مجلة حكمة
الماهوية عند أرسطو فلسفة

الماهوية عند أرسطو والمشترك اللفظي – كريستوفر شيلدز


  • مقدمة

مهما كانت الطريقة التي نتوصّل بها لمبادئ موثوقة في الفلسفة والعلم،. وسواء كان ذلك بطريقة ما تؤدّي إلى إدراك عقلاني لحقائق ضرورية أو من خلال بحث جدلي دائم يعمل وفقًا لمجموعة من المسلّمات المنتقاة بحكمة،. يتبيّن لنا في نهاية المطاف، وفقًا لـ أرسـطو،. أنّنا نستطيع كشف الميزات الضرورية للواقع والتوصّل إلى معرفة حقيقية لها. ويقترح أرسطو أن هذه الميزات هي التي تعبّر عنها التعريفات المحدّدة للماهوية والتي تستخدم في العلم (هنا أيضًا نستخدم “العلم” بالمعنى الواسع للكلمة epistêmê).

ونجد في الماهوية عند أرسطو (Essentialism) التزام عميق وممتدّ في نصوصه؛. فهو يعتمد على مجموعة من التعابير في مناقشة ماهية الأشياء، وهذه التعابير تدلّنا بطريقة ما على توجّهه الرئيسي. ومن التعابير التي نجدها في صنف (الماهية essence) كما في الترجمات المعاصرة لنصوص أرسطو إلى الإنگليزية (APo 83a7; Top. 141b35; Phys. 190a17, 201a18–21; Gen. et Corr. 319b4; DA 424a25, 429b10; Met. 1003b24, 1006a32, 1006b13; EN 1102a30, 1130a12–13):

  • أ. الذي هو يكون (to ti esti).

  • ب. الكينونة (to einai).

  • ج. الكائن (ousia).

  • د. تحديدًا الذي يكون (hoper esti).

  • ه. الذي كان ليكون (to ti ên einai).

ومن بين التعابير السابقة، يتطلّب التعبير الأخير شرحًا مفصّلًا لسببين: أنّه أكثرها تميّزًا، وأنّه التعبير المفضّل لأرسطو في الإشارة إلى الماهية. وهو اختصار للقول: “الذي كان في نظر النوع (ن) مثالًا للنوع (ن)”، وعلى سبيل المثال: “الذي كان (دائمًا) في نظر أي إنسان إنسانًا”. وعندما يتكلّم أرسطو بهذه الطريقة فإنّه يفترض أنّنا إذا كنّا نرغب بمعرف ماهية الإنسان فلا يمكننا أن نعرّف. ميزات عابرة أو غير كلّية للنوع؛ ولا يمكننا أيضًا أن نعرّف حتّى الميزات الكلّية التي تقدّم تفسيرات عميقة. وعوضًا عن ذلك يهتمّ أرسطو، كما يدلّ تعبيره المفضّل، بما يجعل الإنسان إنسانًا، فيفترض أوّلًا بأن هنالك ميزة ما (م). تشترك فيها كل الإنسانية دون غيرها، ويفترض ثانيًا بأنّ (م) تفسّر الميزات الأخرى التي نجدها عبر النطاق البشري.

الماهوية عند أرسطو

  • مقاربة الماهوية عند أرسطو

من المهمّ أن نلاحظ كيف أنّ الميزة الثانية للماهوية الأرسطية تجعل مقاربته مختلفة عن المقاربة النمطية الشائعة التي يكون بموجبها:.[viii]

(خ) خاصّية ماهوية لـ(س=خَ) إذا كانت خسارة (س) لـ(خ) تؤدّي إلى انقطاعه عن الوجود.

ويرفض أرسطو هذه المقاربة لعدة أسباب، ومن أبرزها اعتقاده بأنّ ثمّة ميزات لاماهوية محدّدة تحقّق التعريف، وهكذا فإنّ أرسطو يميّز،. وبعيدًا عن الميزات (المقولاتية) والمنطقية (مثلًا: كلّ شيء إمّا هو مطابق للعدد تسعة وإمّا ليس كذلك)، صنفًا من الخاصّيات يدعوه (idia) (Cat. 3a21, 4a10; Top. 102a18–30, 134a5–135b6)، وهو ما درجت العادة حاليًا على الإشارة إليه بمصطلح الترجمة اللاتينية في العصر الوسيط (propria)، وهو الخصائص اللاماهوية التي تتأتّى من ماهوية نوع ما، وذلك على نحو تكون فيه ضرورية للنوع حتّى وإن لم تكن ماهوية. وعلى سبيل المثال: إذا افترضنا (كون المرء عاقلًا) ماهويًا لنوع الإنسان، فهذا يستتبع أن يكون كلّ إنسان (قادرًا على التعامل مع قواعد النحو)؛ وإنّ (القدرة على التعامل مع قواعد النحو) و(كون المرء عاقلًا) ليستا خاصّية واحدة، وإن كانت الأولى تنشأ عن الثانية؛ ويفترض أرسطو أن القارئ يقدّر أنّ (كون المرء عاقلًا) تفسر على نحو غير متناظر (القدرة على التعامل مع قواعد النحو)، حتّى وإن كانت الضرورة تحكم بأنّ الشيء عاقل إذا وفقط إذا كان أيضًا (قادرًا على التعامل مع قواعد النحو)؛ وعلى هذا الأساس، فإنّ المرتبة التفسيرية القبلية لـ(كون المرء عاقلًا) أرجح من (القدرة على التعامل مع قواعد النحو) في استحقاق منزلة كونها ماهوية للإنسان. وبالنتيجة: فإنّ مقاربة الماهوية عند أرسطو أدقّ من كونها مجرّد ماهوية نمطية؛ الماهوية عند أرسطو تعتقد بأنّ:

(خ) خاصّية ماهوية لـ(س=خَ) عندما: (أولًا) إذا كانت خسارة (س) لـ(خ) تؤدّي إلى انقطاعه عن الوجود؛ و(ثانيًا) إذا كانت (خ)، موضوعيًا، خاصّية رئيسية تفسّر (س).

والخلاصة: وفقًا لمقاربة أرسطو ما يجعل المرء إنسانًا هو الخاصّية التي كان عليها منذ الأزل وسيبقى عليها إلى الأبد، أي: (كونه عاقلًا). وعليه، فهذه هي الميزة التي يعبّر عنها التفسير المحدِّد للماهوية في ما يتعلّق بالنوع الإنساني (APo 75a42–b2; Met. 103b1–2, 1041a25–32).

ويعتقد أرسطو، في نطاق واسع من الحالات، بأنّ الأنواع ذات ماهويات قابلة للاكتشاف بواسطة البحث الجادّ؛ وهو في الحقيقة لا يكرّس الكثير من الجهد للمحاججة بذلك، لكنّه أقلّ ميلًا إلى بذل الجهد لمقارعة الحجج غير الواقعية الموجّهة ضدّ الماهوية، وربّما يعود جزء من السبب في ذلك إلى أنّه منبهر بما يجده، أو يعتقد بأنّه يجده، من انتظامات عميقة تكفل النتائج التي توصّل إليها في أبحاثه البيولوجية.[ix] ومع ذلك، فلا يمكن اتّهامه بالشطط في ما يتعلّق بآفاق الماهوية عند أرسطو.

بل إنّ أرسطو، وعلى العكس من ذلك، ينكر الماهوية في الكثير من الحالات التي لا يمانع الآخرون فيها اعتناق الماهوية؛ ويمكن للقارئ أن يلاحظ هذا الإنكار بوضوح في نقده لـ أفلاطون، على سبيل المثال لا الحصر. ففي الواقع، إنّ من الأمور التي تميّز نقد أرسطو لأفلاطون والأفلاطونية هو أنّ الكثير من أمثلتهما المفضّلة للتشابه والثبات في العالم ما هي في الحقيقة سوى حالات للمشترك اللفظي (multivocity، أو homonymy بالمصطلحات التقنية الأرسطية). وفي مقدّمة كتابه (المقولات) نجد أرسطو يميّز بين المترادف (synonymy، والذي دعي لاحقًا بـunivocity) والمشترك اللفظي (homonymy، والذي دعي لاحقًا بـmultivocity). وعبارته المفضّلة في الإشارة إلى المشترك اللفظي، والتي تتفشّى في الكثير من كتاباته، هي: «ما يُتكلّم عنه بطرق كثيرة»، أو بصيغة أبسط: «ما يُعنى بطرق متعدّدة»، كترجمة للعبارة الإغريقية (pollochôs legomenon). وهذان التعبيران كلاهما يتبوآن منزلة شبه تقنية لدى أرسطو. أمّا الأقلّ تعقيدًا فهو الترادف:

(أ) و(ب) هما بالترادف (خ) إذا وفقط إذا: (أوّلًا) أ هو خ، (ثانيًا) ب هو خ، (ثالثًا) التطابق في تفسير الاتّصاف بالخاصية (خ) في (أ هو خ) و(ب هو خ).

وعلى هذا الأساس يمكن طرح المثال التالي: نظرًا للتطابق في تفسير الاتّصاف بالخاصّية (إنسان) في (سقراط إنسان) وفي (أفلاطون إنسان)، فإنّ (إنسان) مترادف في هذين التطبيقين (لا بدّ من الانتباه هنا إلى أنّ فكرة أرسطو عن الترادف لا تتطابق مع الاستخدام المعاصر للفظ الذي ينطبق على كلمات مختلفة يجمع بينها معنى واحد). وفي حالات الترادف نتوقّع تعريفات منفردة غير منفصلة [أي: قضاياها المنطقية غير معطوفة بـ(أو).(المترجم)] تعكس حالة وماهوية الأنواع المعنية. وللتوضيح دعونا نقبل مرّة أخرى بأنّ التعريف المحدّد لماهوية (الإنسان) هو (حيوان عاقل). إذن: بما أنّ (الإنسان) يعني (حيوان عاقل) على امتداد نطاق التطبيقات بأكمله، فهنالك ماهوية واحدة ما لكلّ أفراد النوع.

وفي المقابل، عندما لا يتحقّق الترادف نكون أمام مشترك لفظي. فوفقًا لأرسطو:

(أ) و(ب) هما بالمشترك اللفظي (خ) إذا وفقط إذا: (أوّلًا) أ هو خ، (ثانيًا) ب هو خ، (ثالثًا) غياب التلاقي في تفسيري الاتّصاف بالخاصية (خ) في (أ هو خ) و(ب هو خ).

ولنأخذ على ذلك مثالًا سهلًا ليس له أهمّية فلسفية؛ فـ”العين” مشترك لفظي في الجملتين (جلب زيد الماء من العين) و(رأى زيد بعينه ما جرى)؛ وهذه الحالة تصوّر لنا ما قلناه، لأنّ تفسيري “العين” في الجملتين لا يلتقيان في أيّة نقطة مشتركة على الإطلاق. ويكمن جزء من الاهتمام بتفسير أرسطو للمشترك اللفظي في أنّه يسمح بالتلاقي جزئيًا. وتصبح الأمور أكثر إثارة للاهتمام إذا تفحّصنا ما إذا كانت كلمة “وعي” مترادفة في الجملتين: (كانت سعاد على وعي ببعض ما سبّبته ملاحظاتها من حرج) و(الفقاريات العليا تمتلك وعيًا، بخلاف الرخويات)؛ ففي هذين المثالين ربّما لا يمكن الخروج بحكم فوري في ما يخصّ الترادف والمشترك اللفظي، ولذلك نحتاج إلى التفكّر والتحقيق الفلسفي.

ويحدث على نحو منتظم جدًّا، وفقًا لأرسطو، أن يؤدّي هذا النوع من التفكّر إلى اكتشافات مهمّة، ولا سيّما في الحالات التي نفترض فيها تفسيرًا ترادفيًا بينما تبيّن الحقيقة خلاف ذلك. ويرى أرسطو بأنّ الأفلاطونيين أخطؤوا هاهنا: إذ افترضوا الترادف في عالم يقدّم المشترك اللفظي (من الأمثلة الواضحة على تطبيق أفلاطون لافتراضه الترادف ما ورد في محاورة مينون Meno 71e1–72a5، حيث يصرّ سقراط على أنّه ليس هنالك سوى نوع واحد من الفضيلة (aretê) يشترك فيه كلّ أنواع الأشخاص الممتازين، فلا يختصّ بنوع دون غيره من الناس، سواء كانوا رجالًا أو نساءً أو عبيدًا أو أطفالًا). وفي أحد الأمثلة ذات الأهمّية الخاصّة يفترق أرسطو عن أفلاطون بشأن المشترك اللفظي في “الجودة”: «ربّما كان من الأفضل لنا أن نتناول الجودة الكلّية وأن نخوض في الألغاز التي تتعلق بما يُعنى بها، حتّى وإن كان هذا النوع من البحث غير مرحّب به عندنا، لأنّ من قدّم لنا (الصور) أصدقاء لنا. لكن من المفترض أنّ السبيل الأفضل لنا هو أن نهدم حتّى ما هو مقرّب منّا، عندما تقضي الضرورة بذلك في سبيل المحافظة على الحقيقة، ناهيك عمّا يقتضيه كوننا من الفلاسفة. وعلى الرغم من أنّنا نحبّا أصدقاءنا ونحبّ الحقيقة، فإنّ الورع يدعونا لإجلال الحقيقة وتقديمها على الصداقة» (EN 1096a11–16). إنّ أرسطو يعارض ما جاء به أفلاطون فيفترض بأنّه مخطئ بادّعائه أنّ الجودة «أمر كلّي، يشترك به كلّ شيء، وهو واحد» (EN 1096a28)، فيرى عوضًا عن ذلك بأنّه أمر يختلف باختلاف كلّ حالة عن غيرها.

ولإثبات عدم الترادف يلجا أرسطو إلى مجموعة متنوّعة من الاختبارات في كتابه (الجدل) حيث يطرح، مرّة أخرى، صيغه بطريقة لغوية مع أنّ منشأها ميتافيزيقي. ولنتأمّل الأمثلة التالية:

سقراط جيّد.

الشيوعية جيّدة.

الحلويات جيّدة بعد وجبة خفيفة.

مضاعفة المرء لجهوده بعد الفشل أمر جيّد دائمًا.

غناء سعاد جيد، لكنّ غناء ليلى رائع.

ومن اختبارات عدم الترادف التي يوصي أرسطو باتّباعها في كتابه (الجدل) ثمّة اختبار بسيط يعيد صياغة العبارة، فإذا كانت الصيغة الجديدة تؤدّي معنى محدّدًا غير قابل للتبادل فيكون عندها الحدّ المحمول مشتركًا لفظيًا. وعلى سبيل المثال، يمكن لنا إذا أعدنا صياغة العبارات السابقة على نحو مناسب أن نخرج بالعبارات الجديدة التالية:

سقراط (شخص فاضل).

الشيوعية (نظام اجتماعي عادل).

الحلويات (طيبة المذاق ومشبعة) بعد وجبة خفيفة.

مضاعفة المرء لجهوده بعد الفشل أمر (بنّاء) دائمًا.

غناء سعاد (يصل إلى مستوى فنّي عالٍ)، لكنّ غناء ليلى (يتخطى ذلك المستوى بكلّ المقاييس).

فبما أنّنا نعجز عن المبادلة بين هذه العبارات التي أعيدت صياغتها (فلا نستطيع أن نقول مثلًا: الحلويات نظام اجتماعي عادل) فلا بدّ أنّ (جيّد) ليست ترادفية على امتداد نطاق تطبيقاتها. وإذا كان هذا صحيحًا فإنّ الأفلاطونيين مخطئون في افتراضهم بالتواطؤ اللفظي في هذه الحالة، لأنّ (الجودة) تبدي تعقيدًا يتجاهله افتراضهم.

وإلى هنا يمكن القول، إذن، بأنّ لجوء أرسطو إلى المشترك اللفظي هو بغرض الهدم في الأساس، بمعنى أنّه يحاول هدم افتراض أفلاطوني يعتبره أرسطو غير قادر على الصمود أمام الحجّة. ومن المهم أن نذكر هنا بأنّه كما أنّ أرسطو يرى دورًا إيجابيًا وسلبيًا للجدل في الفلسفة، فإنّه يستشرف دورًا فلسفيًا بنّاءً للمشترك اللفظي بالإضافة لتطبيقاته الهدّامة. ولتقدير فكرته الرئيسية يفيدنا أن التفكّر بسلسلة متّصلة من الأوضاع في التحليل الفلسفي تتفاوت من التواطؤ اللفظي الأفلاطوني الصافي إلى ما يشبهها في (الأسرة) الڤيتگينشتاينية المقسّمة. فبعد نجاح أرسطو في الطعن بالمشترك اللفظي الأفلاطوني قد يفترض المرء، مثلًا، بأنّ الحالات المتنوّعة للجودة ليس هنالك ما يجمعها في كلّ الحالات، ولذلك فإنّ الأمور (الجيّدة) تشكّل في أحسن التقادير، نوعًا مختلف العناصر، من النوع الذي يبرع فيه الڤيتگينشتاينيون المولعون بالاستعارة اللغوية التي تشبّهها بالأسرة: فكلّ الأمور (الجيّدة) تنتمي إلى نوع ما وفقًا لمعنى محدود وحسب يقضي بأنّها تبدي فسيفساء من الخاصّيات المتداخلة، على نحو يشبه (الأسرة) التي يكون كلّ فرد من أفرادها فردًا أكيدًا فيها حتّى وإن كان لا يحمل من الشبه الجسماني أيّ صفة يشترك بها مع كلّ أفرادها.

ويصرّ أرسطو على أنّ هنالك حلًّا وسطًا (tertium quid) بين كناية (الأسرة) وبين التواطؤ اللفظي: فهو يعرّف، ويشيد بتعريفه هذا، نوعًا من المشترك اللفظي المعتمد على الصميم (يشار إليه أيضًا في الكتابات، وبدرجات مختلفة من الدقة، بالمعنى البؤري والصلة البؤرية).[x] إن المشتركات اللفظية المعتمدة على الصميم تبدي نوعًا من النظام ضمن حالها التعدّدي: فعلى الرغم من غياب التواطؤ اللفظي، بسبب المشتركات اللفظية، لا تتحوّل هذه المفاهيم إلى فسيفساء تشبه مثال الأسرة السابق أيضًا. وبالاعتماد على أحد أمثلة أرسطو المفضّلة، لنتأمّل ما يلي:

سقراط سليم.

سـقراط يتّبع نظامًا سليمًا في التمرين.

سقراط سليم البنية.

يفترض أرسطو أن القارئ سيقدّر فورًا ميزتين من ميزات هذه الحمليات الثلاثة لكلمة (سليم)؛ وأوّلهما أنّها ليست من التواطؤ اللفظي، فالجملة الثانية لا يمكن إعادة صياغة كلمة (سليم) فيها لتكون (يعزّز الصحّة) إلّا بشكل غير دقيق، وكذلك الأمر في الجملة الثالثة لتصبح (تدلّ على صحّته)،. بينما تدلّنا الكلمة في الجملة الأولى على معنى أكثر صميمية، من مثيل (معافى) أو (بدنه يؤدّي وظائفه بشكل جيّد). ولذلك فإنّ كلمة (سليم) ليست من التواطؤ اللفظي. أمّا الميزة الثانية فهي أنّ الحمليتين الأخيرتين، على الرغم ممّا سبق،. تعتمدان على الأولى في توضيحهما: فكلّ منهما تلجأ إلى (السلامة) في معناها الصميمي على نحو لامتناظر. ولهذا فإنّ أيّ تفسير لأيّ من الحمليتين الأخيرتين (يجب) أن يلمّح للحملية الأولى، بينما لا يشير تفسير الأولى إلى أيّ من تاليتيها. ومن هنا يقترح أرسطو بأنّ (السلامة) ليست مجردّ مشترك لفظي، بل هي مشترك لفظي معتمد على الصميم:. فبينما ليست الكلمة في الجملتين الأخيرتين من المشترك اللفظي فإنّها ليست أيضًا في كليهما من الحالات الناصعة للتواطؤ اللفظي.

إنّ توضيح أرسطو ينجح فعلًا في أن يظهر لنا أنّ هنالك مساحة مفاهيمية بين كناية (الأسرة) المجرّدة وبين التواطؤ اللفظي. ولذلك فهو محقّ في أنّ هذه الخيارات غير شاملة. ويكمن الاهتمام بهذا النوع من النتيجة في إمكانية تصديرها كمفاهيم فلسفية أغنى، وهذا إن لم تكن أكثر تجريدًا. ويلجأ أرسطو إلى المشترك اللفظي كثيرًا، وعلى نطاق كامل من المفاهيم الفلسفية بما فيها:. العدالة، والعلّية، والمحبّة، والتماثل، والخيرية، والجسد. وأبرز حالات لجوئه للمشترك اللفظي المعتمد على الصميم نجده في حالة مفهوم يبلغ سويّة عالية من التجريد إلى الحدّ الذي يصبح فيه من الصعب التحديد الدقيق لنجاحه دون تفكّر ميتافيزيقي موسّع؛ ويتجسّد هذا الأمر في لجوئه إلى المشترك اللفظي المعتمد على الصميم في ما يخصّ (الكائن)،. والذي نشب عنه خلاف على الصعيدين الفلسفي والأكاديمي.[xi] وفي إحدى نقاط البحث يقوم أرسطو بإنكار إمكانية وجود علم للكائن،. مستندًا إلى أنّه ليس هنالك أيّ جنس للكائن يمكن لكلّ الكائنات، ولا شيء غيرها، أن تندرج فيه (SE 11 172a9–15). وربّما كان ممّا حفّزه على البرهان بهذه الطريقة أنّه يعتبر فكرة الجنس فكرة تصنيفية للمقارنة لا يستغنى عنها،[xii]. ولذلك فمن المعقول فورًا الاقتصار على الكلام عن جنس الكائن في حالة إمكانية الكلام بالسوية ذاتها عن جنس اللاكائن،. تمامًا كما أنّنا قادرون على التحدّث بين الكائنات الحية عن حيوانات ولاحيوانات (أي: مملكة النباتات). وبما أنّه ليس هنالك لاكائنات، فلا يمكن، بناءً عليه، أن يكون هنالك جنس للاكائنات، وفي نهاية المطاف: ليس هنالك جنس للكائنات أيضًا. وهذا يستلزم:. بما أنّ كلّ علم من العلوم يدرس نوعًا ماهويًا واحدًا مندرجًا في جنس واحد، فلا يمكن أن يكون هنالك علم للكائن أيضًا.

وبالتالي، فعندما لا يقوم أرسطو، وبشكل صريح، بعكس حكمه بشأن وجود علم للكائن، فإنّه يعلن أنّ هنالك، على الرغم ممّا سبق،. علم للكائن (باعتباره) كائنًا (Met. iv 4)، وهي الفلسفة الأولى، والتي تستمدّ مادّتها من الكائنات ما دامت كائنات،. وبالتالي فهي لا تنظر سوى للميزات المتعلّقة بالكائنات، باعتبارها كائنات، ولا شيء غيرها،. دون أيّ زيادة على هذا الكلام (أي: دون النظر إليها باعتبارها كائنات رياضية أو فيزيائية أو بشرية). وعلى الرغم من الخلاف الذي يدور حول هذه المسألة،. فإنّ اعتراف أرسطو بهذا العلم يتبيّن في نهاية المطاف أنّه يستند بشكل حاسم على التزامه السابق بالمشترك اللفظي المعتمد على الصميم في ما يخصّ الكائن.[xiii] وعلى الرغم من أنّ هذه الحالة ليست على الدرجة نفسها من الوضوح وانعدام الخلاف كما في. لجوء أرسطو السهل نسبيًا إلى مفهوم (السلامة) الذي ذكرناه في موضع سابق (وهو يفسّر، في نهاية المطاف،. اختياره له كمثال توضيحي)، فيُفترَض أنّنا قادرون، بعد تفكّر، على تحديد ما يوازي ذلك من اعتماد على الصميم في الأمثلة التالية لكلمة (يوجد):

يوجد سقراط.

يـوجد موقع سقراط.

يوجد أنّ سقراط وزنه ثلاثة وسبعون كيلوگرامًا.

يـوجد أنّ سقراط متكدّر المزاج اليوم.

فلا شكّ في أنّ الأمثلة الثلاثة الأخيرة في القائمة السابقة عبارات ثقيلة على اللسان،. وهذا لأنّها تنهك نفسها في إظهار قدرتنا على التحدّث عن الأشياء التابعة (= غير المستقلّة). باعتبارها موجودة إذا كنّا نرغب بذلك، لكن دون أن يحدث هذا إلّا بسبب تبعيّتها للمثال الصميمي للكائن، وهو تحديدًا:. الجوهر (من الجدير بالذكر هاهنا أنّ “الجوهر الأوّلي” هي الترجمة التقليدية التي لم توفّق كثيرًا في نقل معنى مصطلح أرسطو “protê ousia” في الإغريقية. وهي تعني بترجمة أكثر حرْفية ” الكائن الأوّل”).[xiv] وبموجب هذه المقاربة،. لم يكن سقراط ليدلي برأيه في أي شيء أو يشعر بأيّ شيء ممّا وصلنا عنه لو لم تكن هنالك حقيقة سابقة على ذلك، وهي حقيقة وجوده. ولذلك فإنّ (يوجد) في العبارة الأولى تؤدّي دور المثال الصميمي للوجود، والتي تُفسَّر العبارات التالية على أساسها. وإذا كان هذا صحيحًا، فعندها يكون (الكائن) مشتركًا لفظيًا معتمدًا على الصميم، وهذا ما يراه أرسطو ضمنيًا؛. ويضاف إلى ذلك أنّ علم الكائن يصبح ممكنًا، حتّى وإن لم يكن هنالك جنس للكائن، وذلك لأنّه يصبح من الممكن،. في نهاية المطاف، دراسة كلّ الكينونات ما دامت تتّصل بالمثال الصميمي للكائن،. وعندها يصبح من الممكن أيضًا دراسة المثال الصميمي، أي: المادّة، ما دامت تؤدّي دور الحدوث الرئيسي للكائن.


  • الهوامش (الماهوية عند أرسطو):

[viii]  للمطالعة حول المقاربة النمطية المهيمنة للماهوية، راجع القسم الأوّل من مدخل. (الخاصّيات الماهوية إزاء الخاصّيات العرضية) في هذه الموسوعة.

[ix]   شهدت العقود الأخيرة تجدّد دراسة بيولوجيا أرسطو، وذلك على صعيدين: صعيد أكثر تجريبية وآخر أكثر تفلسفًا. ولمن يرغب بالاطّلاع على مقدّمة شاملة حول نتائج هذه الدراسة وخلافها. يمكن الرجوع إلى مدخل (البيولوجيا عند أرسطو) في هذه الموسوعة.

[x]    يعود مصطلح (المعنى البؤري) لأوين (Owen 1960). وقد تعرّض للنقد من إيروين (Irwin 1981) على أساس أنّ نظرية أرسطو لا تهتمّ بالمعاني. أو أنّها لا تهتمّ بها بشكل رئيسي. ويرى إيروين أنّ مصطلح (الصلة البؤرية) أكثر حيادية. ويفضّل شيلدز (Shields 1999) مصطلح (المشترك اللفظي المعتمد على الصميم) لأسباب منها أنّه يعكس اللاتناظر الذي لا بدّ منه في أبرز استخدامات أرسطو للمشترك اللفظي. راجع أيضًا (Ward 2008).

[xi]   لمقدّمة موجزة حول المشترك اللفظي المعتمد على الصميم في ما يخصّ (الكائن)،. يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (ميتافيزيقيا أرسطو) في هذه الموسوعة. ويقدّم شيلدز (Shields 1999) مسحًا أعمق بكثير لكتابات الخبراء في هذا الموضوع. ولمن يرغب ببديل نقدي. يمكن الرجوع إلى لويس (Lewis 2004)؛. ولمن يرغب بالاطّلاع على تطوير إضافي للموضوع يمكن الرجوع إلى وارد (Ward 2008). الذي أصاب في إيلائه تشديدًا خاصًّا على العلاقة بين المشترك اللفظي المعتمد على الصميم في ما يخصّ (الكائن) وبين مفهوم أرسطو للعلم (epistêmê).

[xii]   لمن يرغب باستكشاف فلسفي غني لهذه الإمكانية، يمكن مراجعة (Loux 1973).

[xiii]  لمقدّمة موجزة حول هذا الموضوع، يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (ميتافيزيقيا أرسطو) في هذه الموسوعة. ولمراجعة للنصوص المتعلّقة بدور المادّة في علم الكائن (باعتباره) كائنًا. يمكن مراجعة (Shields 1999, 225–229) و(Ward 2008). وللاطّلاع على دفاع مدعّم بالحجج عن أحد أنواع التفسير التقليدي، يمكن الرجوع إلى (Duarte 2007). ويمكن الاطّلاع على معالجتين متينتين في (Patzig 1979) و(Owens 1978).

[xiv]  يكرّس أوين (Owens 1978, 137–154) فصلًا بأكمله تقريبًا لمسألة الترجمة الصحيحة لكلمة (ousia) إلى الإنگليزية. ويخلص إلى أنّ كلمة “الكائن” مفضّلة على “الجوهر” في الترجمة. وعلى الرغم من أنّه يقيم استنتاجه هذا على أسباب رفيعة المستوى تستند إلى خبرة علمية. فإنّ توصياته لم تحظَ بالجاذبية في المجتمع العلمي. إذ لا يزال يفضّل كلمة “الجوهر”. وليس هنالك من ضرر في ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ “الجوهر” مصطلح تقني في كتابات أرسطو. ولا بدّ من تحصيل معناه عبر خصائصه النظرية.

الماهوية عند أرسطو