مجلة حكمة
المجتمع باللونين

المجتمع باللونين … الأحمر والأسود / ترجمة: رقية الكمالي


في أواخر القرن التاسع عشر، تزامنت ولادة ثلاثة أنواع من التحقيقات: الرواية البوليسية ، علم الاجتماع، و جنون الارتياب “بارانويا” . استندت هذه الأنواع الثلاثة من التحقيقات الاستقصائية إلى اتساع دائرة الشك و الارتياب في الطبقة المبتذلة ، التي تنم في الواقع عن اختلالات مثيرة للقلق . وترتبط هذه الشكوك بظاهرة الجريمة أو بميل الأفراد إلى الشر لتحقيق مصالحهم أو مصالح المنظمات التابعين لها . في كتاب عالم الاجتماع الفرنسي لوك بولتانسكي ” ألغاز ومؤامرات” : ظهرت هذه الأشكال الارتيابية ، و الإطارات التفكيكية للواقع بالتوازي مع ظهور الدول القومية الأوروبية، ويسمي الكاتب هذا الظهور المشترك ، في أواخر القرن التاسع عشر، ب “التوليف الطوباوي الكبير بين الدولة والأمة” ويعني مصطلح الطوباوية : الطريقة المثالية و غير العلمية لبناء مجتمع خال من الصراع ،بالإضافة إلى تأمين العلاقات الشخصية “من خلال ظهور القانون الاجتماعي على وجه الخصوص”، وإقامة نظام اجتماعي مستقر “نظرا لتبلور الطبقات الاجتماعية والاضطراب المتصل بعدم الاستقرار” . وضع بولتانسكي على هذه الفجوة علامة استفهام وشرع في البحث عنها ، هذه الفجوة بين الواقع المستقر وديموقراطية الشك التي تقوم على نفس هذا الواقع الذي نتصوره متآكلا من الداخل في الخفاء . تشكل الازدواجية الطريقة التي بموجبها يعيش عالمنا، وتعتمد على المظاهر والملحقات المختلفة: الفرق بين تفكيرنا “المتخيل” ، وحياتنا الواقعية ، و “البنية التسلسلية للآخر أو الغير”، تناقض الحداثة الذي كشف عن سلوكيات الخسة و الحقارة لدى أكثر الشخصيات احتراما في المجتمع ؛ استمرار حالة عدم اليقين التي تسمى أيضا ” التناقض التأويلي ” للسان حالهم ، سواء لدى ممثلي المؤسسات أو ممثلي المصالح اللامرئية للمجتمع- يظهرعدم اليقين عرضيا في شكل “انقسامات” ؛ و شجب العلني، كما أن وجود خونة أو مفسدين يزيح الستار عن “الدولة باعتبارها مؤامرة”.

بتسليط الضوء على التزامن المتعدد الذي جرى بين 1890 و 1920 في أوروبا، يتحدث كتاب بولتانسكي المشار إليه آنفا ” Énigmes et Complots ” ، عن ثلاثة أنواع من التحقيقات ” الرواية البوليسية ، جنون الارتياب، علم الاجتماع” ، للرواية البوليسية شكلها الموصوف بدقة و تاريخها المحكي بأسلوب واضح ، يمثل الطبيب و الكاتب الاسكتلندي كونان دويل نسختها الإنجليزية، والكاتب البلجيكي المولد, و الفرنسي اللسان و القلم جورج ، سيمونون نسختها الفرنسية. ابتكر كونان شخصية المحقق شرلوك هولمز التي تعد معلما بارزًا في الأدب البوليسي، في حين ابتكر سيمونون شخصية المفتش جول ميجريه . تطورت القصة البوليسية في سنوات 1880،و واجهت الرواية البوليسية السرد المذهل للروائي الفرنسي غي دو موباسان و ما يسمى بالرواية السوداء أو المأساة الذي برع موباسان في كتابتها ووصف العبوس البشري في رواياته . بالمقارنة مع الكتابة الأسطورية، تشكل الرواية البوليسية مجموعة متجانسة من التوقعات حول الواقع المادي، يكون فيها المحققين شخصيات رئيسية وقيادية على طريقة الصحافي الشاب جوزيف رولوتابي “Rouletabille” الشخصية الرئيسية في الرواية الفرنسية ” Le Mystère de la chambre jaune أي” سر الحجرة الصفراء” للروائي الفرنسي Gaston Leroux . بني هذا النوع من التوقعات أيضا على الواقع الاجتماعي والشرطة السرية التي تؤدي عملها ببراعة وتعمل على تفكيك انتماءات المجموعات (النوادي، والطبقات) ابتداء من الرموز أو مظاهر الأفراد. بالنسبة إلى الرواية السوداء أو المأساة ، التي ولدت في وقت لاحق، حوالي عام 1920، تناقش الرواية البوليسية مصدر القلق الجذري، بينما تفترض المأساة وجود عالم الجريمة ” عالم الأشرار” بهدف التخلص منهم ، قد تعزى الجريمة في اللغز البوليسي إلى أي شخصية ، بغض النظر عن أهميتها أو طبقتها الاجتماعية . بعد ذلك، ولدت رواية التجسس ، وهي رواية بوليسية، منذ طباعة كتاب جون بوشان ” Les 39 marches ” في عام 1915 حتى تأليف جون لو كاريه كتابه المعنون ب ” L’espion ” ، أي “الجاسوس” في عام 1963م ، ومن ثم تم إرساء التكافؤ الهدام بين اللغز الغامض ، الدولة، والجريمة. ثانيا : مرض جنون الارتياب أو جنون العظمة “البارانويا” وبالفرنسية ” La paranoia”، وهو اضطراب عقلي نادر ينمو بشكل تدريجي حتى يصير مزمناً ويتميز بنظام معقد يبدو داخليا منطقيا ويتضمن هذاءات الاضطهاد والشك والارتياب فيسيء المريض فهم أية ملاحظة أو إشارة أو عمل يصدر عن الآخرين ويفسره على أنه ازدراء مما يدفعه إلى البحث عن أسلوب لتعويض ذلك فيتخيل أنه عظيم وأنه عليم بكل شيء . في الفصل الخامس من الكتاب، تحدث بولتانسكي ، في المقام الأول ، عن المرض الذي وضع وصفه التصنيفي و النفسي خلال سنوات 1860م الألماني كرايبيلين ، الفرنسيان سيريو و كابغراس ، و الإيطالي تانزي . تشير تقارير المرضى المصابين بهذا المرض إلى شعورهم القوي بأن هناك شيء ما خفي وراء المظاهر المرئية، تأتي هذه الإثارة العقلية المفترضة للتعويض عن الفقدان العاطفي من البيئة المحيطة و المقربين ، من أعراض هذا المرض المرتبطة بالخصائص الاجتماعية، هذيان الادعاءات المعززة بقناعات تتميز بالمثالية أو الإيثار، مع العاطفة التي تقع على حدود التعصب. ابتداءا من عام 1950، ووفقا لرأي بولتانسكي ، كان اتهام الإصابة بجنون العظمة امتدادا لما يسمى “وباء” ، ومن ثم تم استخدامه لحرمان المصاب به من الحقوق و الأهلية في الليبرالية السياسية في مرحلة ما بعد الحرب، لذا وجد معظم أصحاب المواقف السياسية غير الليبرالية أنفسهم محل سخرية الجميع .

ثالثا وأخيرا : علم الاجتماع ، حاول بولتانسكي تجديد معنى علم الاجتماع، على سبيل المثال: تسليط الضوء على تحليل الشبكات، و ترتيب عضوية كل شخص في مختلف الشبكات، وبالتالي كيفية الحفاظ على العلاقات الشخصية، التي تلعب دورا في تراكم السلطة وعدم المساواة والهيمنة.

بدأت المشكلة الأساسية من اللحظة التي أصبح فيها عالم الاجتماع في موقف الفاعل بشأن تحديد الكيانات الجماعية ، غير المدرجة بواسطة القانون أو المؤسسات كما هو الحال لدى الطبقات الاجتماعية الناشئة . يرى لوك بولتانسكي أن هناك لعنة أصابت علم الاجتماع منذ بدء التفكير به كمؤامرة في الجماعات القوية ، على سبيل المثال: موضوعات العمل الاجتماعي، كما أن وجود المؤامرة يعد سببا في نشوء بعض الظواهر الاجتماعية، لاسيما السيئة منها، مثل : الفقر ، عدم المساواة، والحروب …إلخ” . أوضح الكتاب أن النظرية الاجتماعية تضاعفت خلال الفترة 1950-2010، و كان هناك محاولات لإبعاد هذه الموجة وعزلها لكنها لم تنجح . كما عرض الكتاب تأثيرهذه اللعنة التي جلبتها ستة نماذج هيمنت على العلوم الاجتماعية: الفردانية المنهجية ، بنيوية كلود ليفي شتراوس “شتراوس عالم أنثروبولوجي فرنسي وأحد أعمدة الفكر البنيوي” ، الماركسية التحليلية ، نظرية المظهر، علم الاجتماع النفعي أو البراغماتي، وتحليل الشبكات الاجتماعية.

قد تتم عرقلة الواقع لأن طرق تحديد بدائل للوضع الراهن محتكرة من قبل “الخبراء” أنفسهم الذين تختارهم السلطة “المسؤولة”. إحدى خصائص المجتمعات الحديثة، هي الهيمنة التي تسمى أيضا ب”المدير”. بدأت في فرنسا في السبعينيات 1970م عبرالجيسكارديسم وهو كل ماله علاقة أو يدور حول السياسي الفرنسي فاليري جيسكار ، وتعتمد على الدور المحوري للعلوم والتقنية. في مقابل تطور ما يسميه فيليب ديسكولا “الطبيعية” أو ما يدعوه برونو لاتور “المشاركة الكبرى”، ثم تم تشديد الانتقادات على نوع واحد من المؤسسات، والسياسة، و إخفاء العلوم عن الراغبين فيها، العلم الذي يشكل قلب الهيمنة المعقدة . بينما تستند أنظمة السيطرة البسيطة، التي تعمل على القمع، إلى عمل مؤسساتهم التي تسعى جاهدة إلى واقع منفصل، وشركات إدارة تركز على تغيير الواقع ، وتحديد شكل جديد لهذا الواقع . وهكذا تميز عالم اليوم بسيطرة الخبراء و غلبتهم في شتى الأمور. في وسط نظام الهيمنة الجديد والمعقد، هناك صورة الخبير التي تمنع التمثيلات البديلة، أو تستدعي الخاصية الإلزامية في “القوانين” لإضفاء الشرعية على الواقع المفروض . تتواجد هذه البديهة في الألغاز والمؤامرات في شخصيات روايات التجسس الأولى “على سبيل المثال: رواية العميل السري، للروائي جوزيف كونراد، في عام 1907م ” .

تمثل الانتقادات سبب آخر للعرقلة من حيث عدم الاهتمام بمطالبات كثيرة تقوم على فكرة أن الواقع لا يطاق، ويستند النوع الأول من فقدان الاهتمام إلى استيعاب المطالبات التي غالبا ما تماثل الفوضوية و غياب النظام، في حين ينتمي النوع الثاني إلى تهمة العدمية، وهذا يعني ” الرغبة بالتدمير الكلي بناء على كراهية معممة، بصفته تعبير غير لائق عن المجتمع و كراهية الذات “. ويرى بولتانسكي أن هذين النوعين من ” الكائنات الاجتماعية” تشبه “نمور من ورق” بناها الخيال أو بعض الأيديولوجيات في أواخر القرن التاسع عشر. يشير إعادة وصف الواقع في النهاية إلى هدف رئيسي، وهو : أن نلاحظ كيف يواجه الناس العاديين أحداثا تاريخية تتجاوز قدراتهم ، وكيف يسعى الأقوياء ، في نفس الوقت ، إلى ضبط أو التأثير على تلك الأحداث.