مجلة حكمة
إقصاء إريك فروم من الاتحاد الدولي للتحليل النفسي - بول روزان / ترجمة: سارة اللحيدان، يوسف الصمعان مذكرات عن فرجينيا وليونارد وولف - بول روزان / ترجمة: سارة اللحيدان، يوسف الصمعان

مذكرات عن فرجينيا وليونارد وولف – بول روزان / ترجمة: سارة اللحيدان، يوسف الصمعان

مذكرات عن فرجينيا وليونارد وولف - بول روزان
الفصل الثالث حول (مذكرات عن فرجينيا وليونارد وولف) من كتاب (الأسس الثقافية للتحليل النفسي السياسي) لبول روزان

لشراء نسخة كندل من الكتاب على هذا الرابط


 عُرفت فرجينيا وولف كأبرز الشخصيات في بدايات القرن العشرين، زمن ازدهار المثقفين البريطانيين الذين عرفوا بجماعة بلومزبري ” Bloomsbury[1] “، إلا أنني توصلت إلى أعمالها عبر مسلك غير مباشر. كان جون ماينارد كينيز[2] أول عضو قمت بقراءة أعماله من أعضاء تلك الجماعة، لفت انتباهي في المرة الأولى عام ١٩٥٩ عبر نسخة ورقية الغلاف لكتابيه الشهيرين مقالات فيا البيوغرافيا ” Essays on Biography” “وكتابه   – السيرتان – ” Two Memoir “، ذلك لأنه كان يعُدّ رمزًا أساسيا في الاقتصاد الحديث. ما زلت قادرًا على استدعاء تألقه في كتاب ” معتقداتي في وقت مبكر”، بدا لي كينيز من الكتّاب الذين يحبسون أنفاسك عند حديثهم عن، روبرت مالتس، ليويد جورج، وينستون تشرتشل، تروتسكي، والدكتور الغامض ميلكيور، ومؤسسي معاهدة فيرساي، وحتى نيوتن.

أتيح لي في أكسفورد فقط، وبعد سنة تخرجي، شرف قراءة نظرية كينيز الاقتصادية في كتابه الشهير ” النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود “، The General 1936-Theory of Employment, Interest and Money “). في ذلك اللحين كنت واعيًا بموهبة كينيز ككاتب واقتصادي أيضا. كان كتابه (العواقب الاقتصادية للسلام The Economic Consequence of Peace   -1919) تجربة لا تنسى، بمسوداته العظيمة حول رجل الدولة المتورط في ختام الحرب العالمية الأولى، وتكهناته حول ما سيلحق أوروبا إثر أحكام معاهدة السلام. بدأت بالقراءة ثم تدرجت سياسيا، وفلسفيا، واقتصاديا، وأعتقد أن سبب ذلك هو حيوية الفلسفة غير المعتادة بأكسفورد في ذلك الوقت، والدور الرئيسي الذي لعبته في الحياة الفكرية، مما جعلني أبدأ بقراءة المزيد عن مبادئ الأخلاق Principia Ethica  لـ ج. إي. مور. (1903). كانت حجة مور مركزة، وكوني طالبا في الفلسفة السياسية، كنت بحاجة لفهمها تماما، لكنني شعرت بأنني أواجه المفكر كينيز مثل الجميع، أي باعتباره أبرز الشخصيات الفلسفية لجماعة بلومزبري” Bloomsbury.”. حينها تيقظ لدي اهتمام بفرويد، لكن كتبه لم تتوفر في مكتبة جامعتي ماجدلين. وفي السنوات القليلة اللاحقة، كنت قد قرأت كل ما يخص إ. م فورستر، الصديق المقرب لكينيز ولـ فرجينيا وولف أيضا. بدأت كتب السير الذاتية لوولف وليونارد بالخروج عام ١٩٦٠، فقد قاموا بتقديم عرض خالد لحياة كامبردج الفكرية، وكان أمرا صعبا على أمريكي ألا يغار من طريقة تحديد الجغرافيا البريطانية، ففي مقابل اتساع العالم الجديد، سيكون من السهل على الأصدقاء القدامى البقاء على اتصال.

خلال صيف عام 1965 أنهيت رسالة الدكتوراه حول ” فرويد: الافكار السياسية   والاجتماعية ” Freud’s Political and Social thoughts وعينت بمنصب أستاذ مساعد في جامعة هارفارد، وأخذت على عاتقي أن ألتقي (بينما أعد بحثا في لندن) كل من باستطاعتي إيجاده ممن التقوا بفرويد شخصيا. في عام ١٩١٧ قام ليونارد وولف بمعيّة زوجته فرجينيا بتأسيس مطبعة هوغارث، والتي مازالت تقوم بالنشر، وبما أنها كانت المعنية بنشر أعمال فرويد باللغة الإنجليزية كان من المنطقي بالنسبة لي أن ألتقي ليونارد وولف. (كان لقاء كيرت إيسلر بـ ليونارد وولف لايزال حبيسا في مكتبة الكونجرس حتى عام ٢٠١٣). رغم أنني دونت ملاحظات قيّمة خلال اللقاء وبعده، بدا لي الآن أنني تغاضيت عن تدوين ربما أبرز جوانب ذلك اللقاء. أول هذه الجوانب، كان الجو المحيط بهوغارث، التي تقع في شارع ويليام الرابع ٤٠، و.٢، لقد كانت كل ما يحلم به ناشر بريطاني تقليدي، يحب للكتب أن تكون كما يريد، كان المكان عفنًا ومتداعٍ بشكل عجيب، ولأجل أن تصل لمكتب وولف الصغير، يلزمك أن تصعد على درج ضيق ومتهالك. لم يكن هناك علامة على التجانس، لا طلاء كروم حديث، ولا تكنولوجيا كالتي كانت تسيطر على دور النشر التجارية. الجانب الثاني، هي تلك النظرة التي ألقاها ليونارد على أحد أعمال فرجينيا، بينما كنا نتحدث، أعتقد أنها كانت أحد مجلدات مقالاتها التي قام بتحريرها، وقد تكون جزء من مذكراتها التي كان يشرف على نشرها بعد وفاتها. تحول وجهه للحظات بينما انحنى على المخطوطة قليلا، أعتقد أن التوهج الذي شاهدته على وجهه يشرح شيئا من عبقريتها التي أضفتها على حياته. كان ليونارد يبلغ الخامسة والثمانين، بيدين مرتعشتين (صدمتني ضخامتهما)، ودماغ لايزال حيّا. كانت ملامحه رزينة، وشخصيته مهيبة (ألمحت في الملاحظات لابد وأنه كان شخصا قويا) عاش بعد ذلك اللقاء أربع سنوات فقط.

كان جيمس ستراتشي الأخ الأصغر للايتون وأحد أصدقاء ليونارد وولف القدامى، أول من اقترح نشر أعمال فرويد عبر مطبعة هوغارث. وكانت مطبعة أنوين هي المعنية كموزع بريطاني بأعمال المحللين النفسيين، لكن ليونارد كان يعتقد أن ” مثل هذه الترتيبات لم تكن مرضية أبدا”، كان لفرويد دار نشر خاصة في فيينا، طبعت بعضا من كتبه باللغة الإنجليزية هناك. وبرأي ليونارد، لم يكن فرويد رجل أعمال كفؤا – إذ يرى ليونارد أن فرويد مهووس بعظمته وكثيرا ما طبع عشرة آلاف نسخة وبالكاد بيعت منها ٣٠٠ أو ٤٠٠ نسخة في السنة الأولى. عندما تولى ليونارد نشر أعمال فرويد، كان قد ورث ملكية الكتب التي طبعت في فيينا، والتي غالبا ما تصل متسخة بسبب طريقة تخزينها خارجيا، ولسنوات كانت الشكاوى تصل إلى ليونارد من بائعي الكتب في لندن.  حينذاك أنشئت لجنة للنشر في معهد التحليل النفسي البريطاني، والتي ضمّت كلا من إيرنست جونز[3],جون ريكمان، وجيمس ستراتشي.  في بداية النشر تعامل ليونارد في فيينا مع مارتن الابن الأكبر لفرويد، ثم في لندن مع إيرنست الأخ الأصغر لمارتن.

كان ليونارد وولف قد تبادل بضع رسائل مع فرويد بنفسه، والذي من وجهة نظر ليونارد كان ” رجل أعمال سيء”. لأنه قام ببيع مجموعة بحوثه التي تقع في أربع مجلدات لمعهد جونز مقابل خمسين جنيها لكل مجلد، لم يطل الأمر حتى أعادت مطبعة هوغارث كافة المجلدات، في ذلك الوقت كتب ليونارد لفرويد يعرض عليه الشروط السليمة للبيع حيث تكون له ما نسبته ١٠٪ من العائدات.

عندما هاجر فرويد إلى لندن عام 1938، ذهب كلا من ليونارد و فرجينيا وولف لاحتساء الشاي معه في حدائق مارسفيلد، أدخلتهم آنا ابنة فرويد إلى مكتبة الاستشارات. كان ليونارد قد جلب قصاصة من جريدة حول محاكمة سارق في لندن، من بين سرقاته أحد كتب فرويد، وكانت حادثة فويل أمرا مألوفا في ذلك الوقت. أرسل القاضي السارق للسجن ثلاثة أشهر قائلا: ” أتمنى أن أحكم عليك بقراءة كافة كتب فرويد “ أضحكتني تلك القصة، وإذا كنتم تتساءلون عن ردة فعل فرويد، نعم لقد ضحك كثيرا كما يروي ليونارد”

لاحقا وضع ليونارد هذه القصة في المجلد الرابع لسيرته ” Downhill All the Way” ١٩٦٧. حيث يروي:

“كل المشاهير تقريبا مخيبين للآمال ومملين، أو كلاهما معا. لكن فرويد لم يكن من هؤلاء، لم تكن له هالة شهرة وإنما هالة من العظمة. مضت ثمانية أشهر بعد مهاجمة سرطان الفم لفرويد والذي أدى إلى وفاته، لم يكن اللقاء بالسهل. كان لطيفا للغاية وتقليديا بترحيبه، حينما قدم لفرجينيا زهرة نرجس.  امتلك فرويد شيئا يشبه بركانا نصف خامد، كان بائسا، مكبوتا، ومتحفظا. تملكني شعور لا يأتيني إلا لقلة ممن ألتقيهم، شعورا بالغا بالرقة وفي ذات الوقت بالقوة. بدت الغرفة التي جلس فيها بسيطة، مشرقة ومضيئة، بمنظر بهي من النافذة ومطّلا على الحديقة. كانت غرفة بمثابة المتحف، تحيط بمكتبه الآثار المصرية التي قام بجمعها. عند حديثه عن النازيين، قالت فرجينيا إننا نشعر بالذنب لأننا كسبنا حرب ١٩١٤، لو لم نكسبها لم يكن هناك نازيين ولم يكن لهتلر أي وجود، فأجابها فرويد بأنها مخطئة، سيكون لهتلر والنازية وجود، وكان يمكن أن يكون أسوء لو فازت ألمانيا بالحرب.”[4]

كان فرويد مستمتعا باستهجان حين سماعه قصة السارق فويل التي سردها ليونارد وولف حين لقائه به، يقول بأن كتبه لم تجعله مشهورا وإنما رجلا مذهلا وسيء الصيت. ومن المهم أن نشير لما كتبته فرجينيا وولف في مذاكرتها التي ظهرت فقط عام ١٩٨٤ , كتبت:

 “قدم لي الدكتور فرويد زهرة النرجس، كان يجلس في مكتبة كبيرة حوله تماثيل صغيرة مرتبة بدقة فوق طاولة كبيرة ولامعة. جلسنا على الكراسي كالمرضى، أمام رجل كبير بالسن منكمش وينظر بعينين رقيقتين، بالكاد تصدر منه حركات متشنجة ولكنه في وضعية تأهب دائمة. وحول هتلر قال بأنه لو عاش متأخرا بجيل سيكون للسم مفعوله. وعن شهرة كتبه؟ يقول: كنت سيء الصيت أكثر من كوني مشهورا، لم أجني ٥٠ جنيها من كتابي الأول. كان حوارا صعبا، ساعدتنا ابنته وابنه مارتن بإمكانيات جبارة كشعلة مضيئة. لدى مغادرتنا كان يحدثنا عن موقفنا وما نحن فاعلين؟ أمام الحرب الإنجليزية”.

وفي اليوم التالي مضت تكمل سرد اللقاء:

 كم كان الأمر سيؤول للسوء لو لم تكسبوا الحرب، هكذا قالها فرويد. قلت له إننا نشعر بالذنب، فلو خسرناها لم يكن ليوجد هتلر، وبتأكيد كبير قال: لا، سيكون أسوء بشكل لامحدود، وكان فرويد قد خطط بغضون أربع وعشرين ساعة للمغادرة لثلاثة أشهر. وعندما ذكر ليونارد قصة القاضي الذي أمر السارق بقراءة عشرين كتابا لفرويد، كان مصغيا له باهتمام بالغ. أخبر أدريان ستيفن – شقيق فرجينيا وولف- بأن الأميرة ماري بونابرت سلمته ذلك الصرح المهيب، قصر هامبتسيد.  ولم يرق ذلك لآنا قالت:” لكنه لم يعجبنا مثل شقتنا في فيينا”. إن اللاجئين مثل النوارس، بمناقيرها المفتوحة والمتأهبة لكسر الخبز. كان هناك ضغط من قبل مارتن لنشر روايته، وآنا من أجل كتابها، وجهدا كبيرا علينا لنظهر بصورة حسنة.

بدا لي أن عبقرية فرجينيا تفتقر لحس الدعابة، كقولها (هل أنا متعالية؟) والتي أضحكتني بقدر ما صدمت بها، أو حين إغفالها لمقولة فرويد الساخرة حالما دخلت هي وليونارد: ” نحب المرضى على الكراسي” كلاهما لم يظهرا أنهما فهما الإشارة التهكمية لطريقته المعتادة في رؤية من يقوم بتحليلهم على الأريكة، الجلوس على الكراسي قطعا لم يكن اقتراحا يقدمه فرويد لمرضاه كمحلل نفسي، والظاهر أن فرجينيا لم تفهم دعابة فرويد، (بدلا عن ذلك ما قصدته فرجينيا أنها هي وليونارد كانا يجلسان على الكراسي مثل المرضى، لكنها فوتت الإشارة الفرويدية لاستخدام الأريكة من بين مجمل الأثاث في الغرفة. وعلى العكس من ليونارد لم تُشر لضحكه على تعليقات القاضي وحكمه على السارق. (كتب فرويد إلى ليونارد بعد لقائه معتقدا أن القاضي كان نرويجيا ” أعتقد أنني لم أكن مُرضيا عندما ألتقيتك أنت والسيدة فرجينيا، وذلك لعجزي عن استخدام لغتكم. قد يساء فهم الإدانة التي قدمت من قبل القاضي النرويجي وتصبح نكتة سيئة من قبل صحفي خبيث”. هذه الرسالة كانت مدعاة تساؤل -بالنسبة لي- عن حجم استمتاع فرويد بحادثة فويل.

تحدث ليونارد وولف عن واحدا من كتبه المفضلة يستعرض ردًّا على كتاب فرويد (علم النفس المرضي للحياة اليومية Psychopathology of Everyday Life). كان الكاتب الأمريكي والتر ليبمان من الأوائل المطلعين على أعمال فرويد وكان يتحدث هو وليونارد عن أهمية فرويد قبل الحرب العالمية الأولى. وسألته ما إذا كان ليبمان لديه معرفة بالتحليل النفسي فتردد ليونارد قبل الإجابة بكياسة، كان لديه علم ” بقدر ما كنت أعلم”. عمل ليونارد لاحقا على إدخال أفكار فرويد في كتبه التنظيرية السياسية (وهذا ما فعله ليبمان في كتاباته الشخصية). كانت فرجينيا وولف أقل اطلاعا عن فرويد مقارنة بزوجها ليونارد، (من الواضح أنها بدأت بقراءة أعمال فرويد بعد أشهر قليلة من لقائها به). ولم يأخذ ليونارد فرجينيا لأي طبيب نفسي رغم اضطراباتها النفسية المتكررة. (يقول جيمس ستراتشي لعلّه لم يقرأ كتب فرويد التي كان ينشرها، بينما كان اعتقاد اليكس زوجة جيمس أن فرجينيا كانت خائفة من أن التحليل النفسي يتداخل مع إبداعها)

ويكمل ليونارد الحديث عن تلك الأيام، بقوله: كان هناك قلّة قليلة من الناس من اهتموا بفرويد سألته عن أصدقائه فذكر استثناءً جيمس ستراتشي وآل ستيفنز (أدريان شقيق فرجينيا، وزوجته كارين، وكلاهما أصبحا محللين نفسيين). ويضيف: “تحدث ت. س إليوت بقدر جيد عن التحليل النفسي، لكن روجر فراي بدا استثنائيا في عدوانيته” (وندمت على عدم سؤالي عن كينيز وفورستر، كنت قد اشتبهت بأن الشذوذ الجنسي بين أدباء الإنجليز الشباب قد عقّد استجابة البريطانيين للتحليل النفسي، عقدها بصورتها أكثر من كونها آراء شخصية تجهميه حول الانحراف).

بقي ليونارد وولف على اتصال مع مارتن فرويد حول أمور نشر أعمال الأب، وكانت فرجينيا قد أشارت في مذكراتها لروايته التي لم تنشر بعد. (ربما كان كتاب آنّا فرويد الذي ذكرته فرجينيا أول كتاب حول تحليل الطفل والذي قام بطبعه جونز ولاء لآنا منافسة ميلاني كلين التي لم يسمح لها بنشر شيء). وقد أخبرني وولف أنهما استضافا مارتن على العشاء وكانا ودودين معه. (في عام ١٩٤٠ كتب ليونارد الاشتراكي إلى كليمنت أتلي أمير بريفي سيل في مجلس وزراء حرب تشرشل، يحتج على اعتقال مارتن وترحيله لأستراليا، بصفته أجنبي خطر) ويتساءل ليونارد عما فعله مارتن في لندن ليستحق الترحيل، وبسؤالي عنه قال: أعتقد أنه كان مفكرا. عرض مارتن روايته على مطبعة هوغارث، لكن ليونارد لم يكن مقتنعا بها كرواية صالحة للنشر. وبما أنني قد قرأت الرواية أقول عن هذا الحكم أنه كان حكما رحيما.

كان السبب الأول لرؤيتي ليونارد هو الاطلاع على أرقام مبيعات كتب فرويد، وكان جوابه بأن هذه المعلومات ليست سرية لكنه يخشى أنها أضيعت بسبب تنقلهم خلال الحرب وتسرب الأمطار لها بعد تعرضهم للقصف. ويظهر أن مطبعة هوغارث قد ربحت مبلغا مجزيا من مبيعات (مجموعة أبحاث فرويد)، كان ذلك المشروع ” أكثر مجازفة مربحة” قاموا بها. وكانت الكتب قد طبعت وأعيد طباعتها في أمريكا. قال لي ليونارد: قد يملك ما كميلان معلومات حول أرقام المبيعات الخاصة بهم، بما أنهم الموزعين لهوغارث هناك، وبالطبع في أمريكا ستكون هناك كتب بترجمة أ.أ بريل الرديئة. كانت (مجموعة الأبحاث) لفرويد فكرة جونز بالمقام الأول، لكن بحلول عام ١٩٦٥ رتب جيمس ستراتشي لعمل جديد، بترجمة منقحة، وملاحظات محررة. (كان تقويم النسخ الأمريكية الصعبة بمثابة عمل بطولي قبل تصدّر الطبعة الأصلية لستراتشي والتي تحتوي على أربع وعشرين مجلدا، بيعت هذه المجموعة بأمريكا مقدمة من هوغارث)

 مازحني ليونارد وولف بابتسامة واسعة على وجهه، سائلا ما إذا كنت سأكتب عن الخلافات التي حصلت بين فرويد وتلميذيه السابقين ألفرد أدلر وكارل يونغ؟ ,وما كنت في تلك المرحلة من عمري أعطي إجابات مؤكدة، لكنني سألته ما إذا كان يونغ وأدلر يُعتبران على قدم المساواة مع فرويد، وأجابني بنفي قاطع. كان لديه فضول حول ما إذا كان في فيينا عام ١٩٦٥ محللون نفسيون بارعون، (في ذلك الوقت كانت الجمعية النمساوية للتحليل النفسي جمعية استثنائية بكونها من الجمعيات القليلة التي لم يكتب لها الازدهار). بعد اليوم الذي قابلت فيه ليونارد أرسل لي رسالة حول أرقام مبيعات كتب فرويد والتي كنت قد طلبتها منه، (لم أشعر بأن ليونارد كان عدائيا تجاه أمريكا لكنه هو وفرجينيا لم يقوما بزيارتها خلال حياتهما العملية)

بدأت هوغارث بنشر المجلدات من السابع حتى العاشر لسلسلة في مكتبة معهد التحليل النفسي. كانت هذه المجلدات الأربع هي التي بيع منها حوالي ٣٠٠ نسخة في السنة الأولى. من مجموعته البحثية.

كتاب فرويد التالي الأنا والهو The Ego and the Id بيع منه ٤٠٤ نسخة في أول اثني عشر شهرا من نشره، والطريقة التي ازدهرت بها مبيعات كتب فرويد يوضحها البيان التالي بيان المبيعات (الكتاب/ تاريخ النشر/مبيعاته في 12 شهرا:

  • مستقبل وهم Future and Illusion /١٩٢٨م – ٨٩٩ نسخة

  • الحضارة وتوعكها Civilization and Discontent /١٩٣٠م- ٩٢٩ نسخة

  • محاضرات تمهيدية جديدة New Introductory Lecture /١٩٣٢م- ١٢٢ نسخة

  • دراسة السيرة الذاتية Autobiographical Study / ١٩٣٥م- ١٦٩٧ نسخة

مقارنة بغيره من المؤلفين:

  • إسهامات إضافية- Further Contributions (فيرنزي) / ١٩٢٧م – ٣٠٢ نسخة

  • علم نفس الثياب- Psychology of Clothes (فلوجيل) / ١٩٣٠م- ٤٠٦ نسخة

  • علم نفس الأطفال- Psychology of Children (كلاين) / ١٩٣٢م- ٣٤٣ نسخة

لا أعلم كيف تمكن ليونارد من حصد هذه الأرقام سريعا، لكنها تتفق تقريبا لقائمة إجمالية صنفها ج. هـ ويليز عام ١٩٩٢ لصالح حسابه في هوغارث.

ورغم أن لقائي بـ ليونارد وولف كان من باب الاهتمام بالتحليل النفسي، واضبت على القراءة العامة والاهتمام بجماعة بلومزبري، ومبادرتي كانت بسبب كتب ميتشل هولرويد العظيمة عن لايتون ستراتشي والتي ظهرت عام ١٩٦٧. وكنت قد نشرت مقالا قصيرا حول الصلة الغريبة التي جمعت فرويد ولايتون ستراتشي. في العديد من كتبي أتيت على جماعة بلومزبري، لكنه كان من أجل تأليف كتاب وكان عليّ التعامل مع أدريان ستيفن – شقيق فرجينيا وولف-  في الجمعية البريطانية للتحليل النفسي للمؤلف.

كانت قد ظهرت لهذا الشقيق سيرة مثيرة وغريبة، حيث كانوا يُتوسلون إلى هذا الولد الصغير كي يذهب لرحلة إلى الفنار، مما قادني أخيرا لقراءة عمل فرجينيا (نحو الفنار) ولأول مرة. (كنت قد قرأت مذكرات فرجينيا التي احتوت على مجلدين كتبهما ابن شقيقتها كوينتن بيل).

ورغم أنني أتيت على أعمال فرجينيا وولف متأخرا، وجدت أن علاقتي بليونارد كانت عاملا مساعدا على فهم الأعمال الأدبية الأخيرة والتي دارت حول زواجهم. بدا لي أن سيرة فرجينيا وولف لمؤلفتها هيرميون ليّ الأفضل، لأنها الأشمل من بين كل الأعمال التي ظهرت، لكنني رأيت أن صفحتها الافتتاحية كانت صادمة بشكل غريب، علقت ليّ: ” لم يكن عبثا من فرويد في مناسبة لقائهم الوحيدة عام ١٩٣٩ أن يقدم لها زهرة نرجس“، هل كانت ليّ تفكر هكذا؟ بمرضه وسنّه الكبير استعد فرويد للقاء فرجينيا بالذهاب للحديقة واختيار أي زهرة ستكون الأنسب لفرجينيا؟ يبدو لي أنها مبالغة من نوع غريب، من الممكن أن شخصا آخر من العائلة قد اختار الموجود من الزهور للمكتب والتي بلا شك اختار فرويد منها اختيارا فريدا.

ويبدو جوهريا وبشكل واضح افتقاد سيرة ليّ للعناصر الرئيسية لعلاقة فرجينيا بليونارد. الرجل الذي عاد من سيلان كموظف استعمار مدني، قبل أن يتزوجها عام ١٩١٢، وكان لزاما عليه أن يبدو لعائلتها ولأصدقائها كشخص قادر على العناية بها. (بعد ثلاث سنوات من زواجهم أصبحت فرجينيا مريضة بالفعل) كان الانهيار الأول بعد وفاة والدتها عام ١٨٩٥، وكان عمرها آنذاك ثلاثة عشر عاما. كان من أكثر الجوانب إيلاما بالنسبة لـ ليّ أن فرجينيا لم تكن قادرة على الشعور بأي شيء، كردّة فعل على وفاة والدتها. وما صاحبها خلال شبابها من مشاعر مرهقة من التفكك. هذا الحرج من مشاعر الحزن المكبوحة قد يكون له صلة بما وصفته هيلين دويتش[5] في بحثها الشهير حول (غياب الحزنAbsence of Greif ) كيف أن الحداد المتأخر يمكن أن يكون مصدرا قو يا للتعاطف والحدس. بالنسبة لـ ليّ فإن الحادثة المرتبطة بوفاة والدتها ” تُظهر تجربة طويلة من الحرج من إظهار المشاعر” وقد يعتقد آخر أنها ساهمت بتغذية رقة الشعور لديها.

درس ليونارد وولف في كامبردج مع شقيقيّ فرجينيا توبي وأدريان، لكن ليونارد كان غير عادي بكونه يهوديا وميسور الحال. في وقت متأخر من عام ١٩٣٠ كتبت فرجينيا وولف في رسالة ” كم أكره الزواج من يهودي، كم هي كريهة مخارج أصوتهم الأنفية، ومجوهراتهم الشرقية، وأنوفهم، كم كنت متعالية؟ “. كانت ليّ محقة في ملاحظتها لفرجيينا بـ “تحيزها العنصري وتميزها الطبقي”.

جمعت كافة أعضاء بلومزبري النخبوية المعادية للسامية، ولم يكن متوقعا لأحد أن تثبت فرجينيا كم كان عضوا غير صالح. من ناحية مالية، كان لليونارد جزء قليل من مال فرجينيا، ومن المحتمل أن هناك قناعة مشتركة بعدم استقرار فرجينا نفسيا ولذلك كان ليونارد خيارا جيدا كزوج لها. أما في الجانب الجنسي في حياتهما فيبدو أنه لم يكن هناك اتفاق بالعموم بينهما، تكهن محلل نفسي بريطاني بأن زواج وولف ربما لم يكن مكتملا، إن لم يكن فعلا كذلك. وكان بالأساس تسليما لوضع طويل المدى.

لاحظت لي أن ” الشهود على هذا الزواج خلصوا إلى أن التكافؤ الجنسي لم يكن موجودًا “. واستنتج ابن هارولد نيكلسون وفيتا ماكفيل، أن فرجينيا كانت من النوع ” البارد جنسيا” ومنذ بداية زواجهما اعتادا على النوم في غرفتين منفصلتين، كان ليونارد يحضر لها الإفطار على سريرها كل صباح. وجدت ليّ أن ” الصورة القياسية للزوج البسيط، كمنبوذ جنسيا يضحي بنفسه على مذبح عبقريتها”. كانت فكرة إنجاب الأطفال خارج الحسبان بالنسبة لشخص غير مستقر مثل فرجينيا. لكن ليّ استمرت بالتأكيد على أن “هذا الزواج لم يكن زواجا جنسيا، وقد يستمر أحد على اللعب والأحضان الحنونة”. ولربما تصورت أن وولف حظي بعلاقة جنسية كما يتصورها أي شخص. لكنه كان قلقا على صحة فرجينيا. قامت ليّ باقتباس ما كتبت فرجينيا لصديق عام ١٩١٢ ” ليونارد وولف أدخلني في سبات عميق” دون أن تشير ليّ إلى أي مدى كانت فرجينيا مدللة ومتساهلة مع ذاتها، وهي محقة في ملاحظتها بلا شك بأن ” هناك خط رقيق بين الحذر والترقب والرغبة في التحكم”، ومما لا شك فيه أن ليونارد كان ” حارسا أكثر من كونه عشيقا”، كما وصفته ليّ بأنه ” شخص عميق، واضح، وسريع الانفعال ومتحكما بذلك بتدريب ذاتي شديد”.

لم تتساءل ليّ قط ما إذا كانت فرجينيا ستكون روائية عظيمة دون ليونارد. في وقت زواجها كانت لم تنشر روايتها الأولى بعد. رغم أن موهبتها في الكتابة كانت واضحة حتى في بعض رسائلها الأولى، لكن ليّ لم تثمن وجود ليونارد بتقديمه البناء الأساسي لإنجازاتها الأدبية، قد يكون مبغضا للبشر أحيانا، متحكما، مقتر ماليا، لكن يعاب عليها إغفال دوره الذي قام به من أجل فرجينيا وما فعلته هي أيضا لأجله. كيف سيكون الأمر سهلا مع شخص هش مثل فرجينيا التي تعرضت لعديد انهيارات وانتهى بها الأمر لقتل نفسها رغم كل ما قام به ليونارد من اهتمام، لعبقرية فشلت في إيجاد تفسير للأعمال التي أنجزتها.

كان يمكن أن تذهب حياة فرجينيا من دون ليونارد وولف لاتجاه تدميري في وقت أبكر. افتقدت في تفسير لييّ لهذا الزواج ما قدمه ليونارد وفرجينيا لبعضهم البعض من تواصل عاطفي وفكري، لا نجده في زيجات أخرى، وعادة ما يتم الانفصال لانعدام التكافؤ الجنسي. ورغم أنني وجدت صعوبة في أن أضع يدي على ما هو مفقود في نظرة لييّ لزواجهما، ظهر لي تلميحا لنصّ رسالة كتبتها ستيلا الأخت غير الشقيقة حول خاطب ” لا يمكنني أن أفكر فيه دون أن انتفض، ومع ذلك هو الأقرب ليشفق عليه، الأمر مريع” علقت لييّ هنا بشكل متطفل” ماذا يمكن أن يكون فعل؟ “، ولمَ يمكن أن يكون فعل أي شيء؟، وتغيرت مشاعر ستيلا رغم أنها مازالت تعتقد أنه مثير للشفقة. طوال قراءة (فرجينيا وولف) شعرت بلمسة عصرية ومحترمة لنسوية مضحيّة، ربما يعود لمظهر فرجينيا، ماذا لو كانت فرجينيا الرجل وليونارد المرأة؟ أشك أن كتّاب السير سيكون لديهم شك حول التضحية الذاتية في الزواج. ومع ذلك رأيت بقناعة أثر فرجيينا على ليونارد حين لقائي به. يعتقد فرويد أن كل المتحضرين هم مازوخيين بشكل جزئي، وبشكل مثالي بالنسبة للزواج الذي يستوجب إفضاء الاثنين لبعضهم البعض وما يتعاهدا عليه في خيباتهم وعراقيلهم.

التعليلات الحتمية لفرجينيا وليونارد عكست المزاج السائد حول العلاقات بين الجنسين. ومهما كانت عيوب سيرة فرجينيا وولف التي كتبتها لييّ، فإنها لن تضاهي إثارة مراجعات فيليس غروسكورث في ملحق التايمز الأدبي ١٩٨٠، للمجلد السادس الذي حوى رسائل فرجينيا وولف. حاولت فيليس أن تقدم فكرة لا أساس لها من الصحة بقولها: ” ذاعت شائعة في القرية أن ليونارد وولف قد تخلص منها وأخفى الجثة” بعد حادثة انتحار فرجينيا. وعرضت فيليس اقتراحا بالبحث في أحد رواياتها الأخيرة عن يهودي غير مرغوب، ربما كانت ” تصف تظلما ضد مطبعة هوغارث”، وجد ليونارد وفرجينيا أن النشر أمر مرهق وربما رأى ليونارد أن فيه نوعا من التوجه العلاجي لفرجينيا لتحظى بجانب عقلاني في حياتها لكن ما من شيء يدعم فكرة أن فرجينيا يمكن أن تكون شديدة وناقدة على ليونارد عبر مشهد برواية. بل أن فيليس طرحت نقطة “الفشل الفني” الذي أعقب رواية ” السنوات” (والتي أصبحت من أفضل المبيعات بأمريكا الشمالية)، سعى بليونارد لإفساد ثقة فرجينيا بنفسها. مثل هذه التكهنات تبدو خبيثة بالنسبة لي، تدّعي فيليس أن ليس من غير الطبيعي لسياسي رفيع المستوى أن يجد السلم ومناهضة الحرب موضوعيا في العمل العبقري (ثلاثة عباقرة سذج) توحي بأنه ربما ” اضطهد من جانب ميزان الحقائق والحجج” لإن المفترض أن فرجينيا “مسؤولة ماليا “.  وفقا لفيليس فإن ليونارد أخبرها “ألا تكدح من أجل المضجر روجر”، يعني سيرة روجر فراي التي أخذتها على عاتقها. وكانت فيليس قد وجدت في آخر رواية نشرت لفرجينيا ” بين الفصول ” تظهر نموذجا لفرجينيا وليونارد ” كمخلوقين حُبسا في حرب أبدية”

كتب جون ليمان الذي كان على معرفة بالزوجين وولف، وعمل كشريك في مطبعة هوغارث، ينكر ادعاء فيليس غورسكوث ” أشعر أن على الاحتجاج بعنف ضد الإساءة المبطنة ضد ليونارد وولف، والتي قفز بها إلي بيان غورسكورث معارضا لتلميحاتها، وأبقى ليمان على ما هو واضحا بقوله: ” كانت رفاهية زوجته أحد ركائز اهتماماته”. (انتهى مجلدي سيرة فرجينيا بانتحارها.) كانت فيليس شجاعة أمام ليمان، وقامت بالرد في الأسبوع الذي تلاه، تقول:” ثقل رؤيتي كانت محاولة للتساؤل عن الاعتقاد الشائع بأن ليونارد كان زوجا صالحا. مؤكدٌ أنني سأتعمق حول ذلك، هل يمكن أن أكون قد طرحت أن معاملة ليونارد لزوجته قد عجلت بوفاتها؟ ” بعد أسبوعين كتب كوينتن بيل لملحق التايمز الأدبي يعارض فكرة فيليس المحورية في سياق تعاملها مع ” حجم المراسلات والتي تراجعها ظاهريا”، بعد ذلك قام نايجل نيكلسون بتبسيط المسألة وأوضح أنه لم يكن هناك أسس موثقة، أيا ما كان ادعاء نميمة القرية التي اعتمدت عليه فيليس. ذكرت ليّ في آخر ملاحظة في كتابها الضخم أن ” بعض نقاد ليونارد وولف” ألمحوا أن ليونارد ” ربما كان بطريقة ما، مسؤولا عن انتحارها”. في عام ٢٠٠١ ظهر كتاب (من الذي يخاف من ليونارد وولف؟) يقترح بين مزيد من مزاعم أخرى أنه ربما قتلها، استشهادًا برؤية فيليس، دون عودة لمراجع المعارضات المنشورة عن هذا التساؤل برمته.

إن الطريقة التي حول بها الأكاديميون صلاح ليونارد وولف كزوج إلى شيء مختلف تماما عما يتصوره أي شخص يعرفهم، دعتني للشك برواية ليّ (والآخرين أيضا) عن طبيعة صعوبات فرجيينا النفسية. من المحتمل أنها أدرجت فصل ” الجنون” بأكمله، بعلاماته الاستفهامية، بقصد أن تصفه أو تضعه داخل وجهة نظرها. هذا الفصل الذي كتبته ليّ بدأ بطريقة غير لائقة (أو هكذا رأيتها)، ” لقد كانت فرجينيا امرأة سليمة العقل، أصيبت بمرض نفسي” ولكن يمكن أن تكون هذه دلالة على أن مرض فرجينيا لم يكن مرضا يشبه الحساسية أو التهاب المفاصل، بل مرضا مهددًا لخسارة عقلها وبتكراره أصاب الهدف. لم يكن استخدام ليّ لمصطلحات جديدة مثل ” اضطراب ثنائي القطب ” تعليلا يناسب الطريقة التي كان يتغذى عليها هذا المرض ويطغى على إبداعها.

بوصفها بـ ” امرأة عاقلة، أصيبت بمرض نفسي” يفترض أن ما يُسمى بالصحة العقلية كان قد اتكأ دوما على خدمات ليونارد الوفي. لقد بلغت محاولة الانتحار، الهلاوس، الصداع، وفقدان الشهية وما إلى ذلك، مبلغا كبيرا عند ليونارد وبعبارة لييّ ” جعل مرض فرجينيا من أولويات حياته العملية”.

 كانت استجابة فرجينيا لـ “ضغط إنهاء كتاب” استجابة سيئة، ولم تربطها لييّ بحساسية فرجينيا العامة للخسارات. ولم تربط أيضا تلك المآسي المتكررة بانهيارها بعد وفاة والدتها. كما ظهر ليونارد وولف في سيرته بعيدا عن الجانب النفسي حول انهيارات فرجينيا. ومن غير المنطقي أن تتفق ليّ بأي شكل من الأشكال على أن ليونارد كان ” متورطا بإجراءات ظالمة مع أطباء فرجينيا”. اللغز الحقيقي هو كيف تسنى لليونارد أن ينجح مع ما تحمله من مصاعب زوجته، وما دبره من علاج طبي، كما كان ينتظر منه. بالطبع فإن كل التخمينات أُدركت بوقت متأخر، لكن تحت كافة الظروف، بدا لي من غير الملائم أن توصف فرجينيا ” بامرأة سليمة العقل، أصيبت بمرض نفسي”. كانت فرجينيا محقة حول تحفظها تماما مثل ليونارد، حول تأثير علاج التحليل النفسي عليها. نقدها الذي وجهته حول المنهج الفرويدي في فهم الأدب القصصي حمل لمحة ذكاء كاعتراضها حول تحويل ” كافة الشخصيات” إلى ” حالات مرضية”. وفوق كل ذلك ربما يكون هذا نظاما فكريا جديدا فطن له الزوجين، “تبسيط بدلا من تعقيد، وإحجام بدلا من تضخيم” حول من يمكنه أن يساعدها أكثر مما يفترض من المختصين. وربما يشكك محلل رفيع آنذاك في اللجوء لعلاج التحليل النفسي لشخص غير مستقر كفرجينيا وولف.

كان هناك فصل كامل مكرسا لما سمته ليّ ” الانتهاكات” باستثناء أنه لم يكن هناك أقواس حول العنوان. بينما ظهرت لييّ متشككة حول تساؤلها عن ” الجنون”، إلا أنها بدت ساذجة جدا في موضوعها عن الانتهاك ويبدو أن المشكلة بدأت حول تقرير كتبه كوينتن بيل عن فرجينيا:

فنيسا وصلت للإيمان بأن جورج بنفسه كان أكثر من غير واع بحقيقة أن ما بدأ بتعاطف نقي، انتهى ليصبح مناوشة جنسية بذيئة. كان هناك ملامسات وملاطفات في مكان عام حينما كانت فرجينيا في محاضراتها، وقاد ذلك لما هو أعمق، ولا أعلم ما كان ذلك العمق، وبإعجاب الشقيق المولع به، انتقل جورج بسهولة من الجامعة إلى المبيت ليلا.

لكنني أعتقد أن هذا المبرر مشبوه، بالنظر للأدلة الأولية نجد أن فرجينيا كتبت لفنيسا عام ١٩١١ عن صديق مشترك:

لديها رغبة ساكنة للمضاجعة.. مما يقودنا لكشف كافة آثام جورج، يا لدهشتي، لطالما كانت تضمر كرها شديدا له، كانت تقول له ” اوه، أيها المخلوق البذيء”. عندما يبدأ بملاطفتي. عندما وصلت لغرفة النوم أخرجت دانتيلا خاص بها، ولهثت مثل مُغوية معطاءة. بحلول وقت النوم، شعرت بالتعب، وذهبت للمرحاض حيث لم يكن هناك ماء.

تذهب الرسالة لإشارات أخرى جنسية وتنتهي باحتمال أن أدريان شقيق فرجينيا قد أغوي من قبل صديقهم دانكن غرانت، ” أتصور أنها ستكون عربدة عظيمة على النهر هذه الليلة “.

قد يري البعض أن بلومزبري أعضاء يزخرفون مبالغاتهم وهذا ما يصعب تتبعه. ظهرت سعادتهم باستخدام مصطلح مضاجعة كطريقة لصدم بعضهم البعض، وليس بالضرورة أن تعني كما نتصوره أي جماعا حقيقيا. عندما كتبت فرجينيا عن مداعبة جورج لها أمام العامة، ربما عنت أنه يبرهن على تودده وتلطفه. ولم تبرهن على أنه كان مذنبا لأنه انتهك أدريان بأي إغراءات كانت، ولم تُشر لما نفكر به كـ “عربدة عظيمة” بأنها قد جرت مجرى انتهاك.

أبقت ليّ على أن ” المحتوى كاملا يعرض جنسا صريحا بموافقة فينسا ولهوها” لكني أظن أن كل شيء يجب أن يوضع بمنظور قطعي للغة التي كانت تستخدم آنذاك. جميع كلماتهم يجب أن تترجم على ذلك الزمن. ولو كان جورج “مغوي المحارم” فماذا عن دانكن غرانت؟ والحقيقة أن كلاهما لم يكونا مغويين بالمعنى الذي نستخدمه في العصر الحديث. بقيت فرجينيا وشقيقتها على إعجاب بجورج (والذي كان شاهدا على زواج فنيسا، وأصبح أول ناشر لكتب فرجينيا وولف)، وحين توفي عام ١٩٣٤ كلا الشقيقتين تحدثتا عنه بنحو إيجابي. عام ١٩٠٤ كانت هناك رسالة من فنيسا لفرجينيا تقول فيها ” داعبني جورج واحتضنني أمام الشركة، ولكن كان هذا هو المتوقع” مصطلح ” المداعبة ” يجب أن يعامل بحذر هنا، لم تكن فنيسا باستخدامها لمصطلح ” المضاجعة ” أي تحرك منها أو من جورج تجاه عورات بعضهم البعض، ولم يعرب أحد في الأدب عن دهشته بأن فنيسا لم تنشأ مع شقيقتها ومصاعبها النفسية. عندما قدمت فرجينيا مذكرات سيرتها الذاتية ” مدخل الهايد بارك Hayed Park Gate ” قبل نادي الذكريات Memoir Club

لم تقدم جورج على أنه متهم بكونه” عشيق ” لها ولفنيسا. بدا أن لييّ كانت خرقاء للغاية في تعاملها مع هذه المادة ” لا توجد وسيلة نعرف بها ما إذا كانت فرجينيا ستيفن_ اسمها قبل الزواج_ المراهقة مورس عليها ضغطا جنسيا أو استخدمت ضدها قوة لممارسة جنس فموي”

البعض الآخر كان أكثر تطرفا من لييّ في مسألة إخوتها غير الأشقاء. تقتبس لييّ من نصا من عمل فرجينيا 1939″ملامح من الماضي Sketches of the Past ” التي ينغمس فيها الاخ غير الشقيق جيرالد فيما دعته ليّ بـ “الاعتداء الجنسي … في مرحلة الطفولة المبكرة.” (وكان جيرالد أكبر من فرجينيا باثني عشر سنة، أما جورج فكان أكبر بأربعة عشر عاما): تروي:

 

كان هناك لوح خارج باب غرفة الطعام، لوح تُسند عليه الأطباق. كنت صغيرة جدّا عندما رفعني جيرالد داكويرث على هذا اللوح وبدأ باستكشاف جسدي. أتذكر إحساسي ييده تذهب بثبات وحزم للأسفل ثم الأسفل. أتذكر أنني تمنّيت أن يتوقف، تصلبت وتلويّت عندما اقتربت يده لمنطقتي الخاصة. لكنه لم يتوقف، وصلت يده حتى هذه المنطقة. أتذكر امتعاضي وكراهيتي لذلك، ما هي الكلمة التي تصف الخرس والمشاعر المختلطة؟ يبدو أن ذلك أمرا قويا لأنني ما زلت أتذكره. شعوري بأن هناك أجزاء معينة من الجسم، لا يجب لمسها، ومن الخطأ السماح بلمسها بدا شعورًا غريزيًا.

في اعتقادي، يجب أن يعالج هذا المقطع بحذر. ما لمقصود بـ “استكشاف” جيرالد “لمنطقتها الخاصة” قد تحتاج ليّ أيضا أن تضعها في نوع من السياق اللغوي وهذا مالم تفعله ليّ أبدا. واقتبست مع ذلك رد فعل جون ماينارد كينز عام ١٩٢١ على مذكراتها، بقوله إن أفضل ما كتبت كان” ذكريات جورج، وأن عليها أن تتظاهر بالكتابة عن أناس حقيقين وتلفق كل شيء”

أظهرت ليّ شكوكا حول حادثة جورج وكيفية فهمها، مثل قولها: “لقد وُصف كفعل مهدد لحياتها، أدّى لحزن بالغ وبرود جنسي قادها للجنون “جاعلة فرجينيا كـ “ناجية من زنا المحارم”.

وصفت ليّ لمسات جيرالد كطفل صغير، “ربما تبدو، انتهاكات جنسية”. وتعتقد أن” قصة جورج ونشاطاته الجنسية كانت أكثر ضررًا من ذلك بكثير” كان كوينتن بيل جريئا بما يكفي ليؤكد على أن “فرجينيا شعرت بأن جورج أفسد حياتها قبل أن تبدأ”. كانت فرجينيا خجولة بصورة طبيعية في المسائل الجنسية، منذ ذلك اللحين كانت مرتعبة ومتجمدة بصورة دفاعية، وعارض نايجل نيكلسون مدعيّا أن فرجينيا “بالغت في استعادة الموقف”.

كاتب سيرة إ.م فورستر، الذي يكبر فرجينيا ببضع سنوات، روى مواجهة جنسية حقيقية لفورستر عندما كان صبيا صغيرا خاضها مع غريب. علق ب.ن فربانك بحذر: “إنها قصة مثيرة للاهتمام وأعتقد أن لها أهمية في تطوره لاحقا”. وهذا لا يشبه ما حدث لفرجينيا، بربط حادثة بصدمة مبكرة في حياتها. قد يعتقد أحدهم أن الأثر الارتجاعي لدى البالغين لأحداث حصلت في طفولتهم أمرا مقبول، والتي يجدونها لسبب أو لآخر حدثا عظيما في حياتهم. وليس بأمر جديد أننا نقمع ذكريات لا تخدم احتياجات لاحقة.

كانت سيرة ليّ الضخمة مثيرة للاهتمام، حملتني لقراءتها عدة أيام متواصلة، وبمجرد أن بدأت بها وجدت نفسي معلّقا حتى انتهيت منها. منذ ذلك الحين انشغلت بقراءة أعمال وولف، ومثلما كانت لدي ردة فعل لسيرة هولرويد حول ستراتشي قادتني لقراءة كل أعماله التي وقعت بين يدي. ومع ذلك، قادني لقائي الوجيز بـ ليونارد وولف للتشكيك بتفسير ليّ لزواج آل وولف، وتجاسرت لأكون ناقدًا حلو ما أدخل في حياة فرجينيا من السفاسف من قبل النقاد الأدبيين. يجب إعادة النظر بعناية فيما تعرضت له من مصاعب نفسية، و “انتهاك” من قبل إخوتها، لكن إذا كانت السير الذاتية مشجعة لقراءة أعمال الأديب، ربما كان ذلك أفضل المأمول. من الحتمي أن تعكس شخصياتنا في الماضي فهمنا الحاضر للعلاقات بين الجنسين. من الجيد أن نخطو إلى الوراء قليلا ونفكر بكليشيهات الحاضر، التي ذهبت أبعد مما يجب، عن الاعتداءات، وتأثير اعتداء الإخوة والأزواج.

كل حياة عظيمة تصبح معيارًا معاصرًا بالنسبة لنا. لكن المعركة القديمة بين الجنسين تحتاج للتحطيم قليل من قبل الأزواج والإخوة. عانت فرجينيا وولف كما يجدر بأي عبقري، بسبب حساسيتها العالية التي لا تشبه ما نعيشه في الحياة اليومية. أشعر أنني حازم في دفاعي عن ليونارد، ولكن بالتفكير بذلك الزواج، كنت جريئا بإظهار إخوتها غير الأشقاء. أعتقد أن الأدب حاليا يظهر نوعا من الشك حول تحيز المتحدثين لاتحاد الجنس اللطيف، الذين رغبوا بإظهار فرجينيا بطلة معنفة. أعترف أن ردة فعلي الفورية لعمل فرجينيا (نحو الفنار) بأنها كانت غير عادلة وبقسوة في تصويرها لوالدها، ظهرت بعد ذلك علامات حول ما تشترك به مع والدها. بدا من المزعج تصديق ما قالته فنيسا حول فرجينيا ولأكثر من مرة، “دائما ما تأخذ، دون أن تعطي” علّق كليف بيل زوج فنيسا حول عمل (رحلة للخارج) بقوله إن الشخصيات الذكورية كانت غير جذابة:

من دون شك أن رؤيتنا حول الرجال والنساء مختلفة تماما، لكن هذا الاختلاف غير مهم. لكن رسَم مثل هذه التناقضات الحادة بين امرأة حساسة، لبقة، كريمة، مدركة بدقة، ثاقبة الفكر، وبين رجل بليد مبتذل، ومتورد وقح، فظ وغير لبق، مستبد بغباء، أعتقد أنه أدب مبتذل وليس سيئ فحسب.

أظن أن فرجينيا استفادت من نقد كليف، ونسبت له مرة قولها: “أول شخص يعتقد أنني أكتب بشكل جيد.”. ربما عكست التحديات التي وجدتها في سيرة ليّ العظيمة وغيرها من أدبيات وولف خللا في أعمال وولف نفسها. إن أعظم الفنانين، مثل تولستوي في آنا كارنينا أبدى تعاطفا مبدعا برسمه للجنس المغاير. وأيضا، ديكنز الذي قد يكون منجذبا لميل عصره لتعظيم النساء والتي اعتبرت ضعفا، لكنه انتصر، بصرف النظر عن نقاط ضعفه، وذلك لعالمية سحر العبارات التي كان يستخدمها. لكن وولف رسخت سهوا أسلوبا معينا نحو الرجال، والذي ربما كان خلف نواياها الواعية. لكن كل تلك التعليقات حول ليونارد و فرجينيا وولف، عنونتها بمجرد ” ملاحظات” إنذارا لما ظهر بنحو بارز في المطبوعات.

تعمدت فرجينيا وولف أن تكون غير مفهومة للجيل اللاحق، ونجح دهاء وعبقرية تلك الكاتبة بأن تكون أنموذجا لفرويدية غير ناضجة، لطالما احتقرتها. مؤلفة ذلك الجدل الفاخر في (غرفة تخص المرء وحده) و (ثلاثة جنيهات) تدعم الحركات الاجتماعية التي قد تهدد إنجازاتها الأدبية، فسذاجتها السياسية تركتها عرضة للاستغلال من الراغبين بإظهار نماذج نسوية في إطار ضيق من الاحتجاج الاجتماعي. لقد انتحرت فرجينيا بسبب خوفها من الإصابة بالجنون، لكن كتّاب سيرتها وضعوا الجنون بين قوسين، ورغبوا بأن يكون الانتهاك هو محور الحديث، فإذا لم يكن من الزوج الدنيء المستبد، فمن إخوتها غير الأشقاء، أو والدها، وربما مجتمعها. كان مصيرها هاما بقدر أهمية أحد مقالاتها الساخرة، لكن ذلك سيكون هزليا، وحين يعود الأمر لي فإنني أرى أن قصتها مأساوية عظيمة، بقدر مأساوية حياتنا.


هوامش المترجم:

[1] جماعة من المثقفين، بدأت التجمع في منزل وولف وشقيقتها عام 1905. استمر نشاط هؤلاء المثقفون لثلاثة عقود، نتج عنها أعمال أدبية وفنية بارزة. كان من أبرزهم وأشهرهم الكاتبة فرجينيا وولف. (المترجم)

[2] 1883-1946) جون ماينارد كينيز، اقتصادي إنجليزي، شارك في مؤتمر السلام بعد الحرب العالمية الأولى، وله كتاب (الآثار الاقتصادية للسلام). عمل أستاذا للاقتصاد في جامعة كامبردج، وهو مؤسس النظرية الكينزية عبر كتابه (النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود). والتي تقوم على أن الدولة تستطيع من خلال سياسة الضرائب والسياسة المالية والنقدية أن تتحكم بما يسمى الدورات الاقتصادية. (المترجم)

[3] محلل نفسي بريطاني وكاتب سيرة فرويد الرسمية. (المترجم)

[4] لم يكن لدى فرويد وجهه نظر معلنة تجاه التمدد النازي، بل إن عائلته واجهت صعوبة في اخراجه إقناعه بترك فينا والرحيل الي لندن، كان يردد: إن بلدا انجبت غيتة لن تسمح بهذا الدمار، كما أنه بعث ببعض كتبه مهداة لموسليني عن طريق أحد مرضاه من حاشية موسليني، قارن: Freud and his Followers by P Roazen. (المترجم)

[5]  1884 – 1982 طبيبة ومحللة نفسية بولندية /أمريكية، حللها نفسيا فرويد، وكانت تحلل تلميذه فيكتور توسك، الذي انتحر في ملابسات غامضة تقصاها روزان في كتبه The Animal Brother. كما أختصها روزان بكتاب يحمل اسمها، ماتت عن عمر 97 عاما، أرتبط اسمها بالشخصية الكأنية As if Personality)  . (المترجم)