مجلة حكمة

النسخ باعتباره تأويلاً؛ نموذج كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد القاسم بن سلام – رضوان السيد

رضوان السيد
د. رضوان السيد

 

أولاً: في التمهيد

مسألة الناسخ والمنسوخ، شديدة العُسْر والتعقيد. ولعلّه لا يُضاهيها في ذلك من الناحية التاريخية غير مسألة الأحرف السبعة التي قيل إنّ القرآن أُنزل بها أو عليها. وقد أمكن تجاهُلُ إشكاليات الأحرف بثبات وثبوت مصحف عثمان؛ أمّا مسألة النسْخ فما أمكن إزاحتُها من حيّز التأمُّل والنقاش بأيّ عذر. وذلك لأنّ مسائل عقدية وفقهية ترتبطُ بها، وبعضُ ذلك ظاهرٌ في نصّ القرآن، وفي الأحاديث الصحيحة الظاهرة القِدَم والانتشار منذ زمن الصحابة.

يتميز الفقيه واللغوي والمحدِّث والقاضي أبو عبيد القاسم بن سلاّم الهروي (-224هـ/ 838م) مؤلِّف الرسالة في الناسخ والمنسوخ([1]) بالتأسيس كتابياً لعدة فنونٍ وميادين في الحقبة المبكّرة التي عاش فيها وعمِل. فقد ألّف في فضائل القرآن([2])، وفي ناسخه ومنسوخه، وألّف في غريب الحديث([3])، وألّف في اللغة “المصنَّف”([4])، كما ألّف الأموال([5]) في إدارة المال العام، وهذا فضلاًعن تأليفه في الإيمان، والزهد والمواعظ والآداب([6]). ويبدو أنّ اهتماماته الشاسعة هذه، تعود للمهامّ التي مارسها، ولعلاقاته برجالات الدولة، ولاعتقاده بحكم معارفه الواسعة أنه يستطيع التدخل لحسم الخلافات التي كانت مشتعلةً أيامه بين الفقهاء والمتكلميـن والمحدِّثيـن، وبين المحدِّثين ورجالات الدولة. وما كان أبوعبيد أولَ من وضع رسالةً أو كتاباً في الناسخ والمنسوخ. فهناك رسالةٌ في الناسخ والمنسوخ لمحمد بن شهاب الزهري(-124هـ/741م)، ورسالةٌ أُخرى لقتادة بن دعامة السَدوسي(-117هـ/ 735م)([7]). وهذا فضـلاً عن رسائـل مـن القرنيـن الثانـي والثالـث للهجـرة، ورد ذكرهـا دون العثـور عليها، لكـنّ أبا عبيـدٍ وغيـره ينقـلون نصــوصاً وحـالاتٍ عنـها، دون أن نعـرف إنْ كانت رسائل مستـقلةً في النســخ أم أنهـا وردت بوصـفها حــالاتٍ مضمَّنـةً فـي كتـب مثــل الرســالة للشــافعـي(-204هـ/ 819م) أو الـزهـــد والجهــاد لعبـد اللـه بـن المبـارك (-181هـ / 797م) أو فهــم القـــرآن للمحاسبــــي (-243هـ/857م)([8]). وللنسخ في اللغة معنيان([9]): الإزالة، ومنه نسخت الشمس الظلَّ أي أزالتْه، والنقل: نسخْتُ الكتابَ إذا نقلْتُ ما فيه. أمّا في الاصطلاح فهو في رأي أغلب العلماء([10]): رفْع الشارع حكماً متقدماً بحكمٍ منه متأخِّر. وقد ذكرتُ هذه التعريفات على عجلٍ لأنني لا أُريدُ أن أسلك مسلك الباحثين الآخرين في تتبُّع الآيات التي يقالُ إنها منسوخة ومحاولة زيادتها أو التقليل منها. بل إنني أُريدُ الاستناد إلى كتاب أبي عُبيد الأجمع والأقدم نسْبياً وفي أربعة أمورٍ هي: المواطنُ والآياتُ التي يقال إنها منسوخة، ومستنداتُ القول بالنسْخ فيها، ومفهوم أو مفاهيم النسْخ استناداً لذلك، وما هي الاستنتاجاتُ التي يمكنُ الخروجُ بها من الإشكال، باتجاه اعتبار القراءة والتأويل مخرجاً ملائماً.

ثانياً: أبوعبيد والنسخ في القرآن:

الحالة الاولى([11]): الزكاة والنسخ: وملخَّص القضية أنّ هناك آيتين إحداهما في سورة النساء (النساء: 8) ونصُّها: { وإذا حضـر القسمة أولـو القـربى واليتامى والمساكيـن فارزقوهم منـه} – والأُخرى في سورة الأنعام ( الأنعام: 161)، ونصُّها: { كُلُوا من ثمره إذا أثمر وآتُوا حقَّه يوم حصاده}. والآيتان تدعوان إلى التصدُّق على الأرض، إذا صحَّ التعبير، أي أثناء جني المحصول، وهذا يعني أنهما تطلبان حقاً في المال  غيرالزكاة، فهل الحكم الوارد في الآيتين ثابت، أم أنهما منسوختان، لأنّ الزكاة فُرضت بعدهما؟ في الأمر ثلاثة آراء من جانب الصحابة والتابعين؛ يقول أبوعبيد: “هناك من رأى أنّ الآيتين منسوختان بالزكاة (= الضحاك بن مزاحم)([12])، بينما رأى ابن عباس والحسن أنها الزكاةُ نفسُها. وانفرد مجاهد بالقول: هذه حقوقٌ فوق الزكاة، وهي واجبةٌ أيضاً”.

وأبو عبيد يقترب من رأي مجاهد، ويستشهدُ عليه بآثارٍ عن النبي(ص) لا تتصل مباشرةً بتفسير الآيات المذكورة. ثم يختم بالقول:” فهذا التأويل وهذه الآثار التي ذكرناها توجبُ كلَّ حقٍ مسمًّى في الكتاب، وإن لم يكن كوجوب الزكاة“.

الحالة الثانية: الصيام والنسخ([13]): ويقصد أبوعبيد مسألتين؛ الأولى: جواز إتيان الرجل أهله ليلاً بعد الإفطار استناداً لقوله تعالى( البقرة: 187): { أُحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم…}، كأنما كان ذلك ممنوعاً من قبل باعتبار قوله تعالى(البقرة: 178): { كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم..}. بيد أنّ الأمر يبقى غير واضح إلاّ إذا كان أهل الكتاب لا يأتون نساءهم في شهر الصوم. وقد أورد أبوعُبيد مروياتٍ غير مقنعة لاحتمالٍ آخر هو أنه ما كان يجوز إتيان المرأة إذا كانت قد نامت. وعلى أي حال، فهذه حالة نادرةٌ للنسخ المزعوم، لأنه نسْخُ عُرفٍ أو حكمٍ غير واردٍ في القرآن بنصٍ قرآني!

أما المسألة الثانية فتتعلق بقوله تعالى (البقرة: 184): { وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين}. وقد  اختلف فيها التابعون اختلافاً شديداً، وانصرفوا إلى قراءة الكلمة (يطيقون) قراءات مختلفة. وأبو عبيد يرى أنّ الآية تشترع لكبار السنّ، كما اشترعت للمرضى والمسافرين. فالمريض والمسافر يفطران، ويقضيان بعد ذلك. أما كبير السن فيفتدي، وهناك من رأى أنه إن كان طاعناً في السن، وصار غير مطيقٍ للصوم، فلا فدية عليه.

وهكذا وفي المسألتين، ليس هناك ما يمكن اعتباره نسْخاً حقاً، وإنما هي قراءاتٌ أو تأويلاتٌ مختلفةٌ من جانب التابعين لآياتٍ  من القرآن تتعلق بالصوم.

الحالة الثالثة([14]): النكاح والنسْخ: يذكر فيها أبو عُبيد مسألتين. تتعلق الأُولى بزواج المتعة. وفي هذا القسم عشرات الروايات عن النبي(ص) أنه أباح أو أذن ثم نهى وحرَّم. ولا يوردُ أبوعُبيد قوله تعالى: { فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أُجورهنّ} (سورة النساء: 24) إلاّ في نهاية هذا القسم من مشكلات النكاح، ليعود فيعتبر الآية الناسخة قوله تعالى في سورة المؤمنون (سورة المؤمنون: 7): { والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانُهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}. وهكذا فالذي يبدو لي أنّ  الذي أثار هذه المشكلة ابن عبّاس الذي ظلّ مصراً على حِلّ المتعة، دون أن يعتبرها نكاحاً! يقول أبو عبيد: “كان ابن عباس يفتي بها ويغمص بذلك أهل العلم وأبى أن يتنكل عن ذلك حتى طفق بعض الشعراء يقول..”([15]).

أما المسألة الثانية فتتعلق بنكاح المشركات والكتابيات. ونكاح المشركات محرَّمٌ بنصّ القرآن( سورة البقرة: 121). وكذلك فإنّ نكاح الكتابيات مباحٌ بنصّ القرآن( المائدة: 5، والنساء: 25). ولذا فما كان هناك داعٍ للحديث عن نسخٍ في هذا المعرض، إلاّ لأنّ بعض التابعين اعتبر أنّ في عقائد أهل الكتاب طرفاً من الشرك فكرهَ الـزواجَ منهم، مخالفاً بذلك نصَّ القرآن. وقد بـذل أبو عُبيد جهداً كبيراً لمراجعة هذه المشكلة ودعاوى النسخ فيها، ومال إلى أن التحليل هو الناسخ للتحريم. أما الحقيقة فإنه لا ناسخ ولا منسوخ، بالنسبة لأهل الكتاب، وإنما هي اصطلاحات القدماء الذين يتسرعون في إطلاق النسخ كما هو معروف.

الحالة الرابعة: الطلاق([16]) والنسخ: أورد أبوعُبيد في اختلافات الطلاق، وإمكان ورود النسْخ مسألتين، أولاهما قولُهُ تعالى: { ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إلاّ أن يخافا ألاّ يقيما حدود الله فلا جُناح عليهما فيما افتدت به}(سورة البقرة: 229). والمعنيُّ هنا طلاق الخُلْع ببدل. وأبوعبيد يُصرِّح بأنّ في الآية استثناءً وليس نسْخاً. أما المسألة الثانية فهي عدَّةُ المتوفّى عنها  زوجها. فقد قال أبو عُبيد([17]): “وأمّا نسْخُ العدَّة فإنّ الرجل كان إذا مات وترك امرأته اعتدّت سنةً في بيته ينفقُ عليها من ماله ثم أنزل الله عز وجلّ:{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍوعشراً}(سورة البقرة:134). ولا أدري لماذا يسمّي أبو عُبيد هذه الحالة نسخاً ، فآيةُ البقرة الأُخرى:{ وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج}(سورة البقرة: 240) تتعلق بحسن معاملة المرأة المتوفَّى عنها زوجها، أما الأُولى فتتعلق بانتهاء العدة، وإمكان زواجها ثانيةً.

الحالة الخامسة([18]): الحدود والنسخ: ذكر أبو عبيد مسألتين في الحدود، ومسألةً في الحكم بين أهل الذمة. في الحدود ذكر أولاً الآية في سورة (النساء: 15)، والتي تأمر بوضع اللواتي يأتين الفاحشة في البيوت{ حتى يتوفاهنّ الموت، أو يجعل الله لهنّ سبيلا} ثم نُسخت بآية الزاني والزانية (سورة البقرة: 221) وفيها الجلد والرجم. وأما المسألة الثانية فتتعلق بالقصاص وأنه كان { الحر بالحر والعبد بالعبد} (البقرة: 187)، ثم صار { النفس بالنفس} (المائدة: 45).

وتبقى مسألة الحكم بين أهل الذمة. يقول أبوعبيد: حدثنا هُشيم عن منصور عن الحكم عن مجاهد في قوله { وأن احكم بينهم بما أنزل الله}(سورة المائدة: 49) قال نسخت ما قبلها {فاحكم بينهم أو أعرِضْ عنهم} (سورة المائدة: 42). لكنّ أبا عُبيد عاد فخصَّص فقرةً مستقلّةً للحكم بين أهل الذمة أو تركه، وانتهى إلى خُلاصةٍ هي([19]): ” وهذا قول  أهل العراق، الذين يرون النظر في أحكامهم إذا اختصموا إلى قُضاة المسلمين لهذه الآية التي ذكرناها، وبرجْم النبي(ص) اليهوديَّ واليهودية. وأما أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على كفرهم وهو أعظم من الحدود التي يأتون. وتأوَّلوا في رجم النبي(ص) اليهوديين أن ذلك كان قبل أن تؤخذ منهم الجزية. قالوا: إلاّ أنّ على الإمام أن يمنعهم من الفساد والتظالم”.

الحالة السادسة([20]): الشهادات والنسخ: وفيها عند أبي عبيد مسألتان، أولاهما الإشهاد في التبايُع(سورة البقرة: 282) وإن أمن بعضكم بعضاً فلا حاجة لذلك  (سورة البقرة: 283). أما المسألة الثانية فتتعلق بشهادة غير المسلمين على المسلمين. والقرآن يذكر:{ إثنان ذوا عدلٍ منكم، أوآخران من غيركم} (سورة المائدة: 106). وقد أطال أبو عبيد في الاستدلال لجواز شهادة أهل الذمة في السفر والحضر. لكنه أورد آراء في قصْر شهادة غير المسلم على السفر والضرورة، وآراء أُخرى بالمنع في كل الأحوال. لكنه يميل إلى أنّ الأمر باقٍ على إطلاقه، لأنّ الآيات واردةٌ في سورة المائدة وهي محكمةٌ لا ناسخ فيها إذ إنها من آخِر سُوَر القرآن نزولاً.

الحالة السابعة([21]): المناسك والنسْخ: وقد ذكر أبو عُبيد فيها مسألتين: تحويل الحج إلى عُمرة  لمن لم يكن يملك هدياً، وإجازة التمتُّع أي الجمع بين الحج والعمرة. ورغم طول الروايات والآراء التي ذكرها في الأمرين؛ فإنه قال في بداية الفصل([22]): ” أما مناسكُ الحج فإنّا لا نعلمُ في التنزيل منها منسوخاً ولكنّ فيها شيئين كانا على عهد رسول الله(ص) ثم إنّ الأئمة أو بعضهم رأى فيهما سوى ذلك، وهما فسخ الإحرام ومتعة النساء..”. فالأمر إذن ليس أمر آيةٍ نسخت آية، وإنما هوخلافٌ على ثبوت سنةٍ من سُنَن رسول الله(ص) ولاعلاقة لذلك بالنسْخ([23]).

الحالة الثامنة([24]): الجهاد ناسخه ومنسوخه: يميل أبوعبيد في هذا الفصل للتشدُّد، وهو يستند في ذلك إلى سورة براءة، وإلى الآيات الكثيرة الواردة في الحثّ على الجهاد. لكنه بعد ذلك كلِّه، وعندما يصل إلى قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة..} ( سورة البقرة: 282)، يتوقف عن اعتبار كلّ آيات السِلْم منسوخة، ويحيل على الاستثناء ومُراعاة الحالات والظروف. ثم يوردُ آراء لعلماء مكة على وجه الخصوص، لا يعتبرون فيها الجهاد فريضة. والظاهر أيضاً أنه مثل ابن عمر لا يعتبر الجهاد من أركان الدين. وعندما يصل إلى فرع الأسرى من فروع      الجهاد؛ فإنه يذهب إلى رأيٍ متفردٍ، فهو لا يقول بقتل الأسرى، ولا يقول بفدائهم، أو المنّ عليهم، حسبما يرد في آياتٍ متعددة. بل يعتبر أنّ القتل والفداء والمنَّ جميعاً هي أمورٌ مشروعةٌ كلُّها أنفذها رسول الله(ص) في ظروفٍ مختلفةٍ بحسب ما اقتضته الحالة التي وجدها أمامه، أي أنه سار على الملاءمة لمقتضى الحال. إنّ المسألة هنا هي مسألة رؤيةٍ عامةٍ  لقضايا الحرب والسلم؛ وقد ذهب الفقهاء الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى خلاف ما ذهب إليه الشافعي وأبو عبيد بهذا الخصوص. وكيف يكون الأمر على غير ذلك، والله سبحانه وتعالى يقول في الآية المحكمة: { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان} (سورة البقرة: 208). وخطوات الشيطان هي الحرب!

وهو يخصُّ المغانم أو الغنائم بفقرةٍ خاصةٍ، يذكر فيها أنّ الآية القائلة: { واعلموا أنّ ما غنمتم من شيئٍ فإنّ لله خمسه وللرسول}(سورة الأنفال: 41)، ناسخة لقوله تعالى:{ يسألونك عن الأنفال قل الأنفالُ لله وللرسول} (سورة الأنفال:1). والطريف هنا أنه لا يفرّق في المعنى والحالة بين الأنفال (دون قتال)، والغنائم (التي تحصل بالقتال)، وهو الأمر الذي ذهب إليه معظم الفقهاء. وأبو عبيد هنا يعتبر التخصيص نسخاً.

الحالة التاسعة([25]): الاستئذان: يورد أبو عُبيد قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} (سورة النور: 58). ثم يذكر رواياتٍ متعددة، تفيد أنّ هذا الاستئذانَ متروكٌ من جانب العبيد والأحرار، كأنما الآية منسوخةٌ وهي ليست كذلك!

الحالة العاشرة([26]): المواريث والناسخ والمنسوخ: قال أبو عبيد: “وجدنا نسخ المواريث في ثلاثة مواضع منها موضعٌ كان فيه الميراث ممنوعاً فنسخته الإباحة، وموضعان كان الميراث فيهما مباحاً فنسخه المنع. فأما الذي كان ممنوعاً فنُسخ بالإباحة فالميراث بين المهاجرين والأعراب.. وأما الميراثان اللذان كانا مباحين فنُسخا بالمنع فميراث الحلفاء من محالفيهم وميراث الأدعياء من متبنيهم..”. والعمدة في ذلك قوله تعالى:{ وأولو الأرحام بعضهم أَولى ببعضٍ في كتاب الله} (سورة الأنفال: 75،  وسورة الأحزاب: 6).

الحالة الحادية عشرة([27]): الوصية والنسخ. يقول أبوعبيد إنّ آية الوصية: { إن ترك خيراً الوصيةُ للوالدين والاقربين}(سورة البقرة: 180)، نسخها قوله تعالى: { للرجال نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون مما قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضا} (سورة النساء: 7). ويضيف؛ “قال الحسن: كانت الوصية للوالدين والأقربين فنُسخ ذلك منها، فصارت الوصية للأقربين الذين لا يرثون، ونُسخ منها كلُّ وارث”([28]).

الحالة الثانية عشرة([29]): اليتامى والنسخ: يعبتر أبوعبيد أنّ الآية القائلة: { إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم نارا..} أدخلت حرجاً شديداً على متولي أموال الأيتام، فنسخها قوله تعالى: { من كان غنياً فليستعفف،  ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} (سورة النساء:6). وليس هذا من النسخ في شيئ، لأنه بيانٌ أو إيضاحٌ لعدم جواز أكل أموال اليتامى ظلماً، كما جاء في الآية السابقة.

الحالة الثالثة عشرة([30]): ناسخ الطعام ومنسوخه: يستند أبو عبيد هنا إلى أسباب النزول ليقيم ناسخاً ومنسوخاً بين آيتين هما: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل…} (سورة البقرة: 88)، والأُخرى: { ليس على الأعمى حرجٌ ولاعلى الأعرج حرجٌ ولا على المريض حرج..} (سورة النور: 61). ومَعارض الآيتين مختلفة، بحيث لا يصحُّ أن تنسخ إحداهما الأُخرى، ولنقرأ تعليق أبي عبيد: “قال المسلمون إنّ الله نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وإنّ الطعام من أفضل أموالنا فلا يحلُّ لأحدٍ أن يأكل عند أحد. فكفّ الناس عن ذلك فأنزل الله عز وجل : ليس على الأعمى حرج..”! وهكذا يبقى النسخ هنا غير وارد، وغير معقول، لأنه لا يربط ين الآيتين شيئٌ غير الربط المصطنع من خلال أسباب النزول، وعلى أي حال، وكما يقول علماء أصول الفقه فإنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمورد لا يحدِّد الوارد.

الحالة الرابعة عشرة([31]): الناسخ والمنسوخ في الشراب: ذكر أبو عبيد في مطلع الباب: وجدنا في الأشربة منسوخين الخمر والسكر نُسخ حلُّهما بالتحريم. ثم قال (ص88) في روايةٍ عن الأَوزاعي(-157هـ/773م): قُرئ علينا كتابُ عمر بن عبد العزيز إنّ الله عزّ وجلّ أنزل في الخمر ثلاث آياتٍ من كتابه: يسألونك عن الخمر والميسر، الآية، فتركها الناس بعض الترك. ثم أنزل الله: لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى، فاجتنبوها إذا حضرت الصلاة. ثم أنزل الله عزّ وجلّ: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه.الآية…أمّا قوله تعالى: تتخذون منه سَكَراً فقد نسخها تحريم الخمر..”.

الحالة الخامسة عشرة([32]): قيام الليل والنسْخ: ذكر أبو عُبيد بسنده عن ابن عباس:” لمّا أُنزل أول المزمِّل كانوا يقومون مثل قيامكم في رمضان، حتى نزل آخرها وكان بين أولها وآخرها سنة”.  والأمر هنا كما في حالاتٍ أُخرى كثيرة، فقد أتى التفصيل بعد الإجمال وفي نفس السورة، فلا مجال للقول بالنسخ.

الحالة السادسة عشرة([33])؛ النجوى والنسخ: يروي أبو عبيد هنا أيضاً بسنده عن ابن عباس “أنّ المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله(ص) حتى شقّوا عليه فأراد الله أن يخفّف عن نبيه(ص) (بفرض الصدقة في مقابل النجوى)، فلما قال لهم ذلك ضنّ كثير من الناس فكفّوا عن المسألة، فأنزل الله عز وجل: أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات. الآية، فوسّع الله عز وجلّ عليه”.

الحالة السابعة عشرة: التقوى والنسخ([34]): ذكر أبو عبيد عن ابن عباس” أنّ آية اتقوا الله حقّ تقاته لم تُنسَخْ، ولكنّ حقّ تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم”. فلا مجال للقول بالنسخ هنا أيضاً وأيضاً، لأنّ التقوى كانت مطلوبةً وما تزال.

الحالة الثامنة عشرة([35]): التوبة عند الموت: قصد أبو عبيد بذلك قوله تعالى: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تُبْتُ الآن}(سورة النساء:18). ثم علّق : “فحرّم الله المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجى أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسْهم من المغفرة”. واستشهد على ذلك بالآية:{ إنّ الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (سورة النساء: 48). وهكذا فليس في هذا الموطن لا ناسخ ولا منسوخ، وإنما هو البيان أو التفصيل بعد الإجمال.

الحالة التاسعة عشرة([36]): هل للقاتل توبة؟ روى أبو عبيد بسنده إلى الحسن أنه قرأ هذه الآية:{من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} (سورة المائدة: 32)؛ فقلت: يا أبا سعيد، أهي علينا كما كانت على بني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله إلاّ هو، وما جعل دماءَ بني إسرائيل أكرم عليه من دمائنا”. فأبوعبيد يرى أنّ الآية ليست خاصةً ببني إسرائيل، ومع ذلك هناك آيةُ النساء:{ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} (سورة النساء: 93). وليس في هذا الموضع ناسخٌ ومنسوخ، لكنّ أبا عُبيد ذكر الأمر هنا لاعتباره أنّ الأخيرة ناسخةٌ للأُولى “اللينة”- بحسب زيد بن ثابت- وهي قوله تعالى:{ ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلاّ بالحق} (سورة الفرقان: 68). فليست للقاتل عمداً توبةٌ في هذه الدنيا تترتب عليها نتائج، لكنّ المسلمين لا يكفّرون مؤمناً بذنب.

الحالة العشرون([37]): النسخ فيما تُخفي النفوس: المسألة عند أبي عُبيد في هذا الموطن مشكلةٌ أيضاً، لأنها تعتبر القراءة الخاصة نسخاً. فقد فهم ابن عمر من قوله تعالى:{ إنْ تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}(سورة البقرة: 284) أنه لن ينجو أحدٌ إذن من عذاب الله، حتى نبهه ابن عباس إلى قوله تعالى: { لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها}(سورة البقرة: 286)، فاعتبر أبوعُبيد أنّ الأمر حقيقٌ بالذكر في باب النسْخ، ولا يصحُّ بالطبع ذكْر شيئٍ من ذلك في معرض النسخ؛ وإنما هو البيان والتفصيل بعد الإجمال.

الحالة الحادية والعشرون([38]): الإكراه في الدين والنسخ: يعتبر أبو عبيد – وهذه مصيبة- أنّ قوله تعالى: {جاهد الكفار والمنافقين}(سورة التوبة:73)، ناسخٌ لقوله تعالى: { لا إكراه في الدين}( سورة البقرة: 284)! وهذا على أنه يورد روايةً عن عمر بن الخطاب أنه قال لمملوكه وستق: أسلِمْ فإنك إن أسلمتَ استعنتُ بك على أمانة المسلمين، فإني لا استعين عليهم بمن ليس منهم. وقال وستق: فأبيتُ وقلتُ: لا إكراه في الدين! قال : فأعتقني وقال اذهبْ حيثُ شئتَ ! وإذا كان عمر بن الخطّاب قد فهم مسألة الإيمان باعتبارها قائمةً على الحرية الفردية، وهو صحابيٌّ وحاكم، فلماذا يريد أبوعُبيد أن يسلب فعل  الإيمان أهمَّ معانيه وهو الاقتناع والحرية؟!

الحالة الثانية والعشرون([39]): الاستغفار للمشركين: تتصل هذه المسألة على وجه الخصوص  بإقدام النبي(ص) على الصلاة على عبد الله بن أُبي والاستغفار له رغم معرفته بنفاقه. وقد نزل أولاً في هذه المسألة قوله تعالى: { إستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرةً فلن يغفر الله لهم}(سورة التوبة:80)، فقال النبي(ص): إني بين الخيرتين؛ قال فصلّى عليه ثم نزلت { ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره}(سورة التوبة: 84) فصارت الصلاة على المنافق حراماً تماماً. والمشكلة مع ما ذهب إليه أبو عبيد ليست هنا. بل في فهمه للمسألة بعامة. ذلك أنّ تصرف النبي(ص) مع عبد الله بن أُبي على وجه الخصوص، تعلَّق بطرائقه في  التعامل مع أصحابه ومع مجتمعه في تلك الفترة. إذ إنه سلك هذا المسلك مراعاةً لإقرباء ابن أبي الأحياء(ابن عبد الله بن أبي كان من أنصار النبي، وخَلَف أباه في زعامة البطن القَبَلي)، وعشيرته. أمّا أبو عُبيد فقاد المسألة منذ الدباية إلى مكانٍ آخر، أي مبدأ الولاء والبراء، ليس بين المسلمين والكفار، بل وبين فئات المجتمع الإسلامي ذاته! لقد بدأ الفقرة الخاصة بالاستغفار للمشركين بمثَل إبراهيم مع أبيه، وتعامل الأبناء مع أهلهم غير المؤمنين. فقد أمر الله الأبناء المؤمنين{ بالوالدين إحساناً} (سورة الإسراء: 24) مع عدم طاعتهم في مسألة الكفر. وكذلك كان شأن إبراهيم مع والده آزر { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّعن موعدةٍ وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرأ منه} (سورة التوبة: 113- 114). شأنُ ابن عبد الله بن أُبي، مثل شأن إبراهيم إذن مع أبيه؛ في صرورة الإحسان إلى الأهل والبر بهم دون السماح لهم بردِّهم عن إيمانهم. أما أبو عبيد فربط المسألة بطرائق التعامل براءً وولاءً مع المشركين، وهذه مسألةٌ  كبرى طبعت بطابعها استناداً إلى سورة براءة أو التوبة، نقاشات الجهاد والإيمان والكفر والشرك طوال العصور الوسطى، ولها عقابيل وآثار في الأزمنة الحديثة.

الحالة الثالثة والعشرون([40]): الأمر بالمعروف والنسخ: في كل أمرٍ تتراوح الآيات القرآنية فيه بين المهاودة والمسالمة أو التشدد، يميل أبو عبيد المتأثر بقوة الإمبراطورية الإسلامية أيامه إلى التشدد. ومن تلك المسائل، مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالداخل الإسلامي ومع العالم. وكما هو معروف فإنّ الآيات القرآنية في هذا المعرض كثيرةٌ وكبيرةٌ، بحيث صار الغزالي وابن تيمية وغيرهما إلى القول إنّ هذا الواجب( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هو أصل الإسلام، وركن الدين. لكنّ أبا عبيد وأقرانه أربكتهم الآية القرآنية القائلة: { يا أيها  الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَّ إذا اهتديتم} (سورة المائدة: 105). وما جرؤ أبو عبيد على القول بنسْخها بآيات الأمر بالمعروف، فذهب استناداً إلى آثارٍ عن الصحابة والتابعين إلى القول بتأجيل إنفاذها(!)، واستمرار وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بحجة أنّ آية (عليكم أنفسكم): “لم يأْت تأويلُها بعد”!  ولذا فالأمر بالمعروف- ومن خلال روايات عديدة أيضاً ما يزال واجباً، وينبغي العملُ عليه بكل سبيل. وبالطبع فإنّ آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرةٌ جداً ولا شكّ أنّ وجوبَهُ ظاهر، لكنّ مورد آية “عليكم أنفسكم” مختلفٌ بحيث لا يمكن أن يعطِّلهُ تصوُّر الافتراق أو التناقض. وفي الحقيقة فإنّ أبا عُبيد ما استسهل بافتراض النسْخ، لكنه عطَّل عمل آية المسالمة والاعتزال هذه بأقوالٍ وتفسيراتٍ لعددٍ من الصحابة والتابعين، وهذا مسلكٌ لا يختلفُ عن النسْخ، وما كانت له ضرورة. بل كان يمكن أن يسري الأمران معاً وبحسب الحالات، كما ارتأى أبو عبيد في حالة الأسرى. فالواضح أنّ الآية معنيةٌ بإثبات حرية الاعتقاد، وهي مثل آية: لا إكراه في الدين. وليست ناسخةً لها بالطبع.

ثم إنّ المؤلف بدأ التمهيد لحديث القتال والمائة الصابرة، وهو ما تعرض لذلك في كتابه من قبل. لكنّ الناسخ  يقول فجأةً: تمَّ الكتاب! ثم يبدأ بذكر السماعات. فالذي يظهر أنّ المخطوط ناقصٌ صفحةً أو صفحتين.

*****

ثالثاً: النسخ والتأويل: يقول المؤلّفون في الناسخ والمنسوخ إنّ للنسخ ثلاثَ صِيَغ رئيسية([41]): المنسوخ تلاوةً وحكماً، والمنسوخ تلاوةً مع بقاء الحكم، والمنسوخُ حكمه والباقيةُ تلاوتُه. ولو تأملنا المواطن التي تناولها أبوعُبيد في كتابه، والتي شملت حوالى الستين آية، لوجدْنا أنّ الثابتَ والواضح منها هي الصيغةُ الثالثة ( المنسُوخ حكمه والباقيةُ تلاوتُه أي أنّ النصَّ الناسخ والنص المنسوخ كلاهما باقيان في القرآن). ويمكن القول إنّ الصيغة الواضحة هذه، حيث تردُ آيةٌ  أو آياتٌ في تغيير حكمٍ ورد في آيةٍ أو آياتٍ سابقة، من سورةٍ أو سورتين مختلفتين، لكنّ العلاقة بين الموطنين ظاهرة- تبدو تماماً في عدة حالات: في تعديل أحكام وعقوبة جريمة الزنا، وفي تغيير القبلة، وفي مقادير الأعداء الذين يكون على المسلمين الصمود في وجههم ولا يجوز لهم الانسحاب ( من العشرة الأضعاف إلى الضعف).

أما بقية حالات الصيغة الثانية (= المنسوخُ تلاوةً مع بقاء الحكم)، فإنّ مستنداتها ضعيفة. وهي تعبّر عن خلافاتٍ فقهية، تعكس اختلافاتٍ في القراءة. ولأنّ ظواهر النصّ لا تحسم لطرفٍ على الآخر؛ فإنّ سائر الأطراف تلجأُ إلى الآثار النبوية، والآثار عن الصحابة- وفي الأكثر إلى الآثار عن التابعين. والآثارعن التابعين وتابعيهم ( مثل بعض الآثار عن الصحابة) تشير إلى اختلافاتٍ في القراءة ناجمة عن إدخال أعراف الأمصار، وأحكام قُضاتها في الاعتبار. وهناك عاملٌ ثالثُ يدخل في الاعتبار، وهو قرارات السلطات السياسية. وكان ابن المقفع كما هو معروف-  قد اتهم الذين يريدون الاحتجاج بالسنة ( بالمعنى الواسع) لاختلاف أحكام القُضاة؛ بأنّ السنة المزعومة ليست أكثر من أمر بعض حكام بني أمية([42])! وهناك أخيراً عاملٌ رابعٌ يستحق الذكر بين أسباب الاختلاف، وهو المعروف بأسباب النزول. فقد يكون النصُّ القرآني غامضاً أو محتملاً لأكثر من تفسير، وهنا يحاول المختلفون (ليس دائماً من أجل تأييد وجهة نظرٍ معينةٍ، بل قد يكون من أجل التوافق!) اللجوءَ إلى “أسباب النزول” لوضع الآية أو الآيات في سياقٍ يُعينُ في تحديد معنًى أدقّ أو كشف التباسات ظواهر الألفاظ. إنّ كلَّ هذه العوامل والأسباب التي اُريدَ الاستعانةُ بها على فهم النصّ وتطبيقه، جرى الإصطلاح مبكِّراً (قارن رسالة الزهري، ورسالة قتادة في الناسخ والمنسوخ) على اعتبار حالتها أو حالاتها نسخاً مع أنّ الناسخَ غائبٌ عن القرآن، وأحياناً عن السنة الضيقة (النبي) أو الواسعة ( زمن الجماعة الأول  بالمدينة وفي عصر الراشدين).

وقبل أن نمضي قُدُماً في قراءة المعاني البعيدة لإشكاليات ظاهرة النسْخ، لنتفحص عن كتب الصيغة الأُولى من صِيَغِه الثلاث: نسخ الحكم والتلاوة معاً، أي غياب الأمرين عن النصّ القرآني. ما الداعي لذكْره إذن، ما دام النصُّ وأثره قد زالا؟ هناك احتمالان، الأول: الإصغاء في ذلك إلى ما ورد في القرآن عن النسْخ، وهما الآيتان: { ما ننسخُ من أيةٍ أو نُنْسِها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها} (سورة البقرة: 106)، و{ وإذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفترٍ} (سورة النحل: 101). لكنّ الآيتين لا تفيدان في الاحتجاج لصالح أصحاب هذا الاتجاه، وربما تفيدان أكثر لصالح أتباع الصيغة الثانية( = نسخ التلاوة مع بقاء الحكم)- إذ في هذه الحالة يستطيع هؤلاء عند الانتصار لوجهة نظرهم اللجوء إلى الاحتجاج بأنه ما من آيةٍ منسوخةٍ أو منسيّة إلاّ وفي القرآن مثلها أو خيرٌ منها من حيث ما تشترعه من أمورٍ وأحكام.

إنّ هذه الاعتبارات جميعاً تنبّهنا إلى عاملٍ آخَرَ طارئ هو الرفع من شأن أو رتبة السنة النبوية (وليس السنة بالمعنى الواسع) بحيث قارنت في رسالة الشافعي(-204هـ/ 819م) القرآن في ثلاثة أمور: تساوي الحجية إذا ترجح الثبوت، وإمكان إنتاج الأحكام من خارج القرآن، وإمكان نسخها للقرآن. وأحسبُ أنّ هذا العامل الضاغط هو الذي أسهم إسهاماً كبيراً في القرن الثاني الهجري وما بعد في إنتاج الصيغتين الأولى والثانية من صيغ النسْخ: صيغة المنسوخ تلاوةً وحكماً، وصيغة المنسُوخ تلاوةً مع إبقاء الحكم.

وفي الحقّ أنّ إمكانية حدوث النسخ في القرآن لا يمكن إنكارها لأنها ثابتةٌ بالنصّ إمكاناً ووقوعاً وإنْ بدون تحديد. بيد أنّ الصيغة الثالثة (بقاء التلاوة والحكم في النص) هي الأكثر وضوحاً وتوافقاً مع الآية الناصّة على النسخ. أما الصيغتان الاُخريان؛ فإنهما واردتان على النص من خارج، من تطورات حياة الجماعة ومشكلاتها، ومن اختلافات الأمصار، وإجراءات السلطات، واختلافات العلماء والقُضاة، وميل القُدامى لاستخدام النسخ بكثرة في حين يكون الموضع موضع تخصيص أو تقييد أواستثناء أو مجاز. إنها الاختلافات في القراءة للنص القرآني،  ولاحقاً للنص النبوي، وهي اختلافاتٌ فقهية وإقليمية وسياسية وثقافية. والاختلافاتُ هذه أنتجت اختلافاتٍ في قراءة النصّ القرآني للتوصل إلى أحكامٍ بالحلّ والحرمة والإباحة والندب الكراهية. وقد توسل العلماء الأفراد، وتوسلت الفئات والأمصار، وعلماء الكلام، والسياسيون، ورجالات الإدارة، بالنصّ القرآني، وبالسنة في إثبات هذا التوجه الفقهي(= الفهم) أو ذاك.  ولأنّ إمكانية النسخ واردةٌ في القرآن؛ فقد استسهل كثيرون لتقديم قراءةٍ على قراءة إلى ادعاء النسخ للرأي المخالف لهم، حتى لو كان هذا النسخ المُدَّعى غير موجودٍ في القرآن( نسخ التلاوة والحكم)، أو أنّ الحكم موجود لكنّ أصله القرآني غير موجودٍ في التلاوة لأنه منسوخ! واضطر الجميع إلى القول بالنوع الثاني: وجود المنسوخ والناسخ في القرآن المتلو وأحكامه المحكمة أو المتشابهة. وقد ظهر ميلان في كتب الناسخ والمنسوخ: الميل للتقليل من الآيات والأحكام المنسوخة، ومن هذا الفريق علماء أصول الفقه بعد القرن الثالث الهجري. والميل الثاني: الزيادة المطردة للآيات الناسخة والمنسوخة من 40 إلى 60 ما بين الزهري وأبي عُبيد وإلى 250 عند النحّاس في القرن الرابع الهجري! ويظهر هذا الميل لدى بعض المحدِّثين ولدى بعض ذوي التوجهات الفقهية الذين يحوِّلون النقاشات في الخلاف الفقهي إلى أقوالٍ بالناسخ والمنسوخ. بل إنّ هؤلاء الذين يلجأون إلى النسخ لإثبات وجهة نظرهم، ادخلوا على صيغته الثالثة ما ليس فيها، حين أقبلوا على إقامة علاقات تنافٍ بين آيتين أو أكثر توصلاً للقول بالنسخ، وهذا ظاهرٌ عند أبي عُبيد  في مَواطن، كما أنه ظاهرٌ لدى كلّ الذين يعتبرون “آية السيف” مثلاً ناسخةً لكل آيات القسط والبر والسلم والموادعة والعلاقات الإنسانية السلِسة في القرآن الكريم!

إنّ العِلّة الأكبر للجوء إلى القول بالنسْخ إذن هو الاختلاف الفقهي في القرنين الأولين للهجرة. والاختلاف الفقهي له عدة أسباب: الاختلافات بين أعراف الأمصار، والاختلاف بين كبار القضاة والفقهاء في الأمصار المتعددة والمصر الواحد، والاختلاف بين اللُّغويين ذوي الثقافة الفقهية، والاختلاف الناجم عن قراراتٍ سياسيةٍ بإيثار هذا الفهم على ذاك. وقد حاول العلماء بدءًا بالشافعي(- 204هـ/ 819م) وضْع قواعد لضبط الاختلاف إن لم تكن إزالته ممكنة. وبين أهمّ إنجازات الشافعي اعتباره سائر الاختلافات (ومن بينها القول بالنسخ) بياناً. وعلى هذه القاعدة أو هذا الأصل، ظهرت مصطلحات العام والخاص، والمطلق والمقيَّد، والأمر للوجوب أو للندب أو للكراهة، بل وتعليل النسْخ أو فهمه باعبتاره أيضاً بياناً . ومع تقدم المصطلحات الفقهية والأصولية، تراجع مذهب القُدامى الذين كانوا (ومنهم أبو عبيد) يُدخلون في باب النسخ حالاتٍ كثيرةً لم تعد  واردة عند الأصوليين([43]) وفي تأمُّل ذلك كلِّه ظهرت الاعتبارات اللغوية التي استُعين بها على التحديد. وبذلك فقد صارت البحوث اللغوية جزءًا أصيلاً في عمل الفقهاء؛ وبخاصة في حقبة التحول باتجاه المدارس الفقهية. إنّ اللافت أنّ المدارس الفقهية جميعاً استخدمت في أصولياتها المصطلحات ذاتها. وبذلك اقترن ظهور تلك المدارس (غير المحلية أو الإقليمية) باستتباب علم أصول الفقه. وهذا يعني أنّ علم أُصول الفقه( وليس علم الكلام أو أصول الدين) صار علماً لتنظيم الاختلافات وضبطها، باعتبار أنّ القائلين بتلك الأُصول يصبحون جزءًا من الإجماع أو التقليد العامّ، رغم بقاء التعدد في الفهم والقراءة. وهذا معنى اعتبار قراءة أهل الظاهر أو الظاهرية شاذَّة، لأنها تخرج على الإجماع الأُصولي واعتباراته. فالأصلُ أنّ النصَّ القرآني، والنصوص النبوية والأثرية، هي جميعاً بيانٌ، والبيان يسمح بالتعدد في القراءة بل يفترضه، لكنّ لهذه الأفهام المختلفة والقراءات المختلفة قواعدَ كبرى حاكمة، صارت لها تقاليد، وحصلت على مسائلها الكبرى إجماعات. ومن ضمن ذلك الناسخ والمنسوخ باعتبارهما نوعاً من أنواع البيان، وتسري عليهما أيضاً قواعد أُصوليي الفقهاء. وعلى سبيل المثال؛ فإنّ المحاسبي(-243هـ/ 857م) يقول في كتابه: فهم القرآن في مواطن متعددة؛ قال فلانٌ كذا وفلانٌ كذا، وجاء في الآثار كذا، وذهبت فئةٌ إلى نسخ كذا بكذا، لكنّ المسلمين أجمعوا على غير ذلك([44]). وهناك مَثَلٌ على ذلك أو أكثر عند أبي عُبيد في الناسخ والمنسوخ الذي بين أيدينا؛ فهو يقول في موطن إنّ الناس تجاهلوا مسألة الاستئذان مع أنها غير منسوخة. ويقول في موطنٍ آخر إنّ الآثار تواردت على ذلك، لكنّ الفقهاء رأَوا غير ذلك. فأبوعُبيد يقرُّ الاختلاف بين فقهاء الحجاز وفقهاء العراق في الحكم بين أهل الذمة( وهذه مسألةٌ كبيرة)، لكنه من جهةٍ أُخرى يريد أن يضع النصَّ في مواجهة التقليد أو الإجماع. أي أنه أحياناً لا يعتبر الإجماع أو التقليد طريقةً من طرائق فهم النصّ من جانب جمهور الفقهاء أو المسلمين.

لقد ذهب John Burton ناشر نصّ أبي عبيد في “الناسخ والمنسوخ”، في كتابٍ مستقل أقدم صدر عام 1977 عنوانه: The Collection of the Qur’an ( جمع القرآن أو تدوين القرآن) إلى أنّ النبي صلواتُ الله وسلامُهُ عليه هو الذي جمع القرآن أو دوَّنه في كتابٍ أو مصحف( = الصيغة النهائية)، وإنما ذهب المسلمون إلى “اختراع” مسألة الجمع العثماني بسبب الاختلافات في القراءة (وبخاصةٍ في مسألة النسْخ)، للسماح باستيعاب تلك الاختلافات في النصّ وحلِّها من طريق القول بالنسْخ الذي لا يمكن أن يحدث إلاّ في حياة رسول الله! وقد أثبتت الكشوف المعاصِرة أنّ الرواية الإسلامية التقليدية عن الجمع ( أيام أبي بكرٍ وعمر) والتدوين (أيام عثمان) تاريخيةٌ وصحيحةٌ تماماً.  ورغم إشكاليات مسألة النسخ فإنّ رأي بيرتون لا يمكن قبوله. وقد تبيَّنَ لنا من القراءة لنصِّ أبي عُبيد أنّ الاختلاف ما كان في ثبوت النصّ أو سلامة بنيته، بل إنّ الاختلافات كانت وما تزال في الأفهام المختلفة للنصّ، أو القراءات المتعددة له. وهي اختلافاتٌ نبعت أساساً من أنّ الجماعة هي التي احتضنت هذا النصّ المنزل، وما تسلمتْه طبقة كهنوتيةٌ تفرض تفسيراً واحداً له. وبذلك فإنّ القراءات المتعددة  للنص هي سببٌ من أسباب إبداعه وتجدده وخلوده واتساعه وصلاحيته لكل زمانٍ ومكانٍ، كما يقول علماءُ الأُصول.

أفلا يكون هذا التعدُّد المستمر في القراءة تأويلاً، أو ألا يمكن اعتبارُهُ كما هو في الحقيقة تأويلاً؟ وألا يمكن اعتبار النسخ ذاته تأويلاً؟

فلننظر كيف يفهم القرآنُ نفسه مسألة التأويل. الآيةُ الرئيسية التي توارد المفسِّرون على إيرادها ومحاوله فهمها هي قوله تعالى في سورة آل عمران( آل عمران: 7) { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ وأُخر  متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زَيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تأويله. وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌّ من عند ربّنا، وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب}. أما الآياتُ المحكمات فهي الواضحةُ والتي لا تحتمل غير معنًى واحد. وأمّا المتشابهاتُ فهي الآياتُ التي تحتمل ظاهراً أكثر من معنى. والراسخون في العلم هم الذين يهدفون إلى اكتشاف المعنى الأول أو المعنى الحقيقي. إنّ الفقيه الراسخَ في العلم  “هو الذي يبذل كلَّ جَهدٍ لموافقة مُراد الله تعالى”. وهو بعد كلّ هذا لا يصل إلاّ إلى غَلَبة الظنّ أو الترجيح، ويقول أخيراً: والله أعلم! لكنّ التأويل أو اكتشاف المعنى الأول أو الأَولى أو الحقيقي ليس حصراً بالراسخين في العلم أو ذوي المقاصد السليمة، بل يمكن أن يمارسَهُ ذوو المقاصد السيئة (الذين في قلوبهم زَيغٌ، ممن يتعمدون ممارسة التأويل الخاطئ لإحداث الفتنة من حول النص). وهكذا فهناك تأويلٌ صحيحٌ، وتأويلٌ خاطئ. أو أنّ التأويل بحسب القرآن هو في الأصل قراءة أو تفسير معيَّن للنصّ ويحتمل الصواب والخطأ. والقرآن لا يتحدث عن احتمالين للتأويل: مُصيب أو مخطئ؛ بل يذكر عدة احتمالات أو إمكان عدة قراءات للنص بينها الحسنُ والأَحسَن ( النساء: 59): { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإنّ تنازعتم في شيئٍ فردُّوهُ إلى  الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخِر، ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلا}. ثم إنّ للتأويل شروطاً وتقدِمات لا تقتصر على المقصد الحسن أو السيئ(يونس: 39): { بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتِهم تأويلُه}. فالتأويلُ الحسنُ أو الأحسن له شروطٌ غير ماهية المقصد وهو العلمُ أو المعرفةُ الشاملةُ أو المحيطة. كما أنّ من شروطه التوفيق الإلهي( ولمّا ياتهم تأويلُه). والتأويل أو القراءة المتبصِّرة أو الكاشفة أخيراً هي التي باشرها يوسف النبي بتعليمٍ من الله عزّ وجلَّ وليس على نصٍ بل على أحلامٍ أو أحداث، وهي تشمل تقدير العواقب واقتراح علاجٍ لها، مثلما فعل يوسف بمصر. ثم إنّ التأويل هو في الأعمّ الأغلب استكشافٌ أو فهمٌ لما يخالف الظاهر أو يتعدّاه وسواء أكان في  معرض فهم حدثٍ أو نص: { هل ينظرون إلاّ تأويله يوم ياتي تأويله} ( الأعراف: 53). فالتأويل هنا يعني أمرين: القدرة على التوقع والاستشراف والاكتناه، والتأقيت أو التزمين.

إنّ التأويل إذن إذا ذُكر في معرض فهم النصّ أو قراءته يحتمل أن يكون حسناً أو أحسن، ويحتمل أن يكون سيئاً أو خاطئاً. ولا يأتي الخطأُ دائماً من الضلال أو المقصد السيئ، وإنما قد يأتي أو يؤتى  صاحبه من قلة  العلم، والافتقار إلى اعتبار العواقب التي يمكن أن تنجم عن منحىً تأويلي. كما قد يأتي الخطأُ من التمسُّك بالظاهر والوقوف عنده. وكلُّ هذه شروطٌ أو محترزاتٌ قرآنية بقصد القراءة الصحيحة، وهي في حالة النصّ القرآني اكتناهُ مُراد الله تعالى بالردّ إلى الله ورسوله.

لقد استخدم أبو عُبيد مفرد التأويل في كتابه في عدة مَواطن سبقت الإشارة إليها. بيد أنّ المفرد ورد عنده أكثر ما ورد في معرض إثبات وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! وهو في هذا المعرض استخدم النسخ باعتباره تأويلاً. يقول أبو عُبيد([45]): ” لم نجد في القرآن كلّه آيةً واحدةً جمعت الناسخ والمنسوخَ غيرها وهو قوله (تعالى): {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلَّ إذا اهتديتم}(سورة المائدة: 105)؛ فإنّ تأويلها جاء في بعض الأثر أنّ الآية كانت مُرجاةً غير معمولٍ بها في أول الدهر إلى أوقاتٍ من الزمان موصوفة. فإذا بلغها الناس أتاهم حينئذ أوانُ استعمالها. ثم جاءت أحاديث أُخَر بأنّ الآية محكمة يجب على الناس العملُ بها إلاّ أنها على خلاف ما يتأوَّلُها العامة..”. ثم إنه روى عن ابن مسعود أنه ذُكرت عنده هذه الآية (= عليكم أنفسكم) فقال:” لم يجئ تأويلُ هذه بعد. إنّ القرآن قد أُنزل حين أُنزل ومنه آيٌ قد مضى تأويلهنّ قبل أن ينزلن. وكان منه آيٌ قد وقع تأويلُهنَّ على عهد النبي(ص). وكان منه آيٌ وقع تأويلهنَّ بعد النبي(ص) بيسير. ومنه آيٌ يقع تأويلهنّ بعد اليوم.. فأمّا ما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة.. فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. فإذا اختلفت القلوب والأهواء وأُلبستم شيعاً.. عند ذلك جاء تأويلُ هذه الآية”. لقد رجّحت فيما سبق أن يكون معنى هذه الآية مثل معنى آية: لا أكراه في الدين  (سورة البقرة : 256). ولا حاجة للنسخ كما يتوسع القدماء في ذلك. لكنّ أبا عبيد بدوره يعتبر النسخ هنا تأويلاً، أي قراءةً أُخرى صارفة للنص عن ظاهره. وبحسب ما يذكر أبو عُبيد فإنّ الصحابة والتابعين انقسموا بشأن معناها الحقيقي بالفعل. فهناك مَنْ رأى الإحكام والنفاذ (= العامة) ، بينما رأى آخرون من العلماء أنّ زمن تأويلها، أي قراءتها قراءةً نافذةً لم يأْت بعد! ولذلك استخدم أبو عبيد في قراءتها النسخ باعتباره تأويلاً، آخذاً بالاعتبار عدة أمور: أنّ التأويل هو قراءةٌ تتجاوزُ ظاهر النصّ، وأنّ النسخ واقعٌ في الزمان، أي أنه محدود المدة وبقَدَرٍ سابق( وهذا كلام المتكلمين حتى لا يتطرق البداءُ إلى كلام الله!)، وأنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( وهو يتجاوز في الاعتبار رعاية النفس وحسب إلى المسؤولية عن الدين والمجتمع ) ثابتٌ في آياتٍ كثيرةٍ محكمة ( والمحكم ضد المتشابه، كما أنه غير محدود المدة والتوقيت). لكنه وهو يفعل ذلك ذكر أنّ العامة أو الجمهور يعتبرونها محكمة، وأنّ قراءتهم الفاهمةَ لها تقول بوجوب إنفاذها. وهذا مَثَلٌ نادرٌ على عدة أمور: أنّ النسخ هو قراءةٌ أو تأويلٌ للمتشابه من القرآن، وأنّ هذا التأويل أو هذه القراءة تختلف بين العامة والخاصة، وأنّ المآل إلى التحاق الخاصة بتوجُّه العامة، باعتبار أنّ قراءتهم هي القراءة الصحيحة، وإنما لم يأت زمانُها بعد!

إنّ النص القرآنيَّ بيانٌ للناس. ولهذا البيان أو الخطاب (= كلام الله المتعلق بأفعال العباد) قراءاتٌ وتأويلاتٌ متعددةٌ، والنسخُ هو إحدى هذه القراءات أو التأويلات. ولعلَّ التأويل والمضيَّ فيه أن يكون المخرج المبدع لتجاوز الإشكاليات البيانية والعقدية والفقهية التي أحدثتها انقسامات المصالح والإرغامات المختلفة ووجوه القصور، في بلوغ مقتضيات وآفاق الإعجاز القرآني.

 

 

 


  • بين يديَّ ثلاث للناسخ والمنسوخ لأبي عُبيد. النشرة الأولى أنجزها الأستاذ جون بيرتون Burton ، ونشرت في Gibb Memorial Series, 1987 (وهي التي أرجع إليها في هذه الورقة). والنشرة الثانية صدرت بدار الكتب العلمية، بيروت، 2006 بتحقيق مصطفى عبد القادر عطا. والنشرة الثالثة بتحقيق محمد صالح المديفر، نشر مكتبة الرياض، 1997. وتستند نشرات الكتاب جميعاً  إلى مخطوطة واحدة موجودة بمكتبة طوب تبو ( أحمد الثالث) باسطنبول.

  • أبو عبيد القاسم بن سلاّم: فضائل القرآن. تحقيق وهبي سليمان غاوجي. بيروت: دار الكتب العلمية، 1991. وفي الذاكرة أنني رأيتُ بإحدى المجلات الألمانية( من ثلاثينات القرن العشرين) نشراً لفصلٍ في القراءات من كتب أبي عبيد: “فضل القرآن ومعالمه وأدبه”.
  • أبو عبيد القاسم بن سلاّم: الغريب المصنّف. حققه محمد المختار العبيدي. نشر المجمع التونسي ودار سحنون 1988. وبين يديَّ نشرةٌ من الكتاب نفسه عن دار مصر للطباعة بالقاهرة، 1996.
  • نُشر الكتاب عدة مرات، وبين يديَّ نشرةٌ منه بتحقيق أستاذنا الشيخ محمد خليل هراس، القاهرة 1970.
  • نشر بحيدر أباد عام 1964 في أربعة مجلدات .
  • أذكر أنني رأيت له كتابين مطبوعين، أحدهما عنوانه الخُطب والمواعظ، والثاني العفو والاعتذار. أما رسالتُه في الإيمان فهي بعنوان: الإيمان ومعالمه وسننه. وقد نشرت بدار القلم بالكويت ضمن رسائل أربع بتحقيق ناصر الدين الألباني.
  • نشر الأستاذ حاتم صالح الضامن رسالتي الزهري وقتادة، ثم جمعهما مع رسالتين لابن الجوزي وابن البارزي، وصدرت الرسائع الأربع بهذا العنوان: أربعة كتب في الناسخ والمنسوخ. بيروت:عالم الكتب ومكتبة النهضة العربية، 1989.
  • قارن بكتاب الفهرست للنديم. تحقيق أيمن فؤاد سيّد. نشر مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، الطبعة الثانية، 2014، م3، ص 284-285. وقد ذكر حاتم صالح الضامن قائمةً طويلةً في الكتب المؤلفة في الناسخ والمنسوخ قديماً وحديثاً.
  • قارن بمقايسس اللغة لابن فارس 5/424- 425، وأساس البلاغة للزمخشري،ص 629.
  • قارن بالتعريفات الاصطلاحية المختلفة في الموافقات للشاطبي3/108-117، ودراسة الأستاذ الراحل مصطفى زيد بعنوان: النسخ في القرآن الكريم، دراسة تشريعية تاريخية نقدية، بيروت: دار الفكر 1971، م1، ص ص 101-165.
  • أبو عبيد: الناسخ والمنسوخ، نشرة بيرتون 1986، ص 129: باب الزكاة وما فيها من ذلك. وفي نشرة المديفر البدء بالصلاة وتحويل القبلة وأحسب أنّ ذلك موجودٌ في الأصل فعلاً، لأنّ أبا عبيد قصد إلى ترتيب الكتاب على أبواب الفقه. ولا أدري لماذا سقط هذا الباب من النشرتين الأُخريين، وربما كان الخلل في المصوَّرة عن المخطوط.
  • أورد أبوعبيد هذا الأثر في كتاب الأموال أيضاً ، ص 327.
  • أبو عبيد: الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 12-24.
  • أبو عبيد : الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 24-38.
  • الناسخ والمنسوخ، ص 27-28. وقارن بالشعر وقصته في الاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي، ص 336.
  • الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 38-45.
  • الناسخ والمنسوخ، ص 42-43.
  • الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 45-49: باب الحدود وما نُسخ منها. وقد لاحظ أبوعبيد (47): ” يذهب ابن عباس فيما نرى إلى أنّ الآية التي في المائدة ليست بناسخة للتي في البقرة ولا هي في خلافها ولكنهما جميعاً محكمتان..”.
  • الناسخ والمنسوخ، ص 84.
  • الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 49-57.

(21)   الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص57-67.

(22)  الناسخ والمنسوخ، ص 57- 58.

(23)  ذكر أبو عُبيد في فصله التمهيدي من الكتاب ( ص8-9) مسألةً تتعلق بإتمام الصلاة في مكة للمهاجرين المقيمين   بالمدينة. قال أبو عُبيد: “قال ابن شهاب (الزهري) قلتُ لعروة ابن الزبير ابن أخت عائشة أم المؤمنين: ما حمل عائشة على أن تصلي في السفر أربع ركعات؟ فقال عروة تأولت في ذلك ما تأول عثمان رضي الله عنه في إتمام  الصلاة بمنىً. قال أبو عبيد: والذي تأول عثمان في إتمام الصلاة بمنىً فيه ثلاثة أوجُه..الخ”. والشاهد هنا استخدام التأويل بمعنى الفهم أو الرأْي أو الاجتهاد.

(24)  الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 67-76.

(25)   الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 77-78.

(26)   الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص 78-80.

(27)   الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 80-83: باب الوصية وناسخها ومنسوخها.

(28) ويضيف أبوعُبيد كلاماً يفيد تقييد النسخ بالإجماع (ص81): ” فإلى هذا القول صارت السنة  القائمة عن رسول الله (ص) وإليه انتهى قول العلماء وإجماعهم في قديم الدهر وحديثه:  أنّ الوصية للوارث منسوخة لا تجوز. وكذلك أجمعوا على أنها جائزةٌ للأقربين معاً إذا لم يكونوا من أهل الميراث. ثم اختلفوا في الأجنبيين فقالت طائفةٌ من السلف لا تجوز لهم الوصية وخَصُّوا بها الأقارب”.

(29)  الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 83-85.

(30)  الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 85-87.

(31)  الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 87- 89.

(32)  الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 89-90.

(33)   الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 90-91.

(34)   الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص 91.

(35)   الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص 91.

(36)   الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق ، ص ص 92-94.

(37)  الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 95-96: باب مؤاخذة العباد بما تُخفي النفوس.

(38)  الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 96-97.

(39)  الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 97- 98.

(40)   الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص ص 98-101.

(41)  قارن بمصطفى زيد: النسخ في القرآن، مرجع سابق، ص ص 248-313.

(42)   ابن المقفع: رسالة الصحابة، ضمن كتاب محمد كرد علي: رسائل البلغاء، القاهرة 1954، ص ص 68-96.

(43)  قارن بالموافقات للشاطبي 3/109- 116، وأحكام القرآن لابن العربي 1/205. وانظر دراسة عبد الكبير العلوي المدغري في نشرته لكتاب الناسخ والمنسوخ لابن العربي، وزارة الأوقاف المغربية 1988، م1/ ص ص 197-200..

(44)  المحاسبي:  فهم القرآن، نشرة حسين القوتلي، دار الفكر  1971، ص 118 ، 211، 214، 225.

(45)   الناسخ والمنسوخ، مصدر سابق، ص 99.