مجلة حكمة
المنظورية والتمثل المنظورية والتمثل الرسم والفنالمنظورية والتمثل

المنظورية والتمثل: مقاربة فلسفية لمفاهيم المكان والرؤية في فن الرسم – أردلان جمال


“إن فن الرسم يقحم صعوبة: فهناك فكر يرى ويمكن أن يوصف بشكل مرئـي. هكذا فإن لوحة “الوصيفات” هي صورة مرئية لتفكير بيلاسكيث اللامرئي. فهل معنى هذا إذن أن اللامرئي يمكن أن يكون أحيانا مرئيا؟ نعم، شريطة أن يكون الفكر مكونا فقط من أشكال مرئية” روني ماجريت (René Magritte)(1)

مقدمة:

بإمكان الباحث في ميدان الفلسفة أن يجد دائما في تاريخ فن الرسم أمثلة معبرة على التحولات التي عرفتها بعض المفاهيم الفلسفية. وبإمكانه في المقابل أن ينطلق من الإمكانات الفكرية التي تتيحها الفلسفة لكي يبحث في القواعد والأطر التي قننت النظم الإستطيقية لفن الرسم. هذا الطريق الثاني هو الذي قررنا نهجه عندما عزمنا البحث في المكانة الخاصة التي احتلها مفهوما المنظورية Perspectiva والتمثل Repraesentation في تاريخ فن الرسم La Peinture وانعكاسات هذا على تغيير صور المكان والرؤية.

لن ندعي في هذا المقال المتواضع القدرة على الإحاطة بكل المشاكل والحيثيات الإستطيقية التي يستدعيها مفهوما المكان والرؤية في فن الرسم، فما نرمي إليه بالأساس هو الوقوف على الأسس الفلسفية الكبرى التي قادت رسامي عصر النهضة إلى اكتشاف تقنية المنظورية وإلى بناء صورة جديدة للمكان وللتمثل ستجسد بحق انقلابا هاما في تاريخ فن الرسم والتشكيل، وكذا الأسباب التي قضت بتحطيم هذا التصور منذ مطلع القرن العشرين.

ولن نقوم من جهة أخرى بتاريخ دقيق ومتكامل لمفاهيم المكان والرؤية لأن ما يعنينا في العمق ليست هي الاعتبارات التقنية وإنما القواعد والنتائج الفلسفية التي كانت ضمنيا خلف بناء مفهوم جديد للمكان التشكيلي ابتداء مما يتعارف على تسميته “بالقرن الخامس عشر الإيتالي” Le Quattrocento؛ وهو القرن الذي يمثل في نظر مؤرخي فن الرسم، التدشين الفعلي لميلاد مفهوم المنظورية والتمثل دون غيرهما من المفاهيم الأخرى، فلأن هذين المفهومين سيلعبان دورا بالغ الأهمية في تحديد قواعد فن الرسم الكلاسيكي. ولن نحتاج إلى جهد كبير لتبين مظاهر التأثير التي مارسها هذان المفهومان لا على فن الرسم لوحده بل على الثقافة الغربية بصفة عامة، إلى حد أن إرقين بانوفسكي Erwin Panofsky يعتبر الجهاز المنظوري تشكيلة رمزية لاتستنفذ قيمتها في البعد الهندسي لمفرده وإنما تتعداه لتشمل البعد الثقافي أيضا. كما أننا لن نفتقد الأمثلة العديدة للتأكيد على أن فن الرسم ظل إلى عهد قريب جدا يصبو إلى تحقيق “الوظيفة التمثيلية”، الأمر الذي سيعطي لمفهوم “التمثل” مكانة سامية. ولسنا في المقابل بحاجة إلى التوضيح بأن هذا المفهوم سيكون له وقع كبير على ميلاد الحداثة في الفلسفة.

إن ما نبتغيه إذن ينحصر عند استخراج الدلالات الفلسفية التي تتضمنها مفاهيم المكان والرؤية في فن الرسم. ولن نجانب الصواب كثيرا إذا ما نحن ادعينا بأن الخوض في هذه القضايا الهامة قد يفسح المجال للتفكير في ما يمكن أن نطلق عليه اسم “الحساسية الفنية” La sensation aritstique، شريطة طبعا أن نتصور مفهوم “الحساسية” في معناه الكانطي؛ وفي هذه الحالة سيكون من السهل علينا إدخال مفاهيم المكان والرؤية ضمن مجال أوسع يمكن أن نطلق عليه اسم “الحسيات” Asthetik(2) إذا اخترنا بالطبع مدلول هذه اللفظة في استعمالها الكانطي.

أجل، إن المطلوب هنا هو التمهيد لمبحث أعم وأشمل، ستتولى فيه “حسيات” فن الرسم السمو بمفهوم “الحساسية الفنية” إلى درجة تغدو معها هذه الأخيرة الأساس والمبدأ ذاته الذي يعطي للعمل الفني وجوده. وهاته بالتحديد هي الدعائم التي ستسمح لنا بإعطاء فن الرسم ابعاده الفكرية، إذ من الأكيد أن هذا الفن ليس أبدا مجرد تجميع لصور وأشكال بل هو بالدرجة الأولى “فكر مرئي” une pensée visible كما يقول ماجريت Magritte. وهذا بالخصوص ما نأمل في إبرازه من خلال الكشف عن الكيفيات التي يبنى بها المكان والرؤية سواء عند الرسام الكلاسيكي أو المعاصر.

1 ـ قواعد المنظورية وأسس الرؤية في فن الرسم:

1.1 – ما هي المنظورية في فن الرسم الكلاسيكي؟

1.1.1 – يجمع الكثير من نقاد ومؤرخي فن الرسم على أن الانعطاف الحاسم الذي عرفه ميدان الرسم في عصر النهضة، يرجع بالدرجة الأولى إلى اكتشاف تقنيات المنظورية وإلى إقحام مفهوم جديد للمكان في فضاء اللوحات الفنية. ويعتبرون غالبا هذا الاكتشاف بمثابة انقلاب جذري سواء على المستوى التقني أو على المستوى الجمالي لأنه ساهم بشكل مباشر في بناء نمط من التمثلات التصورية تتسم بخصائص جديدة مقارنة بنمط التمثل التصويري الذي ساد في العصور الوسطى.

وإذا شئنا هنا أن نختصر الكثير من التفاصيل التي يقتضيها تعريف مفهوم المنظورية تفاديا للتعقيدات التقنية التي قد تترتب عليه، فإن بالإمكان الوقوف بشكل خاص عند التعريف الأولي الذي يعطيه إرفين بانوفسكي؛ ولا داعي للتأكيد بأن هذا الباحث الألماني يعد أشهر وأهم المختصين في نظرية المنظورية، وإليه سنرجع في معظم مقاطع هذه الدراسة لفهم أبعاد هذه المشكلة:

يعتبر بانوفسكي، اعتمادا على تعريف ديرير Dürer للمنظورية(3)، بأن الحديث عن “رؤية منظورية” للمكان لا يصح إلا عندما يتجاوز الرسام التمثل البسيط الذي يكتفي “بتقليص” الموضوعات الجزئية (مثل المباني وتجهيزات المنزل)، ويعمد على عكس هذا إلى تحويل لوحته في كليتها إلى “نافذة” نلقي فيها ببصرنا على المكان فنحوم في أرجائه بالكيفية نفسها التي يريد أن يخلقها عندنا الرسام.

الرؤية المنظورية إذن حسب هذا التحديد لا تكون فعلية إلا عندما يتوصل الفنان إلى الانطلاق من زاوية واحدة وثابتة لإبصار الفضاء الخارجي الذي يقع وراء المشهد الرئيسي وإدخاله إلى حيز اللوحة بحيث يولد عند المشاهد الإحساس ببعد العمق. وهي أيضا حسب ديرير “رؤية من وراء شيء” Durchsehung توهم المتفرج بأن اللوحة تفتح العين على مكان ذي ثلاثة أبعاد بحيث لا تتراءى الأشياء كما لو أنها تتوفر فقط على بعدي الطول والعرض بل على أنها تتضمن أيضا بعد العمق(4). وما يوحي بفكرة العمق هاته هو وجود “نقطة الاستهراب” Le point de fuite التي تعني في اصطلاح الرسامين النقطة التي تبدو فيها الخطوط المتوازية متلاقية وكأنها هاربة؛ وهي التي تعتمد في الرسم المنظوري للإيحاء ببعد العمق وبتدرج مستويات المكان المرسوم تبعا لدرجات القرب أو البعد من زاوية النظر الأصلية.

غير أن هذا يقتضي التمييز بين معنيين للمنظورية: معنى واسع ومعنى ضيق. يراد بالمعنى الواسع “العلم الذي يكمن في تمثيل الموضوعات والأشياء على سطح ما بالكيفية نفسها التي نراها بالبصر” أخذا بعين الاعتبار عنصر المسافة. وهذا التعريف الواسع يناسب إلى حد كبير التعريف المتداول في الهندسة الوصفية حيث تؤخذ المنظورية بمعنى “العلم الذي يلقن طريقة تمثيل الموضوعات ذات الأبعاد الثلاثة على سطح ذي بعدين، على نحو تلتقي فيه الصورة المنظورية مع الصورة التي تعطيها الرؤية المباشرة”(5) ويعتبر بانوفسكي أن هذا النوع الواسع من المنظورية لم يكن حكرا على عصر النهضة لوحده بل نجده بيسر عند الرسامين القدامى.

أما المعنى الضيق للمنظورية فهو الذي سيصوغه الرسامون منذ بداية عصر النهضة: إنه العلم الذي يكمن في تمثيل عدة موضوعات مع تمثيل الجزء المكاني أيضا الذي توجد فيه هذه الموضوعات بحيث تبدو هذه الأخيرة مشتتة في مستويات المكان؛ كما يبدو المكان بدوره للعين التي تتموقع في موضع واحد لا يتغير.

بناء على ذلك فالمنظورية في معناها الدقيق هي الموقف الذي يقوم على تمثيل عدة موضوعات مع الحيز المكاني الذي توجد فيه بحيث تسحب الدعامة المادية للوحة Le support matériel du tableau ليجئ محلها مفهوم المستوى الشفاف Le plan transparent الذي يولد عند الرائي انطباعا بأن نظره يخترق ويستقر في مكان خارجي متخيل يضم جميع هذه الموضوعات التي أصبحت تتراءى له في مظهر متوال ومتلاحق لا يحده شيء وإنما يجد نهايته عند أطراف اللوحة(6).

وبما أن المنظورية لا تستدعي فقط مفهوم المكان وإنما أيضا مفهوم الرؤية والنظر، فقد كان على رسامي عصر النهضة أن يفصلوا “التمثل الفني” عن علم الرؤية رغم أن الأول يستوجب حتما الثاني. ولذلك سيفرق رسامو القرن الخامس عشر الإيتالي Le Quattrocento بين “المنظورية الطبيعية”Perspectiva naturalis و”المنظورية الاصطناعية” Perspectiva artificialis؛ فالأولى لا تقدمها سوى الرؤية العادية، أما الثانية فلا تنطبق سوى على التمثل الفني فضلا عن كونها تستعمل القواعد الهندسية الأوقليدية(7).

وهكذا فعندما اعتبر ألبرتي -الذي يعد أحد مؤسسي تقنية المنظورية- بأن اللوحة الفنية شبيهةب بنافذة، كان لا يقصد فقط أن هذه اللوحة أثر لتجربة مرئية ومباشرة، بل كان يقصد أيضا بأن اللوحة عالم يبنى كلية بواسطة التمثل المنظوري. هذا العالم المشيد يستمد دعائمه من معايير هندسية دقيقة يمكن إرجاعها مع بانوفسكي إلى مبدأين رئيسيين لن يجد المتفحص أدنى صعوبة في العثور عليهما داخل البصريات القديمة:

يفترض المبدأ الأول بأن الصورة المرئية هي دوما صورة تنتجها خطوط مستقيمة تدعى “الأشعة المرئية” Les rayons visuels. وهذه الأشعة هي التي تتولى ربط العين بالموضوعات التي يقع عليها البصر بحيث يشكل مجموع هذه العناصر كلها ما يدعى بـ “الهرم البصري” La pyramide visuelle أو “المخروط البصري” Le cône visuel. أما المبدأ الثاني فيفترض بأن شكل وقامة الموضوعات التي تنطبع على الصورة المرئية محددة بالموقع النسبي الذي توجد عليه “الأشعة المرئية”. ولذلك سنجد بأن السمة البارزة لرسامي ومنظري عصر النهضة، ترجع إلى انتصارهم للرأي الذي يقول بأن كل الخطوط التي تشكل الصورة المرئية قابلة للتمثيل على مساحة مسطحة بدل تمثيلها على مساحة منحنية(8).

ويمكن تبين ملامح هذه التقنية المنظورية عند كل رسامي عصر النهضة: فإذا تناولنا على سبيل المثال موضوع “البشارة” L ‘Annonciation الذي جعل منه كثير من رسامي القرن الخامس عشر الإيتالي عنصرا رئيسيا لإنتاجاتهم الفنية، فإن ما سنلمحه هو أن تقنية المنظورية ستشهد تطورا بالغا بحيث ستسمح بتمثل المكان الخارجي على نحو أكثر دقة. وهكذا لن يعطي المشهد الرئيسي إلا لكي يفسح المجال أمام مشهد خلفي، وكأنه بذلك يحدث ثقبا في سطح اللوحة ليفتحها على العمق الذي يقع خارج الأجسام والعناصر التي تعج بها اللوحة.

لنقف إذن عند أربعة نماذج مثلت بالفعل تحولا جذريا في التمكن من بناء المكان وساهمت على نحو مباشر في تطور فن الرسم الإيتالي، وهي تعكس جميعها لحظات تقدم كبير في بلورة تقنية المنظورية:

أ ـ عند بالدوفينيتشي Baldovinetti تجسد لوحة “البشارة” (1457) السيدة مريم وهي تتلقى البشارة من الملاك؛ وخلف هذا المشهد الرئيسي يلوح مشهد خارجي وليد عملية المنظورية. غير أن المنظورية هنا ما تزال تؤخذ في حدها الخطي، فهي تنحصر عند تجسيد خطين عمودين يفتحان اللوحة على سور تتراءى منه أشجار رتبت هي الأخرى ترتيبا خطيا روعيت فيه إلى حد كبير مقاييس الرسم الأكاديمي.

ب ـ أما عند بييرو ديلا فرانشيسكا Piero Della فإن المنظورية التي تجسمها لوحة “البشارة” (1445-1462) قد ازدادت تعقيدا: فخلف المشهد الرئسي الذي تمثله دائما السيدة مريم بجوار الملاك، يبدو للرائي رواق طويل يتكون من عدة أعمدة رتبت بعناية بالغة كي تفتح في وجه المشاهد بعدا ثالثا ينتهي إلى توليد فكرة العمق.

ج ـ وفي لوحة “البشارة” (1485) للورانزو دي كريدي Lorenzo di Credi سيحل مشهد الحديقة المترامية الأطراف محل الأعمدة والسور ليفتح المشهد المركزي على أفق ثالث يلوح من خلف الباب والنوافذ المترعة ويمتد بعيدا فيما وراء الأشجار المتناثرة هنا وهناك.

د ـ إلا أن الصرامة الأكاديمية التي لازمت دي كريدي هي التي ستختفي جزئيا عند معاصره بوتيشيلي Botticelli ليحل بدلها طابع غنائي مرهف سيتوج بأفق منظوري أكثر ارتماء في اللانهائية: ففي لوحة “البشارة” (1489-1490) تتراءى تقنية المنظورية بشكل بارز ومكتمل حيث يستغل بوتيشيلي تسلل الوادي (الذي يبدو وسط جداول وقصور بعيدة) للإيحاء بفكرة اللانهائية وإقحام الامتداد المترامي الأطراف في فضاء اللوحة.

2.1.1 – ترجع الصعوبات الكبرى المحايثة لنظريات الرسم إلى وضع تقنية المنظورية ضمن مجال أعم يتحدد بالعلاقات التي تقوم بين ثلاثة أطراف هي: المتفرج والمكان والتمثل التشكيلي. ونحن نلفي في صلب نظرية المنظورية هذه العلاقات بين الأطراف الثلاثة. ولعل روبير كلاين Rober Klein كان على صواب عندما بين بأن رسامي عصر النهضة كانوا سباقين إلى الإدراك بأن المشكل الإستطيقي الذي يطرح هنا هو النزاع بين “التمثل الخداعي” و”التمثل العلمي” للمكان. فلقد كان النقاش محتدما بين رأيين متعارضين: راي يقول بأن التحولات الذاتية في الانطباعات التي يقتضيها كل مظهر مرئـي تستوجب تمثيل كل شيء بما في ذلك الخداعات البصرية. ورأي آخر يقول بأن على الرسام أن يوجه نظره خصيصا إلى “الأسباب”؛ وهذا النقاش كما يبدو لا يخلو من خلفيات فلسفية(9).

ففي هذه الأجواء النهضوية، التي كانت المناظرات تدور فيها حول طبيعة العلاقة بين المكان المتخيل ومكان المتفرج، كان ليوناردو دافينشي يحلم بتزويد الصورة المرسومة بمنظورية داخلية تتمتع بقوة حقيقية؛ إذ بما أن مهمة فن الرسم أصبحت تملي عليه الحلول محل الطبيعة، فإن الطبيعة ستواصل عملها داخل عين وذهن الرسام.

يبدو واضحا ها هنا بأن المشكل الذي أفرزته تقنية المنظورية هو مشكل الرؤية. وهذه النقطة بالذات تحتاج في نظرنا إلى إمعان دقيق لأنها تفسر ضمنيا لماذا ظل فن الرسم منذ عصر النهضة إلى أواخر القرن التاسع عشر مهووسا في المقام الأول باسترجاع عناصر الطبيعة كما تراها العين، ولماذا تم إغفال الجوانب “الانطباعية”، أو على الأقل تم نقلها إلى مراتب ثانوية قياسا بمعيار صرامة ودقة التصوير. ولنا الحق في أن نقول مع بانوفسكي بأن مشكلة المنظورية هذه لا تطرح فقط بدلالة تقنية -رياضية وإنما أيضا بدلالة فنية- إستطيقية، إذ من الأكيد -كما يخبرنا بانوفسكي- أنها تخلق مسافة بين الإنسان والأشياء وتعمل في الآن نفسه على إلغاء هذه المسافة.

فهي من جهة تقيم مسافة بين المشاهد والأشياء عملا بقواعد الرؤية المنظورية نفسها حسب بييرو ديلا فرانشيسكا وألبرشت ديرير، تلك القواعد التي تجعل العين في المقام الأول، يتلوها الموضوع المرئي في المقام الثاني ثم المسافة الفاصلة التي تتوسط الاثنين في المقام الثالث. لكنها من جهة أخرى تلغي هذه المسافة عندما تدخل عالم الأشياء المرسومة إلى عين الإنسان(10).

ولا يخفي على أحد بأن هذا الطابع المزدوج للمنظورية يجذر مكانة المشاهد ويجعل منه عنصرا ضروريا في قوام اللوحة الفنية إلى حد أن الموضوع الرئيسي الذي ستدور عليه نقاشات الرسامين في هذه الفترة (أي في القرن الخامس عشر وما يليه) كان ينصب على معرفة أي الطرفين أحق بأن تنتظم عليه زاوية النظر: هل هو المشاهد الذي يتأمل اللوحة أم الرسام الذي يطالب المتفرج بأن يتكيف فكريا مع المنظور الذي يقترحه عليه؟

2.1 – الأسس الفلسفية-الإستطيقية لتقنية المنظورية أو الصراع بين الرؤية الخام

والرؤية الرمزية:

1.2.1 – في معرض حديثه عن فن الرسم، يشير هيجل Hegel إلى أن هذا الفن يجمع في إطار اللوحة الواحدة بين “المحيط الخارجي” الذي هو من اختصاص الفن المعماري وبين “الشكل الروحي” الذي يميز فن النحت. فهو يحقق إذن في إنتاج فني واحد ما هو متفرق بين المعمار والنحت، وما ذلك إلا لأنه يملك القدرة على خلق حيز مكاني يحسن تحريكه حين ينفخ فيه الروح حتى ليخاله المرء انعكاسا للذاتية(11).

إن إعجاب هيجل بفن الرسم يرجع إلى قدرة هذا الأخير على الإيحاء بالعلاقات المكانية عن طريق اللون فقط. فالرسم لا يكتفي فحسب برد الأبعاد المكانية الثلاثة إلى عنصر السطح، بل يعمد أيضا إلى الإيحاء بدرجات البعد والقرب عن طريق اللعب بالألوان المضيئة والمظلمة Le jeu du clair et de l ‘obscur(12). وإذا كان الرسام يضحي ماديا ببعد العمق، فلكي يستعيده من جهة أخرى عن طريق اللون. لذلك يقول هيجل: “إن فن الرسم يهمل البعد الثالث بشكل مقصود حتى يعوض الواقع المكاني الصرف بمبدإ اللون الذي هو أعلى المبادئ وأغناها”(13).

لكن هذه النتيجة لا تتأتى، يضيف هيجل، إلا لأنه يحث المشاهد على استدخال المكان الخارجي وجعله انعكاسا عقليا. فهو ينفي المكان الواقعي ليحوله إلى مجرد انعكاس عقلي. لذلك كان فن الرسم في نظر هيجل أكثر روحية من فني المعمار والنحت.

هاته العلاقات التي يقيمها هيجل بين فن الرسم من جهة وبين المعمار والنحت من جهة أخرى هي في الواقع واحدة من الدعائم التي ساهمت على نحو مباشر في قيام تقنية المنظورية خصوصا ما يتعلق بالمجال المعماري، ومع أن هيجل لا يخوض في تفاصيل هذه التقنية بل يكتفي بالإعلان على أن “المنظورية الخطية” La perspective linéaire هي واحدة من بين العناصر الحسية الأساسية التي يلجأ إليها الرسام للتعبير عن الأبعاد المكانية، مع ذلك فهو يوحي ضمنيا بوجود علاقة وطيدة بين الرسم والمعمار. وما يهمنا هنا هو الوقوف على بعض جوانبها، وعلى وجه التحديد الجوانب التي كان لها وقع على ميلاد تقنية المنظورية.

إذا عدنا بأنفسنا مرة أخرى إلى القرن الخامس عشر، فإن ما سنلمح هو استفادة فن الرسم من الأدوات المعمارية لأجل إحكام السيطرة على الصعوبات الجمة التي تطرحها المنظورية بالرغم من أن هذه الاستفادة ظلت متباينة من رسام إلى آخر. ففي لوحة (المسيح ميتا) (1480) لأندريا مانتينيا Andrea Mantegna (1431-1506) نتبين نموذجا لواحد من بين الأساليب الخاصة التي استعملها الرسامون الإيتاليون منذ مطلع القرن الخامس عشر لتطبيق القواعد الهندسية وتجسيد فكرة العمق تجسيدا تشكيليا. ففي هذه اللوحة التي تجسم السيد المسيح ممددا على طاولة بعد صلبه، يبرع مانتينيا في خلق وهم العمق لدى المشاهد دونما حاجة إلى تصوير مشاهد خلفية، إذ يكتفي بخلق البعد المنظوري اعتمادا فقط على حجم الجسم نفسه حيث يتراءى جسد المسيح الممدد على الطاولة على نحو مقلص: لقد وضع مانتينيا نفسه مكان المشاهد الذي يبصر الجسم الممدد من زاوية نظر قريبة نسبيا ومن موقع إنسان متوسط القامة. وبذلك يكون قد انتصر للرأي الذي يعتبر أن فن الرسم فن متكامل ومستقل بذاته ما دام بمقدوره تمثيل عمق وحجم ومنظورية الأجسام المرسومة دون حاجة إلى الاستعانة بالمنظورية المعمارية la perspective architecturale(14).

غير أننا قد نجانب الصواب إذا نفينا كل علاقة بين الفضاء التشكيلي والفضاء المعماري في عصر النهضة. فمعظم الدراسات التي تولت البحث في عوامل قيام المنظوريةفي فن الرسم النهضوي وأسباب تشييد قواعد جديدة للتمثل المكاني، ترجع ذلك إلى مساهمة المهندس المعماري الشهير برونيليتشي Brunelleschi (1377-1446) في خلق فضاء معماري جديد سيكون له تأثير بالغ على فن الرسم الفلورنسي في القرن الخامس عشر.

والواقع أن هذه الأطروحة التي تتبناها هذه الدراسات لا تخلو من قوة وعمق، سيما إذا علمنا بأن برونيليتشي لم يكن يحمل فحسب مهارات معمارية جديدة بل كان يؤسس أيضا لتصور إستطيقي للمكان. ولقد تم له ذلك بشكل خاص عندما توصل إلى إنهاء تصميم قبة كاتدرائية فلورنسا داخل تصور مكاني جديد مخالف إلى حد كبير للتصور الوسيطي: فالمكان عند برونيليتشي لم يعد هو هذا الحيز المغلق الذي تحبسه القبة بين جذرانها بل هو هذا الكم المتجانس الذي يوجد في جميع الاتجاهات والذي يعتبر “متضمنا” (بكسر الميم) Contenant ومتضمنا (بفتح الميم) Contenu في آن واحد.

ويميل أغلب الدارسين إلى اعتبار هذا الإنجاز الذي حققه برونيليتشي تحولا جذريا في تصور المكان المعماري لأن قبة الكاتدرائية التي وضع تصميمها لم تشيد كنسق مغلق من المستويات والسطوح التي تنتهي إلى تحديد صورة داخلية كما كان الشأن من ذي قبل في العصر الوسيط، بل شيدت في علاقة مفتوحة مع العالم. كما أن سطوحها عولجت كنقط تقاطع مع مستويات تمتد وتستمر في المحيط الخارجي بحيث تكون موقعا هندسيا تلتقي عنده كل الخطوط المتخيلة، أو كما يقول فرانكاستيل Francastel: إن برونيليتشي هو المعماري الذي أحل مكان التقسيمات الوسيطية تقسيما جديدا للمكان ضمن “نسق يعيد إنتاج نموذج متخيل لكنه يفسح المجال لكل جهات المكان”(15).

وإذا أمكن لنا أن نختصر قليلا، فسنقول مع فرانكاستيل بأن فن الرسم يمثل حسب برونيليتشي الأجسام وعلاقتها مع الوسط في آن واحد. وهذا التحديد ما كان ليكون ممكنا بدون الهندسة المعمارية التي علمته بأن الاقتصار على الأجسام لوحدها غير كاف لأن الأمر يستوجب إدخال الضوء بعين الاعتبار، فالضوء في هذا التصور المعماري هو العنصر غير المحسوس الذي يسمح بتحقيق وحدة الأجسام البعيدة.

ومع أن ألبرتي Alberti كان حريصا على نقل تصور برونيليتشي للمكان المعماري إلى فضاء الرسم، فإن تحديده لتقنية هذا الأخير سيظل متباينا في أكثر من جهة مع تصور برونيليتشي: إن وظيفية الرسم عند ألبرتي تقوم على عنصري الخط واللون، وتكمن في تحديد circonscrire وصباغة كل جسم يمتثل في مساحة ما وعلى مسافة محددة، بمراعاة موضع محدد من الشعاع المركزي، وهذا بحيث إن كل ما سيمثل على اللوحة يلزم أن يبدو للرائي كا لو أنه مجسم en relief وشبيه بالموضوعات المرئية(16).

2.2.1 – لا شك أن القارئ قد فطن الآن لوحده بأن المنظورية التي يتعلق بها الأمر تخالف النظر الطبيعي؛ فهي منظورية “رمزية” أو “ثقافية” أكثر منها منظورية تلقائية. وهذه بالضبط هي الأطروحة الكبرى التي يدافع عنها بانوفسكي في كتابه (المنظورية كصورة رمزية) Die Perspektive als symbolische Form. فهذه الدراسة الكلاسيكية -التي سيكون لها وقع كبير على مؤرخي فن الرسم- تأتي استمرارا لفلسفة الصور الرمزية التي وضع إرنست كاسيرر Ernst Cassirer مبادئها، ولا يمكن بالتالي فصلها بصفة عامة عن خط الكانطية الجديدة.

لا ريب إذن في أن بانوفسكي قد استغل جيدا مدلول “الوظيفة الرمزية” لتعميمه على المنظورية في فن الرسم. من هنا، فإن الإطار الفلسفي العام الذي طرحت ضمنه مشكلة المنظورية منذ مطلع العشرينات، يظل إطارا محددا بالقضايا التي أفرزها كتاب كاسيرر (فلسفة الصور الرمزية)، وهو الكتاب الذي سعى فيه كاسيرر إلى بناء “فينومينولوجيا الثقافة” اعتمادا على نظرة جديدة أصحى معها الهاجس الرئيسي هو استخراج “الوظائف الرمزية”. وهذه الملاحظة كافية لوحدها بإطلاعنا على مناخ الكانطية الجديدة وعلى القضايا المحببة إليها: فمن المعلوم أن التصور المركزي الذي ينطلق منه كاسيرر يقوم على تعميم الفكرة الكانطية التي تقول بأسبقية صور المعرفة على الموضوعات التي تنطبق عليها، أي الطابع القبلي لصورتي الزمان والمكان. لكن قيمة كاسيرر لا تنحصر عند هذا الحد لأن غايته الكبرى كانت هي استخراج “صور رمزية” Symbolischen Formen من جميع وظائف الفكر. لذلك سيتحول “نقد المعرفة” عنده إلى نوع من “الأنثروبولوجيا الثقافية” تشمل ميادين اللغة والأسطورة والعلم على حد سواء.

لقد استعاد كاسيرر فكرة “تلقائية” الفكر التي بلورها النقد الكانطي(17) ليبين بأن الفكر الإنساني لا يمثل أو يعكس الواقع الخارجي كما هو فعلا بل يعمد إلى إعادة بنائه انطلاقا مما يتوفر عليه من أطر رمزية. وهكذا فإن ميادين اللغة والفن والأسطورة يجسد كل واحد منها، حسب تقديره، نسقا مستقلا ترجع قيمته في نظر كاسيرر إلى إنجاز تصور نسقي ومتكامل لجميع هذه العوالم التعبيرية بحيث يكون في مقدورنا استخراج خصائصها النوعية والمشتركة، كلما خطونا خطوات كبيرة نحو امتلاك “نحو للوظيفة الرمزية” grammaire de la fonction symbolique(18).

ليس غريبا بعد هذا أن يلحق بانوفسكي تقنية المنظورية بهذه الوظيفة الرمزية، فكاسيرر يعتبر الإبداع الفني بصفة عامة مفعولا من مفعولات هذه الصور الرمزية. وهو نفسه يقول في هذا الصدد: “إنه لمن الواضح جدا في ميدان الحدس الفني أن كل حيازة للصورة الإستطيقية داخل ما هو حسي، لن تكون ممكنة إلا لأننا ننتج، في الخيال، العناصر الأساسية للصورة. وعليه، فكل فهم للأشكال المكانية يرتبط إذن في النهاية بهذه الفعالية الداخلية التي تنتج هذه العناصر وبشرعية هذا الإنتاج”(19).

غير أن هذا التصور الذي يجعل من المنظورية مفهوما رمزيا لا نجده عند بانوفسكي لوحده، بل نستطيع تبينه عند ثلة من الباحثين اللاحقين الذين ستشغلهم هذه القضية. فهذا هوبير داميش Hubert Damisch مثلا يعتبر بأن “المنظورية في فن الرسم لم يكن لها فقط دور في مضمار المتخيل لوحده، لأنها لم تقم فقط بخلق صورة بل كان لها أيضا دور ووظيفة رمزية خاصة”(20)؛ وما ذلك إلا لأنها مثلت دوما، حسب داميش، “براديجما برهانيا وتنظيميا” Un paradigme démonstratif et régulateur في فن الرسم النهضوي والكلاسيكي. وإذا كان هذا الباحث يسمح لنفسه بالتعرض لها كبراديجم خيالي-رمزي، فلأن سبل وطرائق تناولها تبقى مفتوحة: فهي قابلة لأن تكون موضوعا للتحليل النفسي ولتاريخ الأفكار والفلسفة.

3.2.1 – أجل، إن قضية المنظورية ليست حكرا على تاريخ فن الرسم لوحده بل هي قضية شغلت الفلسفة أيضا بنفس المقدار الذي شغلت تاريخ الأفكار. ولعل ميرلوبونتي Merleau-Ponty نموذج معبر، ذلك لأن إقباله على فن الرسم لم يكن قط أمرا عارضا بل كان دوما يجد تبريره في اهتمامه المتزايد بتجربة الإدراك والرؤية؛ إذ داخل هذه التجربة بالضبط نستطيع فهم المكانة المتميزة التي أولاها للرسام الفرنسي سيزان Cézanne على وجه التحديد. وإذا كان ميرلوبونتي لا يخفي إعجابه بقدرة الرسام على النفاذ بالمشاهد إلى عوالم الرؤية بل قدرته على خلق عوالم تشكيلية قائمة على جمالية الألوان والأحجام والأشكال، فلأنه ظل على اقتناع -مثله في ذلك بانوفسكي- بأن فضاءات اللوحة تعبر عن إدراك مبني ومصطنع، وأن السؤال الرئيسي، كما يقول هو نفسه، هو: “كيف بإمكاننا أن نعود من هذا الإدراك الذي صنعته الثقافة إلى الإدراك “الخام” أو “المتوحش”؟”(21).

ذاك إذن هو السؤال المركزي الذي نجده في ثنايا فلسفة ميرلوبونتي؛ وهو السؤال الذي يسمح لنا بالقول: إن تأملاته العديدة في فن الرسم كانت تتوخى بالدرجة الأولى فهم آليات الإدراك الذي صقلته الثقافة لأجل الغوص في خبايا الإدراك “الخام: الذي ينتجه “المعيش” Erlebnis. لذلك لن نستغرب إذا وجدناه يصرح: “إنني أقول بأن منظورية عصر النهضة هي حدث وليد الثقافة، وأن الإدراك نفسه متعدد الأشكال polymorphe(22).

لكن ما يبرر هذا الحكم يرجع إلى إيمان ميرلوبونتي بأن الإدراك الخام يسبق المنظورية وأن “المعيش” يتصدر العالم الموضوعي. وهذا فيما يبدو هو الذي يدعوه إلى الإقرار بأن “منظورية قياس السطح” la perspective planimétrique لا تستطيع أن تكون تعبيرا عن العالم الذي ندركه بشكل تلقائي (أي عالم العيش) لأن هذا الأخير ذاتي في حين تبقى المنظورية ذات طابع موضوعي، ولأن الأول طبيعي في حين تعد هي اصطناعية.

إن منظورية قياس السطح، التي تعد إحدى خصائص فن الرسم النهضوي والكلاسيكي، لا تعبر إذن في نظر ميرلوبونتي عن الإدراك المعيش والطبيعي لأنها “تجمد المنظورية المعيشية la perspective vécue؛ ولكي تمثل الشيء المدرك فهي تتبنى رقما بيانيا لتحريف شكل خصائص نقطة وضعي؛ لكنها بهذه العمليى الاصطناعية تشيد بالضبط صورة قابلة لأن تترجم مباشرة في بصريات أية رؤية أخرى. وبهذا المعنى فهي صورة لعالم في ذاته…”(23). وهذا الرأي الذي يذهب إليه ميرلوبونتي لا يبتعد كثيرا عن تصور بانوفسكي لأنه ينتهي إلى الإقرار بأن المنظورية العلمية هي دوما بناء رمزي يجرد العالم المعيش من خصائصه الحسية فيرفعه إلى مقام هياكل وأطر موضوعية.

صحيح أن منظورية قياس السطح تحرف شكل المظاهر المرئية، لكن بما أن هذا التحريف يتم وفق نفس الرقم البياني في كل أجزاء اللوحة، فإنها “تحملني داخل الأشياء نفسها، فتظهرها لي كما يراها الله، أو بلغة أدق: إنها لا تعطيني الرؤية الإنسانية للعالم بل المعرفة التي يمكن أن ينشئها إله لا يشوبه التناهي عن الرؤية الإنسانية”(24). أما الرسوم البدائية، كتلك التي يطالعنا بها الطفل حيث يخلو المكان من أبعاد المنظورية، فهو الوحيد الذي يستطيع في تقدير ميرلوبونتي أن يحملنا إلى الجهة التي ينفخ فيها وجود العالم ويعطى في تجاربه المتناهية(25).

خلاصة الأمر أن المنظورية تعطينا صورة العالم من منظور إلهي لأنها تنتهي، في رأي ميرلوبونتي، إلى تشييد مشهد “موضوعي” وإلى منح المتفرج هيكلا من العلاقات العددية التي تتمتع بصفة الصدق بالنسبة لأي إدراك آخر يخص الموضوع. لكن هذا الطابع “الموضوعي” والكلي الذي تصبو إليه المنظورية هو الذي يمنعها بالضبط من اقتحام جزئيات الإدراك المعيشي؛ وهو السبب أيضا الذي يفسر، في رأي ميرلوبونتي، إحجام الرسامين المحدثين، من أمثال سيزان، عن إعطاء المنظورية دور الصدارة. لذلك يفرق ميرلوبونتي دوما بين موضوعات الرسم الكلاسيكي، التي تظل جامدة وميتة في تقديره، وبين موضوعات فن الرسم الحديث والمعاصر التي تنفذ إلى صميم جزئيات المعيش، ذلك لأن “موضوعات فن الرسم الحديث “تسيل دما”، فتنشر أمام أعيننا مادتها وتسائل مباشرة نظرنا فتجرب عقدة التعايش التي عقدناها مع العالم بواسطة كل طرف من أطراف جسدنا”(26)، بينما تبقى موضوعات فن الرسم الكلاسيكي متحصنة في وضعية محتشمة ورزينة حين تخاطبنا، فتبقي على مسافة بيننا وبينها.

هذه القراءة التي تفرق بين عالم المنظورية وعالم الإدراك التلقائي، نلفيها في عدة نصوص لميرلوبونتي، وهي لا تقف عند هذا الحد لأنها تتوخى فضلا عن ذلك كله إبراز الفروق الجوهرية بين فن الرسم الكلاسيكي، الذي مجد المنظورية وجعلها قاعدة الإبداع الفني، وبين فن الرسم الحديث والمعاصر الذي يبدو أنه قد تخلى عن ربط النشاط التشكيلي بوظيفة “التمثيل الموضوعي” ليضعنا أمام سذاجة العالم وتوحشه.

بالفعل فعندما يقول ميرلوبونتي إن موضوعات الرسم الكلاسيكي قد “تخلت عن شيء من عدوانيتها فأصبحت تنظم خطوطها الداخلية وفق القانون المشترك الذي يهم المتفرج وتتهيأ مسبقا لأن تصير متباعدة”(27)، كان لا يريد الإفصاح سوى عن هذه الحدود الضيقة التي يقنن بها نظام المنظورية الكلاسيكية حرية الرؤية فيسجنها عند نقطة ثابتة لا تتغير. إن هذا النظام يفرغ الوجود من غنى إدراكاته ليحل بدله موضوعات لم تعد تخترق بصرنا إلا في احتشام فكأن الأشياء التي تمتلئ بها اللوحة لم تعد تعنينا ولا تثير انتباهنا وإدراكنا.

ربما قد لا تكون هذه “اللامبالاة” التي تولدها موضوعات الرسم الكلاسيكي لدى المشاهد المعاصر سوى تعبير عن المسافة الثقافية التي تفصل بين عالمين مختلفين؛ وربما قد لا تعدو أن تكون هذه “الغربة” التي يشعر بها ميرلوبونتي إزاء عالم لم يعد يستفز إدراكه سوى تعبير صريح عن انصهاره في العالم الثقافي الذي دشنه الرسم المعاصر(28)، لكن مهما يكن الأمر فإن المنظورية لا تعبر في تقديره سوى عن الرسم “الموضوعي” الذي يتوخى “التمثيل” بالدرجة الأولى، أي الرسم الذي يتطلع لأن يعكس الأشياء الخارجية من زاوية عين ثابتة: “إن المنظورية هي أكبر بكثير من مجرد سر تقني يراد به تقليد واقع قابل لأن يعطى كما هو فعلا أمام كل الناس؛ إنها ابتكار لعالم مسيطر عليه…”(29).

لذلك كله فإن ميرلوبونتي يعالج المنظورية كتقنية عامة من تقنيات التمثل، ذلك لأن ما يبتغيه الرسام الكلاسيكي حين يطبق قواعدها الدقيقة هو بلوغ الأشياء ذاتها وإقناع المشاهد. أجل، إن الترابط الذي يقوم بين المنظورية والتمثل، يوضح في نظر ميرلوبونتي لماذا كان الرسم الكلاسيكي يتطلع لأن يكون مقنعا بنفس القوة أيضا التي تقنعنا بها الأشياء الخارجية حين تعترض نظرنا وتفرض نفسها عليه.

لكن ما ينبهنا إليه ميرلوبونتي هو أن فن الرسم الكلاسيكي، قبل أن يكون تمثيلا للواقع وللطبيعة، فهو أولا وقبل كل شيء عقلنة للعالم لأن النظر الذي يلقيه على الموضوعات التي تأهل لوحاته هو دوما نظر إنسان راشد؛ من هنا كانت تقنية المنظورية شكلا آخر لتجسيد هذه العقلنة، إذ يبدو كما لو أن الرسام والمشاهد يقعان معا في درجة أسمى من العالم لأنهما يطلان عليه ويخترقانه ببصرهما في لمحة بصر واحدة. وهذا ما يعود بنا مرة أخرى إلى هذا المنظور الإلهي الذي يجعل منه ميرلوبونتي خاصة ملازمة لتقنية المنظورية الكلاسيكية.

ليس غريبا إذن أن يقرن ميرلوبونتي تقنية المنظورية الكلاسيكية بالمنظور الإلهي؛ فكلاهما يفترض “نقطة أرشميذية ثابتة”. ولعل لهذا السبب أيضا سيلعب فن الرسم المنظوري دور نموذج إيبستمولوجي في الثقافة الكلاسيكية، فعند باسكال Pascal كما عند مناطقة بور روايال Port-Royal ستلعب اللوحة Le tableau بصفة عامة دورا كبيرا في تعيين هذه “النقطة الأرشميذية الثابتة” التي اكتشفها ديكارت من قبل في الكوجيطو والتي سيدأب الفكر الكلاسيكي على تمديد صلاحياتها إلى مجالات أخرى. يقول باسكال في نص لا يخلو من قيمة تعبيرية: “عندما نكون صغار السن فنحن لا نحكم بدقة؛ وكذلك الحال عندما نكون طاعنين جدا في السن […] هكذا الأمر أيضا بالنسبة للوحات الفنية عندما نراها عن بعد مفرط أو قرب مفرط؛ والحال أن لا وجود سوى لنقطة واحدة غير قابلة للقسمة هي التي تمثل بالفعل الموقع الحقيقي: أما النقاط الأخرى فهي إما قريبة جدا أو بعيدة جدا، إما عالية جدا أو هابطة جدا. إن المنظورية هي التي تعين هذه النقطة في فن الرسم. لكن من سيعينها في الحقيقة والأخلاق؟”(30).

بوسعنا اعتبار هذا النص مؤشرا دالا على المكانة الخاصة التي أصبحت تحتلها المنظورية عند رسامي القرن السابع عشر. وما يعزز هذا الافتراض هو أن ديزارج Desargues وتلميذه أبراهام بوس Abraham Bosse -اللذين عاشا في نفس القرن- كانا يمنحان المنظورية وضعا “رياضيا-عقليا” مستقلا عن الرؤية الطبيعية، إذ أن وظيفة الرسم لا تكمن حسبهما في تمثيل الأشياء كما تراها العين الطبيعية بل كما تفرضها قوانين المنظورية على عقلنا. معنى هذا أن النظام المنظوري لا يعدو أن يكون بناء عقليا يلجأ إليه الرسام؛ وليس هناك ما يحتم بالضرورة وجود مطابقة بين المجال المنظوري ومجال الرؤية الطبيعية.

بيد أننا نجانب الصواب إذا ما نحن اعتقدنا بأن هذه الأطروحة خاصة بالقرن السابع عشر لوحده، فمنذ القرن الخامس عشر سيتبين للكثير من المنظرين والرسامين بأن المنظورية يمكن أن تظهر أشياء أخرى ليس لها أي وجود واقعي، وأن من الخطإ البحث عن مطابقة تامة بين ما يرى بالعين وبين ما تلتقطه قواعد المنظورية لأن ثمة تباينا كبيرا بين “المنظورية الطبيعية” و”المنظورية الاصطناعية”. بوسعنا هنا أن نقول إذا جاز لنا استعارة لغة هوسرل Husserl: إن الأمكنة والمواضيع التي شيدتها تقنية المنظورية هي بالأساس “بناءات مثالية” حتى عندما تبدو للمشاهد على أنها تنطق بالحياة والواقعية؛ فهي وليدة “نزعة موضوعية” Objectivismus أكثر مما هي وليدة “عالم العيش” Lebenswelt. ولأنها تصدر عن نزعة موضوعية، فهي تظل أمكنة مصطنعة ورياضية؛ وهذا التأويل هو ما يذهب إليه ميرلوبونتي ضمنيا في تمييزه بين الإدراك المنظوري والإدراك المتوحش.

وإذا سمحنا لأنفسنا هنا باستعارة لغة هوسرل (وبالتحديد في كتابه (أزمة العلوم الأوروبية)، فلأننا لا نرى مانعا من تعميم ما يطلق عليه هذا الأخير اسم “النزعة الموضوعية” على قواعد المنظورية التي شيدها فن الرسم الإيتالي إبان عصر النهضة ما دامت الخلفية الميتافيزيقية التي تحكمهما معا هي خلفية رياضية. ولعل دراسة داميش (أصل المنظورية) من بين أهم الدراسات التي تحسن توظيف أطروحة هوسرل هاته لتسليط الضوء على الأسباب التي دعت إلى تطبيق قوانين المنظورية على فن الرسم. غير أن هذه الجوانب جميعها لن تتوضح لنا بشكل دقيق ما لم نحط، ولو بشكل عام، بالانقلاب الذي شهده مفهوم المكان التشكيلي إبان تطبيق قواعد المنظورية؛ فالظاهر أن هذا الانقلاب قد اقترن بالصياغة الرياضية للمكان La mathématisation de l’espace؛ وهي التي نود استعراض بعض ملامحها قبل أن نبين الكيفية التي ستحطم بها الحركة التكعيبية Le cubisme هذه البنية المكانية.

2 ـ بناء المكان في فن الرسم:

1.2 – المكان التشكيلي كإطار ثقافي:

1.1.2 – تثار مسألة المكان في فن الرسم والتشكيل من زوايا عديدة. وتعد درسات فرانكاستيل Francastel واحدة من بين أهم هذه الزوايا لا لأنها فقط تقترح لها تأويلا سوسيولوجيا بل لأنها تنهل أيضا من مصادر أخرى كعلم النفس التكويني والرياضيات الطوبولوجية وتاريخ العلوم والمسرح.

فعلا، بتقريبه ما بين “المكان التشكيلي” l’espace palstique و”المكان الاجتماعي” l’espace social، يتصول فرانكاستيل إلى صياغة نظرية سوسيولوجية تجيب عن التغيرات التي لحقت نمط التمثل التصويري وكذا الأسباب التي قضت بميلاد مكان تشكيلي جديد في عصر النهضة وانهياره مع قيام الحركة التكعيبية.

وعلى خلاف كانط الذي اعتبر المكان مقولة قبلية، فإن فرانكاستيل سيعده مفهوما اجتماعيا يتغير بتغير الوسط الاجتماعي بحيث يتلعق الأمر هنا “بمونتاج إستطيقي” يشيد تدريجيا ولا يعطي على نحو فطري. وبالمثل فإن التشكيل المنظوري للمكان لا يحمل في نظره قيمة موضوعية ودائمة؛ وهذا ما يدفعه إلى الإقرار بأن “المنظورية الخطية” لا تشكل النسق العقلاني الأكثر تلاؤما مع بنية الفكر الإنساني ولا أيضا أعلى تمثيل يحقق المطابقة التامة مع العالم الخارجي، بل هي مجرد واحدة من بين الأنماط التعبيرية المتواضع عليها اجتماعيا.

وبهذا يكون فرانكاستيل من بين المدافعين عن ضرورة ربط وظيفة الرؤية الفنية بسائر الوظائف الفكرية الأخرى رفعا لكل تأويل يريد أن يحنطها في قواعد كونية وثابتة. فلا مجال هنا للسمو بالمنظورية إلى درجة قانون شمولي ينسحب على الفكر الإنساني؛ كما أن لا مجال لجعل المكان المنظوري مقياسا مطلقا لكل أنماط الرسم والتشكيل، لأن تصورا كهذا سينتهي إلى تجميد كل الأمكنة الأخرى في نموذج منظورية القرن الخامس عشر: “ليس المكان واقعا في ذاته يبقى التمثل هو الشيء الوحيد الذي يتغير فيه عبر العصور. المكان هو تجربة الإنسان ذاتها. وإذا كان يبدو لنا بديهيا أن المنظورية الأوقليدية تخلق لدينا بشكل تلقائي وهما كاملا بالواقع، فلأن قرونا فقط من المواضعة قد عودتنا على قبول بعض الدلائل التعبيرية المستعملة في التربية لغرض تطوير مواز لملكاتنا الرياضية والبصرية”(31).

يبدو إذن من هذا الاعتبار أن المكان الذي جسدته رسوم عصر النهضة ليس نقلا حرفيا للمكان الطبيعي ولا أيضا تمثيلا وفيا للرؤية الطبيعية بل هو صياغة إجرائية élaboration opératoire. وهذا بالضبط من بين الأسباب التي دعت فرانكاستيل إلى استثمار نتائج سيكولوجيا الطفل لإثبات هذه الأطروحة؛ فقد بينت أعمال بياجي Piaget وفالون Wallon بأن اكتساب المكان الإدراكي لا يتم عند الطفل دفعة واحدة وبشكل مكتمل وجاهز، بل يحتاج إلى اجتياز مراحل عقلية لا تحدث إلا بفعل تفاعل الذات مع الوسط الخارجي.

وتماشيا مع تطور هذه المراحل العقلية، سيعلن فرانكاستيل عن وجود ثلاثة أنماط من التمثلات المكانية تناسب كل واحدة منها درجة التعقد العقلي والتشكيلي انطلاقا من المبدإ التطوري الذي يعتبر أن المرحلة الأخيرة هي أكثر تركيبا من سابقاتها:

1 ـ التمثل الطوبولوجي للمكان la représentation topologique: ينسجم هذا الإدراك البدائي مع تمثل بسيط للكون بحيث يعطى هذا الأخير في غياب صور ومقاييس محددة وثابتة، إذ تنعدم فكرة المنظورية بانعدام الأحجام والمقاييس الهندسية. أما القواعد التي تنظمه فتظل بسيطة وأولية، فهي تقوم على علاقات القرب والانفصال، التتالي والإحاطة، الاحتواء والاتصال في استقلال كلي عن سلم قياسي ثابت وموحد.

2 ـ التمثل الإسقاطي للمكان la représentation projective: خاصيته الرئيسية هي تصور الموضوعات التي تملأ المكان ثابتة من حيث الشكل والخصائص وقابلة للتصنيف وإعادة الإنتاج.

3 ـ التمثل الأوقليدي للمكان la représentation euclidienne: يفترض هذا التمثل وجود نظام رياضي في بناء المكان حيث يقتضي قيام علاقات قياسية مجردة، علاوة على نظام رمزي معقد. وهذا معناه أن العلاقات التي أصبحت تنظم موضوعات المكان قد أضحت هي علاقات المقادير الثابتة حتى بالنسبة للموضوعات غير المحسوسة. إضافة إلى هذا فقد أصبح ممكنا قياس العلاقات بين العناصر المعزولة التي تدخل في تكوين الموضوعات. وعلى هذا التمثل الرياضي-المنطقي ستنشأ تقنية المنظورية في القرن الخامس عشر، إذ لا يغيب على ذهن أحد بأن هذا التمثل الثالث هو الذي يتطابق في نظر فرانكاستيل مع التصور المتجانس لمفهوم المكان(32)،وهو أيضا الذي يتوازى مع ما كان يعنيه بانوفسكي حين تحدث عن المكان باعتباره جوهرا ممتدا ومتجانسا، أي المكان باعتباره “كما متصلا” (quantun continum).

وعلى ضوء هذا التمثل الأوقليدي، الذي ستقوم عليه المنظورية، يتبين جليا أن المكان التشكيلي الذي دشنته النهضة الإيتالية ليس مكانا طبيعيا بل مكانا رمزيا-ثقافيا. وإذا كان هذا المكان الأوقليدي يوحي لمشاهده بأنه واقعي في كل تفاصيله وأن لا شيء في نظامه المنظوري يخالف الرؤية الطبيعية، فما ذاك إلا لأن نسق رؤيتنا قد شحن منذ مئات السنين بأطر تعبيرية-ثقافية تحولت بفعل العادة والمواضعة إلى دلائل بديهية وقارة.

2.1.2 – لكن قبل أن نمضي في توضيح بعض الأسباب الإبستمولوجية التي دعت إلى إدخال هذا التمثل الأوقليدي إلى حيز لوحات عصر النهضة وقبل بيان عوامل انهياره في فن الرسم الحديث والمعاصر، علينا أن نعلم بأن فن الرسم لم يكن المجال الوحيد الذي انشغل بتحديد المكان وتقنين أبعاد الأجسام التي تقطنه، فنحن نستطيع تبين نفس الاهتمام في فنون أخرى وبأشكال تتباين غالبا مع بعضها البعض: إذا توقفنا مثلا عند الرواية، فإن بوسعنا أن نلمس بسهولة استغلالا من قبل الروائيين للتغيرات التي تلحق منظورات الأبطال لأجل تحريك الأحداث السردية والتنقل بالقارئ في الفضاءات التي تفتحها الرواية بالرغم من أن الأمكنة التي نجول بين أرجائها ليست هنا سوى أمكنة متخيلة، أو لنقل: إنها ليست سوى أمكنة ذهنية.

ولنكتف بمثال واحد على ذلك: ففي مقال هام، يكشف جون روسي Jean-Rousset عن التقنيات المختلفة التي يستخدمها فلوبير Flaubert في روايته التاريخية (سالامبو) Salammbô لأجل وصف الأمكنة من زوايا ومنظورات متباينة ارتفاعا وهبوطا(33). والأهم من هذا كله هو أن تغير الأوضاع وتباين المسافات وتحول المجالات البصرية، يولد عند فلوبير تحولات أسلوبية ملحوظة إلى حد أن البنية الأسلوبية تبقى تابعة عنده لهذه التغيرات التي تلحق المنظورات والمواقع المكانية.

في هذا السياق تبدو الموضوعات المنظورة، في رواية فلوبير، متحركة باستمرار لأن صورتها هي في الغالب مجرد مظهر تابع للمكان الذي يقيم فيه المشاهد. وهذا ما يسند للمنظورية دورا تزييفيا وخادعا، كما يجعل من عاملي البعد والقرب مناسبة لتحريف أحجام الأجسام، حيث يلجأ فلوبير تارة إلى تغيير وجهة المشاهد وتارة أخرى إلى تحريك المشهد ليعطانا هذا الأخير كما يبدو في الظاهر أولا ثم في وضعيته الفعلية فيمستوى ثان.

لكن الأكيد أن حضور مفهوم المكان ليس حكرا على الرواية والرسم، فالنموذج الموسيقي شاهد بدوره على نفس القيمة التي يحظى بها التحديد المكاني. وربما يجوز القول بأن بعض تنظيرات بيير بوليز Pièrre Boulez تؤكد على الدور الذي يلعبه المكان في مجال الموسيقى: ففي إحدى دراساته(34)، يبين بوليز كيف يساهم التفكير الموسيقي المعاصر في تحقيق نسبية الأمكنة المسموعة les espaces sonores وبناء العمل الموسيقي بناء مكانيا؛ بل إن المفاهيم الجديدة التي ينحتها هذا الباحث ليضفيها إلى الصرح الموسيقي، لا تستقيم إلا عندما نتوقع لها أصداء مكانية.

تلك واحدة من بين الأسباب التي تدعو بوليز إلى إدخال مفهومين رئيسيين إلى مجال الموسيقى: يتعلق الأمر بالأمكنة الملساء les espaces lisses والأمكنة المخددة les espaces striés التي تقوم هنا بوظيفة تقطيع المكان المسموع إلى نوعين: المكان الذي يتحدد انطلاقا من معيار قياسي، والمكان الذي يرفض هذا التحديد ليتحقق في كل الاتجاهات التي تقع عليها إرادة الموسيقى(35).

2.2 – من المكان المنظوري إلى المكان التكعيبي:

1.2.2 – لقد مر معنا أن النظام المنظوري يقوم في مجمله على مكان أوقليدي. والواقع أن استيعاب مفهوم المنظورية الذي يدافع عنه بانوفسكي في مجال فن الرسم النهضوي، لا يستقيم إلا إذا عدنا إلى التحديد ذاته الذي قدمه كاسيرر لمفهوم المكان الرياضي؛ وهو التحديد الذي يعلن عنه بانوفسكي ويتبناه بشكل صريح:

يفصل كاسيرر بين “المكان الإدراكي” أو المكان الحسي الذي تعطيه الرؤية الطبيعية و”المكان الرياضي” الذي يعد إطارا مجردا وخالصا. الأول “فيزيولوجي” والثاني “منطقي”. أما ما يخلق التباين بينهما فيرجع إلى أن المكان الرياضي (المكان الأوقليدي بشكل خاص) يقوم على ثلاث خاصيات كبرى هي: الاتصال la continuité واللانهائية l ‘infinité والتجانس l ‘homogénéité. في حين يفتقد المكان الإدراكي لهذه الخصائص.

إن الطابع المتجانس للمكان الهندسي يفترض بأن “جميع النقط التي تتجمع في هذا المكان ليست شيئا آخر سوى تحديدات طوبولوجية لا تملك أي محتوى خاص ومستقل خارج هذه العلاقة وخارج هذه “الوضعية” التي تكون عليها. فواقعيتها متضمنة كلية في العلاقات المتبادلة التي تنشأ بينها؛ يتعلق الأمر بواقعية “وظيفية” لا بواقعية جوهرية”(36) فضلا عن هذا فإن المكان المتجانس هو دوما مكان مشيد وليس معطى؛ ولذلك فهو يقوم على مسلمة عامة مفادها أن من نقطة ما في المكان، يمكن دائما تحقيق نفس البناءات في كل المواقع وفي جميع الاتجاهات(37).

ومجمل الكلام أن ما يعتبره كاسيرر “ترييضا” للمكان الطبيعي هو ما يمثل في نظر بانوفسكي الأساس الإيبستمولوجي للبداية الحقيقية التي عرفها فن الرسم في عصر النهضة، إذ لا يمكن الحديث عن تطبيق قواعد المنظورية إلا داخل مكان أوقليدي لا وجود فيه لفكرة التراتبات الشرفية. يتعلق الأمر هنا بنظرة جديدة للمكان، فهذا الأخير لم يعد كما كان من قبل مجرد وعاء يعكس التفاوت القيمي للأشخاص الذين يقطنونه بقدر ما أصبح مجالا متصلا ومتجانسا ولا متناهيا.

وهكذا فإن المكان الذي جسدته لوحات عصر النهضة ابتداء على الخصوص من القرن الخامس عشر، هو مكان رياضي صرف، الشيء الذي سيعتبر بحق أكبر انقلاب في تاريخ الرسم القديم. ويكفي للمشاهد أن يمعن قليلا في الرسوم واللوحات، التي تمتد من العصر الهيلينستي والروماني إلى العصر القوطي، لكي يتبين بنفسه أن ما ينقص المكان التشكيلي الذي شيدت عليه هذه الرسوم هما عنصرا الاتصال والشعور باللانهائية. ويبدو بالضبط أن هاتين الخاصيتين هما اللتان تميزان المكان الذي سيتأسس عليه فن الرسم منذ عصر النهضة إلى مجيئ بيكاسو حسب ما يذهب إليه بانوفسكي(38)؛ وبذلك يصح القول بأن ما ينقص كل التمثلات المكانية التي سبقت عصر النهضة هو المكان الموحد والمتجانس.

ليس معنى هذا أن اللوحات الهيلينستية والرومانية كانت تفتقد كلية قواعد التمثل المنظوري، فلقد أظهر بانوفسكي توفر العصر القديم على تمثل منظوري “منحن” courbe، بل لقد بين بأن الرسوم التي سبقت عصر النهضة كان لها هي الأخرى تصور تشكيلي للمكان لأنها غالبا ما كانت تنطلق من سطح كروي surface sphérique مع احترام بعض القواعد التي يقتضيها المكان الإدراكي(39). لكن ما نريد مع ذلك أن نلفت إليه الانتباه هو أن المكان الذي تسبح فيه أجسام الرسوم القديمة مكان غير ثابت وغير متجانس، مما يعطيه وضعا شبحيا ويفقده خاصية التماسك. كما أن العلاقات التي يلزم أن تربطه بالأشياء والموضوعات تبدو باهتة، فلا شيء يوحد ما بين هذه الأطراف في وحدة منسجمة؛ فضلا على هذا فالمكان الذي تجسده هذه اللوحات القديمة لا يمتد فيما وراء الرؤية ولا يعطي الانطباع بوجود فكرة اللانهائية.

لهذه الاعتبارات كلها تعد الأعمال الفنية التي أنجزت منذ بداية القرن الخامس عشر انقلابا جذريا في مفهوم المكان. ونحن لا نستطيع أن نقدر حجم هذا الانقلاب إلا إذا علمنا بأن المعيار الأساسي الذي أصبح يتحكم هنا في تشييد المكان المرسوم هو المعيار الرياضي: لقد قضى رسامو عصر النهضة على مبدإ “التراتبية المعيارية” la stratification normative الذي ظل متحكما في تشكيل المكان قبل هذه الفترة لأن المعيار الذي أصبح يحدد قامة وحجم أشخاص اللوحة قد أضحى الآن معيارا هندسيا-بصريا لا معيارا شرفيا. فبعد أن كانت لوحات العصر الوسيط تحدد قامة ومركز الأشخاص تبعا لمكانتها الرمزية والاجتماعية، مما يمنح للأشخاص المرموقين وللقديسين بشكل خاص قامة أطول بكثير من الأشخاص العاديين الذين يتحلقون حولهم، سنجد على العكس بأن عصر النهضة سيعيد للأجسام قامتها العادية ولن يدخل في تحديد وضعها وحجمها سوى اعتبارات البعد والقرب والزاوية التي ينطلق منها النظر.

هذا المكان المتجانس والموحد الذي دشنته النهضة الإيتالية، يمكن اعتباره بمثابة “نحو تشكيلي جديد” une nouvelle grammaire plastique لأن عليه ستتأسس بشكل إجمالي مبادئ فن الرسم إلى حدود أواخر القرن التاسع عشر. فرغم المساهمات الجديدة التي جاء بها فن الرسم الباروكي في تنسيق ألاعيب الضوء ورغم إغناء الحساسية من قبل الاتجاه الرومانسي ورغم تعميق التصور السينوغرافي للمكان وإضفاء مسحة أكثر واقعية عليه من طرف الكلاسيكية الجديدة، رغم هذه التجديدات كلها ظلت أعمال الرسامين مطبوعة بنفس أطر التمثل المكاني لأن العلاقة بين الرؤية وبين تمثل الموضوعات لم تعرف حتى حدود الربع الثالث من القرن التاسع عشر تحولا جذريا بل ظلت تحافظ على نفس البنية المكانية التي بلورتها النهضة.

وبالمثل فإن الحركة الانطباعية l’impressionnisme لم تتخلص تماما من قواعد التشكيل المكاني الذي صاغته النهضة؛ إذ بالرغم من تخليها عن المكان السينوغرافي الكلاسيكي وإحلال تمثل مكاني مهووس بالتفاصيل الدقيقة، وبالرغم أيضا من ميلها الكبير إلى إعادة تمثيل المكان وفق النتائج التي تأدى إليها التحليل العلمي لخصائص الضوء، بالرغم من هذا فقد ظلت هذه الحركة تابعة في جهات عديدة لنفس الأطر الكبرى التي حكمت مفهوم المكان في عصر النهضة.

صحيح أن أعمال دوغاس Degas (1834-1917) ورونوار Renoir (1841-1919) ستنكب بشكل خاص على بناء “رؤية قريبة للعالم” vision rapprochée du monde بدل “الرؤية المتباعدة” la vision éloignée التي قام عليها التشكيل في عصر النهضة. صحيح أن الأول سيهتم بتجسيد “الحساسيات المركبة” أو ما سيطلق عليه الانطباعيون اسم “التعدد الحسي” la polysensorialité وأن الثاني (أي رونوار) سيميل أكثر إلى اكتشاف التغيرات التي تلحق التحليل الدقيق لانتقالات الخطوط والكتل، صحيح أيضا أن كلاهما سيعيدان تنظيم المكان التشكيلي انطلاقا من دافع استرجاع تفاصيله الشذرية والمتفرقة، إلا أن هذه العوامل كلها لم تكن تسمح بالقطع نهائيا مع التصور النهضوي-الكلاسيكي للمكان.

ربما يمكن اعتبار لوحة رونوار (ساحة بيغال) Place Pigalle (1880) نموذجا معبرا لاكتشاف أبعاد أخرى في المكان عن طريق التحليل البصري للحساسيات. فهذه اللوحة تتخلى نسبيا عن تقنية تدرج وتفاوت المستويات التي سنرى بأنها تشكل أساسا أوليا من أساسيات المنظورية في عصر النهضة. إنها تتخلى عنها بشكل جزئي فقط لأن المشهد الأول وحده هو الذي يعطى للإدراك بشكل جلي؛ أما المشاهد الأخرى التي تقع خلفه فقط تم تذويبها لتصبح الأجسام باهتة بلا تعابير ولا سحنات واضحة. لكن رغم ذلك فهذه اللوحة ما تزال تقليدية في تصورها للمكان، على الأقل لأنها تحتفظ ببعد العمق كما هو مقنن في عصر النهضة.

والواقع أن الشروع في صياغة تشكيلات مكانية جديدة لن يتم إلا على نحو تدريجي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مع بعض الأسماء المرموقة، نذكر منها فان كوخ Van Gogh وكوجان Gaugin لاعتبار واحد هو أن هذين الاسمين سيقترحان لغة تشكيلية بمعايير جديدة. فمع فان كوخ سنلمس تمثلا حسيا للمكان؛ لكن العنصر الجديد الذي سيحمله هذا الرسام هو إدراكه بأن للألوان الخالصة قدرة ذاتية على تجسيد العمق والقرب والبعد في استقلال تام عن كل رمز أو تنويع في الشكل أو نصول في درجات إشراق الألوان dégradation des tons، ذلك لأن اللون أصبح يحمل لمفرده قيمة مكانية une valeur spatiale ولم يعد بحاجة إلى سلم رمزي آخر يضاف إليه لتجسيد الأبعاد المكانية كما كان الشأن من ذي قبل في عصر النهضة. من هنا مبادرة فان كوخ الرائدة في رصد سلم ثابت لقيم مطلقة تخص الألوان بحيث أصبح اللون الأصفر مثلا يدل على القرب في حين يدل الأزرق على البعد.

لقد كانت الألوان في عصر النهضة وفي العصر الكلاسيكي بحاجة دائمة إلى عناصر أخرى مساعدة لتجسيد الأبعاد المكانية. أما مع فان كوخ (وربما قبله بقليل مع سيزان(40)) فإن الألوان الخالصة أصبحت تمثل لمفردها قيمة مكانية مطلقة بحيث غدا ممكنا بناء أمكنة مركبة عن طريق سلم لوني مطلق مفصول عن كل التقنيات الأخرى المساعدة. وهذا ما يعد بداية الانفصال عن التمثل المكاني التقليدي.

نفس التحول نلمسه عند كوجان الذي أعطى بدوره للألوان الخالصة استقلاليتها وأضفى صبغة مكانية على الحساسية ليبين بذلك أن المكان الذي يمثله فن الرسم هو قبل كل شيء مكان متخيل وسيكولوجي. إنه مكان ذهني أكثر منه مكانا تشكيليا. وهذا ما يدعو فرانكاستيل إلى الإقرار بأن انسلاخ كوجان وفان كوخ عن المكان التقليدي كان انسلاخا ذهنيا أكثر منه انسلاخا تشكيليا(41).

ينبغي الإقرار إذن بأن أغلب المحاولات الرامية إلى وضع أسس إستطيقية جديدة لفن الرسم في أواخر القرن التاسع عشر، ستبوء بالفشل كلما تعلق الأمر بالرغبة في القطع النهائي مع مفهوم المكان النهضوي-الكلاسيكي. وسبب ذلك واضح: فليس هنالك تلازم منطقي بين استحداث موضوعات جديدة وبين التخلص من الأطر المكانية التقليدية؛ إذ لا يكفي أن يقدم فن الرسم قضايا مخالفة لموضوعات عصر النهضة لكي ينسلخ كلية عن الشيمات المكانية التي ظلت تحكمه منذ القرن الخامس عشر.

وسواء أصحت هذه الدعوى التي ندافع عنها هنا أم لا، فإن ما نريد إثارة الانتباه إليه هو أن البدايات الحقيقية للتخلص من أطر المكان التقليدي لن تتحقق إلا مع الحركة التكعبية؛ ولن يتم ذلك دفعة واحدة بل على مراحل يضيق المقام في تفصيل جميع جوانبها. لكن هذا لا يمنعنا من القول على سبيل الإجمال بأن مساهمة بيكاسو Picasso الرئيسية ترجع إلى القضاء على التصميم المكاني التقليدي الذي كان يقوم على اتجاه بصري أحادي monoculaire(42) وإحلال بنية مكانية جديدة محله تقوم على تجسيد الموضوع الواحد من زوايا نظر متباينة في درجات القرب والبعد.

لا ريب في أن كل فاحص لأعمال بيكاسو، سيكتشف لمفرده بأن الشرخ الكبير الذي أحدثته الحركة التكعبية يتمثل في نسف مبادئ “المكان المتصل” الذي تأسس عليه تاريخ فن الرسم منذ القرن الخامس عشر الإيتالي. لقد كان المكان الكلاسيكي ذو الأبعاد الثلاثة عبارة عن كم متصل ومنسجم، علاوة على أن جميع أجزائه كانت قابلة للتكميم وفق وحدات خطية ترجع جميعها إلى نقطة بصرية واحدة وثابتة. ولهذا سيشكل مجيء الحركة التكعيبية نقلة بحق في صياغة مفهوم المكان، إذ لأول مرة سيصبح بالإمكان فعلا تقويض البنية المتصلة للمكان وتعويضها بخصائص مكانية متنوعة صار بمقدورها الجمع في لوحة واحدة بين حساسيات مكانية قريبة وبين تمثلات متباعدة وعامة أو بين مشاهد حركية وأخرى ثابتة.

ومع أننا لن نستطيع الوقوف بتفصيل عند التفاوتات الدقيقة التي عرفتها الحركة التكعيبية والتي اعتاد النقاد التفريق فيها بين “المرحلة السيزانية” و”المرحلة التحليلية” و”المرحلة التركيبية”، فإن بإمكاننا مع ذلك الإقرار بأن جميع هذه المراحل ستقود إلى تقديم مدلول جديد للمكان. فما سيلاحظ هو ولع بيكاسو، منذ مرحلته السيزانية، بإظهار التناقضات الصارخة بين المكان التشكيلي وبين الموضوعات المتضمنة فيه وإقلاعه عن تقديم رؤية أحادية لنفس الموضوع لتقديمها من زوايا عديدة بحيث تبدو الأجسام والأشياء كما لو أنها “مشوهة” في شكلها وغير متجانسة مع المكان الطبيعي الذي تقيم فيه. وهذا ما يمكن اعتباره انطلاقة حقيقية لتكسير بنية المكان الأوقليدي إذ أن “تشكل الحركة التكعبية -كما يقول جون لوي فيريي- كان موجها ضد أوقليدس وضد برونيليتشي منذ أن أحلت هذه الحركة محل المكان القديم مكانا-زمانيا قائما على الاحتمال وعلى الفجوات، مكانا ستبدو فيه الموضوعات المتلاشية باستمرار كآثار مقدمة للنظر لأجل إعادة بنائها على الدوام”(43).

على هذه الشاكلة يمكن أن نفهم الكثير من لوحات ورسوم بيكاسو التي تشيد مكانا “مستدخلا” un espace intériorisé قائما على إحداثيات منحنية وليس على إحداثيات مسطحة. ولعل الرسم الذي يجسد “امرأة منهمكة في غسل رجليها” Femme se lavant les pieds(1946) خير تعبير عن هذا “التحريف” المقصود الذي أجراه بيكاسو على المكان وعلى الأشكال: فهذا الرسم الذي يشخص امرأة منهمكة في غسل رجليها مبني على تصور مكاني منحن. ومع أن تشييد قطع من اللوحة على أمكنة منحنية كانت تقنية متداولة منذ بدايات عصر النهضة، إلا أن الجديد مع بيكاسو سيكمن هنا في إدخال المشاهد إلى مكان منحن بدل الاقتصار على النظر إليه من الخارج(44). ولهذا يتعين النظر لهذا الرسم من أبعاد أخرى غير أبعاد الهندسة الأوقليدية. فالمرأة التي تبدو في اللوحة -والتي تتعرض لتحريفات كبيرة في الشكل إلى حد تقديمها في هيئة وحش- لا تستقيم فعلا إلا داخل مكان جديد ستحل فيه الخطوط المنحنية محل الخطوط المستقيمة.

وعلى العموم فإن هذا التصميم المكاني الذي جاء به بيكاسو، سيسفر عن نتائج إستطيقية تمثلت في بناء علاقات من نوع جديد بين المكان التشكيلي والموضوع المرسوم، فلقد أصبح المكان يقيم في الأشياء نفسها بعد أن كان فيما قبل مجرد فراغ أولي تتجمع أو تتفرق الموضوعات على أبعاد خواءاته، أي أنه أصبح هذا الشكل ذاته الذي يتألف بتجمع الأشياء المرسومة ويدس في داخلها. إنه هذا البعد المحايث للموضوعات. ويبدو أن هذا التصور المكاني الجديد هو واحد من بين القضايا التي شغلت الحركة التكعيبية في مرحلتها “التحليلية” حيث ستنفجر “وحدة الموضوعات” بنفس القدر أيضا الذي سيتهاوى معه التصور التقليدي للمكان ليحل بدله تصور تفاضلي une conception différentielle يقوم على عدة “مدخلات” plusieurs entrées. فعندما “ثبت بيكاسو كل شيء في مكان ذي عدة مدخلات، لم يعد يكتفي بالإحاطة بالأشياء لكي يعرفها على أنظارنا، بل أصبح يلج إلى داخلها ذاته. فهو حين يمسك بها من منظورات وأعماق حقول متباعدة، فلكي يعوجها ويمددها ويفتحها إلى حد تفجيرها”(45).

2.2.2 – يتضح مما تقدم أن تحطيم بنية المكان المنظوري لن يحصل إلا مع الحركة التكعبية، ولن يتحقق ذلك إلا بعد القضاء على الرؤية ذات الاتجاه البصري الواحد. لكن يكفي الرجوع إلى بعض الحركات التشكيلية الأخرى التي نشأت بعد تكعيبية بيكاسو، لكي يتبين لنا بوضوح أن الرسم التجريدي لم يعد يتقيد بقواعد المكان النهضوي، إذ أصبح بإمكان الرسام تشييد أمكنة بلا عمق.

يطلعنا دولوز Deleuze وغاتاري Guattari على تقسيم آخر للمكان بحيث يؤخذ النموذج الإستطيقي داخل نسق فني يميز فيه بين “الأمكنة الملساء” espaces lisses و”الأمكنة المخددة” espaces striés؛ ويجاري هذا التقسيم التمييز الذي يقيمانه بصفة عامة بين “فن الرحل” l’art nomade الذي يميل أكثر إلى الأمكنة الملساء، و”الفن الحضري” l’art sédentaire الذي يناسب إلى حد كبير الأمكنة المخددة.

يتعلق الأمر بنوعين من الرؤية: أولا، “الرؤية القريبة” la vision rapprochée التي تساير “المكان اللمسي” l’espace tactile (أو بالتحديد “l’espace haptique” الذي يمكن أن يكون في آن واحد لمسيا ومرئيا وسمعيا)، وهي الرؤية التي تنطبق بشكل دقيق على “الأمكنة الملساء” وتجاري في خصوصياتها فن الرحل. ثانيا، “الرؤية البعيدة” la vision éloignée التي تساير “المكان البصري” (L’espace optique ) وتنطبق إلى حد كبير على “الأمكنة المخددة” لتكون بذلك خاصية مشتركة لأنماط الفن الحضري.

ولا يحصر دولوز وغاتاري تمييزهما بين هذين النوعين من الأمكنة في فن الرسم والهندسة المعمارية لوحدهما بل يتعقبانه في النموذج التكنولوجي والموسيقي والملاحي والرياضي والفيزيائي(46). لكن ما سيهمنا هنا بالتحديد هي الكيفية التي يحضر بها هذا التمييز في فن الرسم، وكذا الطريقة التي ينتهي معها المكان الأملس إلى صياغة مكانية بلا مركز ولا منظور.

إذا كانت الأمكنة المخددة توازي من الناحية الفنية المكان البصري وتنسجم بشكل مناسب مع فن الرسم الذي ساد في عصر النهضة حيث التداخل الكبير بين العمق والشكل وحيث الحضور الجلي لمفهوم الحجم والمنظور، فإن الأمكنة الملساء توازي فن الرسم التجريدي حيث لا قيمة لفكرة المنظورية ولا اعتبار للمركز وللعمق بعد أن فقدت المعالم Les repères نموذجها البصري الذي كان يوحدها في صنف ثابت معين أمام الملاحظ الثابت الذي يقع خارج المشهد: “إذ لا خط يفصل ما بين الأرض والسماء، فهما يمتلكان نفس المادة؛ كما أن لا وجود للأفق ولا للقعر ولا للمنظورية ولا للحد ولا للتخم أو الشكل ولا للمركز”(47).

الظاهر إذن أن التشكيل التجريدي المعاصر قد ساهم في إبداع أمكنة ملساء بعد أن أصبح الخط التجريدي متضمنا لاتجاهات متغيرة دون أن يعين التخوم ويحدد الأشكال، أو إذا شئنا استعمال لغة ميكائيل فرييد Michaël Fried -التي يستعيرها كل من دولوز وغاتاري- لقلنا معه: لقد أصبحنا ها هنا أمام خطوط تجريدية متعددة الاتجاهات، بلا عمق ولا خارج، بلا شكل ولا قعر، لا تحد أي شيء ولا تمثل أي تخم، فهي لا تملأ إلا مكانا أملس(48). وهذا فيما يبدو هو ما سيعنيه كاندينسكي Kandinsky(1866-1944) حين تأسيسه لقواعد فن الرسم التجريدي.

ولسنا هنا بحاجة إلى التوضيح بأن هذه الأمكنة الملساء التي سيستعيدها الرسم التجريدي، تنفصل عن مقاييس الرسم الكلاسيكي لأنها لم تعد تلتزم بنفس معايير المكان والمنظورية اللتين قام عليهما التمثل منذ عصر النهضة إلى أواخر القرن التاسع عشر. ولما كان تقويض المكان التشكيلي يفرض مراجعة لعلمية التمثل ذاتها، فقد بات لزاما علينا الكشف عن آليات التمثل التشكيلي؛ فمتى عرفنا قواعد هذا التمثل والتغيرات التي لحقته، استطعنا الوقوف على نظام التفكير الذي يحكم فن الرسم.

3 ـ آلية التمثل وحدوده في فن الرسم:

1.3 – التمثل بين الخداع والحقيقة:

لقد ساهم فن الباروك Le baroque مساهمة فاعلة في خلق “منظورات خادعة” بفعل القيمة الكبيرة التي منحها “للخداع البصري” trompe – l ‘oeil بعد أن غدت قوة الإيهام والخداع عنده أكثر حقيقية من الواقع نفسه. ونستطيع إجمالا أن نقول مع فولفلين Wölfflin(49) بأن الباروك لا يمثل اندحارا مقارنة بالفن الذي ساد في عصر النهضة بقدر ما يمثل أسلوبا تشكيليا جديدا سيرفع من مكانة الزيف. وإذا كان الفن الكلاسيكي-النهضوي يميل إجمالا إلى إعطاء الخصائص التشكيلية طابعا ثابتا بناء على النموذج المعماري le type architectural، فإن فن الباروك يكتسي طابعا موسيقيا؛ ولذلك فهو يميل أكثر إثارة الإدراكات العاطفية-الانفعالية وإلى فتح المجال أمام ردود فعل حركية، إذ أن الانتظام الهندسي الذي طبع النهضة بطابعه الصارم سيتقلص نوعا ما ليحل محله اندفاع القوى في حركيتها.

وفي حين مجدت رسوم النهضة الأشكال الدقيقة بفعل الأهمية التي كان يحظى بها الرسم le dessin، نلفي لدى فن الباروك ميلا صريحا إلى الأساليب الإيحائية بعد أن أصبح اللون هو العنصر الأساسي الذي يولد الإيحاء(50). لقد رد رسامو عصر النهضة جمالية وتناسق الأجسام إلى مبدإ الوحدة le principe de l’unité، ولهذا نجد عندهم ولعا بالتماثلات les symétries وبالأشكال المنغلقة وبالمراكز les centres بنفس المقدار الذي نجد عندهم إطنابا في تجسيد “المنظورات المتقاربة” les perspectives convergentes. أما في الرسوم الباروكية فإن اللجوء إلى اللاتماثلات les dissymétries وإلى الفضاءات المتمددة les espaces expansifs والأشكال المفتوحة، سيصبح السمة البارزة؛ ويسير في موازاة مع هذا كله اهتمام شديد بتصوير الأوهام البصرية.

والواقع أن ما يسمح بوجود هذه الفروق بين الرسم في عصر النهضة وبين الرسم الباروكي لا ينحصر عند هذه المعطيات لوحدها لأن الفن عند الأول ينصهر أساسا في علم متكامل يجعل هدفه الجوهري هو الحقيقة، في حين يتخذ عند الثاني (أي في الرسم الباروكي) مظهرا بلاغيا aspect rhétorique بعد أن أصبحت الغاية السامية عنده ليست هي تماما نقل الحقيقة بل هي التبليغ وجذب الانتباه. ولذلك فإن ما أصبح يهم الرسامين الباروكيين بالدرجة الأولى هي الأشكال البلاغية التي تعطى بها الأجسام والأمكنة، وهو ما يسير طبعا بشكل منسجم مع الأسلوب الباروكي الذي يعتبر الفن وسيلة إيحاء واستهواء، الأمر الذي سيسمح في المقابل بجذب التعبير الفني إلى دائرة المظهر والزيف.

ليس معنى هذا أن الأسلوب الباروكي لم يعد تمثليا، فكل اعتقاد في هذه الفرضية يبقى اعتقادا خاطئا في نظرنا لأن تاريخ فن الرسم الغربي ظل في مجمله وإلى حدود أواخر القرن التاسع عشر تقريبا قائما على مفهوم التمثل. كل ما في الأمر هو أن ما سيأخذ باهتمام الأسلوب الباروكي سيكمن في نقل الانطباعات الاحتفالية التي يراد خلقها عند المشاهد. إن الصدارة ستعطى إذن للإيحاءات البلاغية ولخداعات البصر؛ لكن الوظيفة التمثلية لفن الرسم لن تتغير في جوهرها.

لا يجب إذن أن نربط بشكل آلي ما بين التركيز على الإيحاءات والخداعات البصرية وما بين زوال وظيفة التمثل لأن فن الرسم سيبقى وفيا لقواعد التمثل حتى عندما سيرفض لنفسه وظيفة محاكاة الطبيعة؛ إذ أن ثمة فرقا بين التمرد على وظيفة المحاكاة وبين الانسلاخ التام عن مبدإ التمثل. ففي حين تجسد حركة التمرد على المحاكاة رغبة في إفساح المجال للخداعات الثانوية التي يخلقها فعل الرؤية، نلفي في المقابل في حركة فصل فن الرسم عن مبدإ التمثل فعلا يروم هدم الأسس الإستيطيقية ذاتها التي قام عليها فن التشكيل الكلاسيكي.

لهذا فمن الصعب جدا الإقرار بأن الفنون التشكيلية المعاصرة قد قطعت فعلا بشكل لا رجعة فيه مع مفهوم التمثل ما دام يظل هذا المفهوم متجذرا في تاريخ فن الرسم الغربي. وقبل أن نفحص مظاهر حضوره عند بعض الاتجاهات التشكيلية التي أفرزها القرن العشرون، لنرجع مرة أخرى إلى المبادئ الإستيطيقية التي قام عليها فن الرسم الكلاسيكي: إن أول ما نلاحظه هو أن التركيز على الخداع البصري لم يكن يتنافى إطلاقا مع مبدأي التمثل والحقيقة في الرسم، بل إن تجسيد الإيحاءات والخداعات البصرية لم يكن إلا ليزيد من قوة فكرتي التمثل والحقيقة في فن الرسم الكلاسيكي. فبقدر ما تتوصل اللوحة إلى خداع بصرنا بقدر ما تقترب من الحقيقة وتستوفي شروطها.

وغني عن البيان أن هذا التصور الكلاسيكي يفترض إجمالا، ورغم كل التفاوتات الحاصلة بين هذه المدرسة أو تلك، بأن غاية فن الرسم هي إنتاج الحقيقة طالما أن الوظيفة التمثيلية تظل خلفية ضمنية في كل عمل فني. يتعلق الأمر هنا بمدإ عام يمكن تبين تجلياته عند كل مدارس الرسم الكلاسيكية. ونستطيع أن نلمح أصداءه عند كثير من المنظرين لفن الرسم الكلاسيكي، أمثال روجي دو بيل Roger de Piles الذي صاغ المبادئ الكبرى لفن الرسم الكلاسيكي الممتد ما بين القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر. يقول دو بيل: “على خلاف باقي الفنون الجميلة، يعد فن الرسم الفن الذي يجب أن نعثر فيه على الحقيقي في أسمى حساسيته. فعلى حين تكتفي الفنون الأخرى بإيقاظ فكرة الأشياء الغائبة، يعمل فن الرسم على إتمامها بشكل مكتمل فيجعلها حاضرة بفعل ماهيتها التي لا تكمن فقط في سحر الأعين وإنما في خداعها”(51).

لا تناقض هنا ما بين الخداع البصري وتمثيل الحقيقة ما دام فن الرسم الكلاسيكي يسد مسد الأشياء الطبيعية فيوهم المشاهد بأن اللوحة امتداد للحقائق الخارجية أو أنها هذه الحقائق ذاتها. وحين يعلن دو بيل بأن الرسم هو أعلى فن تتحقق فيه فكرة الحقيقة، كان بذلك وفيا للقواعد الجمالية الكبرى التي نشأ عليها فن الرسم الكلاسيكي ما دام يؤمن على مبدإ التمثلية(52).

أجل، إن الغاية نفسها التي يرمي إليها التمثل في فن الرسم الكلاسيكي ليست شيئا آخر سوى خداع البصر؛ وأعلى ما يمكن أن يحققه هذا الخداع هو أن يمنح موضوعات اللوحة حقيقة أسمى في الدقة بحيث تضاهي الأشياء الطبيعية وتعلو عليها. أليس هذا المبدأ ذاته هو الذي يدعو روجي دو بيل إلى القول في حق لوحات ريبانس Rubens بأن فن الرسم أضحى معه أعلى من الطبيعة لأن هذه الأخيرة أصبحت مجرد نسخة لنماذج لوحاته لا العكس كما هو مألوف؟ وهو لا يتردد عن إثبات هذا الرأي حين يقول: “إننا نعلم بما فيه الكفاية أن فن الرسم ليس إلا خضابا un fard، وأن ماهيته تقوم على الخداع وأن أكبر مخادع في هذا الفن هو أكبر رسام. فالطبيعة بخيلة بطبعها، وكل من يكتفي بنقلها فقط كما هي دون أن يضيف إليها الصنعة سينجز دوما شيئا ضعيفا وقليل الذوق”(53).

لذات السبب فإن روجي دو بيل حين كان بصدد صوغ نظرية الحقيقة في الرسم، كان يقسم هذه الأخيرة إلى ثلاثة أنواع: الحقيقي البسيط le vrai simple والحقيقي المثالي le vrai idéal والحقيقي المركب le vrai composé.

يقتصر الحقيقي البسيط على محاكاة الطبيعة وتمثيل حركاتها التعبيرية بدقة وأمانة بحيث لا يبدو هنالك أي فرق بين النماذج الأصلية وبين النسخ، فتتراءى لنا الأشكال كما لو أنها تنفصل عن اللوحة لتدخل في حوار مع المشاهد.

أما ما يدعوه دو بيل بالحقيقي المثالي فهو كل هذه التنقيحات والزيادات التي لا تتوفر أبدا في نموذج واحد، وإنما يعمد الرسام إلى اقتنائها من عدة نماذج متفرقة لإضفاء مسحة جمالية راقية على الموضوع المرسوم وجعله أكثر إثارة ولياقة. ويفترض هذا طبعا عدم المساس بخصائص الحقيقي البسيط لأن بانعدامه تتساقط واحدة من أوليات فن الرسم.

ولهذا كانت الحاجة ماسة إلى قيام الحقيقي المركب الذي يجمع بين النوع الأول والثاني ليحقق لفن الرسم اكتماله ويمنحه القدرة على محاكاة الطبيعة، فيبدو الموضوع المرسوم أكثر حقيقية من الحقيقة نفسها(54). والواقع أن الطابع التمثلي الذي لازم فن الرسم الكلاسيكي هو الذي كان يفرض دوما إقحام مبدإ الحقيقة في صميم قواعده الإستطيقية. فهل سيظل الحال على ما هو عليه عند الرسامين المحدثين والمعاصرين؟

“أنا مدين لكم بالحقيقة في فن الرسم، وسأقولها لكم” Je vous dois la vérité en peinture et je vous la dirai(55). بهذه العبارة الشهيرة يدخل سيزان فن الرسم في أفق الحقيقة؛ لكن معنى الحقيقة سيتخذ الآن وضعا آخر غير ذاك الذي اتخذه في فن الرسم الكلاسيكي، فلن يتعلق الأمر مع سيزان بالصورة التي تكون عليها الرؤية بل بجوهر الموضوع المدرك وبطريقة بنائه باللون بعد تخليصه من هيمنة قواعد المنظورية وربما أيضا من قوانين الهندسية. فلم يعد هناك ما يبرر ربط الحقيقة في الرسم بمحاكاة الرسام لموضوعات الطبيعة. إن فن الرسم هو إعادة بناء قطع الطبيعة قطعة بعد أخرى. وهذا ما كان يولد دائما عند سيزان شعورا متزايدا بصعوبة ولا نهائية كل لمسة يحدثها على سطح اللوحة.

صحيح أن هذه العبارة تحتمل أكثر من معنى وتأويل مثلما أبرز دريدا Derrida، إذ “ما الحقيقة في الرسم؟” وما علاقتها بهذا القول الذي يصاحبها ويدعمها بل يضاعف من قوتها حين يتعلق الأمر بمجرد فعل من أفعال الكلام speech act، أي بعبارة يتطابق فيها المنطوق مع الفعل ومع المستوى الإنجازي le niveau performatif مثلما يقترح علينا دريدا فهم ذلك؟(56). مهما كان جوابنا عن هذه الأسئلة، فإن لا مناص لكل من يتساءل عن “الحقيقة في الرسم” من التساؤل عن خاصية وحدود التمثل هنا. وهذا، فيما يبدو، هو ذاته العامل الرئيسي الذي يدفع دريدا إلى ربط مشكل الحقيقة في الرسم بمفهوم التمثل مع كل ما يختزنه هذا المفهوم من حمولات ميتافيزيقية. لكن أليس هذا أيضا ما كان يعنيه هيدجر Heidegger حين يعلن بأن العمل الفني هو ما يحفظ ويصون halten الحقيقة بالمعنى نفسه الذي يجيز له القول: إن الرسم عند فان كوخ يجلب الحقيقة لا لأنه يصور الموجودات بكل دقة بل لأنه يحمل الوجود على الانكشاف والظهور؟(57).

 

2.3 – “اللوحة-النافذة” و”اللوحة-المرآة” أو التمثل بين النسخة والسيمولاكر:

1.2.3 – لجأ رسامو عصر النهضة إلى وسائل عدة لتمثيل بعد العمق المكاني. ونستطيع إجمالا أن نردها إلى آليتين: تقوم الآلية الأولى على إحداث تفاوتات في السطوح والمستويات la ségrégation des plans التي تقع خلف المشهد الرئيسي بحيث تعطي الانطباع بوجود تدرج في الرؤية أخذا بمعيار البعد والمسافة؛ وتسمح هذه التقنية بإدخال لا نهائية المكان إلى حيز اللوحة.

أما الآلية الثانية فتقوم في الغالب على رسم نافذة في جهة ما من اللوحة لفتحها على الامتداد واللانهائية. هذه التقنية، التي يمكن أن تحتوي أيضا آلية تفاوتات السطوح، تستغل عادة لإضافة تمثل مكاني مفتوح إلى جانب تمثل مكاني مغلق يعتبر أساس المشهد الرئيسي.

ولسنا بحاجة إلى التأكيد بأن كلتا الآليتين تنهل في الواقع من المسرح والسنوغرافيا لأن الترتيب الذي تخضع له مشاهد اللوحة يتم داخل مكان مسرحي. ولن يجد المتفرج أية صعوبة في المماثلة بين الوضعيات التي توجد عليها شخصيات اللوحة وبين حركات شخوص المسرح على الخشبة كما هو الحال مع جميع لوحات دافيد David (1748-1825)، وما ذلك إلا لأن التصور العام الذي ظل يحكم بناء المكان التشكيلي على امتداد فن الرسم النهضوي والكلاسيكي هو تصور لا يستقيم عادة إلا داخل إطار إستيطيقي أشمل يعتبر اللوحة الفنية نافذة مفتوحة تلج ببصر المشاهد إلى عالم متمثل. وهذا فميا يبدو هو ما كان يرمي إليه ألبرتي حين يقول: “أقوم برسم مستطيل وفق القامة التي أشاء وأتخيله نافذة مفتوحة أنظر من خلالها كل ما سأتمثله لاحقا.”(58).

ولا يخفى أن تصورا كهذا لا يفسر فحسب اعتماد تقنية المنظورية بقدر ما يفسر أيضا الأسباب التي جعلت فن الرسم يؤخذ على امتداد فترة طويلة داخل وظيفته التمثلية، إذ أن ثمة تلازما كبيرا بين اعتبار اللوحة نافذة مفتوحة على الامتداد وبين إسناد الدور التمثيلي لكل نشاط تشكيلي. ونحن نعتقد أن الانطلاق من “اللوحة-النافذة” لا يؤسس في الواقع الطابع التمثلي لفن الرسم لأن هذا الطابع سابق على ذاك التصور، ويظل كيفما كان الحال خلفية قبلية لكل عمل تشكيلي كلاسيكي. هذا معناه أن اعتبار اللوحة نافذة مفتوحة هو مجرد تصور يعزز الطبيعة التمثيلية لفن الرسم، في حين تبقى هذه الطبيعة التمثلية مسلمة أولية يصادر عليها كل رسام كلاسيكي.

وكيفما كان الحال، سواء اعتبرنا اللوحة في مجملها نافذة مفتوحة على العوالم التي يخلقها الفنان أو اجتزأنا قطعة منها للنظر عبر النافذة المرسومة نحو الآفاق التي تفتحها المنظورية، فإن الأمر سيان لأن الثابت في كلتا الحالتين هو عنصر التمثل. ولهذا فعندما استعاد روني ماجرين René Magritte(1898-1967) موضوع النافذة في لوحته (الوضعية الإنسانية) La condition humaine I (1933)، كان يود قبل كل شيء أن يلفت انتباه المشاهد إلى هذا النظام التمثلي الذي يسيطر لا على فن الرسم لوحده بل على طريقة التفكير الإنساني أيضا. فلوحة (الوضعية الإنسانية)، التي لا تخلو في العمق من المسحة السوريالية التي لازمت أعمال ماجريت، تجسد داخل الفضاء التشكيلي لوحة تمثل بشكل دقيق الجزء المخفي من النافذة المفتوحة(59) بحيث تقوم الشجرة المتثملة في اللوحة بإخفاء الشجرة الواقعية الموجودة خارج النافذة، لكنها تعمد في الآن نفسه إلى تمثيلها ما دامت تسترجعها في حرفيتها.

الواقع أن (الوضعية الإنسانية) تنطوي على ازدواجية في الدلالة رغم أن قطبي هذه الدلالة ينتهيان إلى الانصهار في معنى واحد: فمن جهة أولى يريد ماجريت بهذه اللوحة أن يقنع المشاهد بأن العالم الخارجي الذي نحسه ونبصره خارج ذواتنا، لا نستطيع رغم هذا أن نتمثله إلا عندما نحوله إلى فكرة داخلية لا وجود لها في الخارج. ومن جهة أخرى تعبر اللوحة عن واحد من ثوابت سوريالية ماجريت ما دامت تسترجع أطروحته التي تقضي بأن الصورة المرسومة ليست نسخة للواقع بل هي صورة للتفكير لأنها لا تعكس نموذجا خارجيا بقدر ما تعكس صورة الفكر نفسه، أو كما يقول مارسيل باكي Marcel Paquet في حق ماجريت: “إن الصورة المرسومة ليست أبدا مجرد مظهر، أي مظهر يخدع العين عندما ينتحل صورة الواقع الذي يقوم بتمثيله. إننا لا ندخن غليونا مرسوما. وهذا الأخير لا يمكن أبدا أن يكون غليونا ولا تفاحة ولا امرأة ولا غابة ولا مطرقة”(60).

ضدا على كل التيارات التي تحنط فن الرسم في وظيفة تلقي صور العالم وتمثيلها حرفيا، يسند ماجريت لفن الرسم كل قواه التفكيرية والسوريالية، وذلك عندما يخلق تباينا صريحا بين الواقع المرئي وبين التمثل الخيالي الذي ينتجه التشكيل. عبثا إذن نعتقد أن الصورة المرسومة تحاكي الصورة الخارجية، عبثا نرى في الأولى مطابقة للثانية لأن العوالم التي تخلقها يد الفنان ليست أبدا تمثيلا للواقع حتى عندما تسترجعه في أدق تفاصيله. وهذا فيما يبدو هو ما كان يهدف إليه ماجريت عندما كان يتعمد إحداث بون داخلي في صميم الموضوع المرئي لكي يفصح من خلاله على القدرة السحرية لفن الرسم.

2.2.3 – لكن فهم أبعاد هذا المشكل الموغل في أعماق فن الرسم -هذا المشكل الذي يمتد منذ عصر النهضة إلى قيام الحركة السوريالية- يستدعي منا استخلاص القيمة الكبيرة التي لعبتها المرآة le miroir، فالظاهر أن تقنية المرآة ما كانت لتستخدم إلا في انسجام مع التصور العام الذي يعتبر اللوحة نافذة تفتح المشاهد على آفاق خارجية؛ والأكيد كيفما كان الحال أن كلا من استعارة “اللوحة-النافذة” وتقنية المرآة تدعمان الطرح الذي ندافع عنه هنا: الطرح الذي يعتبر بأن فن الرسم النهضوي والكلاسيكي يبقى من حيث أساسه الفن التمثيلي بالامتياز. فعلى ماذا تقوم تقنية المرآة وما هي آلياتها في فن الرسم الكلاسيكي؟

لن نبالغ إذا قلنا بأن ميلاد فن الرسم المنظوري قد اقترن منذ عصر النهضة بتقنية المرآة، ذلك لأن الرسام كان غالبا ما يستعين بمرآتين: الأولى لرؤية الأجسام المنعكسة على السطح؛ والثانية لتصحيح مواقع الأجسام وإعادة ترتيب اليمين واليسار. ولن نستغرب إذا ما علمنا بأن برونيليتشي قد ساهم إلى حد كبير في نقل هذه التقنية من الميدان المعماري إلى ميدان فن الرسم بإحداث “ثقب” صغير منه يتسلل نظر الرسام؛ إذ من الواضح أن هذه التقنية ستستعمل كثيرا من قبل الرسامين، ولذلك سنجد امتداداتها عند ليوناردو دافينشي الذي كان يلح، في جملة القواعد البصرية التي صاغها في (كنانيشه)، على ضرورة النظر في المرآة من خلال ثقب يوضع خصيصا لغرض تصميم الواجهات التي تعطيها المنظورية، فهو يقول: “عليك أن تصف كيف أن لا وجود لموضوع محدد في ذاته داخل المرآة، وإنما هو محدد بالعين التي تراه”، كما كان يقول في نفس هذا السياق: “برهن كيف أن لا شيء يمكن أن يرى إلا من خلال شرخ صغير”(61).

صحيح أن الهاجس المركزي هنا عند ليوناردو دافينشي هو تقنين النظر وربطه بمنظورية ثابتة، لكن اعتماده على تقنية المرآة يدل على أن ما يتوخاه الرسام هو تجسيد النموذج “الحقيقي” كما هو فعلا. فمنذ عصر النهضة سيدور سجال حول حدود توظيف الصور المنعكسة على المرآة، من هنا التساؤل الذي طرحه رسامو هذا العصر: هل يجب على المرآة أن تقتصر على عكس الموضوعات المرسومة لوحدها أم يتعين عليها أن تنقل أيضا إلى سطحها “الثقب” الذي منه يرى الرسام و”الضوء” الذي يتسلل منه وكذا “النظر” الذي يخترق هذه العناصر بأجمعها؟(62) أو بمعنى آخر: هل على الرسام أن ينتقي الموضوعات المنعكسة على المرآة أم أن عليه أن يمثل كل شيء ينعكس على سطح مرآته؟

يبدو أن لوحة الرسام الهولندي جان فان إيك Jan Van Eyck(1390-1441) تجيب على هذا الإشكال الذي استهوى فن الرسم: يتعلق الأمر بولحته الشهيرة (صورة الزوجين أرنولفيني) Portrait des époux Arnolfini(1434) التي تعد في تقدير الكثير من النقاد من أروع وأدق اللوحات التي استطاعت استيعاب المكان المرأوي وتجسيده في أرق تفاصيله. فعلاوة على الجمالية والتوازن اللذين يخيمان على فضاء اللوحة، نجد هنا ولعا كبيرا باستعادة كل تفاصيل الغرفة التي يقيم فيها الزوجان بما فيها المرآة المحدبة التي توجد في مركز الصورة. فبفضل هذه المرآة المقببة، يتمكن فان إيك بعبقرية من رسم المشهد الذي يقع خلف المشاهد بحيث يظهر على سطح المرآة ظهرا الزوجين وكل الأثاث الذي يملأ الغرفة لكن من منظور محدودب يجاري الطابع المحدب للمرآة. وخلف هذا كله يطالعنا شخصان يقومان بزيارة للزوجين، وكأن فان إيك أدخل عمدا هذا المشهد الأخير الذي تعكسه المرآة لكي يحطم الحدود التي تفصل بين المشهد الرئيسي والمشاهد الخلفية لاجئا بذلك إلى تمثيل مكان كلي ومتصل.

والظاهر أن نفس التقنية لاجئا بذلك إلى تمثيل مكان كلي ومتصل.

والظاهر أن نفس التقنية هي التي نجدها عند دييعو بيلاسكيث Diego Vélasquez (1599-1660) في لوحته الشهيرة “الوصيفات” Les Ménines(1656)؛ وقد تأتى له هذا بفعل اطلاعه على لوحة فان إيك السابقة التي كانت ضمن منتقيات العائلة الملكية في مدريد: إن كل من يمعن النظر في لوحة “الوصيفات” سيجد لا محالة نقط تشابه كبيرة بينها وبين (صورة الزوجين أرنوليفيني)؛ فأهم ما يثير الانتباه هو وجود المرآة التي تعكس وجهي الملك والملكة، وكأن هذه المرآة لم توضع إلا لكي تضفي على الطابع “التمثلي” وضعا مضاعفا ينتهي بكل من يمحص النظر فيها جيدا إلى الإقرار بأن هذه اللوحة هي “تمثل لتمثل” une représentation de la représentation.

أجل إن اهتمام فوكو Foucault بلوحة “الوصيفات” في كتابه (الكلمات والأشياء) لم يكن أمرا عرضيا، فهي تعبر في تقديره عن إيبستيمي التمثل بل أكثر من هذا إنها تلخص قواعد ونظام الفكر الكلاسيكي الذي غدت معه المعرفة مقترنة بانعكاس الذات على ذاتيتها. لكن ما سر هذه الأهمية البالغة التي دفعت بفوكو إلى افتتاح (الكلمات والأشياء) بتحليل لوحة “الوصيفات”؟ هل لأن هذا العمل الفني يمثل بدقة براديجم فن الرسم الكلاسيكي حين يجسد “لوحة للوحة” tableau d’un tableau كما يقول فوكو(63)، أم لأنه يعبر عن فكرة الانعكاس والتمثلية التي يقتضيها مبدأ الكوجيطو؟

نعتقد أن التساؤلين معا يملكان مبررات قيامهما طالما أنهما ينصبان على هذه القدرة التي يتوفر عليها فن الرسم الكلاسيكي: القدرة على تحويل الذات التي تنجز عملية التمثل إلى موضوع للتمثل، أي قدرة العنصر “الممثل” le représentant على التحول إلى عنصر “ممثل” représenté. لكن سحر هذه اللوحة يتجلى بالضبط في توصلها إلى تبليغ “تمثل خالص”: “فاللوحة تنظر في مجملها -كما يقول فوكو- مشهدا هي بدورها مشهد بالنسبة إليه”(64). لذلك فهي تعبر بوضوح عن تمثل مزدوج، أي عن تمثل لتمثل؛ نفس المشهد الذي تمثل فيه الرسام منهمكا في عملية التمثيل، بدل أن تجسد الصورتين في مشهد واحد فهي تدفع بالرسام إلى الواجهة الأولى للوحة لتجعل من صورة الملك والملكة منطبعة فقط على سطح المرآة التي تقع في أقصى الواجهة الخلفية، وكأن بيلاسكيث أراد بهذا أن يركز على عملية التمثل ذاتها وأن يدفع بها إلى الواجهة الرئيسية ليحول في المقابل موضوع التمثل (الملك والملكة) إلى مشهد ثانوي وخافت رغم أنه هو ما يعطي للتمثل إمكانه. يتأتى له هذا التحويل عندما يجعل صورة الملك والملكة منعكسة فقط على سطح المرآة دون أن يرسمها لا بجوار الوصيفات التي تتصدر الواجهة الأولى ولا أيضا على فضاء اللوحة المرسومة التي تدير لنا ظهرها فتحجب عنا موضوعها المحتمل.

ولنا أن نتساءل بدورنا: هل الرسام، الذي تجسده “الوصيفات” حاملا لفرشاته بجوار لوحته التي تدير لنا ظهرها، منهمك في رسم الوصيفات نفسها، وفي هذه الحالة فإن الأمر لم يعد يتعلق بتمثل ما دام موضوع اللوحة المخفية هو ذاته نفس المشهد الذي تكشف عنه اللوحة، أم أنه منهمك عكس هذا في رسم الملك فيليب الرابع وزوجته ماريانا دون أن يضطر إلى تجسيدهما بجوار باقي الموضوعات المتمثلة؟(65).

إننا نميل مع فوكو إلى الافتراض الثاني؛ لكن ها هنا عودة مجددا إلى المكانة الخاصة التي تحتلها المرآة في هذا العمل الفني الذي يكتشف فيه فوكو كل عناصر إيبستيمي التمثل الكلاسيكي: إن الدور الذي تلعبه المرآة مع بيلاسكيث لم يعد هو نفس الدور الذي كانت تلعبه عند جان فان إيك وعند باقي الرسامين الهولنديين. فعند فان إيك مثلا تقتصر المرآة على استرجاع صورة الزوجين أرنولفيني في وضع محدب ومحرف نسبيا؛ لكن مهما كان هذا الوضع محدبا أو محرفا، فإن دور المرآة يكمن فقط في تكرار المشهد الأول الذي يتصدر اللوحة وكأن المرآة لا تنصب في مركز اللوحة إلا لكي تعطينا نفس المشهد في وضعه الآخر المعكوس. أما عند بيلاسكيث فالمرآة التي تعكس صورتي الملك والملكة لا تكرر نفس المشهد المرسوم في الواجهة الأولى من اللوحة لأن الصورتين المنعكستين على سطح المرآة لا وجود لهما هنا سوى على المرآة ولا نتبين نموذجهما الحقيقي بجوار الوصيفات أو في مركز اللوحة.

وبالرغم من أن المرآة لا تظهر هنا أي شيء مما تمثله اللوحة، فهي لا تتوقف عن أداء وظيفة التمثل، بل إنها تحقق تمثلا مزدوجا. لذلك يقول فوكو في تعليقه على لوحة “الوصيفات”: “إن المرآة تؤمن إبدالا لما هو مرئي يخص في نفس الوقت المكان المتمثل في اللوحة وطبيعة تمثله؛ فهي تظهر، في مركز قماشة الرسم، ما لا يرى مرتين بالضرورة على اللوحة”(66). إنها تسمح بتمثيل موضوع التمثل في الوقت الذي تباعد اللوحة بين هذا الموضوع المتمثل والرسام الذي يقوم بعملية التمثل، وكأن بيلاسكيث كان يبغي من رواء تنصيبهما في قطبين منفصلين، تأكيد صعوبة القيام في عملية واحدة بتمثيل موضوع التمثل والذات الممثلة.

والحال أنه كيفما أولنا هذه اللوحة فنحن لا نملك إلا أن نعود في كل حين إلى آلية المرآة التي ظلت تشغل على امتداد تاريخ فن الرسم الكلاسيكي الحقل الشاسع الذي يحقق وظيفة التمثل في أسمى قدراتها الانعكاسية. ولذات السبب لا نجد أي مانع من افتراض أن لوحة “الوصيفات” ما كانت بدورها لتكون ممكنة بدون تنصيب مرآة أخرى أكبر في الحجم، بها أمكا لبيلاسكيث أن يحتوي بلمحة بصر واحدة موضوعات تمثله بما فيها هو ذاته منهمكا في تمثيل موضوعات لوحته.

ربما لهذه الأسباب كلها سينجز بيكاسو ما بين شهري غشت ودجنبر من سنة 1957 سلسلة من اللوحات التي تستعيد لوحة “الوصيفات” بعد أن فقدت شخصيات بيلاسكيث بهاءها الكلاسيكي وغدت قابلة لاتخاذ أحجام تكعيبية. بيد أن ما يثير الانتباه هو أن بيكاسو سيفرغ المرآة من وظيفتها الانعكاسية، فهي لم تعد سوى إطار فارغ لا يمثل أي شيء ولا يعكس أي موضوع خارجي؛ وكأن بيكاسو يريد بهذا أن يعلن بشكل لا مراء فيه أن فن الرسم المعاصر لم يعد يجري أمام تمثيل الوقائع ولا أمام تمثيل عملية التمثل: لقد أصبحت المرايا سطوحا بيضاء بلا موضوع؛ لهذا لن تعود المرآة في “وصيفات” بيكاسو سوى إطار مربع خال من كل تعبير أو انعكاس.

3.2.3 – نفس المبدإ المعادي لفكرة التمثل هو الذي نلفيه عند ماجريت، لكن من مستوى آخر لا يقضي نهائيا على مفهوم التمثل في حد ذاته بقدر ما يقضي على فكرة الانعكاسية والشفافية التي اقترنت دائما في الفكر الكلاسيكي وفي فن الرسم التقليدي بأسمى درجات التمثيلية: ففي كثير من أعمال ماجريت يحضر موضوع المرآة التي لا تعكس الواقع بل تنتج ما تشاء دونما التزام بقواعد الانعكاسية. إن مرايا ماجريت لا تعيد إنتاج موضوعاتها وفق مبادئ التمثلية التي تأسس عليها فن الرسم الكلاسيكي، بل إنها تعمد إلى خلق عوالمها الخاصة، بما فيها الواجهات الخفية التي لا تستطيع المرايا الواقعية التقاطها، مما يعطي الانطباع منذ الوهلة الأولى بأننا لم نعد أمام مرايا تنسخ الأشياء كما هي ولا أمام تمثلات حقيقية بل أمام قوة شيطانية une force diabolique توالي خلق السمولاكرات وتوسيع الهوة بين موضوعات الرسم وموضوعات الواقع.

لا يتعلق الأمر هنا بخدع بصرية كما ألفنا ذلك في الرسومات الباروكية، وإنما يتعلق بماهية الرسم التي غدت تحتل مع ماجريت منزلة مغايرة: ففي لوحة “المرآة الزائفة” le faux-miroir(1935) يجسد ماجريت عينا وقد ارتسمت على سطحها مجموعة من السحب فبدت زرقة العين وكأنها امتداد لزرقة السماء. هذه اللوحة كافية لوحدها لتبين الدور الكبير الذي لعبته الحركة السوريالية في خلخلة مفهوم التمثل (ولا نقول القضاء عليه): ففيها يظهر ماجريت بأن عين الرسام هي دوما “مرآة مزيفة” لأنها لا تنقل الوقائع كما هي ولا تمثلها كما هي متمثلة فعلا بالعين العادية وإنما تحرفها.

تلك أيضا هي القضية التي تطرحها لوحة “الارتباطات الخطيرة” Les liaisons dangereuses(1926): ففي هذه اللوحة يجسد ماجريت امرأة عارية وهي تمسك بمرآة تدير سطحها العاكس جهة المشاهد. وبدل أن تعكس المرآة أطراف الجسم التي تناسب وضعه أمام المشاهد، فهي لا تمثل سوى الجهة اللامرئية، أي ظهر المرآة الذي لا يستطيع لا المشاهد ولا المرآة التقاطه، وكأن ماجريت تعمد بهذا الإخلال بقوانين الانعكاسية حتى يؤكد بأن ثمة جانبا “لا تمثليا” في التمثل.

نعم، إن ماجريت يلتزم حرفيا بقوانين التمثل الكلاسيكي لأن استعادته للأشياء والأجسام هي دوما استعادة دقيقة. لكن بدل أن تعكس المرآة الجسم في أوضاعه المناسبة التي تتفق مع أوليات عملية الانعكاس، فهي تنصب أعضاء في غير مواضعها المناسبة؛ وما ذلك إلا لأن فن الرسم عند ماجريت لم يعد “يعمل -كما يقول مارسيل باكي- بالكيفية التي تعمل بها المرآة المنفعلة: فهو لا يكرر المظهر بل يغيره ويحوله. وهكذا فإن فن الرسم لا يعيد إنتاج جسد المرأة وإنما يقوم على العكس بإنتاج مظهر جديد وصورة جزئية، مجمدة، مؤطرة وميتة”(67).

بيد أننا سنكون مقصرين في حق ماجريت إذا ما نحن ضيقنا إبداعاته في هذا الحيز لوحده، فالظاهر أن مساهماته في خلخلة بنية التمثل الكلاسيكي ستتخذ أكثر من صيغة. ولعل أهم هذه الصيغ كلها، تلك التي تقوم على إقحام بون شاسع بين “الجانب المكتوب” le graphique و”الجانب المصور” l ‘image في اللوحة. وهذا بالضبط هو ما يرى فيه فوكو تعبيرا عن المسافة التي أقامها ماجريت مع نظام التمثل الكلاسيكي:

كل من يلقي ببصره على لوحة ماجريت التي تحمل عنوان “السران” Les deux mystères(1966)، سيفاجأ لا محالة بغرابة هذه اللوحة التي تتقيد إلى أقصى حد بقواعد التمثل مع أن كل ما فيها “يقول” بعكس “ما تصوره”. يتعلق الأمر بهذه اللوحة التي تجسد في فضائها لوحة أخرى وقد رسم داخل إطارها غليون، وتحت هذا الغليون المجسد في اللوحة المرسومة، كتب بحروف بارزة: “هذا ليس غليونا” Ceci n’est pas une pipe. وفوق اللوحة المرسومة والمحمولة بمسند، ينتصب غليون آخر كبير معلق في الفضاء لا يخالف الموضوع المرسوم سوى في لونه المائل إلى السواد.

ما يرمي إليه ماجريت هنا في هذه اللوحة هو إزالة كل علاقة تمثلية بين “المكتوب” و”المرئي”، فكأن للأول نظاما آخر لا يتقاطع مع نظام الثاني رغم أن الفضاء الذي يسبح فيه هذان الطرفان (أعني العبارة المكتوبة والغليون المرسوم) هو فضاء التمثل الكلاسيكي لأن لا شيء فيه يخالف المكان اليومي. وهكذا يمكن الإقرار مع فوكو بأنه إذا ساهمت بعض رموز فن الرسم التجريدي (أمثال كلي Klee) في خلق أمكنة بلا اسم ولا هندسة عن طريق دمج الأشكال مع العلامات المكتوبة، فإن “ماجريت يحفر بشكل سري مكانا يبدو أنه يحتفظ به في وضعه التقليدي. لكنه يملأه بكلمات: وبهذا لا يصير هرم المنظورية سوى جنوة خلد une taupinière على وشك الانهيار.”(68).

بالفعل إن ماجريت يتعمد بث التباين بين “الكلمات” و”الأشياء” ويواصل إبراز هذا التباين بأشكال مختلفة. ففي كل مرة قام فيها برسم كلمات وجمل إلا وتعمد التركيز على الاختلاف الذي ينخر “المكتوب” و”المرئي”. لكنه بدل أن يقف عند هذا الحد فهو يمضي إلى حيث يكون بالمستطاع الوقوف على “تباين التباينات” l ‘écart des écarts حاذفا -مثلما يفعل بورخيص Borges – القاعدة التي تستطيع توحيدهما في هوية مشتركة(69)، وكأن ما يهمه بالدرجة الأولى ليس هو أن يتعرف المشاهد في موضوعاته المرسومة على نماذج أصلية، بل هو أن يطلق العنان لبناء سيمولاكرات تشبه دوما الموضوعات الواقعية لكنها لا ترتبط بها أي رباط ماهوي.

لا داعي إذن لأن نبحث للغليون المرسوم في إطار اللوحة عما يطابقه في الواقع فهو ليس إلا رسما، ولا داعي لأن نجد للغليون المعلق في الفضاء عن موضوع ينطبق عليه، فهو ليس إلا “تشابها ضبابيا” une similitude nuageuse كما يقول فوكو(70)، مثلما أن لا داعي للبحث للعبارة “هذا ليس غليونا” عن موضوع تحيل عليه، فهي ليست إلا عبارة مكتوبة لا تشبه سوى نفسها ولا تمثل سوى ذاتها. أجل، إن كل هاته الموضوعات لا تعدو أن تكون سوى سيمولاكرات. ولهذا يصر فوكو في تعليقه على نفس اللوحة بأن التشابهات عند ماجريت “لا تثبت ولا تمثل أي شيء” ما دامت لا تتجاوز قط بنفسها خارج اللوحة(71).

بحكم أن فن الرسم قد ساوى دوما، عبر تاريخه الطويل، ما بين التشابه وما بين إثبات رابط تمثلي يوحد بين النموذج والموضوع المرسوم، فقد ظل هذا الفن ذا بنية تمثلية. وستظل هذه البنية ملازمة له رغم القفزات الهائلة التي عرفها منذ أواخر القرن التاسع عشر مع سيزان ومع الانطباعيين ثم لاحقا مع الحركة التكعيبية والسوريالية. والحال أن هذه البنية التمثلية لن تتحطم إلا مع فن الرسم التجريدي. فمع الحركة التجريدية وحدها سيصير بإمكان الرسام إجراء “إثبات خالص” لموضوعاته دونما أية علاقة بعنصر الشبه. هذا ما سيقوم به كاندينسكي Kandinsky(1866-1944) حين سيخلق أشكالا خالصة تحمل أسماء واقعية مع أن لا وجود لأي شبه يربطها بموضوعات طبيعية.

وهذا أيضا ما سنلمسه مع بول كلي Paul Klee(1879-1940)؛ فمع أن الأشكال التي جسدها في لوحاته ما تزال تبقي على عناصر تمثلية، إلا أن منحاها العام يبقى تجريديا. وبينما ظل ممثلو الحركة التعكيبية، وبشكل خاص ببيكاسو وبراك Braque وجريس Gris، مشدودين إلى بعض الصيغ التقليدية المقتبسة من الواقعية لعدم توصلهم إلى محو الموضوع محوا تاما، سنجد عند موندريان Mondrian(1872-1944) اتجاها أكثر راديكالية نحو التجريد ونزوعا واضحا نحو إزالة كل طبيعة تمثيلية للموضوع للاحتفاظ فقط بمبادئه الكلية بعد تقليصها إلى أصغر قدر من الأبعاد الهندسية.

لقد صفى موندريان الطبيعة من خاصيتها التمثلية بعد أن حولها إلى مجرد سطوح هندسية خالية من الأحداث والوقائع، سطوح سيتم ردها إلى بعدين فقط: البعد العمودي والبعد الأفقي. إنها طبيعة لا تتكلم سوى لغة المربعات وتفتقد كلية بعدها الثابت، أعني بعد العمق. فما يثير المتتبع لمسار موندريان هو اقتران نقد الوظيفة التمثلية عنده بالرغبة في الإطاحة التامة بكل أبعاد العمق والمنظورية.

فرق كبير إذن بين العالم الذي جسدته رسوم النهضة والعالم الذي أصبح يجسده الفن التجريدي. فعلى حين ظل العالم الأول يحلم بتصوير الأجسام في أبعادها الثلاثة وتمثيلها وفق الزوايا التي تسمح بها المنظورية، سيحلم العالم الثاني بموضوعات مسطحة ذات بعدين لا محل فيها لا للعمق ولا للتمثيلية ولا للمنظورية.

مجلة الجابري – العدد الثالث عشر


 الهوامش:

1 – Lettre de René Magritte à Michel Foucault (le 23 Mai 1966), citée in: Michel FoucaultCeci n’est pas une pipeéd. Fata Morgana 1973, p.84.

2 – سنستعمل في هذا المقال كلمة Ä sthetik (Esthétique) بمعنيين مختلفين نسبيا: أولا، بالمعنى الذي أعطاه كانط في (نقد العقل الخالص). ومع أننا لن نعني بها تماما هذا “العلم الذي يبحث في كل المبادئ القبلية التي تخص الحساسية” مثلما هو الحال مع “الحسيات الترنسندتالية”، فإننا نحتفظ لهذه اللفظة بمعناها القديم الذي يقتبسه كانط هو الآخر من بومجارتن Baumgarten، حيث يفيد معنى “منطق الحساسية”. وما يبرر هذا الاستخدام في تقديرنا هو أن فلسفة الفن الألمانية، بتأثير من بومجارتن تحديدا، قد ربطت دوما بين التفكير في الفن والبحث في الحساسية؛ والأمر ليس جديدا مع ذلك لأن أصول هذا التصور تعود إلى الإغريق الذين عنوا بكلمة aisthêticos الفرد الذي يتوفر على ملكة الحس، ونستطيع أن نتبين انعكاسات هذا التقليد الفلسفي عند هيجل الذي يعتبر الجمال الفني نوعا من “التجلي الحسي للفكرة المطلقة”. أما المعنى الثاني الذي سنلجأ إليه فهو المعنى العام والمتداول الذي يفيد “الجماليات” ويهتم بمفهوم “الجمال الفني” رغم أن هذا المعنى الثاني لا ينفي بدوره فكرة “الحساسية”.

3 – ألبرشت ديرير Albrecht Dürer(1471-1528) كان من بين الرسامين الألمان الذين نقلوا قواعد فن النهضة الإيتالية إلى ألمانيا ومن بين العارفين بقواعد المنظورية. فعلاوة على رسومه التي تظهر معرفة كبيرة لتقنيات الرسامين الإيتاليين الكبار (مثل مانتينيا Mantegna)، نجد عنده اهتماما بالتنظير لفن الرسم ولقواعده المنظورية. وربما يعد كتابه (تعليم كيفية القياس) أشهر مؤلفاته.

4 – Cf. Erwin PanofskyLa perspective comme forme symboliquetrad. sous la direction de G.Ballangé, avec la collaboration de Madame Toly, éd. Minuit 1975, pp.37-38.

5 – Définition citée d’après P.Reina in: Marisa Dalai Emiliani, “La question de la perspective” Préface à Panofskyla perspective comme forme symboliquetrad. du préface par J.Ch. Végliante, p.7.

6 – Cf. Panofskyla perspective comme forme symboliqueop.cit., p.39.

7 – لمزيد من التفصيل حول الفرق بين “المنظورية الطبيعية” و”المنظورية الاصطناعية”، انظر:

Robert Klein, “Pomponius Gauricus et son chapitre “de la perspective” “, inLa forme et l’intélligible (Ecrits sur la Renaissance et l’art moderne), éd. Gallimard/coll. Tel 1970, p.242.

8 – Cf. à ce propos, Erwin Panofsky, la Renaissance et ses avant-courriers dans l’art d’Occudent, trad. de l’anglais par L.Verron, édFlammarion/coll.champs-Art 1993, pp.228-229. et: Panofsky, la perspective comme forme symbolique, op.cit, p.153,sq.

9 – Cf. Robert Klein, “Pomponius Gauricus et son chapitre “de la perspective” “, op.cti., p.272 sq.

10 – Cf. Panofsky, la perspective comme forme symboliquep.160 sq.

11 – Cf. HegelEsthétiquetroisième volume, tradS.Jankélévitch, éd. Flammarion/ coll.champs, 1979, pp.218-219 et pp.225-232.

12 – يعبر هيجل هنا عن التقنية التي تم استعمالها منذ عصر النهضة واستمر مفعولها على امتداد فن الرسم الكلاسيكي: أي التقنية التي تلعب على الألوان المضيئة والمظلمة le clair et l’obscur لتوليد درجات البعد والقرب وباقي العلاقات المكانية في ذهن وإدراك المشاهد. وسنرى بأن هذه التقنية لن يضيق مفعولها إلا مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مثلما سنبين ذلك لاحقا.

13 – HegelEsthétiquetroisième volume, op.cit., p.232.

14 – معلوم أن من بين النقاشات الكبرى التي ستستأثر باهتمام فناني عصر النهضة، تلك التي تدور حول المنافسة بين فن الرسم وفن النحت وأحقية كل واحد منهما بتصدر الريادة وكذا الفرق بين فن الرسم وفن المعمار. من هنا سعي بعض رسامي هذه الفترة إلى إعطاء منظورية الرسم استقلالية هندسية عن المنظورية المعمارية. لكن يلزم مع ذلك أن نسجل بأن إقبال الكثير من رسامي القرن الخامس عشر الإيتالي إلى تمثيل الصروح المعمارية في لوحاتهم، يعود إلى استجابة هذه الصروح للمناهج المنظورية القائمة على توازن الأنساق الخطية وقدرتها على توليد أبعاد العمق.

15 – Pierre FrancastelPeinture et société (Naissance et destruction d’un espace plastique, de la Renaissance au cubisme), édK Gallimard/coll. Idées -Arts, 1965, p.15.

16 – لمزيد من التوسع في منظورية ألبرتي وكذا الفرق بينه وبين برونيليتشي، يمكن الرجوع على سبيل المثال إلى المراجع التالية:

E.Panofskyla perspective comme forme symboliqueop.cit, pp.147-150.

E.Panofskyla renaissance et ses avant-courriers dans l’art d’Occidentop.cit., pp.225-230, p.245 et la note 18, pp.280-283.

Robert Klein,“Etudes sur la perspective à la renaissance” inla forme et l’intélligibleop.cit, surtout p.280-285

17 – معلوم أن كانط يميز في (نقد العقل الخالص) بين مجال “التلقائية” الذي يخص الفهم، ومجال “الاستقبالية” الذي يهم الحدوس.

18 – Cf. Ernst Cassirerla philosophie des formes symboliquesT1 (le langage), trad.O.Hansen -Love et J.Lacoste, éd. Minuit 1972, p.28.

19 – Cassirer, Ibid, p.30.

20 – Hubert Damischl’Origine de la perspective, (édRevue et corrigéeà, éd. Flammarion/coll. Champs 1993, pp.75-76.

21 – Merleau-PontyLe visible et l’invisible (notes de travail), texte établi par claude Lefort, éd.Gallimard/coll. Tel 1964, p.265.

22 – Merleau-Ponty, Ibid., p.265.

23 – Merldeau-Pontyla prose du mondetexte établi par C.Lefort, éd. Gallimard/coll.Tel 1969, p.207.

24 – Merleau-Ponty, Ibid., p.207.

25 – هذا ما يوضح لماذا خصص ميرلوبونتي الفصل الأخير من كتابه (نثر العالم) للمقارنة بين المنظورية وبين رسوم الأطفال.

26 – Merleau-Pontyla prose du mondep.211.

27 – Merleau-Ponty, “Le langage indirect et les voix du silence” in Signeséd.Gallimard, 1960, p.63.

28 – لا تخلو قراءة ميرلوبونتي لفن الرسم وللمنظورية من مسحة ثقافية. والشاهد على ذلك هو اطلاعه على كتاب بانوفسكي الخاص بالمنظورية وكذا كتاب فرانكاستيل (فن الرسم والمجتمع) الذي يعتبر تناولا سوسيولوجيا لمفهوم المكان في فن الرسم.

29 – Merleau-Ponty, “Le langage indirect et les voix du silence”, op.cit., p.63.

30 – Blaise PascalPenséestexte établi par L.Brunschvieg, éd. Garnier-Flammarion, 1976, § 381-21, p.155.

31 – Pierre Francastel, Peinture et société, op.cit., p.29.

32 – Cf.Francastel, Ibid., pp.30-32.

33 – Cf. Jean Rousset, “Positions, distances, perspectives dans Salammbô”, in travail de Flaubert (ouv.collectif), éd.Seuil/collPoints 1983, pp.79-92.

34 – Cf.Pierre BoulezPenser la musique aujourd’huiéd. Gallimard/coll. Tel 1987, particulièrement, pp.93-99.

35 – لا نستطيع أن نجزم بأن بيير بوليز Pierre Boulez هو أول من أدخل مفهوم المكان إلى حيز العمل الموسيقي لأن لا أحد يستطيع أن ينفي وجود التقطيعات المكانية في الموسيقا ولا أيضا وجود استعارات طوبولوجية في أعمال سابقة عليه. لكن ما نستطيع التأكيد عليه، على أية حالة، هو أن بوليز هو أول من سينقل فكرة “الأمكنة الملساء” و”الأمكنة المخددة” إلى مجال الموسيقا ليؤسس عليها نظرية مستقلة في الإبداع الموسيقي. وسنعود إلى نفس الفكرة في فن الرسم لنتتبع التصور الذي عرضه لها كل من دولوز Deleuze وغاتاري Guarttari. لكن علينا أيضا أن نشير بأن العوالم الموسيقية التي تفتحها أعمال ودراسات بوليزهي عوالم باروكية، وسيكون من المجدي جدا الوقوف على موضوع “الانكماش” Le pli في فن الرسم الباروكي وعلاقته بالانكماش عند بوليز.

36 – Ernst Cassirerla philosophie des formes symboliquesTome II, op.cit., pp.109-110.

37 – من الواضح أن ما يرمي إليه كاسيرر هو الوقوف على الدلالة الرياضية لمفهوم المكان، وهي دلالة “وظيفية” لا جوهرية: تلك كانت المشكلة الرئيسية التي شغلته في كتاب سابق خصصه لدراسة بنية التفكير في علوم الطبيعة والرياضيات وسماه بالضبط: (مفهوم الجوهر ومفهوم الوظيفة) Substanzbegriff und Funktonsbegriff.

انظر في هذا الصدد الترجمة الفرنسية:

Substance et fonctiontrad.P.Caussat, éd. Minuit 1977.

38 – Cf. Panofskyla renaissance et ses avant-courriers dans l’art d’occidentop.cit., pp.226-227.

39 – لمزيد من التفصيل حول خصائص “المنظورية المنحنية” عند القدامى، يمكن الرجوع إلى:

Panofskyla perspectve comme forme symboliquepp.68-93.

40 – لا أحد يمكن أن يشك اليوم في التأثير الكبير الذي مارسه بول سيزان Paul Cézanne على الانطباعيين وعلى الحركة التعكيبية. وقد لا نبتعد عن جادة الصواب إذا ما نحن أرجعنا أصول الكثير من القضايا التي ما تزال تتداول في الفن التشكيلي المعاصر إلى سيزان. ولسنا نبالغ إذا قلنا بأن بدايات تحطيم المكان النهضوي قد انطلقت معه رغم أن مفهوم المكان لديه ما تزال تتجاذبه إلى حد كبير حركتان: الأولى تميل إلى تقديم رؤية منظورية تقوم على تقنيات استهراب الضوء، والثانية تميل إلى تقديم بناءات هندسية ثابتة للأشكال المرسومة.

41 – حول مساهمة كل من فان كوخ وكوجان في بلورة تمثل مغاير للمكان في رسوم عصر النهضة، يمكن الرجوع إلى:

Pierre FrancastelPeinture et sociétéop.cit., pp. 142-149.

42 – ليس بخاف على أحد أن هذا الاتجاه البصري الأحادي monoculaire، الذي هيمن على طريقة إنتاج اللوحة الفنية منذ عصر النهضة، لم يكتب له الاستمرار فقط في فن الرسم بل امتدت تأثيراته إلى مجالات فنية أخرى، وعلى راسها تقنية التصوير الفوتوغرافي. فمن المعلوم أن التصوير الفوتوغرافي يقوم تقنيا على الإبصار بعين واحدة، وهو ما يدعى عادة: “الرؤية بالعين الواحدة” la vision du cyclope. ولذلك فلن نستغرب إذا ما وجدنا بعض رسامي أواخر القرن التاسع عشر مهتمين بالتفكير في مدى إمكانية توظيف الصورة الفتوتوغرافية لتجسيد المنظورية في فن الرسم. وهذا ما يبين من جهة أخرى بأن الأسس التي يقوم عليها التصوير الفوتوغرافي هي ذاتها نفس الأسس التي كانت تقوم عليها “المنظورية الخطية” La perspective linéaire في عصر النهضة. انظر في هذا الصدد إشارة وجيزة من داميش:

Hubert Damischl’origine de la perspectiveop.cit., pp.110-111.

43 – Jean-Louis Ferrierla forme et le sens (Eléments pour une sociologie de l’art), éd. Denoël/Gonthier, coll.Médiations, 1969, p.41.

44 – انظر تعليق فرانكاستيل على هذا الرسم الذي أنجزه بيكاسو:

Francastel, Peinture et société, op.cit., pp.220-221.

45 – Jean-Louis Ferrierla forme et le sensop.cit., p.42.

46 – Cf. Deleuze et Guattari, “Le lisse et le strié” un Mille plateauxéd.Minuit 1980, pp.592-625.

47 – Deleuze et Guattari, Ibid., p.616.

48 – Cf. Deleuze et Guattari, Ibid, pp.622-624 y comprix note n°35.

49 – فولفلين هو أحد كبار المؤرخين الذين ردوا الاعتبار لأسلوب الباروك من خلال كتابه (النهضة والباروك) Renaissance und Barock. ففي هذا الكتاب، الذي ينم عن قدرة كبيرة على الجمع بين الفلسفة وتاريخ الفن، يبين بأن الفن الباروكي شكل انعطافا جديدا مخالفا إلى حد كبير في مبادئه الاستقيطقية لتلك التي قام عليها الفن في عصر النهضة.

50 – لا ينبغي أن نفهم هذه الملاحظة سوى في السياق الضيق الذي تقتضيه العبارة؛ فكل أنماط الرسم تتعامل من دون شك مع الألوان وتحاول بواسطتها نقل الأحاسيس، ولا نستطيع أن نستثني من هذه القاعدة أي واحد ن هذه الأنماط. غير أن ما نرمي إليه هنا بشكل خاص هو الإشارة إلى ما للألوان من قوة إيحائية في فن الرسم الباروكي. كما تلزم الإشارة إلى أن رسامي عصر النهضة حافظوا على التقابل الصريح بين الألوان المضيئة والألوان المظلمة ضمن ما يعرف بتقنية “المضيء والمظلم” Le clair et l’obscur؛ في حين عمد رسامو العصر الباروكي إلى إزالة الحدود الفعلية بين المضيء والمظلم بحيث يتناقص اللون المضيئ تدريجيا ليتداخل مع المظلم ويتزايد اللون المظلم إضاءة لينصهر في المضيء ضمن حركات ضوئية يحكمها منطق التناقص والتزايد لا منطق التناقض كما كان عليه الحال في عصر النهضة.

51 – Rogger de PilesCours de peinture par principeséd. Gallimard/coll. Tel 1989, p.25.

52 – معلوم أن روجي دو بيل Roger de Piles يسعى في كتابه الآنف الذكر (الذي صدر له سنة 1708) إلى تحديد قواعد الرسم الكلاسيكي. وبالرغم من أن هذا الكتاب قد يعطي الانطباع لمن يجهله بأن الأمر لا يتعدى دروسا مدرسية في القواعد الأولية لممارسة الرسم، فإن قيمته أهم من هذا كله لأن صاحبه لخص القواعد الفنية الكبرى التي قام عليها الرسم في القرن السابع عشر. ولهذا الكتاب أهمية بالغة، ففيه يمكن لمس بعض النقاشات الرئيسية التي حظيت باهتمام المنشغلين بفن الرسم، وعلى رأسها النقاش الذي سيدور بين أنصار محاكاة الطبيعة وأنصار المثال. كما يمكن أن نتبين فيه الصراع بين مدرسة ريبانس Rubens ومدرسة بوسان Poussin.

53 – Roger de PilesCours de peinture par principesop.cit., p.169.

54 – Cf. Roger de Piles, Ibid, pp.19-26.

55 – Paul Cézanne: le 23 October 1905, Correspondance.

56 – Cf. Jacques Derridala vérité en peintureédFalmmarion/coll.champs, 1978, pp.6-14.

57 – Cf.Heidgger, “L’origine de l’oeuvre d’art” in Chemins qui ne mènent nulle parttrad. W.Brokmeier, éd.Gallimard 1962, pp.36-37 et p.61.

58 – cité un Panofsky, la renaissance et ses avant-courriers…, p.225.

59 – على خلاف ما هو معهود، سيلجأ بعض الرسامين السورياليين إلى تصوير “نافذة مغلقة” ليبينوا تعارضهم مع فن الرسم الكلاسيكي. فإذا كان هذا الأخير يثبت نافذة مفتوحة” في فضاء اللوحة حتى يوحي بوجود “لوحة وسط لوحة”، فإن السورياليين سيرمزون بالنافذة المغلقة إلى كل ما يمكن رؤيته مع أننا لا نراه؛ ويعنون بهذا عنصر السر واللغز.

60 – Marcel PaquetRené Magrittela pensée visibleBenedikt Taschen 1993, p.67.

61 – Léonard de Vinci cité un H.Damisch, l’origine de la perspective, op.cit, p.146 etp.148.

62 – لهذا الاعتبار يقارن داميش بين اعتماد تقنية المرآة عند رسامي عصر النهضة وبين “مرحلة المرآة” في التحليل النفسي اللاكاني. وما يسمح له بعقد هذه المقارنة هو أن تجربة المرآة التي بلورها برونيليتشي تجعل “عين” الرسام وكذا “الثقب” الذي منه يتسلل النظر، طرفين منعكسين على سطح المرآة تماما كما هو الشأن بالنسبة للطفل الرضيع الذي يخبرنا لاكان Lacan بأنه “لا يتمثل” ذاتيته إلا عندما يجعل من جسد الأم مرآة تنعكس عليها صورته. انظر:

Damischl’origine de la perspectivepp.143-145.

63 – Cf. Michel Foucaultles mots et les chosesédGallimard 1966, p.21.

64 – Foucault, Ibid, p.29.

65 – هناك أكثر من قراءة للوحة الوصيفات إذا تساءلنا عما عساه يكون هذا الموضوع الذي يقوم بيلاسكيث برسمه على سطح اللوحة المرسومة التي لا يرى منها المشاهد سوى واجهتها الخلفية. فهناك قراءة تعتبر بأن موضوع اللوحة ليس شيئا آخر غير الوصيفات ذاتها. وهذا الاحتمال هو الذي تدافع عنه إليزابيت دو غيترابيي Elizabeth du Guétrapier في دراستها لبيلاسكيث في أواخر الأربعينيات. كما أن هناك قراءة أخرى يفترضها داميش دون تحليلها بتفصيل، معتمدا في هذا على دراسة جون سورل John Searle لنفس اللوحة، ويذهب فيها إلى استلهام نظرية أفعال الكلام Speech acts إذ يعتبر بأن التساؤل يجب أن ينصب لا على “ما تمثله” اللوحة بل على “ما تفعله”؛ وهذا تركيز على “الفعل الإنجازي” l’acte performatif، وكأن بيلاسكيث “يقول” في نفس الآن ما هو بصدد “رؤيته” أو “رسمه”. أما قراءة فوكو، فهي تدافع عن الرأي المتفق عليه من قبل غالبية دارسي هذه اللوحة، إذ يعتبر بأن موضوع اللوحة المخفية عن أنظار المشاهد لا يعدو أن يكون هو الملك فيليب الرابع وزوجته ماريانا.

66 – Foucaultles mots et les chosesp.24.

67 – Marcel Paquet, Magritte, op.cit., p.57.

68 – FoucaultCeci n’est pas une pipeop.cit., p.48.

69 – Cf. à ce propos, Marcel Paquet, Magritte, pp.68-69.

70 – FoucaultCeci n’est pas une pipep.69.

71 – لنفس الاعتبار يميز فوكو في قراءته هاته بين مفهومي la ressemblance, la similitude عند ماجريت. فعلى حين يشير المفهوم الأول إلى قدرات السيمولاكر دونما حاجة إلى الحديث عن التمثل والإحالة، نجد على العكس بأن المفهوم الثاني يرتبط أكثر بمجال التمثل ويظل لصيقا بتاريخ فن الرسم الكلاسيكي. (انظر نفس المرجع: هذا ليس غليونا، صفحات 59-76، وبشكل خاص الصفحة 61).