مجلة حكمة
الكثير من القليل لاكان فرويد

الكثير من القليل / ألينكا زوبانتشيتش – ترجمة: عبير الجربوع


الكثير من القليل  

   ألينكا زوبانتشيتش ALENKA ZUPANČIČ هي أستاذة الفلسفة في كلية الدراسات الأوروبية وجامعة نوفا جوريكا في سلوفينيا. وهي عالمة بارزة بكلية ليوبليانا للتحليل النفسي التي أسسها سلافوي جيجك Slavoj Žižek في أواخر السبعينيات من القرن الماضي وملادن دولار Mladen Dolar وآخَرون، والتي تجمع بين الماركسية والفلسفة المثالية الألمانية والتحليل النفسي اللاكاني لتسهيل طريقة الانتباه للظواهر الاجتماعية والثقافية. نشر أعضاء الكلية نظرية لغوية لإلقاء الضوء (والظلال) على التاريخ والسياسة والفن والأدب والسينما.

     سعت زوبانتشيتش في أعمالها الأولى، مثل كتابها لعام 2000 “أخلاقيات الحقيقة: ” كانط ولاكان” Ethics of the Real: Kant and Lacan، إلى ربط اتجاهات الفلسفة الأوروبية بأفكار التحليل النفسي المعاصر. وفي عام 2008، نشرت كتاب “الغريب: في الكوميديا”The Odd One In: On Comedy، والذي يطبق الرؤى الفلسفية والتحليلية النفسية على العمليات التي تتم في العمل في الكوميديا. وتجمع أيضًا بين” كانط” والكوميديا والتحليل النفسي في كتابها “لماذا التحليل النفسي؟: ثلاثة اعتراضاتWhy Psychoanalysis?: Three Interventions (2008). ويستكشف مشروعها النقدي العلاقات بين الجنسي والوجودي، وبين الكوميدي واللاواعي، وبين الأخلاقي والسياسي.

     تحدثتُ مع زوبانتشيتش عن كتابها الجديد، “ما الجنس؟”  What IS Sex? (2017)، الذي تناقش فيه بأن الجنس هو نقطة الالتقاء بين نظرية المعرفة وعلم الوجود، وهو الشبكة الفوضوية التي تتجاوز الفجوة بين المعرفة والوجود. (كتاب زميلها جيجك الصادر عام 2017، شهوة الباطل Incontinence of the Void، هو رد على كتابها.) ما الجنس؟ نماذج لإلقاء نظرة، والإضاءة على ذلك الكيان الخفي الغامض المبهم اللاواعي.

     كاساندرا ب. سلتمان CASSANDRA B. SELTMAN: إن هدف كتاب “ما الجنس؟” هو العودة إلى أن فكرة الغريزة الجنسية يمكن أن تكون موضوعًا للتحقيق الفلسفي. كيف تفهمين انتشار الأنطولوجيا الجديدة في “الأوقات التي نعيش فيها”؟ هل ترين هذا بمثابة “عودة” للأسئلة الأنطولوجية؟

     ألينكا زوبانتشيتش: أرى أن هذا من الأعراض. هناك مستويان أو جانبان لهذا السؤال. من ناحية، هناك حقيقة، أو ضرورة مفاهيمية، فيما أسميتِه العودة إلى الأنطولوجيا. لا ينبغي أن تخجل الفلسفة من البحث الأنطولوجي الجاد، والتحقيق هنا ضروري ومطلوب. ومع ذلك، هناك شيء هزلي بعض الشيء عندما تُؤكَد هذه الحاجة بوصفها ضرورة مجردة أو معيارية، “يجب على المرء أن يفعل ذلك”، ومن ثَمّ يشعر المرء أنه يحتاج إلى أنطولوجيته الخاصة. “أنا فلان وهذه الأنطولوجيا الخاصة بي.” وهنا نجد قدرا كبيرا من الاعتباطية، عوضًا عن الضرورة المفاهيمية والدقة. وليست الفلسفة كذلك.

     وهناك أيضًا دعوة محيرة للتبسيط، والتي هي وفقًا لـ” كانط” و”التحول المتعالي” لنظرية المعرفة مجرد خطأ كبير أو انحراف أو زلل، والذي يتعين علينا رفضه والعودة إلى علم الوجود، للحديث عن الأشياء كما هي. كان تحول ” كانط” المتعالي إجابة لمأزق حقيقي لعلم الوجود الفلسفي. يمكننا أن نتفق على أن إجابته ربما ليست هي الإجابة النهائية، أو الإجابة الوحيدة القابلة للتطبيق فلسفيًا، ولكن هذا لا يعني أن المأزق أو الصعوبة التي ذُكرت غير حقيقية وأنه يمكننا التظاهر بأنها غير موجودة.

     محاولتي “العودة إلى” فكرة الغريزة الجنسية باعتبارها موضوعًا للتحقيق الوجودي تضرب بجذورها إلى قناعتي بأن التحليل النفسي (أي فرويد ولاكان) ومفهومه الفريد للذات لهما صلة وثيقة بمأزق علم الوجود الذي عالجه كانط. لذا فإن ادعائي ليس بأن الغريزة الجنسية مهمة فقط وينبغي أن تؤخذ على محمل الجد؛ بل هو أكثر طموحا من ذلك. ادعائي هو أن نظرية فرويد ولاكان عن الغريزة الجنسية، في علاقتها المتأصلة باللاوعي، تخلخل وتنقل السؤال الفلسفي لعلم الوجود ومأزقه بطريقة أكثر إثارة للاهتمام. لست مهتمة بالغريزة الجنسية بوصفها حالة من “علم الوجود المحلي”، ولكن لاحتمالية تقديمها بعض العناصر المفاهيمية الرئيسية للتحقيق الوجودي.

  • إن علاقة هذا السؤال الوجودي بالغريزة الجنسية يعيد العمليات الهستيرية إلى الذهن. هل ظاهرة الهستيريا مهمة لمشروعك؟

  • إلى حد ما فإن الهستيريا تكمن في صميم مشروعي، فالهستيريا حتى الآن هي موضع الاستفهام إن صح القول، الذي يبدأ بمن أنا (للآخر)؟

الهستيريا هي كل ما يتعلق باستنطاق الفجوة بين المعرفة والوجود، والكشف عنها. لهذا السبب فإن الشباك الفلسفية التي نرميها فوق هذه الفجوة عادة ما تكون جدلية للهستيريا، التي اتهمتها بوصفها شيئًا خاطئًا، مثل لحيةٍ زائفة، تخفي حقيقة بأنه لا يوجد شيء تحتها. وترى الهستيريا نفسها أحيانًا قادرة على ملء هذه الفجوة.

     – في مثال توردينه في الكتاب، ذكرتِ أن آدم وحواء اختبرا أساسًا نقصًا نفسيًا مبدئيًا عند طردهما من جنة عدن، والنتيجة المباشرة هي التأثير – العار. إن ما يسمى “نظرية التأثير” تحظى بشعبية كبيرة في الوقت الحالي، وهناك الكثير من القداسة حول الطبيعة الوجدانية. ما رأيك في هذا الموقف؟

     – يرتبط ظهور التأثير والقداسة حول الطبيعة الوجدانية إلى حد كبير ببعض الدالات البعيدة عن متناولنا، وكثيرًا ما ينطوي ذلك على غموض إيديولوجي جسيم. وتبدو قيمة الوجدان والمشاعر عند النقطة المحددة التي تتطلب فيها بعض المشكلات — الظلم على سبيل المثال — مراجعة منهجية جذرية لأسباب هذه المشكلة واستمرارها. ولن يشمل ذلك تسمية بعض الأشخاص فقط، بل سيشمل أيضًا التفاوت الاجتماعي والاقتصادي الذي توقفنا طويلاً عن تسميته واستجوابه.

     تعني القيمة الاجتماعية للتأثيرات بشكل أساسي أننا نحاكي المشتكي بلغته: إن مشاعرك غالية جدًا، أنت غال جدًا! كلما شعرت أكثر، كنت أكثر قيمة.

هذه مناورة ليبرالية جديدة نمطية، والتي تحول تجاربنا المؤلمة إلى رأس مال اجتماعي محتمل. وإذا استطعنا أن نستفيد من تأثيراتنا، سنقصر الشكاوى على التصريحات عن هذه الآثار- على سبيل المثال: تصريحات المعاناة-بدلاً من أن نصبح عناصر فاعلة في التغيير الاجتماعي. أنا لا أقول بالطبع أنه لا ينبغي التعبير عن المعاناة والحديث عنها، ولكن هذا لا ينبغي أن “يجُمد” الموضوع في صورة الضحية. يجب أن يكون التمرد بالتحديد حول رفض المرء أن يكون ضحية، أي رفض وضع الضحية على جميع المستويات الممكنة.

     – كيف تعتقدين أننا يجب أن نستجيب لهذا النوع من التأثير المقدس؟ يبدو أنه إذا ما استمر المرء في التحقق من هذا التأثير، فإنه يرد بنوع من الشره المتزايد. وعلى الجانب الآخر، إذا تم استجوابه، فإن الرد سيكون نوعًا من الغضب الذي يرفض أن يتحول إلى أي شيء آخَر.

     – أتفق، وهذا المأزق ينبع تحديدًا مما توفره هذه المكانة من الإرضاء الذاتي والإشباع والمتعة. والغضب (الأخلاقي) هو تأثير غير مُثمر بشكل خاص، لكنه مع ذلك يثير قدرًا كبيرًا من الرضا عن الذات. وأعني بـ”غير مُثمر” أنه يمنحنا شعورًا بالرضا للتفوق الأخلاقي، والشعور بأننا على صواب والآخرين على خطأ. ولكي ينجح هذا، لا يجب على الأمور أن تتغير حقًا. فنحن نهتم أكثر بأن نثبت مرارًا وتكرارًا، أننا على صواب، أو أننا في الجانب الصحيح، الجانب الصالح، أكثر من اهتمامنا بتغيير الأمور. اخترع هيجل اسمًا بليغًا لهذا الوضع: “الروح الجميلة”. ترى “الروح الجميلة” الشر واللؤم من حولها لكنها لا ترى إلى أي مدى تشارك هي نفسها في إدامة هذا النظام نفسه من الأشياء. ليست الفكرة بالطبع في أن العالم ليس شريرًا حقاً، بل الفكرة هي أننا جزء من هذا العالم الشرير.

     إن موقف الروح الجميلة يجد أرضًا خصبة بشكل خاص فيما يطلق عليه الكثيرون “طفولية” مجتمعاتنا. نحن نُحث على التصرف كالأطفال: أن نتصرف في المقام الأول وفق ما “نشعر به”، ونطالب — ونعتمد على — الحماية الدائمة ضد “العالم الخارجي”، ومخاطره ومعاركه، أو ببساطة ضد عالم الآخرين، البشر الآخرين.

     ربما يجعلنا شيء ما نرى كيف أن أولئك الذين يقدمون الحماية لنا بعد سن معينة، أو بعض الضرورات العاجلة، هم ألد أعدائنا وأنهم هم أنفسهم الممثلون الاجتماعيون للهيمنة، وليس بعض الأشرار الوحشيين الخارجيين. علينا أن نردهم بأدب، ونبدأ باتخاذ قراراتنا والإصرار عليها.  ليس لوحدنا، بل مع أولئك الذين يفكرون بطريقة مماثلة.

     ــ بما أنك ذكرت الطفولة، أود أن أسألك عن الجزء من كتابك الذي يناقش هذه المرحلة التطورية. كتبت عن أن الغريزة الجنسية للبالغين لا تختلف كثيًرا عن الغريزة الجنسية الطفولية، كما زعم فرويد. غير أن الحياة الجنسية الطفولية موجودة في غياب كل من الأطر البيولوجية (من حيث النضج الجسدي) والأطر الرمزية. وعلاوة على ذلك، فإن وجود الغريزة الجنسية لدى الأطفال عادة ما تُنكر بشدة. هل هذا الإنكار ضار؟  إذا كان كذلك، فهل يمكن أن تتصوري طريقة يمكننا بها الاعتراف بغريزة الأطفال الجنسية رمزيًا؟

     ــ ما يميز الأطفال عن البالغين ليس أن البالغين كائنات جنسية بينما الأطفال ليسوا كذلك. ما يميزهم هو أن البالغين من المفترض أن يكونوا قادرين بشكل أساسي على فهم ومعالجة المواقف الداخلية التي تنطوي على النشاط الجنسي. وهذا يعني قبل كل شيء أن كون الأطفال، كما زعم فرويد، كائنات جنسية إلى حد كبير لا يغفر للبالغين عندما يريدون إشراكهم في إشباع رغباتهم الجنسية. على العكس من ذلك، فإنه يجعل محاولاتهم أسوأ. هناك حد. ونوعًا ما، فإن هذا الحد يُعين بصورة اعتباطية — إذ يمكن للمرء أن يتساءل، لماذا لا يكون ذلك قبل شهرين أو بعد شهرين مما يسمى “سن الرضا”؟

المهم هو أن هناك حد. وهذا الحد لا يحمي الأطفال من النشاط الجنسي؛ بل يحمي حياتهم الجنسية، ويجعلها لهم وليست لأحد آخر.

     الغريزة الجنسية لا تبدأ بنضوج أعضائنا الجنسية، ولا تقتصر على هذه الأعضاء. كان هذا ادعاء فرويد الأساسي الذي سبب ضجة كبيرة. هل هذه “شمولية جنسية*”؟ هل يقول فرويد أن الجنس في كل مكان؟ لا، هو يقول إن الجنس ليس حيث نتوقع أن نعثر عليه. وهذه هي أول وأهم نقطة له، وغالبا ما يتم تجاهلها. نتوقع أن نجد الجنس في مسكن جسدي أصلي. أو بعبارة أخرى، نعتقد أن هناك موقع “طبيعي” أو مكان للجنس، وأنه إذا ابتعدنا عن ذلك المكان، فإننا نبتعد عن النشاط الجنسي. بيد أن ادعاء فرويد لم يكن شيئا من قبيل: “لا، ليس الجنس هناك فقط، بل هو أيضا في مكان آخر، يمكن أن يكون في كل مكان.” كان ادعاؤه أن الجنس مفقود في منزله، وأن “منزله” هو المكان الوحيد الذي لا يمكن فيه العثور على الجنس. والجنس لا ينشأ عن الرضا الناتج عن الرغبة في التكاثر وإنجاب الأطفال. وهو يبدأ بوصفه رضًا ثانويًا إضافيًا مصاحبًا ينتج في عملية تلبية الاحتياجات البيولوجية (بما في ذلك الحاجة إلى التكاثر). هذا الرضا الثانوي الإضافي المصاحب هو ما تصوره على أنه الدافع.

*هي انجذاب جنسي، أو جاذبية عاطفية تجاه أشخاص من أي جنس أو جندر.

     وهنا يمكن للمرء أن يسأل: لماذا نصف هذا الرضا المتعدد الأشكال بـ”الجنسي”؟ أليس هذا أمرا جائرًا؟ من المؤكد أنه سيكون جائرًا إذا كان الرد: بسبب ارتباطه اللاحق بالأعضاء الجنسية بوصفها أعضاء للتكاثر. على سبيل المثال، يقرأ فوكو فرويد بهذه الطريقة: يرى فوكو أن المشاكل ليست الدوافع وانحرافها متعدد الأشكال، بل الحركة المعيارية المزعومة (“السياسية البيولوجية”) التي تصنف هذه المشاكل تحت عنوان “الحياة الجنسية”. بالنسبة لـ “فوكو” ليس الجنس هو الفضيحة، بل هو نهاية الفضيحة، نهاية الجانب الهادم للمتعة. ولكن كما زعم لا بلانش ولاكان، فإن إرضاء الدافع ليس جنسيًا بسبب ارتباطه بأعضاء التكاثر الجنسي، ولكن بسبب ارتباطه بالبنية الدالة، التي هي أيضا بنية اللاوعي. هنا تصبح الأمور مثيرة للاهتمام حقًا، ولكن أيضا أكثر تعقيدًا.

     الطريقة التي تصور بها (لاكان) اللاوعي الفرويدي لها نتائج مهمة في نظرية النظام الدال وليس فقط في فهمنا للاوعي. لقد أصبح شعار “اللاوعي منظم مبني كالكلام” شعارًا معروفًا في التحليل النفسي اللاكاني. عادة يعني هذا التحرك في اتجاه واحد فقط: هو يخبرنا شيئًا عن اللاوعي؛ يخبرنا أن اللاوعي لا يتعلق ببساطة بأكثر أفكارنا الداخلية حميمية، والمشاعر والرغبات المكبوتة، بل يأتي من الخارج — ويتعلق ببنية اللغة والكلام. ولكن إذا كان اللاوعي يأتي من الخارج، إذا كان في الأساس “اجتياحيًا”، ولم يتولد ببساطة من داخلنا، ماذا يعني هذا؟ إذا لم يبدأ اللاوعي بالشيء الأول الذي نقمعه، فإن هذا يعني أن هناك بعدًا من القمع مدرجًا بالفعل في النظام الدال على هذا النحو. هكذا يقرأ لاكان المفهوم الفرويدي المتمثل في “القمع البدائي”، والذي يسبق كل عمليات القمع. اللغة على هذا النحو تشتمل بالفعل على “قمع” (Verdrängung). ولعلنا نستطيع أن نقول: إن اللغة / الكلام منظم مثل القمع، ويصارع مع استحالته الكامنة. وهذا ما يعنيه لاكان أيضًا عندما يقول إن البنى القمعية، مثل الأسرة والمجتمع، لا تفرض أو تطالب بالقمع فحسب، بل هي نفسها تكوينات مبنية على القمع. هذا درس نفيس لأي نوع من النظريات النقدية.

     وفيما يلي قراءتي أو تقديمي لهذا الأمر: يظهر النظام الدال على أنه يفتقر إلى أحد الدلالات بالفعل، يظهر مع نقص دلالة “مدمجًا فيه” إذا جاز التعبير. وبعبارة أخرى، فإنه ليس مجرد وجود الدلالة هي التي تحفز كامل “الجدليات” البشرية والاجتماعية وتناقضاتها، وإنما الغياب في صميم هذا الوجود، تحديدًا الفجوة التي تظهر مع نظام الدلالة المدمجة فيها. وهذا النقص أو الفجوة ليس مجرد لا شيء، بل هو نقص يؤثر جوهريًا على البنية الدالة التي يظهر بها. إنه عدم وجود مع عواقب وخيمة.

     وبهذا المعنى، فإن حقيقة وجود اللاوعي (إلى جانب حقيقة أن اللاوعي ليس مجرد شيء ذاتي بل له بعد موضوعي يتعلق ببنية الكلام/ اللغة) يخبرنا شيئًا عن هذه البنية نفسها. ووجود التشوهات الذاتية في حد ذاته يخبرنا بشيء “موضوعي” عن البنية التي تنطوي عليها. يخبرنا أن هذه البنية الموضوعية تعاني نقصًا وعدم تناسق وتناقض. كما أنها ليست محايدة. وهذه أيضًا نقطة معرفية مهمة. هناك جانب موضوعي للتشوهات الذاتية.

     – إذًا هناك نقص أو فجوة، لكن هناك متعة أيضًا؟

     ــ صحيح. وهنا تكمن النقطة المهمة: هذه الدلالة الناقصة هي بالتحديد المكان الذي ينشأ فيه فائض التمتع. وهذا يعيدنا إلى ما قلته سابقًا. فهذا يفسر سبب ظهور رضا ثانوي إضافي مصاحب عندما نلبي احتياجاتنا العضوية. لأن هذه الحاجات محصورة في البنية الدالة، والأهم من ذلك، في النقص — أو “الشيء الناقص” — الذي يأتي مع هذه البنية. وبعبارة أخرى، لا يكفي أن نقول إن الدلالة تضر احتياجاتنا لأنها تضمنها في جميع أنواع العلاقات والألعاب الرمزية. هذه هي نظرية الرغبة وعدم قصرها على الحاجة، بسبب طابعها “الرمزي” (“الرغبة هي دائمًا رغبة الطرف الآخر”). نظرية الدوافع هي شيء مختلف. إنه يعني أن هناك فائضًا من الرضا يظهر في موقع الدلالة الناقصة نفسه، وأن هذا الرضا هو في الوقت نفسه شيء حقيقي (وليس رمزيًا). يمكننا أيضًا القول: يتطابق ظهور النظام الدال مباشرة مع عدم ظهور دلالة واحدة، وهذه الحقيقة — هذا الناقص الأصلي — يترك أثره في اضطراب معين في نظام الدلالة — التمتع أو الرضا الفائض.

     ــ لماذا تتم هيكلة الدافع والرغبة بشكل مختلف، ولكن من السهل الخلط بينهما في الفكر الواعي؟

     ــ إن الخلط بين هاتين الفئتين الإكلينيكية والمفاهيمية المختلفتين ينبع تمامًا من حقيقة أنهما “تحفزاننا” على نحو غير عادي: فالرضا الذي يسعيان له ليس إرضاء لاحتياجاتنا العضوية أو البيولوجية. بل أبعد من ذلك، فهما مختلفتان تمامًا.

     الرغبة تهدف إلى ما لم نحققه عندما لُبيت حاجاتنا التي وضحناها عند طلبنا. إنها دائمًا تهدف إلى الشيء الآخَر، بعيدًا عن الشيء الموجود. الرغبة تظل قائمة من خلال الاختلاف بين نوعين من الرضا: رضا الحاجة أو الطلب، ورضا آخَر يدعم بالسلبية — ليس هذا ما أريد! أريد ما لم أحصل عليه. هذا هو الإطار الرمزي الذي تظهر من خلاله الكائنات بوصفها أشياء للرغبة. من ناحية أخرى، فإن الدافع ليس مدفوعًا بما لم نحصل عليه، ولكن بسبب الرضا الإضافي المتناقض الذي حصلنا عليه دون حتى أن نطلبه. نحن لم نطلب ذلك، ورغم ذلك أصبح مرتبطًا بشكل غير متوقع بإرضاء الحاجة. (والمثال الفرويدي الكلاسيكي هو المتعة الفموية الناتجة خلال إشباع الحاجة إلى الطعام.) يريد الدافع أن يكرر هذا الشعور بالرضا بالتحديد، مرة تلو الأخرى، غالبًا بغض النظر عما نريد “نحن”. القوة المحركة للدافع هي تكرار الشعور بالرضا الحقيقي غير المتوقع، في حين أن القوة المحركة للرغبة هي الاختلاف، لذلك تكون الرغبة في حركة “مجازية” دائمة.

     ــ تتحدثين عن الطريقة التي تخلق بها الغريزة الجنسية “انحناء” أو تحيزًا في الخطاب. هل يمكنك قول المزيد عما يبدو عليه هذا، وأين يمكننا رؤيته؟

     ــ لنبدأ بمثال لفرويد من الأمراض النفسية في الحياة اليومية. لم يستطع فرويد أن يتذكر اسم (سينيوريلي) (Signorelli)  وهو رسام “فريسكو أورفييتو”، وأنتج اسمين لرسامين آخرين بديلين له، “بوتيتشيلي” و”بولترافيو”. يوضح تحليل (فرويد) ما العمليات المشتركة التي ربطت (سينيوريلي) بـ (بوتيتشيلي) و (بولترافيو). لن أخوض في هذا التحليل هنا، ولكن أريد فقط أن أشير إلى أن هذا التكوين نموذج للقمع. لسبب ما قمع فرويد كلمة Signorelli. كيف نعرف ذلك؟  كيف نعرف أنها لم تكن مجرد حالة نسيان مؤقت للاسم؟  نعرف ذلك لأن اسمين آخرين ظلا يتبادران إلى عقل (فرويد). نلاحظ أن شيئًا ما قد قُمِع، ليس فقط من خلال ملاحظة فراغ، أو ثقب، أو مساحة فارغة. بل نلاحظ ذلك لأن شيئًا ما يظهر فارضًا نفسه في هذه المساحة الفارغة. إن السلسلة المنطقية أو الدلالية ليست مقطوعة بالضرورة أو ممزقة بأي شكل مرئي؛ هي لا تزال تعمل، ولكن بطريقة خاصة. انطلاقًا من هذه الخصوصية يمكن أن نستنتج ليس فقط أن شيئًا ما ظهر بدلاً من شيء آخر (ومن ثَمّ فإن شيئًا ما تعرض للقمع)، يمكننا أيضًا أن نستنتج أن الشيء المقموع – أو ما هو غير موجود — كثيرًا ما يمليه المنطق وظهور ما هو موجود بالفعل.

     إذا كانت هذه هي الطريقة التي يعمل بها القمع للأشياء المتحدثة، فإن أطروحتي، المستندة على قراءة معينة لفرويد وعلى بعض التصريحات الواضحة للاكان هي أن فضاء الخطاب ينطوي بالفعل على “قمع”. الفرضية هي أن ما أسماه فرويد “القمع البدائي” ليس مجرد قمع أولي — بل هو فجوة تظهر جنبًا إلى جنب مع البنية الخطابية. القمع البدائي بهذا المعنى ليس القمع الذي يقوم به أي شخص، قمع ليس له موضوع – بل هو سمة من سمات النظام الخطابي (الرمزي) الذي يظهر مع وجود فجوة مدمجة فيه بالفعل. هذه الفجوة، وهذا الافتقار إلى “الدال المزدوج” — أو إلى رمز العلاقة الجنسية، كما يسميها لاكان- لا تظهر في الفضاء الخطابي مباشرة على أنه افتقار. ولا يمكن استنتاجه إلا من منطق أدائه، ومن تناقضاته، ومن النتائج الإضافية (الآثار، المتعة) التي يحدث فيه. وهذا ما أسميه “انحناء” في الفضاء الخطابي. وهو ليس محايدًا فحسب، بل إنه متحيز، ولكن ليس بطريقة ذاتية. إنه متحيز بطريقة “موضوعية” أو منهجية. والمواضيع وأعراضها هي دائمًا استجابة لهذا الاعتلال المنهجي.

     عادةً، عندما نتحدث عن النظام الدال أو الخطابي، نعني أن هذا هو “الفضاء” الذي يحدده الدال، بمنطقه وقواعده. وأود أن أقترح المزيد- ألا وهو أن قاعدة الدال هي نفسها (أكثر من) محددة بشيء ما. وهذا “الشيء” ليس شيئًا خارجيًا بل هو عنصر مفقود من واقعه، عنصر مفقود يحدد بنية هذا الواقع ومظهره. أو بعبارة أكثر بساطة: إن هذا النظام الخطابي ليس محايدًا، لأنه يكافح دوما مع نقطة الاستحالة الخاصة به.

     وهذا يقودنا إلى مقولة لاكان الشهيرة: “لا يوجد (دال على) علاقة جنسية”. من الواضح أن هذا لا يعني عدم وجود علاقات جنسية. حيث أن غياب العلاقة، أو مؤشرها، لا يظهر ببساطة بوصفه غيابًا للعلاقات، بل هو بالأحرى غياب يؤثر على منطقها ومظهرها. وعلى حد تعبير لاكان، “إن غياب العلاقة لا يمنع بطبيعة الحال الصلة (الرابط)، بل إنه يملي شروطها.” ويملي عدم العلاقة شروط ما يربطنا — أي أنه ليس غيابًا بسيطًا حياديًا، بل هو غياب يحني ويحدد البنية التي يظهر بها. إن عدم العلاقة ليس عكس العلاقة، بل هو المنطق الكامن في العلاقات الممكنة والقائمة.

     ــ إذا فهمنا الغريزة الجنسية على أنها ليست فقط مشكلة لدى الشخص، بل شيئًا من مكونات الذات، فيجب أن يواجه المرء دائمًا شعورًا من خيبة الأمل أو الخسارة في صميم أي تحليل، سواء كان اكلينيكيًا أو غير ذلك؟  كان لدي مقولة على الحائط تقول، “منذ أن فقدت الأمل شعرت بتحسن كبير.” هل التحليل عملية تخلي عن نوع من الأمل؟

     ــ نعم ولا على المرء أن يكون دقيقًا جدًا هنا، حتى لا يبشر بأي نوع من الحكم الساخرة العتيقة. السلبية التي يصادفها المرء ويجتازها في التحليل يفترض أن تؤثر ليس فقط على معرفتنا بالوجود، ولكن على وجودنا ذاته. من المفترض أن يغير هذا شيئًا. والآثار المترتبة على “الأمل” تتغير خلال ذلك، هناك خيبة أمل، ولكن ليس لأننا أصبحنا نعرف الآن كيف نغذي آمال معينة، وأننا نعترف الآن بأن بعض الأمور مستحيلة. بل نحن نتغير.

     لنأخذ مثالاً أدبيا، رواية مارسيل بروست (سوان في الحب). البطل هنا مغرم بشدة (بأوديت) التي لم تعد تحبه. في معاناته الرهيبة يعتقد في البداية أن ما يريده حقًا هو أن يتوقف عن حبها، حتى يهرب من معاناته. لكن بعد دراسة أكثر دقة لمشاعره يدرك أن ليس هذا ما يريده. بل يريد أن تنتهي معاناته، بينما يظل هو في حالة حب، لأن تجربته في متعة الحب تعتمد على أن يكون معلقًا، إن صح التعبير. المشكلة هي أنه رغم أنه يعلم أن معاناته ستنتهي إذا توقف عن حب أوديت، إذا “شفي” من حبها، إلا أنه هذا ما لا يريده أبدًا، “لأن في عمق حالته المرضية، كان يخشى الموت نفسه أقل من خشيته من هذا الشفاء، والذي يعادل في واقع الأمر موت كل ما هو عليه الآن” بعبارة أخرى، إذا شفي من حالته لن يعود هو نفسه، ولن يجد متعة في حب أوديت أو وجعًا في لامبالاتها وخيانتها. ويمكننا أن نقول إن هذا هو بالضبط ما يؤدي إليه التحليل في مرحلة ما، إلى “موت” العديد من الأشياء التي نكون عليها عندما نبدأه. وهذا هو السبب في أننا في بعض الأحيان نتشبث بأمراضنا حتى لو كانت تنطوي على الكثير من المعاناة. ولكن إذا لم نكن في النهاية، بهذا المعنى الدقيق، الشخص الذي كنا عليه من قبل، فإن “خيبة الأمل” ربما لا تكون الكلمة الأفضل. ليس التخلي عن الأمل هو الذي يمنحنا الراحة، بل هو ارتياح معين — تحول في مراسي وجودنا — يبعث فينا الأمل.

     لم نعد نتوقع، أو نرغب في أشياء معينة. ولكننا نتوقع شيئا، ويمكننا حتى أن نتوقع، ونرغب، ونطالب بالكثير. فيما يتعلق بهذا يقول لاكان شيئًا مثيرًا للاهتمام في أخلاقيات التحليل النفسي. يتحدث عن مأساة أوديب، وما يحدث له في المسرحيتين (أوديب الملك وأوديب في كولونوس)، وكيف يتردد صدى ذلك مع ما يحدث في نهاية التحليل. يمكننا القول بالتأكيد أن أوديب خائب الأمل وشخص غير متفائل، ولكن في الوقت نفسه يصر لاكان كثيرًا على حقيقة أنه “يُظهر أنه صلب في النهاية، مطالبًا بكل شيء، غير متخلٍ عن شيء، غير متصالح مطلقًا”. إن التخلي عن الأمل لا يعني التصالح مع ما حدث، أو ما هو موجود — ومحاولة الخروج بأفضل النتائج منه. بل على العكس من ذلك، يمكن أن تكون حالة تمكننا من التعامل مع العالم، وليس فقط مع آمالنا وتوقعاتنا الشخصية بشأنه. ربما هذا هو تحيزي الفلسفي (والسياسي)، ولكن فهمي للتحليل هو أنه، إلى حدٍ ما على الأقل، يستبدل الأمل بالشجاعة، الشجاعة للقتال.

المصدر