مجلة حكمة
الحصول على كل شيء: التاريخ العالمي للاستهلاك - فكتوريا قرازيا / ترجمة: شادن النصيان

الحصول على كل شيء: التاريخ العالمي للاستهلاك – فكتوريا قرازيا / ترجمة: شادن النصيان

1
غلاف الكتاب


 

كتب المـؤرخ فرانك ترنتمان أول كتاب شامل لتاريخ الاستهلاك في العالم. كتاب “امبراطورية الأمور” يعد تأريخًا مبدعًا وطموحًا بدأ من القرن الخامس عشر وشمل مجموعة واسعة من الأنظمة على امتداد الكرة الأرضية من الديمقراطيات الليبرالية إلى الدكتاتوريات الفاشية.

      كتاب “امبراطورية الأمور” لا يمكن أن يكون أكثر أهمية من يومنا هذا. فمنذ الركود الكبير في ٢٠٠٧ تورط العالم بأزمات اقتصادية تتعلق في جوهرها بالمستهلك، كما زادت الفروقات الطبقية في السنوات السابقة للركود، كما أن غياب ارتفاع مستويات الدخل نزح بأفراد الطبقة المتوسطة إلى الائتمان للحفاظ على مستواهم المعيشي. واقتنصت البنوك والمؤسسات المالية هذه الفرصة، وبدأوا ببيع الرهون العقارية. وعندما انفجرت فقاعة الديون، خسر الملايين منازلهم ومعاشات التقاعد وآمالهم بمستقبل مزهر. وفي هذه الأثناء قدمت دول الرفاهية الأوروبية تدابير التقشف وانخفض الطلب المحلي في آسيا وتعثر الاقتصاد العالمي لسنوات.

      كشف هذا التسلسل للأحداث عدم صلاحية الروايتين السائدتين عن الاستهلاك. فتكديس الثروات، بالنسبة للبرالية الكلاسيكية، يعكس حرية الاختيار، والذي هو “أساس الديمقراطية والازدهار” كما يقول ترنتمان. وفقًا لهذه الرواية، فإن انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة يمثل انتصار للحرية الاقتصادية والاختيار الفردي، وقد كان ناجحًا جدًا في نشر الرأسمالية الاستهلاكية، والتي ألهمت الطبقة الوسطى في أنحاء العالم على الوقوف في وجه الأنظمة الاستبدادية. أما الديموقراطيين الاشتراكيين والتقدميين فلهم رواية مختلفة. فبالنسبة لهم، غذت الرأسمالية رغبات زائفة، وحولت “المواطنين النشيطين الشرفاء إلى مستهلكين جُوف خاملين”. ومن هذا المنطلق كتب ترنتمان “التركيز على المتعة الفردية يقتل روح الجماعة”.

      يرفض ترنتمان هذه الثنائية حيث يجادل أن “الاستهلاك متنوع، وتاريخه أغنى من أن يتناسب مع أحد النموذجين المتطرفين (استهلاك يساير الجماهير أو استهلاك الحرية الفردية)” وبدلًا من ذلك أراد ترنتمان أن “يأخذ خطوة للوراء” ولم يعرض حكمه النهائي على القرّاء، ولكنه عرض تحقيقًا تاريخيًا لولادة وتطور الاستهلاك. يقدم هذا المنهج خلفية مفيدة لتقييم الظواهر المعاصرة (عولمة التصنيع – انتشار التكنولوجيا – اختفاء الطبقة الوسطى عالميًا).

       ينقسم كتاب امبراطورية الأمور إلى قسمين. يتّبع القسم الأول، بصورة عامة، التسلسل الزمني لثقافة المستهلك من القرن الخامس عشر وحتى يومنا هذا، ويدرس العوامل المختلفة التي أدت إلى تحوله. ويضع القسم الثاني التوجهات الحالية في سياقها التاريخي، والتي تفحص مثلاً كيف حول الاستهلاك الدين، والأخلاق، وهويات الأجيال. استطاع ترنتمان إيصال كل من التأثير اليومي للاستهلاك على حياة الناس، والتغيرات الكاسحة التي مر بها الاستهلاك على مدى قرون. ونبه على أن الاستهلاك يختلف عن الاستهلاكية، فالاستهلاكية مصطلح أيديولوجي غالبًا ما يستخدم لوصف تكديس السلع المادية كنوع من التبذير اللاأخلاقي. وعلى العكس من ذلك، فإن الاستهلاك جزء طبيعي من السلوك البشري، وقد تطورت ثقافة الاستهلاك في جميع أنحاء العالم.

      يريد ترنتمان من قرائه أن يفهموا التاريخ الكامل للاستهلاك ولايقتصر ذلك على أحوال الناس، بل يشمل أحوال الدول، والسياسات الاجتماعية، وطريقة تفاعلها مع المستهلكين وكيف شكّلت خياراتهم. يتيح منهج ترنتمان للقارئ فرصة اكتشاف أسئلة أكبر حول تأثير ثقافة الاستهلاك على السلوك العام، والحياة والموت، والحرية، والمساواة الطبقية، ورفاهية الأجيال القادمة.

 

أكثر المفاهيم الخاطئة شيوعًا

نستطيع الخروج بثلاثة سمات بارزة في سردية ترنتمان التفصيلية. أولاً، بخلاف النظرة الرائجة فالثقافة الاستهلاكية الحديثة لم تنشأ في الولايات المتحدة، يقول ترنتمان أن “العديد يتحدث عن المجتمع الاستهلاكي بصيغة مفردة، هذا الاتجاه يأخذنا لبداية القرن العشرين عندما ارتبط مفهوم الاستهلاك بالولايات المتحدة ونمط الحياة الأمريكي، والذي كان حين ذاك يتمتع براحة مادية فريدة وإنفاق استهلاكي”.

      في الواقع، إن ما يدعوه ترنتمان “الحياة المادية” ظهر أول مرة في القرن الخامس عشر في عهد عصر النهضة في إيطاليا، وفي أواخر عصر مينغ في الصين، وبعدها في الجمهورية الهولندية وإنجلترا. يجادل ترنتمان أن التجارة العالمية هي من ولدت المجتمع الاستهلاكي. على الرغم من أن التجارة العالمية قد ازدهرت منذ ظهور طريق الحرير سنة ٢٠٠ قبل الميلاد، إلا أن استيطان الأمريكيتين في القرن الخامس عشر نمّى التجارة بشكل طفيف، مما مهد الطريق لظهور المجتمعات الاستهلاكية الأولى. أما في إيطاليا والصين وهولندا وإنجلترا، فقد “حصل الناس على أشياء لم تكن لديهم من قبل”، كما قال ترنتمان. “إن انتشار الأسواق وتقسيم العمل الذي صاحبها أتاح المجال لأعداد متزايدة من الناس شراء سلع لم يصنعوها بأنفسهم”.

       وكان للولايات المتحدة دورٌ فعال في تشجيع الاستهلاك في القرن العشرين، وخصوصًا خلال الحرب الباردة عندما برز الاستهلاك كصفة تميز المواطن الأمريكي، وتحتل مكانة وسط الثقافة الامريكية، في حين أن دول الاتحاد السوفيتي كانت على النقيض من ذلك تمامًا. ولكن ترنتمان أوضح أن الولايات المتحدة لم تكن المجتمع الاستهلاكي الوحيد الناجح آن ذاك، فقد شجعت فنلندا وألمانيا واليابان الادخار كبديل للائتمان لتصبح “مجتمعات عالية الاستهلاك”، في حين أن دول أخرى مثل الدنمارك وفرنسا والسويد ركزت على المنح والرعاية الصحية والتعليم العام والبنية التحتية لتشجيع الإنفاق الاستهلاكي.

      ثانيًا، يجادل ترنتمان بأن الثقافة المادية ليست حكرًا على الديمقراطية الليبرالية. فهذا الرأي يقوض، مرة أخرى، المسلمة القائلة أن الاستهلاك في جوهره سمة غربية. على الرغم من أن رودا الأعمال الصينيون كانوا يتباهون بساعاتهم الفاخرة، وحاملات التبغ المرصعة بالجواهر، والتحف الفنية في القرن الثامن عشر، إلا أن المراقبين يصورون الظهور الجلّي للاستهلاك بين الطبقتين الوسطى والغنية الحديثتين في الصين كأمر مستحدث وغريب على المجتمع الصيني. وقد صور الاقتصادي آدم سميث في كتابه “ثروة الأمم” سكان كانتون عام ١٧٧٦ حالهم بأنهم محاطون بندرة المؤن حيث قال: “لم يكن سكان كانتون قادرين على الحصول على مؤن تكفيهم، ولذلك حرصوا على اصطياد قمامة السفن الأوروبية الأكثر قرفًا الملقاة في البحر”. هل زار سميث كانتون فعلًا، ربما رأها سميث بسبب هيجان مركز للتجارة العالمية آن ذاك.

       شكلت مفاهيم خاطئة مشابهة المعتقدات الغربية حول مجتمعات أخرى كذلك، كالاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، والمجتمعات الإسلامية اليوم. لاحظ ترنتمان أن دول الخليج في الثمانينات قد رحبت بالمحلات الغربية الراقية مثل ماركس اند سبنسر، وهي اليوم لاعب رئيسي في الأسواق العالمية للسلع الفاخرة. وعندما حظرت الحكومة الإيرانية والسعودية بيع دمى “باربي” الأمريكية طرح رجال الأعمال دمى “فلة” في الأسواق والتي تزين نفسها بالعباءة والحجاب والمزودة بخزانة مليئة بثيات الحفلات. وبهذا نجد أن جميع الأنظمة الحديثة وجدت طرق –مبتكرة أحيانًا- لتلبية الطلب على السلع الاستهلاكية.

 

2

“الإعانات الحكومية”

أخيرًا، يجادل ترنتمان أن الاستهلاك ظاهرة سياسية بقدر ماهي اقتصادية، ومدينة لتغيرات في السياسات العامة والأسواق على حد سواء. في أوائل العصر الحديث، مالت الحكومات إلى الحد من الاستهلاك للحفاظ على النظام الاجتماعي، كما هو الحال في أوروبا في القرن الرابع عشر، حيث بدأت العديد من الدول بسن ما يسمى بقوانين الحد من النفقات، والتي تتحكم بأصناف السلع التي يمكن للناس شراؤها. في نورمبرغ على سبيل المثال لاحظ ترنتمان أنه كان مسموحًا للأرستقراطيين وسادة الكنيسة وأصحاب المهن المحترمة ارتداء الحرير والفراء واللؤلؤ، ووحدهم الفرسان والأطباء سمح لهم بارتداء الذهب. لكن أصبح للحكومات في أوائل القرن العشرين دور فعال في خلق مجتمعات استهلاكية من خلال دعم السلع وإصلاح البنية التحتية وتسهيل التجارة.

      يجادل ترنتمان أن المجتمعات الاستهلاكية ستكون أضعف بدون “الإعانات الحكومية”. إعانة الدول للاستهلاك يكون بطرق عدّة، كدعم البرامج الاجتماعية والبنية التحتية المتقدمة لوسائل المواصلات والكهرباء. فلا غرابة إذًا في أن طفرة الاستهلاك في غرب أوروبا كانت في الخمسينيات والستينيات تزامن مع توسع هائل في مجال التمويل العقاري والتعليم والرعاية الصحية. وهذه الخدمات تزيد الميل للاستهلاك “بتقليل الحاجة للادخار لليوم الأسود”.

      ببساطة، نستطيع فهم المستهلكين بشكل أفضل ككيان اجتماعي لا فردي. فعاداتهم في الصرف ليست مدينة للدخل الذي في متناول أيدهم فقط، بل حتى للضغوط الطبقية والثقافية. وللحكومات مصلحة مهمة في معرفة سلوك المستهلك. في أغلب الأمم قبل الحرب العالمية الأولى، كان القادة في غفلة عن تأثير ‘الطلب على السلع الاستهلاكية’ على الدخل القومي. لكن في أعقاب الكساد الكبير، تعرفت الحكومات على ضرورة تحفيز الاستهلاك لاستعادة الازدهار الوطني. فالمزيد من الاستهلاك أصبح غاية الإعانات الحكومية والحماية القانونية.

 

 

مستقبل الاستهلاك

جزء كبير من كتاب “امبراطورية الأمور” يهتم بالتاريخ، ولكن ترنتمان ناقش في الخاتمة العلاقة بين الاستهلاك والمساواة الطبقية. حيث تقول المُسلّمة التقليدية: التباين الطبقي يحفز الإنفاق التنافسي” (مواكبة الجيران). ولكن ترنتمان أشار أيضًا إلى أن المجتمعات الاستهلاكية ازدهرت عمومًا خلال أوقات المساواة الطبقية. فيجادل مثلا أن تطور دول الرفاهية بعد الحرب العالمية الثانية “دفع نحو الاستهلاك الجماهيري”.

      ومهما كانت العلاقة السببية بين الاستهلاك والمساواة فنمو المجتمعات الاستهلاكية يتماشى مع تقلص الفروق الطبقية. وعلى سبيل المثال، في القرن السابع عشر جلبت التجارة العالمية سلع غير معهودة للعالم الغربي كالقهوة والشاي والخزف وأقمشة ثمينة تخص الطبقة البرجوازية، وذلك سمح للتجار باختبار قوة تأثير اختيارات الأرستقراطيين على أذواق عامة الناس. وعند وصول البضائع التحويلية كالسيارات والإذاعة والتلفزيون في القرن العشرين حدث شيء مشابه، حيث أن الشركات لم تحاول تسويق هذه البضائع للقلة الأرستقراطية ولكن لعامة الناس.

      وفي وصف الوقت الحالي، يقول ترنتمان “التباين الطبقي كابح للنمو في الغرب والشرق، وكذلك هو كابح للاستهلاك”. إن الرواتب المنخفضة حول العالم تتسبب بالمطالبة لأن تبقى منخفضة، وتعرقل التجارة يخل من توازن المستثمرين ويخيفهم. وفي الغرب، لم تستطع الدول تفادي انخفاض الدخل والبطالة بين الشباب وركود الاقتصاد.

3

     يقدم كتاب ترنتمان دروسًا مهمة خاصةً وأن العالم على مايبدو قد دخل فترة طويلة من النمو البطيء، وأكثر الدروس أهمية هو أن ثروة الأمم تعتمد على ثروة مستهلكيها. وللوصول إلى هذه النتيجة دخل العالم في أزمات اقتصادية مريعة واضطرابات سياسية إلى أن اقتنعت الحكومات بأن المستهلكين هم قلب النظام الاقتصادي، ولكن يبدو أن قادة العالم اليوم قد نسوا هذا الدرس. وناقش ترنتمان في كتابه صراع المجتمعات اليوم في تحديد ماهو الضروري وماهو الكمالي وماهم بحاجة إلى التكيف معه. فعندما تحولت السيارات إلى سلعة ضرورية تدخلت الحكومات وبنت الطرق وضمنت الوقود الرخيص. وفي أيامنا هذه يمر الانترنت بنفس المرحلة ويجب على الحكومات إيجاد طريقة لضمان انترنت مجاني للجميع في المستقبل.

 

     كشف كتاب ترنتمان أن المجتمعات الاستهلاكية قابلة للتغير عبر الزمن تبعًا لأذواق وآراء الناس. ومن هنا ينبثق أمل للمستقبل. على الرغم من أن المستويات الحالية للاستهلاك قد هددت الموارد الطبيعية وحفزت تغير المناخ، إلا أنه لايزال هنالك مستقبل لتحقيق نمو مستدام.

 

    وعلى أقل تقدير ستبدأ المجتمعات في بناء محاسبة بيئية كأحد السياسات العامة ومثالًا على ذلك قد تُضبط أسعار السلع للتناسب مع جزيئيات الكربون فيها. سياسة كهذه ستتيح للناس “استشعار عواقب نمط حياتهم على كوكب الأرض” كما يقول ترنتمان. وأخيرًا يجب على المجتمعات الاستهلاكية أن تدرك انعكاس أفعالها على المجتمعات والمخلوقات الأخرى وعلى العالم الغير مادي ككل. وينبغي أن يكون هذا الإدراك ثوري بنفس الدرجة التي جعلت المستهلكين قلب النظام الاقتصادي.

 المصدر