مجلة حكمة
نظرية المقولات عند أرسطو ستانفورد

نظرية المقولات عند أرسطو: حول الكيانات التي تعتمد على المادّة في وجودها – كريستوفر شيلدز


نظرية المقولات عند أرسطو

عند الحديث حول الكيانات التي تعتمد على المادّة في وجودها، يلجأ أرسـطو ضمنيًا إلى التزام فلسفي أساسي ظهر في فكره مبكّرًا،. وظلّ مستقرًّا طوال عمله في الفلسفة: وهو نظرية المقولات. فضمن كتاب (المقولات) الذي يعتبر في العادة من أوائل كتاباته، يعلن أرسطو بشكل يكاد يكون مفاجئًا:

«في الأشياء التي نتكلّم عنها دون أن تكون مركّبة، كلٌّ منها يشير إلى واحد ممّا يلي: (1) جوهر (ousia. (2) كمّية؛ (3) كيفية؛ (4) نسبية؛ (5) مكانية؛ (6) زمانية؛ (7) وضعية؛ (8) ملكية؛ (9) فاعلية؛ (10) انفعالية». (Cat. 1B25–27).

ولا يقدّم أرسطو سوى القليل في تأطير نظرّيته هذه (المقولات)، فلا يوفّر أيّ اشتقاق صريح عنها،. حتّى إنّه لا يحدّد بشكل مكشوف ما الذي تصنّفه (نظرية الأصناف) هذه [الترجمة العربية للمصطلح الإنگليزي. (Categories) تتراوح بين (الأصناف) كترجمة للكلمة الإنگليزية بمعناها الحديث،. وبين (المقولات) كترجمة للمصطلح اليوناني القديم الذي أبقاه المترجمون العرب الأقدمون على حاله أحيانًا (قاطيغورياس).(المترجم)] فإذا كان القيّمون على المكتبات يصنّفون الكتب، وعلماء النبات يصنّفون النباتات، فما الذي يصنّفه منظّرو التصنيف الفلسفي؟.

لا يجيب أرسطو على هذا السؤال بصراحة، لكنّ ما ساقه من أمثلة تجعل من الواضح على نحو معقول أنّه يعني بالتصنيف: تصنيف الأنواع الرئيسية لما قد يوجد من كينونات. وإذا استعنّا مجدّدًا ببعض الأدلّة من البيانات اللغوية، ودون الاستنتاج بأنّ الغايات النهائية للتصنيفات غايات لغوية، فيمكننا أن نقارن بين أشياء نقولها “مركّبةً” من أمثال:

الرجل يركض.

مع أشياء نقولها “دون أن تكون مركّبة” من أمثال:

الرجل.

يركض.

فعبارة (الرجل يركض) قابلة لتقييم صدقيتها المنطقية، بينما لا يمكن ذلك في عبارتي (الرجل) و(يركض)؛ وهنا يقول أرسطو بأنّ هذه الأشياء التي من هذا النوع (تؤشّر) لوجود كينونات، ومن الواضح أنّها كينونات خارج إطار علم اللغة، تتّصف بأّنها مترابطة على نحو تكون فيه العبارة الأولى تحتوي على ما يكفي من التعقيد ليقال عنها بأنّها صادقة (عندما يكون الرجل يقوم بالركض)، وتكون فيه الوحدتان التاليتان ضمن مستوى أدنى من مستوى تقييم الصدقية، أي: (الرجل) لوحده، وفعل (الركض) لوحده. وإذا كان هذا صحيحًا فإنّ الكيانات المصنّفة وفقًا للأصناف هي كيانات رئيسية تقع أدنى مستوى تقييم الصدقية، أو: الواقعات (facts). وهذه الكيانات تساهم بوضوح، إذا صحّ التعبير، في وقوعية الواقعة، تمامًا كما هو الحال في موازياتها اللغوية، أي: الأسماء والأفعال التي تقال “دون تركيب”، التي تساهم في إمكانية تقييم صدقية العبارات البسيطة. وعناصر الواقعات تساهم في الواقعات كما تساهم الأجزاء ذات الأهمّية المعنوية للقضية المنطقية في امتلاكها لحالتها الصدقية. ومن هنا فإنّ الوحدات التي تصنّفها مقولات أرسطو هي مكوّنات الواقعات. فإذا كانت عبارة (سقراط ضعيف) واقعة، فعندها نقول بأنّ الكيانات الماثلة أمامنا هي (سقراط) و(كونه ضعيفًا)؛ ووفقًا لمصطلحات أرسطو تكون الأولى (جوهرًا) والثانية (كيفية).

ومن المهمّ أنّ هذه الكيانات ربما تكون (أساسية) دون أن تكون (بسيطة) على الإطلاق؛ فسقراط، في نهاية المطاف، يتكوّن من أجزاء شديدة التنوّع: ذراعان وساقان، وأعضاء داخلية وعظام، وجزيئات وذرّات، …إلخ. وإذا أردنا توضيح ذلك من خلال ما يوازيه في علم اللغة فيمكننا أن نطرح الوحدات الصوتية (الفونيمات phonemes)، فهي تتّصف بأنّها (أساسية)، وتقترب من الوحدات الصرفية (المورفيمات morphemes) في نظريات الألسنيات، وهي مع ذلك (معقّدة) لأنّها تتكوّن من مكوّنات متينة أبسط، وهو أمر لا يتّصل بالموضوع من وجهة نظر علماء الألسنيات، لأنّها في مستوى أدنى من مستوى الصلة الدلالية.

ونظرية المقولات تعترف بعشرة أنواع فقط من الأشياء الأساسية التي تقع خارج نطاق اللغة، وهي:

(1) جوهر (رجل، حصان).

(2) كيفية (أبيض، سليم نحويًا).

(3) كمّية (متران طولًا).

(4) نسبية (ضعفا [عدد]، عبد [فلان]).

(5) مكانية (في السوق).

(6) زمانية (أمس، غدًا).

(7) وضعية (مستلقيًا، جالسًا).

(8) ملكية (منتعلًا حذاءه).

(9) فاعلية (يَقطَع، يُحرِق).

(10) انفعالية (يُقطَع، يُحرَق).

ومن الواضح أنّ أرسطو يفترض، وإن لم يصرّح بذلك في (المقولات)،. أنّ هذه التصنيفات العشرة للكينونات شاملة وغير قابلة للاختزال، فليس هنالك أشياء رئيسية تخرج عن هذه العشرة،. وليس من الممكن إلغاء أيّ تصنيف منها لصالح تصنيف آخر.

ولقد تعرّض كلا الادّعاءين للانتقاد، ولا شكّ في أنّهما بحاجة للدفاع عنهما.[xv] لكنّ أرسطو لا يقدّم لأيٍّ منهما أيّ دفاع في كتابه (المقولات)؛ بل إنّه لا يقدّم أيّ تأسيس مبدئي لتصنيفات المقولات نفسها،. وهو أمر جعله عرضة لانتقادات إضافية ممّن تلاه من الفلاسفة،. بمن فيهم إيمانويل كانت الذي أشاد أوّلًا باجتراح أرسطو لفكرة نظرية المقولات،. ثمّ شجب اختياره للتصنيفات الخاصّة دون الاعتماد على أساس مبدئي. وزعم كانت بأنّ أرسطو انتقى مقولات الكائن عندما صادفها في تأمّلاته وحسب (Critique of Pure Reason, A81/B107). إذن، وفقًا لكانت، لا تقوم تصنيفات أرسطو على أساس. ولقد سعى الفلاسفة والعلماء، قبل كانت وبعده، لتوفير الأساس اللازم، أمّا أرسطو فقد مال في العموم إلى تبرير نظرية المقولات بوضعها موضع التطبيق في أبحاثه الفلسفية المتنوّعة.

ولقد صادفنا في ما سبق، ضمنيًا، حالتين لجأ فيهما أرسطو إلى نظرية المقولات:

  1. في مقاربته للزمان، حيث تعامل معه باعتباره كائنًا غير جوهري.

  2. وفي التزامه بالمشترك اللفظي المعتمد على الصميم، والذي يطرح اعتبارات أكثر إثارة للجدل. ولا بأس في العودة إلى هاتين الحالتين بإيجاز لنبيّن كيف اعتقد أرسطو بأنّ عقيدته في المقولات. تقدّم الإرشاد الفلسفي عندما نكون بأمسّ الحاجة إليه.

عندما نفكّر أوّلًا بالزمان وألغازه المتنوّعة، أو “معضلاته”، نجد أرسطو يطرح سؤالًا بسيطًا: هل الزمان موجود؟. ثمّ يردّ على السؤال بالإيجاب، لكنّ هذا الردّ لا يستند إلى أيّ شيء سوى أنّ أرسطو يتعامل مع هذا السؤال باعتباره يتعامل مع أمر يندرج في تصنيفاته؛ فهو يدّعي بأنّ

«الزمان هو مقياس الحركة في ما يتعلّق بما قبل وما بعد» (Phys. 219b1–2).

وهذا التعريف يمكّن أرسطو من الدفع بحكمه بأنّ الزمان موجود حقًّا، وذلك لأنّه كيان يندرج ضمن تصنيف (الكمّية):. فالزمان بالنسبة للحركة أو التغيّر هو كالطول بالنسبة للخطّ. ولهذا فالزمان موجود، لكنّه، ككلّ مفردات أيّ تصنيف غير جوهري، موجود بشكل غير مستقلّ؛. فتمامًا كما إنه لو لم يكن ثمّة خطوط لما كان ثمّة طول، فلو لم يكن ثمّة تغيّر لما كان ثمّة زمان. وهذه الميزة لنظرية أرسطو حول الزمان واجهت ردود فعل منها الناقد ومنها المؤيّد.[xvi] لكنّ ما يهمّنا في السياق الحالي يقتصر على أنّه يخدمنا في كيفية تعامل أرسطو مع مسائل الوجود،. أي: باعتبارها في أصلها مسائل تتعلّق بعضويّتها في تصنيفاته؛ وعلى سبيل المثال:. إنّ المسألة المتعلّقة بوجود كلّية أو مكان أو علاقة هي أيضًا، في نظر أرسطو، مسألة تتعلّق بتصنيف الكائن، إن كان له تصنيف في الأصل.

وكما أن الزمان كيان مستقلّ في نظرية أرسطو، فكذلك أيضًا كلّ الكيانات المندرجة في التصنيفات المغايرة للجوهر؛. وهذا يساعدنا على تفسير اعتقاد أرسطو بأنّ من المناسب استخدام جهازه (المشترك اللفظي المعتمد على الصميم) في حالة (الكائن). فلو سألنا عن ما إذا كانت الكيفيات أو الكمّيات موجودة، فسيردّ أرسطو بالإيجاب، لكنّه سيشير أيضًا إلى أنّ اعتبارها كيانات غير مستقلّة يجعلها غير موجودة وفقًا للحال المستقلّ للموادّ. ولذلك، فحتّى في الحالة، التي جعلت نادرة، لـ(الكائن) تقدّم نظرية المقولات سببًا لكشف ما فيها من المشترك اللفظي المعتمد على الصميم. وبما أنّ كلّ تصنيفات الكائن تعتمد على الصميم، فلا محيد للتحليل الذي يتناول أيًّا منها عن أن يرجع في نهاية المطاف بشكل لامتناظر إلى الجوهر. ويحاجج أرسطو في كتابه (المقولات)، اعتمادًا على أحد أوجه التمييز بين الحمل الماهوي (ما يقال عنه) والحمل العرَضي (في):

«يجب أن يكون كل ما سواها إمّا أن يكون على موضوعات، أي: يقال على الجواهر الأولى، وإمّا أن يكون في موضوعات، أي يقال فيها؛. فيجب إذن إن لم تكن الجواهر الأولى أن لا يكون سبيل إلى أن يوجد شيء من تلك الأخرى» (Cat. 2B5–6).

وهنا يستنتج أرسطو بأنّه إذا كان الحال هكذا فإنّ كلّ التصنيفات غير الجوهرية تعتمد على الجوهر في صميم كينونتها. ولذلك يخلص إلى أنّ الكائن يمتلك ما يؤهّله ليعتبر حالة من حالات المشترك اللفظي المعتمد على الصميم.

وقد يطعن أحدهم في ما جاء به أرسطو،. فيتساءل أوّلًا عن ما إذا كان قد أسّس لانعدام التواطؤ اللفظي لـ(الكائن) قبل الانتقال للمحاججة في اعتماده على الصميم. لكن مهما يكن الجواب، فإنّنا إذا سمحنا بانعدام التواطؤ اللفظي فعندها يوفّر جهاز المقولات، وفقًا لأرسطو، السبب الكافي للاستنتاج بأنّ (الكائن) يمتلك ما يؤهّله ليكون مثالًا مهمًّا من الناحية للفلسفية حول المشترك اللفظي المعتمد على الصميم.

وعلى هذا النحو، فإنّ فلسفة أرسطو حول الكائن والجوهر،. وحالها هذا كحال الكثير من محتويات فلسفته، يعتمد على الالتزام بما تقدّم في نظرية (المقولات) التي صاغها. بل إنّك تجد هذه النظرية تتخلّل كلّ كتاباته وتؤدّي دور الدعامة التي يستند إليها الكثير من تنظيراته الفلسفية، من الميتافيزيقا وفلسفة الطبيعة إلى علم النفس ونظرية القيمة. ولهذا السبب فإنّ الأسئلة المتعلّقة بإمكانية الدفاع عن مذهب أرسطو في (المقولات) تصبح في نهاية المطاف أسئلة خاصّة ملحّة عند تقييم الكثير من أوجه فلسفته.

ولمن يرغب بالمزيد من التفاصيل حول نظرية المقولات وأسسها، يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (مقولات أرسطو) في [موسوعة ستانفورد للفلسفة].


[xv]   لنظرة عامّة واضحة حول الأنواع الرئيسية للانتقادات التي تعرّض لها التصنيف الأرسطي العشري للأشياء. راجع القسم الثاني من المدخل المخصّص لـ(مقولات) أرسطو في هذه الموسوعة.

[xvi]  لمن يرغب بالاطّلاع على القضايا المتعلّقة بمعالجة أرسطو لموضوع الزمان. يمكن مراجعة (Bostock 2006) و(Coope 2005).