروط القبول” الاختياري بثقافة الآخر. وهو ما يعني القبول بتلقي تصورات هذه الثقافة ونظرياتها وتداولها إيجابيا بالتفاعل معها ومحاولة إدماجها في سياق الثقافة الوطنية ككل. إن هذا التداول مطبوع في بعض الأحيان بنظرة نقدية تنسب قدر الإمكان تلك التصورات، وتدرج بالمقابل قدر الإمكان كذلك الأدب والنقد المغربيين في إطار أفق متفتح تتحاور فيه خصوصيات الظواهر والنصوص والمنتجين مع الكونية المفترضة لمقولات التفكير البشري وأنساقه. لذلك يبدو حضور “آخر” باعتباره سلطة مرجعية في المستويين النظري والمنهجي لافتا للنظر في المقاربات النقدية والبحوث الجامعية بالمغرب. ومهما تكن النقائص بل والتشويهات وسوء الفهم، تلك التي قد تسم ارتحال النظريات والمقولات وهجرتها بعيدا عن سياق تكونها، فإن التمثل النقدي لثقافة الآخر بإمكانه أن يحرر المعرفة النقدية من شوائب السطحية والانتقائية واللامعنى أحيانا. فصيرورة النقد الأدبي لا تتمثل في نموه وتحوله داخل الحدود الثابتة لتاريخه أو لخصوصيته وحدهما، بل النقد مثله في ذلك مثل الأدب يقلق حتى تلك الحدود ذاتها على حد تعبير ميخائيل باختين.

تنوع المقاربات ومآزقها.

إن هذا الحضور المهيمن لأسئلة المنهج هو الذي يفسر ما يطبع الممارسات النقدية والبحوث الجامعية بالمغرب من تنوع وتكاثر واختلاط في المقاربات الموظفة في التحليل والتأويل. وهو ما يفسر كذلك سلبيات بعض هذه الممارسات من قبيل التضخم في استظهار المعارف والمصطلحات والأعلام. هذا التضخم قد يفقد تلك المقاربات فعاليتها في إثراء القراءة للنصوص وللآثار، إذا لم يفقد النصوص والآثار هوايتها الأدبية والجمالية والمعرفية، حيث تكاد تنزل منزلة الشاهد لدى النحوي أو البلاغي أو الفقيه. ولعل أكثر هذه المقاربات حضورا وتداولا هي التالية:

*المقاربة الاجتماعية الواقعية. وهي تنطلق من فرضية التماثل المحتمل بين البنيات النصية والبنيات الذهنية والقيمية المحددة لفئة اجتماعية يتصور الناقد أو الدارس أن العمل الأدبي يجسدها تخيليا وسرديا ودلاليا. إن غاية الناقد هنا هي الكشف عن امتداد الواقع في الخطاب الأدبي عبر التركيز في التحليل على إبراز الرؤية للعالم، دونما إغفال لمكونات النص الأسلوبية والبنيوية والدلالية. وتمثل البنيوية التكوينية والتطورية الأدبية وجماليات لوكاش من جانب، وأعمال النقاد الواقعيين الروس ممن تأثروا سلبا بملاحظات ماركس وإنجلز ولينين وتأملاتهم حول الأدب، الإطار الفكري والمفهومي لهذه المقاربة بالمغرب(14).

*المقاربة الشعرية السيميائية وتركز في القراءة والتحليل على استنباط قوانين اشتغال النصوص والخطابات، واختبار مصداقية المفاهيم والطرائق التحليلية ومدى وجاهتها في قراءة آثار أدبية مفردة أو ذات مدار مشترك مغايرة في سننها الثقافي والتداولي لذلك الذي تبلورت فيه هذه الطرائق. هدف الناقد أو الدارس هنا هو التنظير وإدراج الآثار المدروسة في مستوى أعلى: مستوى الأنظمة الدلائلية أو الثقافية الكبرى، والتي تنمذج النصوص والخطابات. وتمثل نصوص الشكلانيين الروس، وأصناف الشعريات النصية، والسيميائيات الأدبية والثقافية، المقاربة باختلاف تلويناتها ومغايراتها(15).

*المقاربة العبر نقدية والعبر ثقافية. وهي تأليف نقدي وثقافي بين سوسيولوجيا النص والخطاب، والمباحث الشعرية والسيميائية، وشعرية الأجناس الأدبية، ونظرية التلقي. إن الناقد أو الدارس يستثمر نتائج هذه الحقول وتصوراتها في تطوير سبل الإدراك للآثار الأدبية والفنية في ذاتها وفي أوضاعها العلائقية. هذه المقاربة تنطلق من تصور نظري فيه استلهام حواري ونقدي لتعدد المعارف وتداخلها، وتأليف بين البنيوية والتاريخ، وقراءة للخطاب الأدبي باعتباره مؤسسة.

ونقطة الارتكاز هنا هي النظر إلى النص أو الأثر باعتباره خطابا مزدوج الشفرة وذا ترميز جماعي تتدخل فيه تسنينات اللغة الطبيعية، والتقاليد الأدبية من حيث هي “معايير” شعرية، والتسنينات الثقافية العامة. إن غاية الناقد أو الدارس هنا هي إعادة بناء المعرفة بالنصوص والخطابات في تكونها وشعريتها وشروط تداولها وتلقيها، وفي موقعها من السياقين النصي النسقي والثقافي الرمزي المنمذج(16).

*المقاربة التاريخية الفيلولوجية وهي بدورها تستوحي مفاهيمها وبعضا من أساسها الفكري من المقاربات السابقة. ويكاد حضورها يقتصر على البحوث الجامعية وبخاصة منها تلك التي تتخذ من التراث العربي والمغاربي موضوعا لها تحقيقا وتعليقا ودراسة. وهي مقاربة محكومة في تقويماتها وأحكامها النقدية بالذوق والحدس المهذبين، وغايتها الاستقصاء والشمول بحثا عن تاريخ أدبي وثقافي يبلور تصورا خاصا لهوية المغرب وحضارته(17).

إن العلاقة بين مختلف هذه المقاربات هي علاقة تجاور. فهي ليست متعاقبة في الزمن من حيث النشأة والتطور، بل تتسم في تبلورها بالحقل الثقافي المغربي بالتزامن؛ إن زمن تشكلها متقارب اللحظات متشابه الخصائص والمكونات، وما بينها من اختلاف يترجم تباين منابع التكوين الأدبي والثقافي للنقاد والدارسين في المستوى الفردي، أكثر مما يترجم حدوث انتقالات أو زحزحات جذرية تخلق ما يعرف بالقطيعة المعرفية في المستوى الفكري والثقافي العام. فليست القطيعة المعرفية، بل تجديد الاستمرارية وتطويرها وربطها بأسئلة ومعارف ورؤى مغايرة، هو الأفق المتاح للنقد المغربي على امتداد لحظات تحوله كي يعيد بناء تاريخه وخطابه، وكي يكتشف الأشكال المنظمة لإطاره الفكري. هذا التجديد هو الأفق المتاح للنقد كذلك كي يتجاوز التقليد ويقاوم الامتثال للنموذج المسبق أو لشطحات الذوق وانطباعاته التأثرية المباشرة.

لذلك فتحولات النقد الأدبي بالمغرب لم تنجز بدون مآزق عيشت وتعاش باعتبارها جزءا من الصيرورة ومظهرا من مظاهر الحيوية. لقد ظلت هويات النصوص والآثار الأدبية وخصوصياتها الإبداعية الكامنة والمتجددة وتحولاتها المتلاحقة غير مكتنهة بما فيه الكفاية. ويجد هذا المأزق منبعه في ثلاثة ضغوط أو قيود ثقافية:

ضغط مقتضيات كتابة التاريخ الأدبي واستعادة الهوية بخصوص اللحظة الإحيائية؛

وضغط أسئلة الواقع والدلالة الاجتماعية بالنسبة للتنوير الجدلي؛

وثقل سلطة “الآخر” والمعارف العلمية المعاصرة وما يستتبعه بناء النسق من سعة الإحالة وتضارب مرجعياتها ولا نهائية تجددها بالنسبة للحظة التجريبية.

وكل ضغط يرسم في الواقع صورة للمثقف المهيمن في لحظة ما: فوراء المأزق الأول تطالعنا هواجس وإيديولوجية المثقف الوطني بأفقه السلفي المستنير خلال مرحلة الاستعمار؛ ووراء المأزق الثاني تكمن إيديولوجية المثقف “العضوي” للستينيات والسبعينيات المحفز بروح التمرد وقيم الثورة؛ في حين يرجع المأزق الثالث إلى إيديولوجية العلموي أو التقني المسكون بخطابات العلم والمعرفة، والمشدود إلى النظرة الكلية والتركيبية للأشياء والكائنات والظواهر. إنها صورة المثقف خلال الثمانينيات وما بعدها.

إن هذه المآزق ليست قدرية. بل هي بالأحرى ثمرة تحولات متأرجحة أعمق تمس الحقل الثقافي والقيمي والرمزي، وثمرة إيقاع متسارع ومتعال بعض الشيء عن صيرورة التحولات المجتمعية، لأن هذه الأخيرة معاقة ومتحكم في سيرورتها بفعل استمرار التقليد بمثابة بنيات تعيد إنتاج نفسها بقوة، وبحكم استمرار حضور عوائق إنجاز التحديث والعقلنة.

أفق التحولات

ومع ذلك فتحولات النقد الأدبي بالمغرب ليست خطية، فكل لحظة تجد بذورها ومخاضاتها البدئية في اللحظة السابقة عليها، وجيل الرواد المؤسسين لسؤال الحداثة يواصل حضوره وعطاءه وإثراءه للحركة الفكرية والنقدية بحيوية وسعة أفق. إن مآزق التطور لا يمكنها أن تحجب القيمة الجمالية والفكرية لحركة النقد الأدبي بالمغرب. ومن أهم تجليات هذه “القيمة” العناصر التالية:

*إعادة الاعتبار المنهجي والمعرفي للأثر الأدبي في وضعه المفرد وفي مداراته المشتركة باعتباره قيمة في ذاته وفي مكوناته عالمه التخييلي والجمالي.

*تعديل نظرة القارئ للظاهرة الأدبية ولوضعيتها بالقياس إلى غيرها من الخطابات، وبالقياس إلى الواقع وإلى الإيديولوجي، وبالقياس إلى مفهوم الجنس أو الخطاب الأدبي والنقدي وفضاءات اشتغالهما. “تهميش” التصورات التقليدية في القراءة والمشدودة إلى نموذج مسبق أو إلى شطحات الذوق والحدس وحدهما.

*ربط تحولات النقد الأدبي بالمعارف “العلمية” المعاصرة، وبما تعرفه حركة التأليف في اللسانيات والعلوم الإنسانية والاجتماعية بالمغرب من تطور وتنوع، وبما يعيشه الإبداع الأدبي والفني مغربيا وعربيا من تجريب وتحديث واستكناه للذات والمتخيل، وللتاريخ والذاكرة الجمعية، والغة من حيث هي وطن الكاتب.

لقد غدت أسئلة النقد الأدبي بالمغربي لذلك تشكل جزءا من أسئلة الحركة الفكرية والفلسفية، وتجليا من تجليات النشاط الذهني والمعرفي بالمغرب المعاصر، مثلما غدت رافدا من روافد التطور والتجديد في الحركة النقدية بالعالم العربي ككل، رافدا يساهم في أشكلة هذا النقد وربطه بالسؤال المعرفي في أبعاده الاستنباطية والنسقية دونما استبعاد لسؤال الكتابة، لأن الكتابة هي الهوية الأولى الممكنة لتحولات النقد الأدبي .

 

 

مجلة الجابري – العدد السادس


 هوامش

1 – لقد اتخذت الإرهاصات الأولى للنقد الأدبي بالمغرب شكل المسامرة من حيث صيغة تصريف الحديث وإطاره الزمني قبل أن يصبح المقال السيار هو القالب المفضل. ومن أولى هذه المسامرات كتاب “مسامرة الشعر والشعراء” للشاعر عبد الله القباج. وقد نشرت لأول مرة بجريدة “السعادة” يوم 22 فبراير 1923، وصدرت بعد ذلك في كتاب عام 1928. وتستعيد المسامرة تقاليد التأليف وأساليبه في المقامات، والتوابع والزوابع لابن شهيد، وكتب طبقات الشعراء. وتلتها مسامرات أخرى من مثل: “تاريخ الشعر والشعراء بفاس” لأحمد النميشي وقد صدرت عام 1924؛ و”الكتابة والكتاب” لعبد الحميد الرندي (1924)؛ و”تطور أسلوب الإنشاء في المغرب الأقصى” لمحمد الحجوي (1933). وفي هذه المسامرات حرص واضح على إبراز أهمية الأدب المغربي قديما وحديثا، ومكانته من تطور الأدب العربي، وحاجته إلى النقد والتقويم.

2 – نستحضر هنا على سبيل التمثيل كتابات طه حسين والعقاد وميخائيل نعيمة.

3 – يمثل كتاب الأدب العربي في المغرب الأقصى لمحمد بن العباس القباج وقد صدرت طبعته الأولى عام 1929 أوفى صورة عن هذا الاتجاه خلال هذه الحقبة. وهو “يضم بين دفتيه تراجم شعرائنا، – [27 شاعرا من المحدثين أو المعاصرين للمؤلف ]- ومنتخبات من شعرهم ليعطي لكل قارئ صورة صادقة من الشعر المغربي ويفيد كل باحث في الأمة المغربية مبلغ تدرج الأدب فيها وطرق تفكير شعرائها” (من مقدمة الكتاب). ولا يخفي المؤلف مقاصده العامة التي تتجاوز حدود الأدب لتغدو مساهمة في واجب إبراز الهوية المغربية لهذا الشعر حيث يقول في خاتمة تصديره “وعسى أن أكون قد قمت ببعض ما يجب علي نحو الشعب وأدبه”. لكن ريادته الفعلية للمقال النقدي ستتضح وتتعمق أكثر في مقالاته بعنوان “لذعات بريئة” والتي نشرها في مجلة “المغرب” خلال الثلاثينيات. وفيها واجه بجرأة البنية التقليدية الراسخة في الشعر المغربي، وانتصر للشعر الجديد آنئذ المتصل بالتجربة النفسية للشاعر. وألح على ضرورة التعود على قراءة هذا الشعر وعلى ضرورة الإقبال على الثقافة المشرقية الحديثة.

4 – وذلك من قبيل مقالات عبد الرحمن الفاسي وعبد الكبير الفاسي وعبد الكريم غلاب والتهامي الوزاني.

5 – وهو الاتجاه الذي تبلور، فضلا عن كتاب القباج، في مؤلفات الفقيه والأديب عبد الله كنون وخاصة النبوغ المغربي في الأدب العربي (1938)، وأحاديث عن الأدب المغربي الحديث (مطلع الستينيات) وسلسلة ذكريات مشاهير رجال المغرب. والملاحظ أن صناعة المنتخبات وكتابة تاريخ الأدب لا ينفصلان عن النقد الأدبي ؛ إن مجرد “اختيارنا لبعض النصوص دون غيرها هو حكم نقدي. فالاختيار يتم بناء على أحكام تقويمية سابقة قام بها القراء والنقاد والأساتذة”.

6 – يحيل التنوير في هذا السياق على مقاصد الناقد المعلنة أو الضمنية في أن يكون خطابه قناة من قنوات التثقيف وبناء وعي القارئ والمتلقي بأهمية التحرر من التقاليد، وبأهمية نشر المعرفة، والانتصار للتقدم.

7 – يعود الفضل في بلورة أسس هذه اللحظة النقدية وخطاباتها إلى ثلة من الكتاب والأساتذة الجامعيين ممن بدأوا الكتابة والنشر منذ أواخر الخمسينيات، وكرسوا أسماء أعلامهم باعتبارهم فاعلين عضويين في الحقل الأدبي والثقافي بالمغرب منذ الستينيات بالنسبة للبعض من مثل أحمد اليبوري، ومحمد برادة، وحسن المنيعي، للبعض الآخر من مثل نجيب العوفي، وعبد القادر الشاوي، وإبراهيم الخطيب، وإدريس الناقوري، وأحمد المديني، ومنذ الثمانينات بالنسبة للبعض الآخر من مثل حميد لحمداني.

وتقدم تجربة نجيب العوفي مثالا واضح الدلالة في هذا السياق في كتبه المؤلفة خارج الشاغل الأكاديمي: درجة الوعي في الكتابة (1980)، وجدل القراءة، ملاحظات في الإبداع المغربي المعاصر (1983)، وظواهر نصية(1992). فمادتها كانت في الأصل مقالات أو مساهمات في الندوات والملتقيات، ويظهر فيها الحرص على المتابعة النقدية لمختلف تجليات وأشكال الإبداع المغربي المعاصر، والوفاء لاختيارات الناقد وقناعاته في قراءة الآثار والظواهر الأدبية. وفيها أيضا يظهر بوضوح قصد الناقد التنويري بالرغم مما يميز اللغة الواصفة أحيانا من خصائص ومكونات أسلوبية قد لا تنسجم كثيرا مع هذا القصد.

8 – ومن بين العناوين التأسيسية اللافتة في سياق هذه المقاربة نذكر: فن القصة في المغرب (1914-1966) (1967)، ودينامية النص الروائي (1993) لأحمد اليبوري؛ محمد مندور وتنظير النقد العربي (1973)، وأسئلة الرواية أسئلة النقد (1996) لمحمد برادة؛ الأدب والغرابة (1982) والغائب (1987)، والحكاية والتأويل (1988) لعبد الفتاح كيليطو؛ وتحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص (1985)، ودينامية النص: تنظير وإنجاز (1987) لمحمد مفتاح.

إن فضاء بعض هذه المؤلفات وغيرها أوسع من حقل النقد الأدبي وأشمل من مجال اهتمامه. إنها تندرج في مستوى أعمال الباحث في العلوم الإنسانية وعلوم التأويل. غير أن المكانة التي لتحليل الآثار والخطابات الأدبية فيها، وما يضطلع به هذا التحليل من دور إيجابي في إثراء التنظير وبناء النسق المعرفي، وفي تدقيق المفاهيم وتبيئتها، وفي تعديل نظرة القارئ والمتلقي للظاهرة الأدبية، كل ذلك يجعلنا ننظر إلى هذه المؤلفات وما يناظرها باعتبارها أعمالا نقدية فضلا عن مجالها الخاص.

9 – لقد كان هذا التطور في الواقع عاملا حاسما في ميلاد النقد الأدبي وتطوره بالمغرب، وفي بلورة رؤاه واتجاهاته، وفي تكريس مواقع الكتاب والنقاد وأسماء أعلامهم منذ الثلاثينيات. وما تزال منابر الإعلام الأدبي والثقافي والسياسي تضطلع بهذا الدور إلى اليوم.

10 – والإيجابي في هذه الحركة هو اتجاه المترجمين نحو اختيار بعض أصول النقد الأدبي الجديد بتياراته المختلفة وبعض أصول نظريات الأدب الحديثة بمرجعياتها المتباينة. وهذه بعض العناوين :الدرجة الصفر للكتابة (ط.3،1985) “الخطاب الروائي (1987) ترجمة محمد برادة؛ ونظريات المنهج الشكلي نصوص الشكلانيين الروس(1982)، ومورفولوجية الخرافة(1986) ترجمة إبراهيم الخطيب؛ وفي في أصول الخطاب النقدي الجديد (ط.2، 1989) ترجمة أحمد المديني؛ و البنيوية التكوينية (1987) ترجمة جماعية؛ وطرائق تحليل السرد الأدبي (ط.2،1992) ترجمة جماعية؛ ونظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير (1989) اختيار وترجمة مصطفى ناجي: نظرية الرواية (1988) ترجمة الحسين سحبان؛ بنية اللغة الشعرية (1986) ترجمة محمد الولي ومحمد العمري؛ سميولوجية الشخصيات الروائية (1990) ترجمة سعيد بنكراد؛ مدخل إلى الأدب العجائبي (1994) ترجمة الصديق بوعلام؛ الصورة في الرواية (1995) ترجمة رضوان العيادي ومحمد مشبال؛ خطاب الحكاية (1996) ترجمة م. معتصم، و ع.حلي، و ع. الأزدي. وهناك وجه آخر لحركة الترجمة بالمغرب ويتعلق بـ”استعادة” بحوث جامعية أو دراسات نقدية ألفها مغاربة باللغة الفرنسية من عبد الفتاح كيليطو، المقامات، السرد والأنساق الثقافية ترجمة عبد الكبير الشرقاوي (1993)؛ والعين والإبرة: دراسات في ألف ليلة وليلة ترجمة مصطفى النحال (1996)…

11 – وهو ما نلاحظه على سبيل المثال في الأطاريح التالية: عباس الجراري القصيدة: الزجل في المغرب (1970)؛ الميلودي شغموم المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة (1991)؛ محمد مفتاح الخطاب الصوفي: مقاربة وظيفية (1997)، والعديد من المقالات والدراسات التي تتناول بالتحليل دواوين الزجل المعاصر بالمغرب، والأدب المكتوب بالأمازيغية.

12 – وهو ما تعكسه آثار الباحثين المغاربة من رواد الدراسات المغربية الأندلسية محمد بن شريفة، وعباس الجراري والفقيد محمد بن تاويت. وهي آثار تتواصل بطموح لدى العديد من الدارسين من الأجيال اللاحقة ومن الذين تخرجوا على أيدي أولائك الأساتذة.

13 – من قبيل كتابات عبد الفتاح كيليطو عن السرد العربي الكلاسيكي؛ ومحمد مفتاح عن الخطابات الشعرية والمنقبية والصوفية؛ ومحمد العمري في كتابه تحليل الخطاب الشعري، البنية الصوتية في الشعر:

الكثافة، الفضاء، التفاعل (1990) الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية: نحو كتابة تاريخ جديد للبلاغة العربية (1991)؛ وادريس بلمليح في المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب من خلال المفضليات وحماسة أبي تمام (1995)؛ ورشيد يحياوي في شعرية النوع الأدبي: قراءة في النقد العربي القديم (1994) والقاص أحمد بوزفور في تأبط شعرا (1990).

14 – وذلك من قبيل : سلطة الواقعية: مقالات تطبيقية في الرواية والقصة (1981) لعبد القادر الشاوي؛ المصطلح المشترك : دراسات في الأدب في الأدب المغربي المعاصر (1977) لإدريس الناقوري؛ الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي: دراسة بنيوية تكوينية (1985) لحميد لحمداني؛ ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب: مقاربة بنيوية تكوينية (1979) لمحمد بنيس؛ الرواية والإيديولوجيا في المغرب العربي (1981) لسعيد علوش؛ في الأدب المغربي المعاصر (1983)، “أسئلة الإبداع العربي المعاصر”(1985) لأحمد المديني؛ الخطاب النقدي عند طه حسين (1985) لأحمد بوحسن؛ القصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد (1987) لعبد الله راجع؛ الرواية المغربية والتغير الاجتماعي (1990) لمحمد الدغمومي.

15 – من مثل: القراءة والتجربة: حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب (1985)، تحليل الخطاب الروائي (1989)، الرواية والتراث السردي (1992) لسعيد يقطين؛ (1989)، وبنية الشكل الروائي: الزمان، الفضاء، الشخصية (1990) لحسن بحراوي؛ شعرية النص الروائي: قراءة تناصية في كتاب “التجليات”(1991) لبشير القمري؛ ونقد الشعر في المغرب الحديث (1992) لعبد الجليل ناظم؛ وبناء الصورة في الرواية الاستعمارية: صورة المغرب في الرواية الإسبانية (1994) لمحمد أنقار؛ وظلال النص (1991) لمحمد بهجاجي؛ وفي حداثة النص الشعري (1995) لعبد الله شريف؛ ورواية الأوهام وأوهام الرواية: قراءات في الرواية المغربية (1997) لعبد الرحيم العلام.

16 – من بين هذه المشاريع نذكر: منحى عبد الفتاح كيليطو في إعادة قراءته العاشقة والعالمة للتراث السردي العربي في مغايراته الخطابية وأنساقه الثقافية؛ ومشروع محمد مفتاح في تشييده لمنهاجية شمولية تقوم على “التوليف النقدي بين المتضادات ونشر قيم التسامح والاختلاف والحرية” تركيز الاهتمام على الانتظام الثقافي والمفاهيم العلمية الحديثة؛ ومحمد برادة في جهوده من أجل إنتاج معرفة تسعف على بلورة هوية الثقافة ومتخيل المجتمع عبر إعادة قراءة وتأويل تجلياتهما كما تشخصها القصة والرواية والنقد؛ وأحمد اليبوري في تحليله النقدي والثقافي للرواية العربية وللقصة القصيرة بالمغرب من منطلق التكامل المعرفي، وفي ضوء مفاهيم التكون، ودينامية النص، والأدب باعتباره مؤسسة؛ وحسن المنيعي في ترسيخه للثقافة المسرحية ولتاريخ المشاهدة والعرض الدراميين بالمغرب؛ ومحمد بنيس في اهتمامه بإعادة قراءة الشعر العربي الحديث والمعاصر في بنياته وإبدالاتها وفي أنساقه الثقافية والتجاولية؛ وهذه مجرد أمثلة.

17 – تقدم أبحاث عباس الجراري ومؤلفاته عن الأدب العربي والتراث الشعبي في الغرب الإسلامي الصورة الأكثر انسجاما وانتظاما في التعبير عن هذا التصور للمقاربة التاريخية في صلاتها بموضوعات الحضارية والهوية المغربيتين. وآخر مؤلفاته في هذا الاتجاه: تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب من 1830 إلى 1990 وقد صدر في أواخر عام 1997.