مجلة حكمة
الفلسفة اليابانية

سعياً وراء الفردوس: مدخل إلى الفلسفة اليابانية

الكاتبأبيغيل ليلي
ترجمةبشرى ساعود

كي نفهم كيف أساءت حركة الانحلال Decadent movement تفسير الفن الياباني، علينا أولاً أن نفهم كيف نشأ هذا الفن في سياقه الثقافي الأصلي. غالباً ما يكون الجمهور الغربي غير مطّلع على الأسس الفلسفية للثقافة اليابانية. لذا، فإن كنا بصدد اكتشاف الفروق بين هذين المجالين الفنيين على نحو أكثر تعمقًا، فعلينا أولاً العودة خطوة إلى الوراء ونختبرَ الثقافات التي أدت إلى نشأتها.

من جهة، غالبًا ما يؤدي عدم توعية العالم الغربي بثقافة الشرق إلى قدر كبيرٍ من سوء الفهم لثقافته، مما يسهم في خلق جو أقل تعاطُفاً (أو مصطنعاً في تعاطفه) اتجاه اهتمامات اليابان المتفردة ومعتقداتها، ومن جهة أخرى، يترك الجمهور الغربي عرضة للأفكار ذات (الأنواع المجتاحة – invasive species) فكما تُضيّق نباتات العسلة اليابانية الخناق على الغابات الأمريكية، هذا أيضاً ما قد تسببه المفاهيم الأجنبية إذ إنها تعد شيئاً جوهرياً في موطنها الطبيعي وسيؤدي استخدامها خارجه، مالم تُختبر بعناية مُحكمة، إلى تهديد النظام الإيكولوجي لأفكار ومفاهيم ثقافةٍ ما.

على سبيل المثال، يحتاج الحفاظ على توازنٍ دقيق بين الكونفوشيوسية والبوذية، إلى مجموعة مختلفة من التوكيدات عن تلك التي يحتاجها إحداث توافق بين الفلسفة الإغريقية – الرومانية وأخلاقيات اليهودية – المسيحية؛ فدمج هذين السجالين سيُعَقد النقاش فقط بلا لزوم، ولكن سينفعها التبادل الحاصل بينها عند التعامل معها بشكل واع ٍ، بدلاً من إيذاء إحدى أو كلا الثقافتين. وكي ننصف كلًا من الشرق والغرب فمن الضروري أن نبذل جهداً مضاعفًا في فهم البيئة الثقافية لـ أوكييو إي ukiyo-e قبل الشروع في استكشاف الفن بحد ذاته.

في عام 1853، كُتبت مقالات وكتبٌ عدة عن الأعراف الفلسفية في اليابان لكل من الأمريكيين والأوروبيين. وتُورِد موسوعة ستانفورد للفلسفة ” The Stanford Encyclopedia of Philosophy ” نبذة عامة تفصيلية ومتاحة عن هذه المداخل الفلسفية، والتي سأقتطف منها في الفقرات القادمة من هذا المقال؛ ومع ذلك ستكون الشروحات التي سأوردها مبسطة للغاية بسبب قيود الوقت والمساحة. وتعد موسوعة ستانفورد المتاحة بالكامل عبر الإنترنت مصدرًا ممتازًا لهذا بالنسبة للقراء المهتمين بالتوسع في مواضيع المقال المتعلقة بالفلسفة اليابانية.

وللبدء بنظرة عامة مختصرة، يكمن أحد أبرز الفروقات بين الفلسفة الغربية  والفلسفة اليابانية في أنه في حين يسعى الفلاسفة الغربيون جاهدين لمواءمة الأفكار المتناقضة تحت ظل مبادئ موحدة، يركز الفلاسفة اليابانيون عادة على خلق مزيج استراتيجي بين المعتقدات المتناقضةِ جزئياً أو حتى كلياً؛ فعلى سبيل المثال، عندما اصطدم اليابانيون بالفلسفة الغربية في القرن التاسع عشر صكوا مصطلح  tetsugaku [تيتسوغاكو] لتوحيدها وتمييزها عن أنماط الفكر الأخرى وسُمي من يزاولها tetsugakusha  [تيتسوغاكوشا]  أو كما عرّفهم توماس كاسوليس[1] “من يتشاركون علوم الحكمة” وسرعان ما طوروا هوية خاصة  تفصلهم عن الـ tetsujin [تيتسوجين] (الحكماء). ويُبيّن كاسوليس

إن فهم التيتسوغاكوشا للفلسفة يشبه إلى حد كبير فهم علماء الجيولوجيا للصلصال، بينما يتماثل فهم التيتسوجين لها مع فهم حرفيّ الفخار للصلصال…. يرى الـtetsugakusha  الفلسفة على أنها جسر يربط الفيلسوف بالواقع بينما يراها الـ tetsujin كطريق ينخرط فيه الفيلسوف مع الواقع بشكل هادف ويغير كل منهما الآخر. أما بالنسبة لـ tetsugakusha فالفلسفة هي الصلة التي تكونها الذات للتواصل مع العالم في حين ينظر الـ  tetsujinإلى الفلسفة على أنها النِتاج الأخير الذي يتشكل من الارتباط المتبادل بين الذات والعالم.

في حين يواجه الـ tetsugakusha على ما يبدو صعوبات عدة في فصل الفلسفة عن مزاولة الحرفة، يزاولها الـ tetsujin من خلال علاقة واعية وحيوية بينهم وبين الشيء المصنوع. ويمكن القول بأن الفن في اليابان بحد ذاته هو شكل رئيسي من أشكال التعبير الفلسفي، ودائما ما يُختبر بوصفه جزءًا من شبكة تربط الفن، والفنان، والمُشاهد، والواقع. 

وما جعل وجود هذه الشبكة ممكناً هو ميل الفلاسفة اليابانيين إلى الاتجاه نحو العلاقات البديهية بين الأشياء. “يبدأ منظور اليابانيين للعلاقات الفلسفية باختبار كيفية تَشابُك (كيف تتداخل) العناصر مع بعضها باطنياً” أكثر من كون وجود شيء إضافي يربطها أو يصلها ببعضها” كعلاقة الجسد والعقل على سبيل المثال، مع أنها علاقة يمكن فيها تمييز أحدهما عن الآخر، لكنهما متصلان ومتلازمان مع بعضهما داخلياً، ومن غير الممكن فصلهما كلياً بدون انتهاك سمتهما الجوهرية أو وظيفتهما محيلةً بذلك العلاقة بينهما إلى علاقة مرنة وداخلية بدلاً من كونها “ثابتة”  و “خارجية”.

يسمح هذا المفهوم من العلاقات المتداخلة للفيلسوف الياباني باكتشاف علاقة (الموضوع) الواحد مع الآخر بالنظر ملياً إلى المعارف الموجودة مسبقاً داخل الفرد بدلاً من استقراء كل فرد على حدة في ظل الجماعة. يماثل هذا التصوير الهولوغرافي للأفكار علاقة الجزء بالكل برمزية ليست قائمة على (من الأقل إلى الأشمل) أي ما تمثله التفاحة (كنوع) بالنسبة للفاكهة، بل كما العنصر بالنسبة للآلة (أي كما تعمل العجلة ومحور الدوران مع بعضهما).

وبذلك ليس لزاماً بالنسبة إليهم تمييز الفن عن الفلسفة، بل يصبح الفن شكلاً من أشكالِ تجريبِ هذه العلاقة الفلسفية المترابطة بين الأشياء. إضافة إلى ذلك، فبسبب أن الفلسفة اليابانية متأقلمة مع شبكة الأفكار هذه، فهي لا تعير اهتماماً للحقيقة المطلقة كما تفعل الفلسفة الغربية التقليدية، إنما آثرت مزيجاً من الأيدولوجيات المتناقضة، والتي تخصص لها حيزاً من التأثير الاجتماعي أو تدمجها مع النظريات الأخرى لتشكل عرفًا جديدًا، وبصورة أعم، أثرت هذه العملية في خلق المنابع الخمس للفلسفة اليابانية: الشنتو، والكونفشيوسية، والبوذية، والفلسفة الغربية الأكاديمية، والبوشيدو.

وبالعودة إلى العلاقة بين حركة الانحلال والفن الياباني، يمكن بالفعل أن نبدأ في أن نلاحظ كيف ينهار الجسر بين الثقافتين بسهولة بالغة، وإلى ما آلت به الأحوال على نحو واسع في الغرب منذ العصر الفيكتوري، عبر فلاسفة القرن التاسع عشر وعلماءه، وفنانيه، وكُتّابه الذين وقعوا جميعًا ضحية للفلسفة السائدة آنذاك: البحث عن مبدأ عالمي قادر على تفسير كل مجالات المعرفة. في حين كان الانحلاليون أكثر لينًا من الأغلبية مع فكرة تعددية التجربة البشرية حتى أنهم جاهدوا لإظهار الفن بمبدأ الفن للفنL’Art pour l’art ، إلا أن سعي الفيكتوريين إلى المعرفة المطلقة، بالطبع يقف في تناقض واضح مع نهج اليابان متعدد الأوجه.

وبرغم التبادل الثقافي بينها؛ إذن، قد لا يكون من الممكن حتى مقارنة رسومات أوبري بيردسلي Aubrey Beardsley  مع أعمال هوكوساي Hokusai أو مقارنة لوحات كلود مونيهMonet الانطباعية مع الرسوم الأقدم ل سيشو تويو Sesshu Toyo للمناظر الطبيعية بالحبر. حيث يمكن تأويل كل منها وتقييمها وفقاً لأحكامها الفلسفية الخاصة. بينما حاول الفنانون الغربيون على نحو متزايد “تحرير” أنفسهم من القيود الفلسفية لصالح النزعة الجمالية العالمية للفن، يُعدّ الفن بالنسبة لليابانيين “التقليديين” (أولئك الذين كان تأثرهم بالأفكار الغربية أقل) جزءاً مُكمّلاً للفلسفة بحد ذاتها. 

وخلال سعينا لفهم أعمق لمطبوعات ukiyo-e وعلاقتها بحركة الانحلال ومحاولة فهمها مع بعضها بعضاً أو فرادى سنواجه مثل هذه الفروق تظهر من كل جانب.

[1] – توماس كاسوليس (Thomas P. Kasulis): بروفيسور وباحث في قسم الدراسات المقارنة ولغات وآداب آسيا الشرقية. يعمل في هيئات تحرير عدة مجلات رائدة في مجاله كمجلة The Eastern Buddhist وموسوعة ستانفورد للفلسفة. كتبَ العديد من الكتب والمقالات البحثية عن الديانات اليابانية والفلسفة الغربية منها Zen Action/Zen Person (1989)، Shinto: The Way Home (2004) وEngaging Japanese Philosophy: A Short History (2018)

المصدر