مجلة حكمة
نيتشه نتشه شبنجلر

الفكر اليميني عند نتشه وشبنجلر – كيري بولتون / ترجمة: طريف السليطي


مقدمة المترجم: يكتب كيري بولتون عن نتشـه وشبنجلر من جهة تأثيرهم على مثقفي القرن العشرين وبالأخص أصحاب الأمزجة اليمينية والتقليدية. يذكر في المقال أسماء مهمة, مثل حائز نوبل الشاعر  الإنجليزي وليم ييتس, والسياسي الإيطالي جابرييل دانونزيو, والأديب النرويجي حائز نوبل نوت هامسن مؤلف رواية (الجوع) والكاتب الإيطالي يوليوس إيفولا, ورائد الشعر الأمريكي في القرن العشرين إزرا باوند, وغيرهم من الأعلام الذين تأثروا بنتشه وشبنجلر ونقلوا أفكارهم إلى ميادين الأدب والفن. في هذا المقال يتعمق كيري بولتون في استقراء هذه الأفكار وبيان أثرهم القوي على الأعلام والرموز في أوروبا وأمريكا.


 

فريدريك نتشـه وأوزفالد شبنجلر اسمان ساطعان لاحا في فضاء الفكر الأوروبي في القرن العشرين. نتشه مؤثر في فكر شبنجلر, بينما هذا الأخير, ومعه نتشه, أثرا بشكل بالغ في الكُتاب الذين سنتناولهم هنا.

اهتم الاثنان مبدئياً بأسئلة التدهور الغربي وإمكانية النهوض, وكلاهما كان على قناعة بأن الحضارة الغربية دخلت دائرة التفسخ التي تبدّت خصوصاً في أجواء الثقافة والأخلاق والروح. لذلك كانا مناسِبَين للجيل الجديد من الفنانين والكتاب والشعراء الذين ظهروا أثناء الحرب العالمية الأولى, الحرب التي أبانت بجلاء أزمة الحضارة الغربية ودخولها دائرة التفسخ لقرون سابقة عليهما. إن الثورتين الإنجليزية والفرنسية, وباسم الشعب, أسقطتا النظام القديم وجاءتا بالبرجوازية الجديدة حيث انتصر المال على الدم والنسب.

لم تكن الديمقراطية عند الكثير من مثقفي النخبة بالعقيدة التي ينبغي الترحيب بها, بل على خلاف ذلك, كانت, كالبلشفية, تنذر بصعود الجماهير, ومن ورائهم حُكم المال, وحُكم الكم على الكيف, وعلى إثر ذلك انحطت الفنون والآداب.

في ظل المد الفكري الذي حطّ من شأن الإنسان والثقافة, سعى المُفكران العظيمان, نتشه وشبنجلر, من أجل رفعتها. كان ماركس على الضد منهما ومعه خصومه من المُنظرين الليبراليين للاقتصاد الذين يجعلون من كل شيء مادة اقتصادية؛ وفرويد الذي ردّ الإنسان والثقافة إلى كتلة من التفاعلات الجنسية؛ ودارون الذي ردَ الإنسان إلى مجرد حيوان آخر.

وفقا لنتشه فإن معنى الإنسان يكمن في ” التجاوز ” للحالة الراهنة, في السعى نحو صورة أعلى من الوُجود, وهي الحالة التي تبلغ ذراها في الفنون. لقد تجسد ذلك في الرجال العظماء وسط التاريخ. إن هؤلاء الرجال من ذوي الإرادة الخلاقة, وقد انعزلوا عن الحشود البشرية في خليجٍ هائل, والإنسان ماهو إلا حبل مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى.

إنه حبل فوق هاوية. وماهو عظيم في الإنسان هو كونه الجسر وليس الهدف.

وسط العبارات التي استخدمها نبي نتشه, وهو زرادشت, نجد هذه الكلمات وهي تُعرّف معنى الإنسان الأعلى:

 

“إنني أطلعكم على الإنسان الأعلى. الإنسان هو كائن ينبغي تجاوزه؛ فمالذي فعلتموه كي تتجاوزوه؟

كل المخلوقات حتى  هذا اليوم قد خلقت ما هو أبعد منها, فهل أردتم أن تكونوا الجزْر لهذا المَد العظيم؟ وأن تنكصوا إلى الحيوانات بدلاً من تجاوز الإنسان؟

إن الإنسان الأعلى هو معنى الأرض. فلتدَعوا إرادتم تقول إن الإنسان الأعلى هو معنى الأرض “.

لنغض النظر عن التفسيرات الداروينية المفروضة على نتشه. إن رفض نتشه للداروينية هو ما استحثه على إعلان مجيء الإنسان الأعلى, وأنه نتاج الإرادة, وليس مُجرد طفرة تطورية ووراثية ذات طابع عشوائي. إن الوجود الإنساني وخلافا لجل الكائنات الحية؛ لا ينال تبرير وجوده إلا بواسطة الثقافة, وهي كمال الطبيعة, ولا تتحقق إلا بالإرادة الإنسانية

” إن هذه الفكرة الأساسية عن الثقافة سوف تتعين في مهمة واحدة فقط, ينبغي لكل منا أن يتصدى لها: أن نبث في نفوسنا, بداخلها وخارجها, مولد الفيلسوف والفنان والقديس, أن نعمل لأجل كمال الطبيعة ” (نتشه: كتاب تأملات في غير أوانها).

يقرر نتشه في نفس المقالة أن هدف الإنسانية منغرسٌ في ” أنقى عيّناتها “. إن الطبيعة تريد من حياة الإنسان أن تكون ” هامة وذات معنى من خلال توليد الفنان والفيلسوف” بالتالي ليس الإنسان وحده من سيتم إنقاذه بل الطبيعة أيضا.

مع هذا التركيز الأساسي على التاريخ والإنسانية والطبيعة المتجسدة في إبداع الفنان, ما من عجب أن فلسفة نتشه استحوذت على مخيلة العديد من النخبة الإبداعية. لقد كان نتشه سابقاً على شبنجلر في رفض التقدم الخطي للتاريخ, وقرر بأن ما يأتي مُتأخراً في الحضارة لا يعني بالضرورة أنه الأفضل. إن الأفضل بالفعل هو ما انعكس في العيّنات الفذة, في الفنانين والفلاسفة, في البرزخ العازل بين هؤلاء الأفذاذ والشخص العادي, وهو أوسع مدى من تلك المسافة الفاصلة بين الإنسان والشمبانزي.

لأجل ذلك كانت مواقف إيزرا باوند النتشوية بشأن (الفنان والجماهير) قد تكررت عند كثير من معاصريه, فبعضهم كويندهام لويس ويوليوس إيفولا, شعرا بالتوجس حيال الفاشية, لأنها ” درامية جدا.. وذات طابع جماهيري “. كتب باوند :

” لم يعد للفنان أي شك بأن الحشود وما تحتويه من أنصاف المتعلمين من ذوي الابتسامات الصفراء لن يشاطرونه مباهجه. إن أرستقراطية الفنون جاهزة لخدمة الإنسان من جديد. لكن الحضارة الحديثة أنجبت أناساً لهم عقول الأرانب, أما نحن الفنانين موضع الاحتقار؛ فسننتصر وتعود إلينا السطوة “.

أما ديفيد لورنس فذهب بعيداً للحد الذي رأى فيه نفسه دكتاتوراً قادماً لتحرير الجماهير من ” عبء الديمقراطية ” بينما حكم جابرييل دانونزيو إمارة فيوم بالفعل, وجعل الاهتمام بالفنون نصب عينيه.

طالب نتشه في كتاب زرادشت بألواح للشريعة, وأن تُنقَش بداخلها مُفردة النبيل. إن النخب الإبداعية تصنع قوانينها من خلال إبداعها, ولا تتقيد برعاع الديمقراطية وما يلتزمون به من قوانين وعادات وقيم صُمّمت لسيادة ما هو عادي. لذا, فإن نبي نتشه (زرادشت) ينصح الإنسان الأعلى بالابتعاد عن الجمهور والسوق, حيث سيُسحب الإنسان الأعلى إلى أسفل عبر الحشود، ويبلغ الدرك المُمِيت من المساواة المُتأتية من الديمقراطية.

سوف يُولد الإنسان الأعلى من رحم الإرادة, ومن خلال النبلاء الذين يكافحون من أجل تجاوز الذات ووصول ما هو أبعد من أنفسهم وعبر تنصيب المعاناة فوق الذات. إن القسوة النتشوية لهي إحدى تشوهات نتشه, هذا الذي قرر بأن القوي مُتعاطف مع من هو أقل قوة.

لئن جعل نتشه الثقافة معياراً يحدد المُجتمعات والأفراد, فإن شبنجلر يُطور مورفولوجيا للثقافة يُقيم على أساسها تحليله للتاريخ. إن هذين الفيلسوفين يرفعان من مقام الثقافة فوق البدع الاقتصادية, والجنسية, والحتميات البيولوجية, ويجعلان الثقافة رؤية للعالم. لقد نوّه شبنجلر في مقدمة كتابه (تدهور الحضارة الغربية) بأنه أفاد من اثنين, أولهما جوته في المنهج, وثانيهما نتشه في مَلَكة الشك.

لهذا برز اهتمام شبنجلر بالجيل الجديد من الفنانين والشعراء والكُتاب. وجد شبنجلر نموذجه النظري في الدوائر المتناظرة في كل حضارة, وبواسطتها يشرح كيف ولماذا ولجت الحضارة الغربية دائرة الانحطاط. ومثل نتشه, فإن شبنجلر رأى أن الديمقراطية, والحياة البرلمانية ودعوات المساواة, وصعود المال, وتتويج التاجر, قد جاءت على حساب نبالة الدم وأرستقراطية النسب, وهي أعراض انحلالية, ساهمت في ضعضعة الفنون إلى أسوأ حال.

وكثرة من نخبة المثقفين الذين كانوا من ذوي الطبيعة الروحانية, مثل ييتس وإيفولا, ومعرفتهم بالدوائر الأسطورية للثقافات القديمة في الشرق والغرب والقارتين الأمريكيتين, قد جاءت عن طريق قراءتهم لشبنجلر ونظريته عن دوائر الحضارات.

في عمله الفريد من نوعه (تدهور الحضارة الغربية) يرفض شبنجلر فرضية الخط التقدمي للإنسانية والداروينية والتقدمية, مُوضحاً ذلك بقوله:

” إنني في الموضع الخاوي من الخط التقدمي, أشاهد الصراع الذي يحدث لعدد من الثقافات الجبارة, ولكل منها حياتها الخاصة وموتها المحتم. كل ثقافة تملك أسلوبها الخاص في التعبير عن نفسها. إنها تصعد, ثم يشتد عودها, وبعد ذلك تتفسخ, وترحل ولا تعود أبداً. إنني أنظر لتاريخ العالم كلوحة تملأها التشكلات والتحولات اللامتناهية للثقافات, بدءا من الصعود المُبهِر للثقافة وانتهاء بالهُبُوط الشنيع لصورتها العضوية. أما المُؤرّخ الصرف والمُحترف, فلن ينظر للتاريخ إلا كدودة شريطية تكد وتجتهد كي ينمو ذيلها بمرور الزمن”.

إن هذه المُقاربة الدائرية للتاريخ عند شبنجلر, لهي ذات طابع عُضوي. إنها تقارب الثقافات من منظور الكائن الحي, حيث الولادة, فالنمو المزدهر, ثم المرض وأخيراً الموت. كل حضارة, مع أنها ذات خصوصية, إلا إنها تشارك الحضارات الأخرى في دوائر النمو ومراحله, وهي الدوائر التي يلخصها شبنجلر في أربعة فصول. ففي مرحلة الشتاء تتقدم الحضارة لدرجة تتسيد فيها المدينة على حساب الريف, والربح المالي بدل البطولة, والأرستقراطي يتم استبداله بالتاجر. أما فيما يخص الطبقات الاجتماعية فإنها تنزع نحو الوجهة الاقتصادية وتصطبغ بهذا الطابع. إن المدن الهجينة يستوطنها العمال مكان رجل الريف والحِرَفي, والتاجر مكان المُحارب, والمصرفي بدلا من النبيل, وهي الأمور التي توصف عادةً بالجِدَّة, والحداثة, والتقدمية, والنمط الغربي من الحياة. كذلك شيوع الإجهاض, وتنظيم الأسرة, وممارسات البنوك, وسيادة تصويت الأغلبية في البرلمانات, والنسوية، والاشتراكية، والثورات الشعبية. كلها أمور حدثت في شتاء الحضارات السابقة. يصفها شبنجلر في المقطع التالي:

” أنت, أيها الغرب, ميت لا محالة. إنني أجد فيك كل وصمات الاضمحلال. إنني قادر على البرهنة, بثرواتك وفقرك, برأسماليتك واشتراكيتك, بحروبك وثوراتك, بكفرك أو تشاؤمك وسخريتك, بفنائك الذي جاء من تحديد نسلك وجعلك تنزف من أسفلك حتى امتد ذلك إلى دماغك. أستطيع أن أبرهن لك أن هذه هي علامات الموت وقد حلت بالدول القديمة.. في الإسكندرية واليونان وروما التي أصابها العُصاب “.

العديد من كتاب الجيل الجديد كان قد اجتذبهم تحليل شبنجلر عن طريقة سيادة المال, والقيم التي يجلبها المال وتحكم بارونات المال في السياسة, وكيف أضحت هذه المسألة حتمية في الدورة الأخيرة من الحضارة. لقد بات هؤلاء الكُتاب مهتمين بالإطاحة بحكم المال وإعادة الحضارة لفترة الربيع حين ازدهرت الفنون والآداب تحت رعاية النبلاء. وجد ييتس وإيفولا في حِقب القرون الوسطى الغربية ضالتهم, وارتأى إزرا باوند أن الإطاحة بحكم البنوك يتأتى بنظرية اقتصادية تدعو إلى الائتمان الاجتماعي, بينما تمنى نوت هامسون وهنري ويليامسون عودة القيم الريفية لتحل محل أخلاق المدينة, وكثير من هؤلاء كان منجذبا للفاشية.

ذكر شبنجلر أنه في الطور الأخير من شتاء الحضارة تظهر ردة فعل ضد حكم المال, ثم يسير المال نحو ذروته قبل أن يستنفد كل إمكانياته:

” يتغلغل المال حتى عند رجال الريف ويملك زمام الأرض, ويغير أفكار أبناء الحِرفيين أنفسهم, وفي هذا اليوم ينتصر المال على الجميع ويضغط بلاهوادة على الصناعة, من أجل رفع إنتاجية رواد الأعمال, والمهندسين, والعمال, على السواء. إنه مُفسِد. إنه الآلة والبشر هم حاشيته. إنه الملِكَة الحقيقية لهذا القرن والتي تشعر بالخطر من الإذعان لقوة أعلى منها. لقد بدأ المال أيضاً يفقد سُلطته, وسيحدث الصدام الأخير عندما تجد الحضارة نفسها أمام آخر لحظات الصراع.. أي الحرب بين المال والدم”.

إن حُكم المال سيتم تخطيه من قبل (القياصرة الجدد) وهم قادة أقوياء لا يُذعِنون لنفوذ الأثرياء وأذرعتهم في البرلمان والإعلام. في كتاب شبنجلر الأخير (الأعوام الحاسمة) ينظر إلى فيالق الفاشية في إيطاليا كقائدة للقيصرية الجديدة, أما موسوليني فكان شديد الإعجاب بشبنجلر ونتشه على السواء.

يستكمل شبنجلر قوله:

” إن السيف ينتصر على المال, وإرادة السيد سوف تقهر إرادة التاجر مرة أخرى, سيتم إسقاط المال وإلغاءه عبر الدم. إن الحياة هي ألف وياء. وإن المُحيط الكوني مُختزلٌ في الذرة الصغيرة. كذلك هو الأمر في دراما الثقافات العُليا وعالمها العجائبي والمتكون من الديانات والفنون والأفكار والمعارك والمُدن المُنهارة بعد عودة الحقائق الفطرية وأولها قداسة الدم, هذه القداسة الخالدة والمُتدفقة مثل سَيلان المُحيط الكوني “.

المصدر