مجلة حكمة
المجتمع في ضوء الشريعة الإسلامية

المجتمع في ضوء الشريعة الإسلامية: المقاصد والوسائل – إدريس حمادي


المجتمع في ضوء الشريعة الإسلامية

يمكن أن ننطلق في هذه المساهمة من حقيقة يظهر أنها مسلمة وهي: لا مجتمع يحيا حياة كريمة بدون أهداف تشده إليها، ولا أهداف تنزل من عالم التجريد إلى العالم المحسوس بدون وسائل. والمجتمع إن ضاعت منه أهدافه ضل طريقه وتعثر في سلوكه وأصيب بالحيرة والقلق والإحباط، كذلك إن هو ضاعت منه وسائله تصبح أهدافه عبارة أن أحلام يقظة لا أكثر ولا أقل.

من هذا المنطلق كانت هذه المحاولة المتواضعة التي تسعى للبحث في مقاصد الشريعة الإسلامية ووسائلها المفضية إليها. وأول شيء نبدأ به الحديث عن المقاصد هو:

أن الشريعة الإسلامية لما كانت عبارة عن أحكام تكليفية وأخرى وضعية، وكانت هذه الأحكام لا تنفك عن مقاصدها التي من أجلها شرعت، لأنه من غير المعقول أن يكلف المخاطب بأعمال لا تستهدف منها أية غاية كان من المعقول جدا أن يبحث الفقهاء في تحديد المقصد الشرعي من كل حكم، وفي المقصد الشرعي من أحكام كل باب من أبواب الفقه، وفي المقصد الأسمى من الخطاب الشرعي كله، ثم في تناسب أقسام هذه المقاصد بعضها مع البعض الآخر ليكون ذلك التكامل والانسجام بين الأقسام الثلاثة: الجزئي منها في خدمة الخاص، والخاص في خدمة الكلي، والكلي في خدمة الجزئي والخاص، والكل في خدمة الإنسان دنيا وأخرى “من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة”(1).

وإذا كانت الضرورة تفرض الاقتصار على أحد هذه الأقسام فإنه لن يكون غير المقصد الكلي، باعتباره المقصد الذي من شأنه أن يكفل للباحث والسامع الإشراف على أحكام الشريعة بكاملها: عبادات، ومناكحات، ومعاملات، وعقوبات.

انطلاقا من كل ذلك نقول: إن من الفقهاء من رأى أن المقصد الأسمى من الخطاب الشرعي يتحدد في سعادة البشرية دنيا وأخرى “الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم”(2).

ورآه آخرون في وحدة البشرية(3) أو على الأصح وحدة الأمة الإسلامية القائمة على وحدة في المشاعر والأحاسيس بأنا إخوة بحكم الإسلام، وعلى وحدة ثقافية ولغوية واجتماعية تجمع بين المشاعر والأحاسيس، وعلى ألا يكون من إقليم إسلامي حرب على إقليم آخر أيا كانت أساليب الحرب بالاقتصاد أم بالسيف. ورأى آخرون أنه يتجلى في العدل بين الناس لأن إقامة العدل هي الغاية من بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط”(4).

كما رأى آخرون(5) أن المقاصد لا تخرج عن تحقيق المصالح البشرية دنيا وأخرى مستدلا على ذلك بأن الفقهاء أجمعين قرروا: أن الأحكام الشرعية هي وعاء المصالح الحقيقية، وأنه لا حكم جاء به الإسلام وفيه مصلحة لبني الإنسان، وقد ضبطت هذه المصالح في المحافظة على الأصول الخمسة: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وزاد بعضهم أصلا سادسا وهو المحافظة على العرض.

ونحن إذ نتأمل في هذه المقاصد التي عددناها نجد أن بينها علاقة تصاعد وارتقاء(6) فسعادة البشرية في حياتها دنيا وأخرى مقصد لا شك أعلى، ولكن هذا المقصد لا يتحقق إلا عن طريق وحدة الأمة في عقيدتها وثقافتها ولغتها، والوحدة لا تتحقق إلا من طريق العدل، والعدل لا يأخذ بعده الواقعي إلا ضمن مصالح يحققها للناس أفرادا وجماعات، وبذلك يتضح أن من تحدث عن سعادة البشرية دنيا وأخرى طوى المراحل التي ترتكز عليها هذه السعادة ولم ينظر إلا إلى الثمرة التي هي نتيجة لما قبلها، والذين تحدثوا عن المصالح رأوا فيها القاعدة الكبرى التي ينبني عليها كل ما عداها من الأهداف التي ذكرت، بل يذكر إمام الحرمين، أنا إذ نتأمل في المقاصد الكلية في القضايا الشرعية نجد: “أن مضمونها دعاء إلى مكارم الأخلاق ندبا واستحبابا وحتما، وإيجابا، والزجر عن الفواحش وما يخالف المعالي تحريما وحظرا، وكراهية تبين عيافة وحجرا، وإباحة تغني عن الفواحش، كإباحة النكاح المغني عن السفاح، أو تعين على الطاعة، وتعضد أسباب القوة والاستطاعة”(7).

-هذا عن المقاصد أما عن الوسائل المفضية إليها فيمكن القول: إن الشريعة لما كانت عبارة عن أحكام تكليفية وأخرى وضعية تستهدف مقاصد معينة، وكانت هذه الأحكام والمقاصد عبارة عن خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا، بات لزاما أن نتحدث عن هذا الإنسان أو عن هذا الفعل الإنساني الذي تنضاف إليه هذه الأحكام وترتبط به، ليعطيها هو بعدها الوجودي في الواقع، كما تعطيه هي بعده الإنساني في هذه الحياة وأول شيء نبدأ به الحديث عن هذا الإنسان هو ما تعبر عنه هذه الآية الكريمة “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها”(8) بالتأمل البسيط في الآية ندرك أنها تقرر سنة إلهية ثابتة هي أن كل نفس إنسانية لها استعدادات للخير والشر، وأن الإنسان هو الذي يرتقي بها، بالإرادة الفردية والإرادة الجماعية إلى حيث يصبح المجتمع نموذجا، أو ينزل بها إلى حيث تصبح لا فرق بينها وبين الحيوانات العجماء “إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا”(9)، ذلك لأن التزكية “عبارة عن التطهير أو عن الإنماء”(10) أو هي بعبارة أخرى، الخروج بالنفس الإنسانية من دائرة الإحساس بالفردية والأنانية وعبادة الذات على سائر المستويات: إن على مستوى التطاول والبغي وإذاية الناس وأكل أموالهم بالباطل، أو على مستوى الجري وراء الملذات وما أكثرها… إلى التصور بأنها لبنة في بناء مجتمع كبير يقوم على الفضل والاتجاه إلى الله تعالى(11).

والتدسية أو التدسيس، أصل دسّىدسّس فأبدلت إحدى السينات ياء – إخفاء الشيء في الشيء، كالمنافق يدس نفسه في جملة الصالحين وليس هو منهم، أو الفاجر يدس نفسه في الفجور بمواظبته عليه ومجالسته مع أهله، أو هي بعبارة النزول بالنفس الإنسانية إلى حيث تصبح الأهواء هي القائد والمسيطر والمهندس للمسار الذي تتحرك فيه.

غاية من يزكي نفسه هو خلق مجتمع نظيف نموذجي يصدق عليه قوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله”(12).

وغاية من يدسّي نفسه هو بعبادة الأهواء لا أقل ولا أكثر “وكذبوا واتبعوا أهواءهم”(13)، “أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون”(14).

-لكن الإشكال المطروح هو كيف يرتقي الإنسان بنفسه ويسمو بأفعاله ليحقق ذلك المجتمع النظيف الذي بدونه لا تحقق خلافته في الأرض ولا تتحقق سعادته في الدارين؟

إنه إذا كان أهم ما يميز النفس الإنسانية يرجع إلى ثلاث قدرات: قدرة الفكر، وقدرة الإرادة، وقدرة الاستطاعة، إذ بوجودها ولو في بعدها العادي يكون الإنسان مكلفا وبانعدامها أو انعدام بعضها يصبح غير مكلف، نظرا “لأن كل عمل اختياري… لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم وإرادة وقدرة(15) فإن الاهتمام بهذه القدرات في النفس الإنسانية وتعهدها بالرعاية يعتبر لا شك ارتقاء بالنفس الإنسانية وسموا بها وتأهيلا لها لخلق ذلك المجتمع النظيف، كما أن إهمال هذه القدرات في النفس الإنسانية أو تعهدها بالرعاية ولكن لا في ظل أهداف وحدوية بل في ظل أهداف فردية أنانية تنعكس على الفرد ولا تتجاوزه إلى المجتمع، يعتبر لاشك من تدسية النفس التي تفضي حتما إلى تفكك المجتمع وتخريب بنياته الأساسية التي يقوم عليها، تلك حقيقة أولى.

والحقيقة الثانية أن الذي يتولى عملية الارتقاء بالنفس الإنسانية هو الإنسان نفسه، الإنسان كفرد ومجتمع. قررنا هذه الحقيقة انطلاقا من الآية ذاتها “قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها” لأن الإرادة الإنسانية سواء منها الفردية أو الجماعية ملحوظة في الآية، إذ أن “من” كما تستعمل في الواحد والاثنين تستعمل في الجمع، وكما تستعمل في المذكر تستعمل في المؤنث، والقرينة هي التي تحدد المدلول، وحيث كان المنطق التشريعي وفلسفته يأخذ بعين الاعتبار الإرادة الفردية والإرادة الجماعية على الإرادة الفردية، فإننا نفسر النص بهذا التفسير إذ لا تصادم بين الإرادتين بل التعاون هو المطلوب.

انطلاقا من هذه الحقيقة لا يبقى المجال مفتوحا أمام من يجعل الإنسان الفرد هو كل شيء والبيئة أو المجتمع لا شيء، أو من يجعل البيئة والمجتمع هو كل شيء والفرد لا شيء، ولكنه يفتح أمام من يأخذ العصا من الوسط فيأخذ بعين الاعتبار الإرادتين معا، ويعتبر أن عملية الارتقاء بالنفس الإنسانية لتحقيق خلافة الإنساني في الأرض عملية يساهم فيها الفرد والمجتمع معا، لأن العلاقة المتداخلة بين الفرد والمجتمع تجعل كل واحد من الطرفين معلما ومتعلما.

-بعد هذا نعود إلى الإشكال المطروح: كيف يرتقي الإنسان بقدرات النفس الإنسانية ليحقق المجتمع النموذجي من المنظور الإسلامي؟ أو بعبارة أخرى ما هي الوسائل التي حددتها الشريعة الإسلامية لهذا الارتقاء فكريا وإراديا وعمليا؟

-أما من جانب الفكر الذي يقود باقي القدرات ويهندس المسار إليها ويرسم الطريق، فيرى العلماء أن الارتقاء به لا يكون إلا بوقايته أولا من كل ما من شأنه أن يفسد استعداداته الفطرية والمكتسبة، أو يعرقل نموها الطبيعي والمكتسبي، كتعاطي الخمر والمخدرات مثلا… وثانيا بتنمية تلك القدرات والاستعدادات عن طريق التعلم والمدارسة: مدارسة الخطاب الشرعي مع ما يتبعه من شروح، إذ من طريقه نعرف مقاصد الشرع التي لا سبيل لتحققها في الواقع الخارجي إلا إذا أخذ الخطاب حظه من التحقق والوجود في عقل الإنسان وقلبه.

وإذ ندرس الخطاب نجد أيضا أنه يحث على مدارسة الكون وقوانينه الناظمة للوجود… والنفس الإنسانية ومجاهيلها… إذ عن طريقهما يعرف الحق سبحانه رب الخطاب “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد”(16)، “إن خلق السموات والأرض واختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب”(17). كما نجد أيضا أنه يحث على مدارسة التاريخ لأخذ العبر والعظات لينتهج النهج الأمثل “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب”(18)، لأن التاريخ عبارة عن مواضيع متكاملة منتقاة، عن طريقها “يتتبع تطور التاريخ الإنساني وتطور المعارف في النبوات والتشريع في الرسالات، أي كيف تفاعل الإنساني مع القانون العام للوجود… وكيف تفاعل مع الرسالات من جهة أخرى”(19). وبذلك كله تحصل له المعرفة بالخطاب وبأمهات المعارف التي عن طريقها يتم لمس الحقائق والتعرف على الواقع، فتستقيم له الحياة دنيا وأخرى.

لكن هل في استطاعة الإنسان كفرد أن يقوم بتحمل هذه المسؤولية، مسؤولية الارتقاء بفكره عن طريق استيعاب مضامين الخطاب الشرعي واستيعاب المعارف العليا؟

قلنا من قبل، إن تزكية الإنسان أو تأهيل نفسه فكرا وإرادة وعملا، مسؤولية يتحملها الفرد ذاته والمجتمع الذي يضمه إذ عن طريقهما معا يتم الارتقاء بالمجتمع الإنساني، ولذلك نجد الفقهاء يقررون بالنسبة للفرد وجوب الأحكام الشرعية وجوبا عينيا، قال الإمام القرافي رحمة الله عليه: “أفتى أصحابنا رحمهم الله بأن العلم على قسمين: فرض عين وفرض كفاية، وحكى الشافعي في رسالته، والغزالي في إحياء علوم الدين الإجماع على ذلك”(20) ثم يضرب مثالا برجل أسلم ودخل عليه وقت الصلاة فيجب عليه أن يتعلم الوضوء والصلاة، فإن أراد أن يشتري طعاما لغذائه وجب عليه أن يتعلم ما يعتمده في ذلك، وكذلك إن هو أراد أن يتزوج، أو أراد أن يؤدي شهادة وجب عليه أن يتعلم شروط التحمل والأداء ثم يقول: “فعلى هذا لا ينحصر فرض العين في العبادات ولا في باب من أبواب الفقه كما يعتقده كثير من الأغبياء، وعلى هذا القسم يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” فمن توجهت عليه حالة فعلم وعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله طاعتين، ومن لم يعلم ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين، ومن علم ولم يعمل فقد أطاع الله طاعة وعصاه معصية…”

وأما فرض الكفاية وهو العلم الذي لا يتعلق بحالة الإنسان، وإنما يتعلق بحالة الأمة أي بمصالحها العامة، فهو المتعين عليها ليكون فيها طائفة متفقهين وقدوة للمسلمين، غير أن وجوبه على الأمة كافة لا يعني إعفاء الأفراد من تحمل مسؤولياتهم، بل المسؤولية موزعة على الجميع أفرادا وجماعات، ولذلك قالوا: إن الخطاب في قول الله تعالى مثلا: ” فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”(21)، كما هو موجه إلى كل فرد فرد من أفراد الأمة بتنمية استعداداته الفكرية هو موجه في الوقت ذاته إلى الأمة كافة بتهيئة الظروف والأسباب التي تساعد على التنمية والوقاية من الهدم. وذلك إنما يكون بدعم طالب العلم وتأييده ومباركة عمله، بل إجباره على القيام بعمله إن هو لم يقم، وكان مؤهلا لذلك، ثم فسح المجال أمامه للاشتغال وتوظيف معارفه في رقي المجتمع، وبذلك تكون الفروض الكفائية موزعة على الطوائف والآحاد. وهذا ما يصرح به الإمام الشاطبي في قوله: “إنه واجب على الجميع، لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطالبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون -وإن لم يقدروا عليها- قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام به. فالقادر إذن مطلوب بإقامة الغرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر، إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به(22).

ويوضح الإمام الشاطبي أيضا كيف تصنع الأمة رقيها وحضارتها بتكاثر الفروض الكفائية فيها عن طريق تربية أبنائها وتوجيههم لمختلف أنواع المعارف وذلك:

بتنمية استعدادات الإنسان الفطرية عن طريق التعلم والتعليم -بفتح مختلف التخصصات لتستوعب كافة الاستعدادات المختلفة في الإنسان: مثل العلوم الشرعية، واللغوية، والعلوم التجريبية، والصناعات، والجندية، والرياضة البدنية -بفتح المجال أمام الطالب للسير قدما في الدراسة إلى النهاية التي هو مستعد لها- بتشغيله وإيجاد العمل له حيثما وقف عن السير وعجز عنه لأنه “قد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة”.

يقول الإمام الشاطبي في هذا الذي أجملناه “فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما تستجلب به المصالح وتدرأ به المفاسد، لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح -كان ذلك من قبيل الأفعال أو الأقوال أو العلوم والاعتقادات، أو الآداب الشرعية أو العادية- وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه، وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال فيظهر فيه، وعليه، ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يتهيأ تلك التهيئة… فترى واحدا منهم قد تهيأ لطلب العلم، وآخر لطلب الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها وآخر للصراع والنطاح إلى سائر الأمور… وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم، لأنه سير أولا في طريق مشترك، فحيث وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة، وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في الفروض الكفائية وفي التي ينذر من يصل إليها كالاجتهاد في الشريعة والإمارة، فبذلك تستقيم أحوال الدنيا والآخرة.

فأنت ترى أن الترقي في طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد، ولا هو على الكافة بإطلاق ولا على البعض بإطلاق، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل ولا بالعكس، بل لا يصح أن ينظر فيه نظر واحد حتى يصل بنحو من هذا التفصيل، ويوزع في أهل الإسلام بمثل هذا التوزيع، وإلا لم ينضبط القول فيه بوجه من الوجوه والله أعلم وأحكم”(23).

-هذا من جانب الفكر. وأما من جانب الإرادة التي هي “نزوع النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو يفعل”(24) أو هي صفة تقتضي “اختصاص المفعول بوجه دون وجه إذ لولا الإرادة لوقعت المفعولات كلها في وقت واحد وعلى هيئة واحدة وصفة واحدة خصوصا عند تجانس المفعولات(25)، أو هي عبارة عن القصد إلى الشيء والاتجاه إليه(26) فإن الارتقاء بها يتم من طريقين: طريق الفكر، وطريق العمل، باعتبارها “صفة للقلب يكتنفها أمران: علم وعمل، العلم يتقدمه لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه لأنه ثمرته وفرعه”(27)، بواسطة القدرة الفكرية تتم الموازنة بين ما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، أو بين ما ينبغي أن يتجه القصد إليه وبين ما لا ينبغي، وبواسطة القدرة العملية يتم تنفيذ ما تم القصد إليه، إذ القدرة تابعة للإرادة وخادمة لها، وبواسطة الإرادة يتم النزوع والطلب والاختيار، وكلما كان الفكر راقيا كانت الإرادة قادرة على التخلص من الحيرة والاضطراب، مثلما تكون قادرة على التخلص من الخمول والكسل، إن هي قد تعودت على الفعل وممارسته.

وإذا كنا قد تحدثنا من قبل عما يتم به ارتقاء الإنسان من جانبه الفكري الذي يفضي بالضرورة إلى الارتقاء الإرادي فإننا هنا سنتحدث عما يخدم الإرادة ويخرج بها إلى العالم المحسوس. إن صياغة الإنسان القوي الإرادة، القادر على الاختيار في كل ميادين الحياة، يتم بالانتقال به مما هو “ضروري وهي إرادة إرادات الأفعال الكسبية” إلى ما هو “كسبي منها وهي التخلق بكل إرادة حثك الشرع عليها أو ندبك إليها كإرادة الطاعات كلها والعبادات بأسرها، وإخلاصها وإرادة التقرب بها إما خوفا من عقاب الله أو رجاء لثوابه أو حياء منه أو محبة أو مهابة أن تتأخر عن طاعاته أو تتلبس بمخالفته”(28). وذلك في منطق الشرع إنما يتم عن طريق التدرج في كل شيء، وسأبرز هذا القانون السلوكي من خلال هذه القاعدة الكلية التي يتوزع إليها ديننا كله وهي: من الإسلام إلى الإحسان مرورا بالإيمان، بناء على أن “الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان ويليه الإسلام”(29).

أما الإسلام فقد حدده الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: “الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتوتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا”(30).

وأما الإيمان فقد شخصه الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الكلمات الجامعة، فقال: “الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره”(31). وقال: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”(32)، وقال: “أفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا”(33). وقيل للحسن البصري: ما حسن الخلق؟ قال بذل الندى وكف الأذى وطلاقة الوجه”(34).

بالإضافة إلى ذلك، فقد وازن الرسول عليه الصلاة والسلام بين الإسلام والإيمان بعد أن سئل: “ما الإسلام؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام، قيل: فما الإيمان؟ قال: السماحة والصبر، قيل: فمن أفضل المسلمين إسلاما؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. قيل: فمن أفضل المؤمنين إيمانا؟ قال أحسنهم خلقا”(35).

وبذلك كله يظهر أن الإسلامي عبارة عن القيام بالأعمال الظاهرة مع التصديق بها طبعا كالنطق بالشهادتين، والصلاة والزكاة، والصيام والحج… وأن الإيمان ما وقر في الباطن من اعتقاد وحسن أخلاق مشفوعين بالأعمال الصالحة، ولذلك كانت درجة الإسلام دون درجة الإيمان قال تعالى: “قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم”(36). يعلق الإمام ابن تيمية على هذه الآية وغيرها من النصوص التي يقترن فيها الإسلام مع الإيمان فيذكر: إن “المقصود هنا العموم والخصوص بالنسبة إلى ما في الباطن والظاهر من الإيمان… فلما ذكر الإيمان مع الإسلام، جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة، الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام والحج، وجعل الإيمان ما في القلب من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر(37).

وأما الإحسان فقد حدده الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: “الإحسان أن تبعد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”(38) وحيث كان للعبادة معنيان، معنى خاص يسمو به الإنسان نفسه في أوقات معينة بأفعال معينة، ومعنى عام “يجعل الإنسان في حذر دائم من مخالفته في أحكامه أو التقصير في حدوده وشرعه”(39) في سائر التصرفات التي تصدر عنه كبيرة أو صغيرة، أدركنا مدى مكانة العملية الارتقائية التي تتحقق في درجة الإحسان، إنها بتعبير الإمام الرازي: الارتقاء بالنفس الإنسانية بالمعارف والأعمال إلى “عالم الغيب وسرادقات القدس ومجاورة الملائكة المقربين في جوار رب العالمين”(40).

وبذلك يظهر أن الدين ثلاث درجات أعلاها الإحسان وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام. فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا”(41).

بقي أن نشير إلى أن عملية الارتقاء إذا تمت لا يحل لمن احتل منزلة عليا أن ينزل إلى ما دونها حتى ولو كانت أول منزلة في الدين، يقول الإمام الشعراني بعد أن يذكر أن المجموع الشريعة يرجع إلى أمر ونهي، ويقسم كلا منهما إلى مرتبتين: تخفيف وتشديد: إن لكل من المرتبتين رجالا في حال مباشرتهم للتكاليف” فمن قوي منهم من حيث إيمانه وجسمه خوطب بالعزيمة والتشديد… ومن ضعف منهم من حيث مرتبة إيمانه وضعف جسمه خوطب بالرخصة والتخفيف كما أشار إليه قوله تعالى: “فاتقوا ما استطعتم” وقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم” أي كذلك فلا يؤمر القوي المذكور بالنزول إلى مرتبة الرخصة والتخفيف وهو يقدر على العمل بالعزيمة والتشديد، لأن ذلك كالتلاعب في الدين… فالمرتبتان المذكورتان على الترتيب الوجوبي لا على التخييري(42).

-وأما الارتقاء بقدرة الفعل لدى الإنسان فإن تشخيصه لن يتم إلا بتحديد مفهوم القدرة أولا، ثم مفهوم الفعل ثانيا.

بالنسبة لمفهوم القدرة يذكر أبو المعين النسفي: أن القدرة والاستطاعة والقوة والطاقة متقاربة المعاني وهي في مصطلح علم الكلام بمعنى واحد إذا أضافوها إلى العباد، كما يذكر أن الاستطاعة أو القدرة تطلق بإطلاقين: “أحدهما سلامة الأسباب وصحة الآلات(43)، والثاني عبارة عن “عرض يخلقه الله تعالى في الحيوان يفعل به أفعاله الاختيارية” أو بتعبير آخر لغيره “اسم لهيئة له (الإنسان) بها يتمكن من فعل شيء ما”(44) وقد استشهد للإطلاق الأول بآيات منها قوله تعالى: “لو استطعنا لخرجنا معكم”(45) فإن المنافقين قطعا يريدون بها المرض أو فقد المال كما تنبئ عن ذلك الآية فيما بعد(46)، وقوله تعالى: “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا”(47) إذ المراد بها الزاد والراحة. مثلما استشهد للإطلاق الثاني بآيات منها قوله تعالى: “إنك لن تستطيع معي صبرا”(48) إذ المراد منها” حقيقة قدرة الصبر لا أسباب الصبر وآلاته، فإن تلك ثابتة له، ألا يرى أنه عاتبه على ذلك؟ ولا يلام من عدم آلات الفعل وأسبابه، وإنما يلام من امتنع منه الفعل لتضييعه قدرة. الفعل لاشتغاله بغير ما أمر به أو شغله إياها بغير ما أمر به(49).

هذا بالنسبة للقدرة، أما بالنسبة للفعل فإننا نجد من يقسمه إلى ثلاثة أضرب نفساني فقط وهو الأفكار والعلوم وما ينسب إلى أفعال القلوب، وبدني وهو الحركات التي يفعلها الإنسان في بدنه كالمشي والقيام والقعود، وصناعي وهو ما يفعله الإنسان بمشاركة البدن والنفس كالحرف والصناعات”(50).

بعد هذا نتساءل: كيف تتم عملية الارتقاء بقدرة الفعل لدى الإنسان؟ يظهر أننا إذا حددنا عملية الارتقاء فيما يتداخل فيه الفعل البدني بالفعل النفساني أي ما أطلق عليه الفعل الصناعي سهل علينا تشخيص عملية الارتقاء بالقدرة الإنسانية في بعديها: السببي والحقيقي، لأننا إذا أردنا بالقدرة سلامة الأسباب وصحة الآلات كانت عملية الارتقاء تتجه إلى جوارح الإنسان وما تستخدمه من آلات تقنية وأسباب أخر مساعدة، لأنه بواسطة كل ذلك يتم إنجاز الفعل بكفاءة عالية لتداخل الفعل البدني بالفعل العلمي الذي يتلقاه الإنسان في رحاب المدارس المعدة من قبل المجتمع لهذا الغرض. يؤكد هذا ما ذكره الإمام الشاطبي في تربية الأبناء وتقوية ما فطروا عليه، قال: “وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه، وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال فيظهر فيه وعليه ويبرز على أقرانه ممن لم يتهيأ تلك التهيئة، فترى واحدا منهم قد تهيأ لطلب العلم، وآخر لطلب الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها وآخر للصراع والنطاح إلى سائر الأمور”(51).

أما إذا أردنا بها الطاقة التي تصبح متوافرة لدى الإنسان بنمو أعضائه وتعهدها بالرعاية وتوافر الآلات التقنية وغيرها من الأمور المساعدة على إنجاز الفعل بكفاءة عالية، فإن عملية الارتقاء بهذه القدرة حينئذ تتم بالانتقال بها من ممارسة الفعل ظاهرا إلى ممارسته عن إيمان واقتناع، بمعنى ممارسة الفعل بدنيا ووجدانيا (الإخلاص) وبذلك ينتقل المباشر للفعل من درجة الإسلام إلى درجة الإيمان أو الإحسان. يؤيد هذا أيضا ما ذكره الإمام أبو بكر ابن العربي(52) قال بعد أن قسم الفعل إلى قسمين، قسم يتعلق بالقلب وقسم يتعلق بالجوارح: إن أهم ما يرتقي به الجانب الباطني هو إخلاص القلب في القيام بالأعمال، أي تجريد النية عن أن يعلق المرء الفعل بغير الله فلا يقصد بعمله غير ما أمره به، أو بتعبير آخر مجاهدة النفس الأمارة بالسوء، كما يذكر من جانب آخر أن الذي يزري بالإخلاص وينزل به دركات، آفات كثيرة، أهمها أربع: الكذب، والغيبة، والمراء، والمزاح.

مثلما يذكر بالنسبة للقسم الذي يتعلق بالجوارح: إن الارتقاء به يكون من جهة بالتعود على الفعل وممارسته وذلك بالمحافظة على ركنين: الأول منهما، دعائم الإسلام الخمس، والثاني اجتناب الكبائر “أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم”(53). ومن جهة أخرى يكون بالقصد والإخلاص في العمل إذ بالقصد يصبح كل عمل صادر عن الإنسان عبادة، فعلا كان أو كفا عن الفعل، حتى “لو قصدنا أن نتقرب إليه بجميع أعمالنا لقبل ذلك منا وأثابنا عليه، فلو أكلنا أو شربنا أو أرقدنا أو قعدنا أو لبسنا بنية أن نتقوى بذلك على طاعته لقربنا بذلك إليه وأثابنا”(54) مثله ما لو كففنا أنفسنا عن الكبائر التي وزعها على الجوارح ونحن قاصدون امتثال ما نهانا عنه.

-هذا وإذا ما استطعنا أن نرتقي بالنفس الإنسانية التي ألهمت الفجور والتقوى ونزكيها فكريا وإراديا وعملا، نكون قد حققنا بدون شك مجتمعا فاضلا يمكن أن نطلق عليه المجتمع الإسلامي أو المجتمع الإحساني، كما أننا إذا أهملناها نكون أمام مجتمع جاهلي، أو بتعبير آخر أكثر دقة نكون إما أمام مجتمع ظالم لنفسه إن نحن أهملناها، أو أمام مجتمع مقتصد أو مجتمع سابق بالخيرات إن نحن تعهدناها بالرعاية والعناية. قال تعالى: “ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير(55). ويعلق شيخ الإسلام أحمد بن تيمية على هذه الآية بقوله: “والمقتصد والسابق يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه، وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق بالقلب لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن فإنه معرض للوعيد(56).

لكن ألا يمكن للمرء أن يتساءل عما يميز هذه المجتمعات بعضها عن بعض؟ والجواب يكون هو ما تتضمنه الآيات الكريمة التالية: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون”(57)، ثم يقول في المجتمع المقتصد: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هو المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات(58)، ثم يقول سبحانه في المجتمع الإحساني أو المجتمع السابق بالخيرات: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”(59).

بالتأمل في المجتمع الظالم لنفسه نجد أهم ما يخضع له أفراده هو الأهواء والشهوات التي تعرب عن نفسها: بالعداوة والتفرقة – والضعف أمام التحديات “وكنتم على شفا حفرة من النار” حفرة الضعف أمام القوة الغاشمة في الدنيا: قوة الفرس وقوة الروم يومئذ وحفرة جهنم التي سيكونون وقودا لها لأنهم لم يحققوا ما أنيط بهم من وحدة تقوم على الاعتصام بحبل الله من بعد ما جاءهم البينات.

وبالتأمل في المجتمع المقتصد نجد أهم ما يميزه هو خضوع أفراده للعقل والمنطق المهتدي بهدي الشريعة المعبر عنه: بالإيمان – والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتآلف والأخوة وصنع القوة الرادعة “أشداء على الكفار رحماء بينهم”(60) ومثله في هذه الميزات كذلك المجتمع الإحساني أو السابق بالخيرات.

كما أننا لو قارنا بين المجتمع المقتصد والمجتمع السابق بالخيرات، نجد أن المجتمع المقتصد بالرغم من أن الأسس التي يقوم عليها لا تختلف عن الأسس التي يقوم عليها المجتمع السابق بالخيرات، فإن أهم ما يميز المجتمع المقتصد هو أنه لا يزال المسلم فيه في صراع مع نفسه بين العقل والأهواء – بين القيم الإسلامية وبين التقاليد الموروثة عن الآباء والأجداد – ولا تزال النفس فيه لم تتمكن بعد من عملية الارتقاء بالرغم من مجاهدتها، وكذلك نجد الخطاب الإلهي فيه لا ينبئ عن تحقق هذه الأفعال المأمور بها في الوجود الخارجي وإنما يدل أهله على الطريق إن هم أرادوا الفلاح حقا “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أولئك هم المفلحون”. لا يزال الخطاب يرغب أهله في التآلف والأخوة ويرهبهم من الفرقة والعداوة عن طريق المقارنة بين ما هم عليه حاليا وبين ما يمكن أن يعودوا إليه إن هم لم يهتدوا بالبينات “ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم إليه وأولئك لهم عذاب عظيم”، وقوله سبحانه: “وأما الذين ابيضت وجوههم في رحمة الله هم فيها خالدون” – بينما هو في المجتمع السابق بالخيرات ينبئ عن تحقق هذه الأفعال في الواقع الخارجي، بل عن تمكنها من نفوس الأفراد بتمثلهم إياها فقها وعملا فأصبحوا نتيجة لذلك قدوة للناس وخيرا لمن يريد أن يسلك سبيلهم: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم”. مثل ما كان الرسول عليه الصلاة والسلام أسوة وخيرا للمسلمين “لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة”(61). وكان القرآن الكريم خيرا وبركة للرسول ولمن آمن به “كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن”(62).

كما أننا بالمقارنة أيضا بين هذين المجتمعين وبين المجتمع الظالم لنفسه نجد أن جميع الأسس التي يقوم عليها كل من المجتمع المقتصد والمجتمع السابق بالخيرات غائبة في المجتمع الظالم لنفسه، فلا إيمان، ولا ألفة بين الأفراد، ولا دعوة إلى الخير، ولا أمر بالمعروف ونهي عن المنكر – وأخيرا لا قوة ترد الأعداء، بل الذي يوجد سائدا بين أفراده هو العداوة والتفرقة والضعف المفضي إلى التبعية.

-ثم من جهة أخرى لو أنا تأملنا في الإجراءات العملية التي عن طريقها يتم الارتقاء بالمجتمع الإسلامي عبر مدارجه الحضارية نجد أنها لا تخرج عن أسلوبين:

أسلوب يتمثل في التخطيط للمستقبل بتحديد المقاصد والوسائل المفضية إليها، بناء على أن المقاصد التي هي عبارة عن مصالح دنيوية وأخروية ليست على درجة واحدة في الأهمية والوضوح إذ هناك الضروريات وهناك الحاجيات وهناك التحسينات، ثم هناك ما لا يقبل التأخير وهناك ما يقبله، هناك ما يعرفه الأذكياء والأغبياء وهناك ما يختص بمعرفته الأذكياء بل الأولياء(63) “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”(64).

وأسلوب يتمثل في التعبئة المستمرة عن طريق الإرشاد والتوجيه أو عن طريق الردع والضرب على أيدي المفسدين الذين يحلو لهم أن يعيثوا في الأرض فسادا حيث لم يعد ينفع معهم إرشاد ولا توجيه، لأن ما يعمر نفوسهم ويسكنها أكبر من كل توجيه ونصح.

والأسلوب الأول يتولاه من أسماهم القرآن الكريم بأولي الأمر وهم: الإمام الذي يتولى شؤون الأمة والسلطة العليا فيها، والعلماء الذين تعرفهم الأمة بآثارهم فيها وتمنحهم ثقتها وتنيبهم عنها في الهيمنة على شؤونها، أو بتعبير آخر، هم “أهل النظر الذي عرفوا في الأمة بكمال الاختصاص في مباحث الشؤون وإدراك المصالح والغيرة عليها”(65) أو بتعبير آخر أكثر وضوحا “كبار العلماء ورؤساء الجند والقضاة وكبار التجار والزراع وأصحاب المصالح العامة، ومديرو الجمعيات والشركات وزعماء الأحزاب ونابغو الكتاب والأطباء والمحامون الذين تثق بهم الأمة في مصالحها وترجع إليهم في مشكلاتها حيث كانوا”(66).

قلنا إن هذا النوع من الأسلوب خاص بالإمام وذوي الاختصاص، لأن “شؤون” الأمة -من جهة- متعددة بتعدد عناصر الحياة وأن الله قد وزع الاستعداد الإدراكي على الأفراد حسب تنوع الشؤون وصار لكل شأن بهذا التوزيع رجال هم أهل معرفته ومعرفة ما يجب أن يكون عليه”(67)، ومن جهة أخرى فلأن الإمام بفضل العلم يكون من أهل الاجتهاد فيكون متبوعا لا تابعا وبفضل العلم يكون قادرا على جمع الآراء على رأي صائب عند المشورة ليتخذ القرار المناسب لأن “اختلاف الآراء مفسدة لإمضاء الأمور”(68) وبفضل العلم يتمكن من “الاستضاءة في السياسة وأحكام الشرع بعقول الرجال… ومن وفق للاستمداد من علوم العلماء كان حريا بالاستمداد ولزوم الاقتضاء(69) وكان حريا أن يجلب إليهم “ثمرات العقول ويدفع عنهم غائلة التباين والاختلاف فإن المسلمين بنظر الإمام وحسن تدبيره وفحصه وتنقيره”(70).

وأما الأسلوب الثاني وهو أسلوب التعبئة المستمرة عن طريق الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الذي يتولاه أيضا هم الإمام وعلماء الشريعة الإسلامية.

أما العلماء فلأنا لاحظنا أن المفسرين يكادون يجمعون على أنهم المقصودين من الخطاب الإلهي في قوله تعالى مثلا: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون:(71)، لأنهم يذهبون إلى أنه بالرغم من “أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما بيده أو بلسانه أو بقلبه”(72). وبالرغم من أنهم يذهبون إلى أن الخطاب يفيد العموم ظاهرا إذ معناه “كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر”(73)، فإن ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار هو “أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل المرضى والعاجزين “وفيهم من لا يستطيع أن يميز بين المعروف والمنكر وفيهم من يعرف المعروف ويعرف المنكر ولكنه لا يعرف النهج السليم الذي يجب أن يسلك فيهما ولذلك قالوا: إن الخطاب يتجه إلى من يحسن القيام بالمعروف والنهي عن المنكر وهم العلماء العارفون بأحكام الشريعة ومقاصدها وطبائع النفوس البشرية، يقول الإمام الرازي “الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه، فنهاه عن غير منكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا”(74).

وأما الإمام الذي يتولى السلطة العليا في الأمة فقد لاحظنا أن العالم من جملة ما شرطوا فيه أن يكون قادرا على التمكن من الضرب على يد العابثين بالقيم الاجتماعية لأنهم رأوا أن معظم الناس لما كانوا لا يكفون عن إتباع أهوائهم “بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب قيض الله السلاطين وأولي الأمر وازعين ليوفروا الحقوق على مستحقيها، ويبلغوا الحظوظ ذويها، ويكفوا المعتدين ويعضدوا المقتصدين ويشيدوا مباني الرشاد ويحسموا معاني الغي والفساد فتنتظم أمور الدنيا، ويستمد منها الدين الذي إليه المنتهى”(75).

ثم أيضا فإن الله سبحانه لما ابتعث محمدا عليه الصلاة والسلام “أيده بالحجة البيضاء والمحجة الغراء وشد بالسيف أزره وضمن إظهاره ونصره، وجعله إمام الدين والدنيا وملاك الخلق في الآخرة والأولى“(76)، وكذلك فعل مع الأنبياء من قبله، ولذلك قيل: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن”.

مجلة الجابري – العدد الخامس


المصادر والمراجع:

إحياء علوم الدين للإمام الغزالي. دار الفكر

الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ محمود شلتوت، ط 7-1394 – 1974، دار الشروق

أصول الفقه للشيخ محمد أبي زهرة، دار الفكر 1958

الإلهيات على هدي الكتاب والسنة والعقل. للشيخ حسن محمد مكي العاملي، ط 1990، الدار الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع.

تبصرة الفقه في أصول الدين، للإمام أبي المعين النسفي، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق.

تفسير المنار، للسيد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة، والنشر والتوزيع، بيروت.

الخطاب الشرعي وطرق استثماره، د.إدريس حمادي، ط1، 1994، المركز الثقافي العربي بيروت.

شجرة المعارف والأحوال، للإمام العز بن عبد السلام، تحقيق إياد خالد الطباع، ط1، 1989، دار الطباع، شرح تنقيح الفصول للإمام القرافي، تحقيق طه عبد الرؤوف.

الغياثي لإمام الحرمين، تحقيق د.عبد العظيم الدريب. الطبعة الثانية 1401.

قانون التأويل للإمام أبي بكر بن العربي تحقيق محمد السليماني، ط1، دار الغرب الإسلامي.

قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للإمام العز بن عبد السلام، دار الكتاب العلمية، بيروت.

الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، د.محمد شحرور.

مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقاربة في الفقه الإسلامي، د.علي محي الدين القره داغي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1985.

مجموعة فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. مكتبة المعارف، الرباط.

مفاتيح الغيب، للإمام الرازي، ط1 1403 -1983، دار الكتب العلمية، بيروت.

معجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الاصفهاني، تحقيق نديم مرعثلي، دار الكتاب العربي.

من توجيهات الإسلام، للشيخ محمود شلتوت، دار الشروق، ط7، 1983.

الموافقات للإمام الشاطبي، تحقيق الشيخ عبد الله دراز.

الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب السبعة، مجموعة بحوث، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1. 1975.

الميزان الكبرى للإمام الشعراني، ط2. 1978، دار الفكر.

الهوامش

1 – سورة النساء: 134

2 – سورة يونس: 64

3 – انظر الوحدة الإسلامية، مجموعة بحوث علمية، مقال للشيخ محمد أبي زهرة، ص: 112

4 – سورة الحديد: 25

5 – أصول الفقه للشيخ محمد أبي زهرة، ص:370

6 – انظر الخطاب الشرعي وطرق استثماره للباحث، ص:57

7 – الغياثي إمام الحرمين:181

8 – سورة الشمس:10

9 – سورة الفرقان:44

10 – مفاتيح الغيب للإمام الرازي. 31/193

11 – الوحدة الإسلامية، مجموعة بحوث، مقال للشيخ محمد أبي زهرة:116

12 – سورة آل عمران: 110

13 – سورة القمر: 3

14 – سورة الجاثية: 23

15 – إحياء علوم الدين: 4/334

16 – سورة فصلت: 53

17 – سورة آل عمران: 190

18 – الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة، د.محمد شحرور، ص: 76، وانظر كذلك الإلهيات على هدي الكتاب والسنة والعقل. للشيخ حسن محمد مكي العاملي، ص: 22.

19 – الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة، د. محمد شحرور، ص: 76، وانظر كذلك الإلهيات على هدي الكتاب والسنة والعقل. للشيخ حسن محمد مكي العاملي، ص: 22

20 – شرح تنقيح الفصول: 435.

21 – سورة التوبة: 122

22 – الموافقات: 1/178 وما بعدها

23 – الموافقات: 1/179 – 181

24 – معجم مفردات القرآن للراغب الاصفهاني: 212

25 – تبصرة الأدلة في أصول الدين المعين النسائي: 2/374

26 – انظر مبدأ الرضا في العقود، د.علي محي الدين القره داغي: 1/196

27 – إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: 4/334

28 – شجرة المعارف والأحوال للإمام العز بن عبد السلام: 24-25

29 – مجموعة فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: 7/7

30 – الحديث أخرجه مسلم في الإيمان رقم 8 وأبو داود رقم 4695

31 – الحديث أخرجه مسلم في الإيمان رقم 8 وأبو داود رقم 4695

32 – الحديث أخرجه البخاري رقم 13 في الإيمان ومسلم 45 في الإيمان

33 – الحديث أخرجه مسلم رقم 35

34 – مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: 7/8

35 – الحديث أخرجه مسلم رقم 35

36 – سورة الحجرات: 14

37 – مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: 7/14

38 – الحديث أخرجه مسلم رقم 8 وأبو داود رقم 4695.

39 – من توجيهات الإسلام للشيخ محمود شلتوت

40 – مفاتيح الغيب: 20/105

41 – مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: 7/7

42 – الميزان الكبرى: 1/4-5

43 – تبصرة الأدلة في أصول الدين: 2/ 541

44 – معجم مفردات الفاظ القرآن للراغب الأصبهاني: 409

45 – سورة التوبة: 42

46 – إذ نجد الله سبحانه وتعالى قد كذبهم بقوله “ليس على الضعفاء ولا على المرضى” إلى أن قال “إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء”

47 – سورة آل عمران: 97

48 – سورة الكهف: 67

49 – تبصرة الأدلة في أصول الدين: 2/543

50 – الذريعة إلى مكارم الشريعة: 417

51 – الموافقات: 1/179

52 – قانون التأويل: من 380 إلى 391

53 – سورة

54 – شجرة المعارف والأحوال للإمام العز بن عبد السلام، ص: 141

55 – سورة فاطر: 32

56 – مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: 7/10

57 – سورة آل عمران: 103

58 – سورة آل عمران: 104

59 – سورة آل عمران: 110

60 – سورة الفتح: 29

61 – سورة الممتحنة: 6

62 – الحديث أخرجه مسلم (746) في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل.

63 – انظر قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/24 وما بعدها

64 – سورة العنكبوت: 69

65 – الإسلام عقيدة وشريعة: 463

66 – تفسير المنار: 5/198، وانظر تفاصيل هذا في الخطاب الشرعي للباحث، ص: 47، وكذلك ص: 156

67 – الإسلام عقيدة وشريعة: 463

68 – الغياثي لإمام الحرمين

69 – الغياثي: 87

70 – سورة آل عمران: 104

71 – مفاتيح الغيب للإمام الرازي: 8/166

72 – نفس المصدر: 27

73 – تفسير المنار: 5/498، وانظر تفاصيل هذا في الخطاب الشرعي للباحث، ص:47 وكذلك: 156

74 – مفاتيح الغيب: 8/166

75 – الغياثي: 82

76 – الغياثي: 82.