مجلة حكمة
الغريب جاك دريدا متكلماً عن الضيافة

الغريب: جاك دريدا متكلماً عن الضيافة – بيتر بينسون / ترجمة: نورة الخراشي

الغريب الضيافة
في هذا المقال يتحدث بيتر بينسون عن الزينوفوبيا (حول الغريب و الضيافة) بمساعدة جاك دريدا وأفلاطون

عَرِف جاك دريدا شعور أن يكون غريباً. ولد لأبوين يهوديين عام ١٩٣٠في الجزائر عندما كانت مستعمرة فرنسية. وبالتالي كان مواطناً فرنسياً منذ الولادة، بالرغم من أنه لم يطأ فرنسا إلى أن أصبح عمره تسعة عشر سنة. في عام ١٩٤٢، وبمرسوم من حكومة الحرب الفيتشية[2]، سُحِبت جنسيته لأنه كان يهودياً – بدون أن يُوطّن في أي بلد آخر، وطرده من المدرسة التي يذهب إليها كان من أعظم الآثار السلبية الناتجة سحب جنسيته. إذن، كان جزائرياً لا يستطيع تكلّم العربية؛ ويهودياً غير ممارس (لم يستطع أن يقرأ العبرية)؛ ومهاجر لاحق لفرنسا كشخص من “الأقدام السوداء”[3] (عبارة انتقاصية في وصف الفرنسيين من الجزائر). ساهمت هذه الظروف في زعزعة شعوره بأي هوية وطنية.

في حياته الأكاديمية بعد ذلك، لم يطلب العلم في أي جامعة تقليدية، وفي آخر حياته انغمس تماماً بالسفر للخارج. وتبعاً كان المُتَقَبّل للضيافة بصدرٍ رَحِب. فالجامعات الأمريكية، على وجه التحديد، وفرت له فرصاً عديدة للتدريس ولإنتاج البحوث. كان دائما يتحدث بلطف عن بيئتهم الحفيّة، فقد قُرأت كتبه بترجماتها الإنجليزية أكثر من أصولها في فرنسا.

وبين هذه الحالة الخاصة وأهميتها العالمية فإن التفكير الجاد مطلوب. أن تكون أجنبياً، بعيداً عن أنه عائقاً للفلسفة، في الحقيقة هو أصل المكان الذي تنتج عنه كل الأسئلة الفلسفية. بالإضافة، كلنا في هذا الزمن بشكل أو بآخر مهاجرون. عشت في بريطانيا كل حياتي ولم تعد نفس الدولة التي ولدت فيها نتيجة للتغيرات التي تطرأ على أي مجتمع في مدة زمنية. وبالرغم من أني لم أبرح مكاني أصبحت مهاجراً بشكل ما – كداخل مرتبك إلى دولة جديدة تماما مِثْلُ أولئك الذين تركوا بلدهم جسدياً. علينا أن نتكيف مع تغيرات الظروف. الدول البلدان التي فقدناها كان فيها وعيوب كثيرة وصفات رائعة. ومن يستطيع إنكار ذلك هم فقط أصحاب الذاكرة الانتقائية.

فلسفة الغريب

في محاضرته عن الضيافة[4] التي ألقاها سنة ١٩٩٦، ناقش داريدا حوار أفلاطون في السفسطائي[5] الذي يبدأ بلقاء سقراط مع زائر لأثينا من مدينة إليا في جنوب إيطاليا المعروفة بكثرة مفكريها مثل بارمينيدس. سَعِد سقراط كثيراً بلقاء هذا الغريب. الكلمة الاغريقية للغريب هي زينو والتي تعني أيضاً الأجنبي، ومنها الكلمة الإنجليزية زينوفوبيا [الخوف من الآخر]. وعلى العكس منها، فقد عبّر سقراط عن شعور عميق بالزينوفيليا [محبة الآخر]، رغبةً بسماع آراء الغريب، و أملاً بأن تفتح آفاقاً جديدة للأسئلة الفلسفية.

لتسهيل ذلك، يتنحى سقراط عن دوره الرئيسي المعتاد في حوارات أفلاطون ويترك مكانه للغريب الذي بدأ يتكلم مع صديق سقراط ثياتيتوس. لم يطلق على هذا الغريب اسماً في هذا الحوار: فهو فقط ممثل للأفكار الأجنبية. ولا نسمع رأي سقراط أبداً

فصمته يظهر لنا أن المكان الذي يتحدث منه دائماً من الممكن أن يحل فيه الغريب.

بعد أن تنحّى، لم يتحدث سقراط في الحوار بأكمله ليكشف لنا بصمته أن المكان الذي يتحدث منه عادة هو ذات المكان الذي يمكن لشخص غريب أن يشغله بكل ملائمة. وعليه حين يتصرف سقراط كالمستفسر عن الفلسفة فإنه يتكلم كالغريب في عالمه الخاص متسائلاً عن ماهية تلك الأشياء التي يعتبرها الآخرون الناس أمراً مفروغاً منه.

وبالرغم من أنه ليس كل الغرباء فلاسفة، فإن أي وجهة نظر مختلفة عما اعتدنا عليه قد تساعدنا في إدراك وجهات نظر سلّمنا بها بدون تفكير. ذلك لا يعني بأنه علينا أن نغير آرائنا لتطابق آراء الغريب، ولكن كلّما تعددت وجهات النظر التي يمكننا استيعابها، كلّما اتسعت رؤيتنا وأصبحت أقل يقينية.  هذا التواصل يأتي على مرحلتين: أولا، الانفتاح على الشخص الآخر لنفهم ما يقوله، وعندها فقط النظر في الانتقادات الممكنة لوجهة نظره الجديدة. إن القفز السريع لهذه المرحلة الثانية خطأ شائع، ولذلك وجد أفلاطون أن الحوار هو أنسب أشكال الفلسفة، لأنه لا يمكن أن يكون حوار بدون استضافة غريب تعامله بترحيب وليس بعدوانية. قد يجلب الغريب معه قيمة فكرية، وقد لا يحدث ذلك، ولكن بدون هذه الضيافة الأولية لن نعرف أبداً. في “رسالة إلى العبرانيين” (١٣.٢) من العهد الجديد، يتم تذكيرنا:” لا تنسوا ضيافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون.”

الضيافة على طريقة دريدا

باستثارة هذه المواضيع اليوم، بعد عشر سنوات من وفاة دريدا، سندرك جميعاً ملائمتها لأحداث الظروف التي تملأ صحفنا. في مقالته المطولة المكتوبة عام ١٩٩٦عن نظرية الكونية، كتب دريدا عن حقوق طالبي اللجوء والمهاجرين مركزاً على مقترحات تطبيقية ومبادئ عامة. على وجه الخصوص، ناقش مقترحاً، كان حديثاً في ذلك الوقت، عن انشاء مدن ملجئية مفتوحة للجميع، من كل الجنسيات أو ممن لا يملكون واحدة. في هذا الكتاب أيضا يذكرنا بسابقة انجيلية (٣٥: ٩-٣٢) تناصر فكرة وجود مدن يمكن لأي شخص أن يهرب إليها من الاضطهاد.

لم يطبق هذا المقترح، واليوم ومع تدفق الاجئين الهائل من فوضى الشرق الأوسط يعجله غير عملي. الضروري حاليّاً في هذه الأزمة هو العمل الدؤوب والجاد من الناحية السياسية، والدبلوماسية، والخيرية، الفلسفة ليس لها سوى مساهمة صغيرة. ولكن هذه المساهمة البسيطة لا تزال تقدم توجيهاً لل جهود الأخرى، ومن هنا يكون لنقاش دريدا عن الضيافة أهمية بالغة. وعلاوة على ذلك فإن هذا النقاش يمثل سمة عامة عن فكر داريدا السياسي، هذا الفكر الذي يتم تجاهله غالباً.

يُصرّ داريدا على مشكلة لا يمكن تجاوزها عند الحديث عن الضيافة، والتي نراها مراراً وتكراراً مع كل أزمة لاجئين، وفي كل مرة يناقش موضوع الهجرة. من ناحية، هناك الواجب الأخلاقي لإظهار الضيافة خاصة للملهوفين الهاربين من المخاطر، ومن ناحية أخرى فإن التخلي التحرر عن الحدود قد يلغي أيضاً الوطن الجديد المستضافين فيه. تسمح كل الحدود بدرجة معينة من النفاذية ولكن إن فُتحت تماماً فالحدود نفسها تختفي ولن يكون هناك أي مكان للأمان –  أي وطن – يمكن الدخول إليه.

يضع دريدا هذه المعضلة بوضوح في كتابه عن الضيافة، قائلاً:” كيف نفرق بيت الضيف وبين الطفيلي؟ من حيث المبدأ، الفرق بسيط ولكن لنعرفه نحتاج إلى قانون في الضيافة، في الاستقبال، في العرض الترحيبي خاضعين لسلطة قضائية أساسية” (ص.٥٩). الضيافة تفترض القدرة على توفير ملاذ آمن، مأوى من العواصف، وكغشاء الحيوي، فعلى الحدود أن تتخيّر جيداً ما يعبر منها. إذا وجد اللاجئون الفارون من المضطهدين طريقهم من خلال معبر ما، لا يمكن فتح نفس المعبر لأولئك الذين يطلبونهم. كل انفتاح للآخرين يعني ضمناً انغلاقات مرافقة. كما يوضح داريدا:” بين قانون غير مشروط و رغبة مطلقة في الضيافة من ناحية، و بين قانون، وسياسة، و أخلاقيات مشروطة من ناحية أخرى، هناك فرق و تفاوت جذري، ولكن و أيضاً حالة من الانفصال، فوجود أحدهما يحد من وجود الآخر” (ص. ١٤٧).

ويعتمد التوازن بين هذين الجانبين المنفصلين، بين مفهوم الضيافة والانفتاح و انغلاق يعتمد بالطبع على خصوصيات الموقف. لا توجد معادلة بسيطة يمكن تطبيقها لحل هذه المعضلة، ولا طريقة واحدة مؤكدة للرد على كل قضية معينة. ولكن من المهم أن نفكر بكل الجانبين من هذه المعضلة. التنظير المثالي لضيافة غير مقيدة، بالرغم من استحالة تطبيقه كقانون، يجب ألا يسكت تماماً بحجة استحالة تطبيقه.

رؤية داريدا للأزمات السياسية

دئب دريدا في كتاباته الأخيرة على توضيح أزمات في مصطلحات مشابهة متأصلة فكرنا السياسي المعاصر مثل العدالة، الديموقراطية وحقوق الإنسان. توضيحه لا ينفي هذه المفاهيم ولكن يبين أهمية الانتباه للنظرة الثنائية التي تتطلبها هذه المصطلحات، لأن الفشل يحدث حين يَطمس ولو مؤقتاً جانب من الأزمة وعينا بجوانب أخرى. مثال آخر معاصر يتجلى أمام أزمة الحرية مقابل الأمن العام. من المؤسف أن أسلوب دريدا التفكيكي في تحليل هذه المفاهيم لا يقدم لنا أجوبة فورية للأسئلة الملحة. ولكنه ينتج وعياً أوضح لكيفية البدء العمل، ويرينا أنه لا يمكن التملص من مسؤوليتنا باستخدام الصيغ العامة للحلول.

لنأخذ على سبيل المثال مفهوم الديموقراطية، قيمة هذا المفهوم تبدأ بالتدهور بمجرد أن يبدأ الناس بالتخيل أنهم حققوا ديموقراطية تامة في المؤسسات التي انشأوها. فتحت عباءة هذا الرضا عن النفس تبدأ الأطراف في استخدام نفس الأدوات وفي المؤسسات الديموقراطية لتحقيق وإدامة قوتهم. لا يوجد حل ثابت للقضاء هذه المشكلة للأبد. وعليه، تحتاج قوانيننا ومؤسساتنا للصيانة الدائمة والتعديل المستمر نحو ديموقراطية شمولية وشفافة، بدون التخيل أن هذه العملية ستصل يوماً ما للكمال. يمكننا أن نُلزم أنفسنا فقط بـ الديموقراطية الآتية، كما قال داريدا، بدلاً من أي صيغة مقاربة ولكن ناقصة للديموقراطية.

وهكذا أيضاً مع الضيافة. يجب ألا نملأ أنفسنا دائماً بالقناعة أننا شعب مضياف. بل يجب علينا أن ننتبه باستمرار لكيفية أن نصبح أكثر ضيافة بينما نتجنب الانهيار الكارثي لمنطقة الأمان التي نتصورها مع كلمة “الوطن”.  أذن فلسفة دريدا ليست من النوع الذي يقدم إجابات نهائية لهذه المعضلات، لأن مثل هذه الإجابة ستكون بالضرورة خاطئة إذا كنا نتعامل مع معضلة حقيقية. إنما تنبهنا إلى حقيقة أننا دائماً في وضع النقصان من عدم القيام بما يكفي. ينبغي على الشخص أو البلد المضياف أن يسعى دائماً لأن يكون مضيافاً أكثر، متيقظاً لأي فرصة للتحرك في اتجاه الضيافة، ولا يقال أبداً:” لقد فعلنا ما يكفي، لا نستطيع فعل المزيد.” بل علينا البحث دائما عن طرق علمية لتقديم أكثر مما قدمنا.

المصدر


[2] Vichy Government in Franc (1940-1944)

[3] Pieds-Noirs [English: Black-Feet]

[4] De l’hospitalité, Callmann-Lévy (1997) – Trans: Of Hospitality, Stanford University Press (2000)