مجلة حكمة
المظاهر اللغوية للترجمة

المظاهر اللغوية للترجمة – رومان ياكبسون / ترجمة: عبد المجيد جحفة


“لا أحد يمكنه أن يفهم اللفظ “جبن” إذا لم تكن له أولا تجربة غير لغوية مع الجبن”(2)، كما يقول برتراند راسل. غير أننا إذا اتبعنا وصية راسل نفسه، “وركزنا على المظاهر اللغوية للمشاكل الفلسفية التقليدية”، فإننا سنضطر إلى القول إنه ليس بإمكان أي أحد أن يفهم لفظ “جبن” إذا كان لا يعرف المعنى المسند إلى هذه الكلمة في نظام الرموز المعجمي [اللغة العربية]. إن كل ممثل للثقافة المطبخية يجهل الجبن سيفهم لفظ “الجبن” إذا عرف أنه في هذه اللغة يعني هذا اللفظ: “مادة غذائية نحصل عليها عن طريق اختمار الحليب المتخثر”، “وكانت له على الأقل معرفة لغوية “بالاختمار” و”بالحليب المتخثر”. ورغم أننا لم نشرب قط الرحيق [= شراب الآلهة]، وليست لنا سوى تجربة لغوية مع ألفاظ مثل “الرحيق” و”الآلهة” -وهو اسم الكائنات الأسطورية التي كانت تشرب الرحيق، فإننا نفهم هذين اللفظين ونعرف السياقات التي يمكن أن يستعملا فيها.

إن معاني الألفاظ التالية: “جبن”، “تفاح”، رحيق”، معرفة”، “لكن”، “فقط”، أو معنى أي لفظ آخر، أو مجموعة من الألفاظ، واقعة لغوية حتما. ولكي نكون أدق ولا نضيق المعنى، لنقل إنها واقعة سيميائية. ولعل أحسن برهان وأبسطه يمكن أن نقدمه لمن يسند المعنى (المدلول) إلى الشيء نفسه [أي المرجع ذاته ] وليس إلى الدليل، أن نقول إنه لم يسبق لأحدهم أن ذاق ولا شم معنى “الجبن” أو معنى “تفاحة”. إنه لا يوجد مدلول بدون دليل، ولا يمكن أن نستنتج (inférer) معنى لفظ “جبن” من معرفة غير لغوية عن الروكفور أو الكامامبير [وهما نوعان من الجبن ] دون الاعتماد على نظام رموز لفظي. وإذا أردنا أن نفهم لفظا جديدا، من الضروري أن نلجأ إلى سلسلة كاملة من الدلائل اللغوية. إن الاكتفاء بالإشارة بالبنان إلى الشيء الذي يعينه اللفظ لا يخبرنا ما إذا كان “الجبن” هو اسم العينة المعطاة أو اسم علبة من الكامامبير، أو اسم الكامامبير عموما، أو اسم أي نوع من الجبن على الإطلاق، أو أي منتوج حليبي، أو أي طعام، وربما أي علبة، بغض النظر عن محتواها. وفي نهاية المطاف، فهل يشير اللفظ ببساطة إلى الشيء المعني، أم إنه يستلزم فكرة البيع والعرض، وفكرة التحريم أو اللعنة؟ (قد يكون للإشارة بالبنان معنى اللعنة: ففي بعض الثقافات، وخصوصا في إفريقيا، يشير ذلك إلى الشؤم وفأل النحس).

ولا يعدو معنى لفظ ما، عند اللساني كما عند المستعمل العادي للغة، أن يكون ترجمة هذا اللفظ بدليل آخر يمكن أن يحل محله، وبالأخص بدليل آخر “يكون فيه هذا اللفظ أظهر وأوسع بشكل تام”، كما يقول لنا بيرس، أعمق باحث في جوهر الدلائل(3). فقد نستبدل لفظ “أعزب” بتسمية أكثر تصريحا، وهي “شخص غير متزوج”، كلما تطلب الأمر درجة أعلى من الوضوح. ونميز بين ثلاث طرق في تأويل الدليل اللغوي، سواء ترجمنا هذا الدليل بدلائل أخرى في اللغة الواحدة، أو في لغة أخرى، أو في نسق رمزي غير لغوي. وعلينا أن نشير إلى هذه الأشكال الثلاثة من الترجمة بتسميات مختلفة:

1 – الترجمة “داخل اللغة” (intralinguale) أو إعادة الصياغة، وهي تأويل الدلائل اللغوية بواسطة دلائل أخرى من اللغة نفسها. [ويمكن أن نسميها الترجمة الداخلية].

2 – الترجمة “بين اللغات” (interlinguale) أو الترجمة المتعارف عليها، وهي تأويل الدلائل اللغوية بواسطة لغة أخرى. [ويمكن أن نسميها الترجمة البينية].

3 – الترجمة “بين السيميائية” (intersémiotique) أو التحويل، وهي تأويل الدلائل اللغوية بواسطة أنسقة من الدلائل غير اللغوية.

تستخدم الترجمة “الداخلية” للفظ ما لفظا آخر قد يرادفه إلى حد ما، وقد تلجأ إلى المواربة (أو التعبير بالشرح). بيد أن الترادف لا يعني، بوجه عام، التكافؤ التام: فمثلا “كل عانس عازبة، غير أنه ليست كل عازبة عانسا”(*). إن اللفظ أو المجموعة المسكوكة من الألفاظ، أو أي وحدة من وحدات نظام الرموز تنتمي إلى أعلى مستوى من الوحدات المرموزة، لا يمكن أن تؤول بشكل تام إلا بواسطة تأليف من وحدات نظام للرموز يكافئه، أي بواسطة إرسالية تستند إلى هذه الوحدة: “كل عازب شخص غير متزوج، وكل شخص غير متزوج عازب“، أو “كل عانس امرأة كبرت دون أن تتزوج، وكل امرأة كبرت دون أن تتزوج عانس”.

ويصدق الأمر نفسه على الترجمة البينية”، إذ لا يوجد عادة تكافؤ تام بين الوحدات المرموزة، رغم أن الإرساليات قد تستعمل بصورة كافية في تأويل وحدات أو إرساليات أجنبية. إن لفظ “جبن” لا يمكن أن يطابق بصورة تامة مقابله الروسي، وهو “syr“، ذلك أن الجبن الأبيض جبن، غير أنه ليس “syr“. يقول الروسي: “prinesi syru I tvorogu (هاتوا الجبن و(كذا) الجبن الأبيض). ففي اللغة الروسية اليومية لا تسمى المادة الغذائية الناتجة عن تختر الحليب “syr” إلا إذا استعمل في ذلك خمير خاص.

ولكن غالبا ما نستبدل، في الترجمة من لغة إلى أخرى، إرساليات في لغة من اللغات، ليس بوحدات معزولة، وإنما بإرساليات كاملة من اللغة الأخرى. وتعد هذه الترجمة نوعا من الخطاب غير المباشر؛ فالمترجم يعيد الترميز ويعيد نقل إرسالية آتية من مصدر آخر. وبهذا تستلزم الترجمة إرساليتين متكافئتين في نظامين رمزيين مختلفين.

إن التكافؤ في الاختلاف هو المشكل الأساسي في اللغة، وهو الموضوع الرئيسي للسانيات. فاللساني، شأنه شأن كل متلق للإرساليات اللفظية، يقوم بدور المؤول/المترجم لهذه الإرساليات. ولا يمكن لعلم اللغة أن يؤول أي عينة لغوية بدون ترجمة الدلائل التي تكون هذه العينة إلى دلائل أخرى تنتمي إلى النسق نفسه أو إلى نسق آخر. وما أن نقارن بين لغتين حتى يطرح مشكل إمكان ترجمة هذه اللغة إلى لغة أخرى، أو العكس. وعلى علم اللغة أن يركز الاهتمام على الممارسة الموسعة للتواصل “بين اللغات”، وخصوصا على أنشطة الترجمة. ومن الصعب أن نبالغ في تقدير الحاجة الملحة، والأهمية النظرية والتطبيقية للمعاجم المزدوجة اللغة، التي بإمكانها أن تحدد بعناية وبشكل مقارن كل الوحدات المتقابلة، سواء في الماصدق أو المفهوم. كما أنه على الأنحاء المقارنة أن تحدد ما يوحد بين لغتين وما يفرق بينهما من جهة انتقاء التصورات النحوية وحدها.

وتعج الترجمة، ممارسة ونظرية، بالمشاكل المعقدة. وهناك محاولات منتظمة تسعى إلى الحسم في هذه المعضلة، وذلك برفع استحالة الترجمة إلى مرتبة العقيدة. […]. وقد دافع بنيامين لي وورف B.L.Whorf عن المقولة التالية: “الوقائع متباينة في أعين ذوات تزودهم خلفيتهم اللغوية بصياغة مختلفة لهذه الوقائع”(4). خلال السنوات الأولى للثورة الروسية، دعا بعض الحالمين المتعصبين، في المجلات السوفياتية، إلى مراجعة جذرية للغة التقليدية؛ وقد طالبوا بحذف عبارات واضح خداعها، مثل “طلوع” الشمس و”غروبها”. ومع ذلك، فنحن ما زلنا نستعمل هذا التصوير البطليموسي دون أن يستدعي ذلك رفض المذهب الكوبيرنيكي؛ كما يسهل علينا أن ننتقل من حواراتنا اليومية حول الشمس الطالعة أو الغاربة إلى تمثل دوران الأرض، لأنه -بكل بساطة- يمكن لكل دليل أن يترجم إلى دليل آخر يبدو لنا أدق وأكثر تطورا.

تستدعي ملكة التحدث بلغة ما ملكة التحدث عن هذه اللغة. ويسمح هذا النوع من العمليات “الميتالغوية” بمراجعة المفردات المستعملة وإعادة تحديدها. إن نيلس بور N.Bohr هو الذي أبرز التكامل القائم بين هذين المستويين، وهما اللغة/الموضوع والميتالغة (أو اللغة الواصفة): فكل معطى تجريبي محدد بشكل جيد ينبغي أن يعبر عنه في اللغة العادية، “حيث توجد علاقة تكاملية بين الاستعمال التطبيقي لكل لفظ ومحاولة إعطاء تحديد دقيق لهذا اللفظ”(5).

إن كل تجربة معرفية يمكن أن يعبر عنها ويمكن أن تصنف في أي لغة موجودة. وحيثما وجد القصور يتم تعديل المصطلحات وتوسيعها بالاقتراضات والمحاكاة الصوتية والمولدات والنقول الدلالية والمواربات أو التعبير بالشرح. ففي اللغة الأدبية الشابة للشوكسي، في شمال غرب سيبيريا، يسمى “écrou” المسار الذي يدور”، و”الفولاذ” هو “الحديد الصلب”، و”القصدير” هو الحديد الرقيق”، و”الطباشير” هو “الصابون الذي يكتب”، و”الساعة” هي “القلب الممطرق“. وهذا يسري حتى على المواربات التي تبدو متناقضة أو متعارضة، وذلك نحو “electriceskaja konka” (“عربة بحصان كهربائي”)، وهو أول اسم أطلق على الترام بدون أحصنة، أو نحو “jena paragot” (“البخار الطائر”)، أو “koryak” الذي يشير إلى الطائرة. ويشير هذان الأخيران، ببساطة، إلى المقابل الكهربائي في الترام ذي الأحصنة وإلى المقابل الطائر في المركب البخاري.[…] وهذا لا يعوق التواصل ولا يخلق أي تشويش دلالي.

إن غياب بعض الإجراءات النحوية في اللغة الهدف (المترجم إليها) لا يحول دون الترجمة الحرفية لمجموع المعلومات التصورية المتضمنة في اللغة الأصل.[…] وإذا لم توجد مقولة نحوية في لغة ما، فإن معناها يمكن أن يترجم في هذه اللغة اعتمادا على وسائل معجمية. فأشكال المثنى الموجودة في الروسية القديمة، مثل “brata” ستترجم إلى الفرنسية من خلال إدراج العدد، فنقول “deux frères” (“أخوان”). ويصعب أن نخلص للأصل حين نريد أن نترجم إلى لغة تتوفر على مقولة نحوية معنوية معينة من لغة لا تملك هذه المقولة. فإذا أردنا أن نترجم الجملة الفرنسية التالية: “Elle a des frères” إلى لغة تميز بين المثنى والجمع [مثل اللغة العربية الفصيحة]، فنحن مضطرون إلى الاختيار بين اقتراحين: “لها أخوان: أو “لها أكثر من أخوين”، أو نترك القرار للمتلقي فنقول “لها أخوان أو أكثر من أخوين”. والشيء نفسه يحصل عندما نترجم من لغة لا تملك العدد النحوي؛ فإذا كنا نترجم إلى الفرنسية، مثلا، فنحن مضطرون إلى الاختيار بين أحد هذين الإمكانين: “frère” أو “frères” (“أخ” أو “إخوان”)، أو نقدم لمتلقي الإرسالية اختيارا ثنائيا: “لها إما أخ أو أكثر من أخ”.

إن النسق النحوي للغة ما (في مقابل مخزونها المعجمي) يحدد، كما لاحظ بواس Boas بلك دقة، المظاهر الموجودة في كل تجربة، هذه المظاهر التي ينبغي أن يعبر عنها ضرورة في اللغة المعنية: “علينا أن نختار بين هذه المظاهر، وعلينا أن نختار أحدها دون الآخر”(6). فالروسي، لكي يترجم بشكل صحيح الجملة الإنجليزية التالية: “I hired a worker” (“عينت عاملا/عاملة”)، يحتاج إلى معلومات إضافية -هل كان هذا النشاط تاما أم لا، وهل كان العامل رجلا أم امرأة؟-ذلك أنه عليه أن يختار بين الجهة التامة والجهة غير التامة في الفعل: “nanjal” أو “nanimal“، وبين الاسم المذكور والاسم المؤنث “rabotnika” و”rabotnicu” (عاملة أو عامل). وإذا كان لي أن أسأل الإنجليزي الذي تلفظ بالجملة أعلاه هل الشخص المعني رجل أو امرأة، فإنه قد يحكم على سؤالي بأنه سؤال غير وارد أو إنه صادر عن فضولي. أما الصياغة الروسية لهذه الجملة فالجواب فيها على هذا السؤال إجباري. ومن جهة أخرى، ومهما كانت الأشكال النحوية الروسية التي نختارها لترجمة هذه الإرسالية الإنجليزية، فالترجمة لن تجيب عما إذا كانت جهة الفعل تامة أم غير تامة، أو عما إذا كان العامل (أو العاملة) معرفة أو نكرة. ولأن المعلومة التي يتطلبها النسقان النحويان للروسية والإنجليزية متباينة، فإننا سنواجه مجموعات مختلفة جدا من الاختيارات الثنائية. ولذا، فإن الترجمات المتتالية للجملة نفسها معزولة من الإنجليزية إلى الروسية، أو العكس، يمكن أن يضيع نهائيا المحتوى الأصلي لهذه الإرسالية. وقد كان اللساني الجنيفي كارسيفسكي S.Karcevski يقارن هذا الضياع التدريجي بسلسلة دائرية من عمليات الصرف غير الملائمة [بحيث نصرف العملة بعملة أخرى فنخسر في كل مرة]. لكن، بالطبع، كلما كان سياق الإرسالية غنيا، كان ضياع المعلومات محدودا.

تختلف اللغات أساسا فيما يجب أن تعبر عنه، وليس فيما يمكن أن تعبر عنه. ففي لغة ما، يستدعي كل فعل بالضرورة مجموعة من الاختيارات الثنائية الخاصة به: هل سيرورة الملفوظ تتصور مع الإحالة على إنجازه أو بدون ذلك؟ هل تقدم سيرورة الملفوظ باعتبارها سابقة على سيرورة التلفظ أو لا؟ وبالطبع، فانتباه المتكلمين والسامعين أصحاب هذه اللغة سيركز باستمرار على الأبواب التي تعد إجبارية في نظام رموزهم.

ترتبط اللغة بصورة ضعيفة، من حيث وظيفتها المعرفية، بالنسق النحوي؛ ذلك أن تجربتنا تحدد في إطار علاقة تكاملية مع العمليات الميتالغوية. فالجانب المعرفي للغة لا يقبل التأويل بواسطة أنظمة رموز أخرى فحسب، بل إنه يتطلب ذلك. إنه يتطلب إعادة الترميز، أي الترجمة. إن افتراض وجود معطيات معرفية لا توصف أولا تترجم سيعتبر تناقضا في التعبير. بيد أنه، في الدعابة والأحلام والسحر -أي فيما يمكن أن نسميه الميثولوجيا اللغوية التي نعيش بها يوميا، وفي الشعر قبل كل شيء- للمقولات النحوية حمولة دلالية عالية. وهنا تتعقد مسألة الترجمة وتفتح باب النقاش على مصراعيه.

فحتى مقولة الجنس اللغوي (التذكير/التأنيث)، التي عدت غالبا مقولة صورية صرف، تلعب دورا كبيرا في المواقف الميثولوجية لعشيرة لغوية ما. ففي الروسية، لا يمكن للمؤنث أن يشير إلى شخص من جنس ذكر، والمذكر لا يمكن أن يخصص شخصا بوصفه ينتمي بشكل مخصوص إلى جنس المؤنث. إن طريقة شخصنة الأسماء غير الحية، أو تأويلها مجازيا، تتأثر بجنس هذه الأسماء. وقد بين زائر أقيم في معهد علم النفس بموسكو سنة 1915، أن بعض الروسيين، الذين ينزعون إلى شخصنة أيام الأسبوع، كانوا يجعلون أيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء كائنات ذكورا، فيما كانوا يعتبرون أيام الخميس والجمعة والسبت كائنات إناثا؛ ولم يكونوا ينتبهون إلى أن هذا التوزيع يرجع إلى جنس المذكر في الأسماء الثلاثة الأولى (ponedel’niknvtornikcetverg) الذي يقابل جنس المؤنث في الأسماء الثلاثة الأخرى (sredapjatnicasubbota).وتذكير الكلمة التي تشير إلى الجمعة، في بعض اللغات السلافية وتأنيثها في البعض الآخر، يجد صداه في التقاليد الشعبية لأهل هذه اللغات، بحيث تختلف في طقس الجمعة. فالتطير المنتشر في روسيا، والذي يقول إنه إذا سقط سكين قدم ضيف وإذا سقطت شوكة قدمت ضيفة، يحدده جنس المذكر الذي في “noz” (سكين) وجنس المؤنث الذي في “vilka” (شوكة) في اللغة الروسية. وفي اللغات السلافية، كما في لغات أخرى، حيث “النهار” مذكر و”الليل” مؤنث، يصور الشعراء النهار عشيقا لليل. وقد كان الرسام الروسي ريبان Repin حائرا إزاء رسم الفنانين الألمانيين الخطيئة على شكل امرأة: فلم يكن يعرف أن الخطيئة مؤنث في الألمانية (die Sünde)، ومذكر في الروسية(grex). وهذا ما حصل لطفل روسي قرأ حكايات ألمانية مترجمة؛ فقد ذهل حين اكتشف أن “الموت”، وهي امرأة بداهة (لأن الكلمة الروسية بالمقابلة مؤنث (smert’)، يمثلها رجل عجوز (لأن الكلمة الألمانية مذكر (der Tod). كما أن “أختي الحياة”، وهو عنوان ديوان شعري لبوريس باستيرناك Boris Pasternak، يشكل شيئا طبيعيا في اللغة الروسية، حيث “حياة” مؤنث (zizn)؛ غير أن هذا الأمر خيب آمال الشاعر التشيكي جوزيف هورا Josef Hora الذي حاول ترجمة هذه الأشعار، ذلك أن هذا الاسم مذكر في اللغة التشيكية (zivol).

إنه لغريب أن تكون أول مشكلة طرحها الأدب السلافي في بداياته هي بالضبط تلك الصعوبة التي استشعرها المترجم في التعبير عن رمزية الجنسين (المذكر والمؤنث)، وعدم ورود هذه الصعوبة من الناحية المعرفية: وهذا بالفعل هو الموضوع الرئيسي لأقدم عمل سلافي أصلي، ونعني مقدمة الترجمة الأولى لكتاب “جامع الأناجيل”، التي كتبها بعيد سنة 860 مؤسس الآداب وعلم الطقوس السلافي، كونستونتان الفيلسوف، والتي صوبها وأولها مؤخرا أندري فايان A.Vaillant(7). “إن الإغريقية، حين تترجم إلى لغة أخرى، لا يمكنها أن تنقل دائما بصورة مماثلة، وهذا ما يحصل لكل لغة حين نترجمها”، يقول هذا الرسول السلافي. “فالاسمان “potamos” (نهر) و”aster” (نجم) مذكران في الإغريقية، إلا أنهما مؤنثان في لغة أخرى، مثلما هو حال الكلمتين “reka” و “zvevda” في السلافية“. إن هذا الاختلاف، يقول فايان، يمحو التطابق الرمزي بين الأنهار والشياطين وبين النجوم والملائكة في الترجمة السلافية لآيتين من آيات ماتيو (9 :2 و25 :7). غير أن القديس كونستونتان يقارن هذا العائق الشعري بمبدأ دينس لا يروباجيت Dénis l’Aéropagite الذي يقول إنه ينبغي أن نحرص أولا على القيم المعرفية (sile ramuzu)، وليس على الألفاظ ذاتها.

في الشعر، ترقى المعادلات اللفظية إلى مرتبة المبدأ البنائي للنص. وتتواجه المقولات التركيبية والصرفية والجذور واللواصق والفونيمات ومكوناتها (السمات المميزة) -أي كل مكونات نظام الرموز اللغوي، وتقارب بعضها وتدخل في علاقة جوار تبعا لمبدأ المشابهة والتناقض، وتنقل بذلك معنى خاصا. ونحس بالمشابهة الصوتية كما لو كانت قرابة دلالية. فاللعب بالكلمات -أو الجناس اللفظي، حتى نستعمل مصطلحا متخصصا وأدق في نظري- يهيمن على الفن الشعري؛ وسواء كانت هذه الهيمنة مطلقة أو محدودة، فإن الشعر أصلا غير قابل للترجمة. وما هو ممكن هو التحويل الخلاق: تحويل داخل اللغة، تحويل شكل شعري إلى آخر، تحويل لغة إلى أخرى؛ إنه، أخيرا، تحويل “بين سيميائي” من نسق من الدلائل إلى نسق آخر، من فن اللغة مثلا إلى الموسيقى، إلى الرقص، إلى السينما، إلى الرسم.

وإذا كان علينا أن نترجم الصيغة التقليدية الإيطالية التي تقول “Traduttoretraditore” إلى العبارة العربية التالية “المترجم خائن”، فإننا سنجردها من قيمتها الجناسية. وهذا قد يجبرنا على اتخاذ موقف معرفي يضطرنا إلى استبدال هذا القول المأثور بقضية أوضح، وإلى الإجابة عن السؤالين التاليين: مترجم لأية إرساليات؟ وخائن لأية قيم؟

مجلة الجابري – العدد العاشر


الهوامش

1 – صدر هذا المقال باللغة الإنجليزية سنة 1959 ضمن كتاب بروير، عن الترجمة، ص ص 232-239 (R.A.Brower, “On Translation”, Harvard University Press). (ونعتمد في هذه الترجمة العربية النص الموجود في كتاب “دراسات في اللسانيات العامة” (R.Jakobson, “Essais de linguistique générale“, Editions de Minuit, 1963)، الفصل الرابع،ص ص 78-86، المترجم).

2 – برتراند راسل، الوضعية المنطقية، ص 3 .

(B.Russell, “Logical Positivism“, Revue Internationale de Philosophie, IV, 1950, 18).

3 – انظر جون ديوي، نظرية بيرس حول الدلائل اللغوية، والفكر، والمعنى”

J.Dewey, “Peirce’s Theory of Linguistic Signs, Thought, and Meaning”, The Journal of Philosophy, XVIII, 1946, 91.

4 – بنيامين لي وورف، “اللغة والفكر والحقيقة”، ص 235.

(B.L.Whorf, “Language, thought and Reality“, Cambridge, Mass, 1956.)

5 – نيلس بور، “عن مفهومي السببية والتكامل”

(N.Bohr, “On the Notions of Causality and Complementarity”, Dialectica, I, 1948.)

6 – انظر فرانز بواس، “اللغة” (Franz Boas, “Language“, General Anthropology, Boston, 1948.)

7 – أندري فايان: “مقدمة جامع الأناجيل السلافي القديم”

(A.Vaillant, “La Préface de l’Evangéline vieux-slave“, Revue des Etudes Slavesn XXIV, 1948).

(*) المثال الذي يعطيه ياكبسون هو: “Tout vieux garçon est célibatairemais tout célibataire n’est pas vieux garçon“. ولا تعبر اللغة العربية، حسب علمي، بلفظ واحد عن الرجل الذي شاخ ولم يتزوج، وهو ما تسمية الفرنسية “vieux garçon“. وقد واجهنا، في ترجمتنا لهذه المثال، المشكل ذاته الذي يناقشه ياكبسون أسفله، ونعني مشكل الجنس (التذكير والتأنيث) في الترجمة. فقد لجأنا إلى جنس المؤنث (= عانس)، والمثال في النص يسوق جنس المذكر (المترجم).