مجلة حكمة
العقل والرغبة

العقل والرغبة – جان بيير شنجو / ترجمة: محمد المعزوز


“يستغل الفن الملكات الما قبلية للدماغ من أجل تقوية العلاقات ما بين العقل والرغبة ، وتوفير عنصر الانسجام بين قوانين العقل ووظيفة المعاني -كما كتب شيلر– لهذايعد الفن قوة جامعة وموحدة.

وباستثناء التراث الفني إلى أصالته وما يتقوم به، تمكن من امتلاك شيء جديد باستمرار، إنه تلك الذاكرة التي أصبحت عاملا مخصصا للتقدم والإبداع”(1).

من الإحساس إلى التعرف:

قال سبينوزا: “إن الناس يحكمون على الأشياء وفق مقتضيات وأوامر الدماغ”. وبالدماغ كذلك يتأملون اللوحة التشكيلية المحددة فيزيقيا على شكل توزيع متفرق لصباغات ممتدة على مساحة مسطحة. وبالنظر المباشر إلى لوحة “مبكى المسيح الميت” (لبلانج Ballange)، نجد العين ترصد مؤشرات فيزيقية لهذه المساحة الملونة، فالإشعاعات التي تبثها العين وتحققها تحت مؤثرات كهربائية، يصل امتدادها إلى القشرة الدماغية الخارجية (Cortex cérébral) بل إلى الدماغ نفسه.

من هنا، ينبني ذلك الشيء الذهني، وذلك التمثل الداخلي للوحة, غير أن هذا لن يتم إلا بإمعان النظر المدقق في مكونات اللوحة المحمولة على الشكل واللون ومقتضيات الفضاء، (وهي خاصيات تعبيرية يمارسها التشكيلي انبنائيا في إنجازه للظلال والأضواء).

وارتباط الحركة (وهي هاهنا رؤية المتفرج) بالوجوه والأشياء المشكلة على القماش، هي أشياء تحلل في مجال مستقل ومعزول؛ ذلك أن الطرق والمجالات تختلف، ولكن في ارتباطها الداخلي المتحقق عبر القشرة الدماغية يحدث لها نوع من الارتباط الداخلي الناتج عن الاحتكاك البصري باللوحة، خاصة في المساحات المرئية (الأساسية والثانوية) المرتبطة بالجبهة الأمامية للدماغ.

وبعد هذه العملية التي يطلق عليها التحليل، يأتي ضرب من التركيب قد شكلت جهاته مادة لدراسات رائدة حول رؤية الألوان، ومنها دراسة سمير زكي بخاصة. ذلك أن رؤية اللوحة في وسط النهار وعلى ضوء النهار نفسه، أو في الليل على ضوء اصطناعي، قد تظهر (مثلا) لوحة “المبكى” وبشكل عملي على أنها واحدة، بالرغم من أن هذه اللوحة تعكس ضوءا من تأليف مختلف أوقات اليوم. لهذا قد شغلت مسألة ثبات الألوان كثيرا من علماء الفيزيولوجيا، ابتداء من “هلموتز” نفسه. وتقتضي مسألة الثبات هاته، أن الدماغ يفرز -انطلاقا من طاقات ضوئية تعكسها اللوحة- خاصية لا متغيرة للمساحة الملونة. وهذا ما يعرف اليوم بـ” الانعكاسية”: أي طاقة العكس بأشكال مختلفة لطول الذبذبات الضوئية.

ويستدعي هذا الثبات كذلك، أن تكون المسافة الملونة المتفحصة متوقعة في “سياق” مجموعة متعددة من المهام الملونة، حيث تمتلك كل واحدة منها انعكاسيتها الخاصة.

وبتعبير آخر، فالدماغ يعيد إنتاج حالة ثابتة داخلية ممثلة للون المدرك؛ وذلك انطلاقا من الثوابت الخارجية. وانسجاما مع هذه التصورات، فقد اكتشف زكي في القشرة الدماغية للعلامة (المدركة للألوان بحساسية)، أن العصبونات (neurones) التي تسنن عمليات الإدراك لا تحقق خدمة لأطوال الذبذبات المستقبلة من طرف العين (التي تختلف وفق أوقات اليوم)، وإنما يحقق خدمة للون ذاته كما ندركه نحن. وهذا يعني أن عملية توزيع الفنان التشكيلي للنقط الملونة على القماش، قد تكون محققة ضمن علاقة مع حالة فيزيقية مقيسة للدماغ، إذ يمكن اعتبارها واحدة “من حالته الذهنية الأساس”، وهي حالات قد شغلت كثيرا الفلاسفة. إن إعادة تشكيل اللوحة، تتجاوز المساحات المخصصة في رؤية الألوان؛ وتنشيط العصبونات الحاضرة في هذه المساحات، يتم باتفاق مع الأجزاء المجاورة للقشرة الدماغية، المكلفة بتحليل اللواحق، والشكل، ومكونات الفضاء، والحركة… ولا يكتمل هذا التحليل إلا بفعل التركيب؛ لكنه إذ كان يمكن للتحليل أن يحدث بطريقة سلبية، فإن التركيب يدل على تبئير إيجابي لاهتمام المتفرج، لأن الشيء الذهني للوحة يتكون بشكل تدريجي.

أما خاصية “التعرف: فإنها تتحدد في مستوى تنظيمي متقدم للإدراك، لأن الأمر لا يتعلق فقط بـ”تقديم” وجه (أو شيء)، ولكن بتحديد هويته ومواضعته في اللوحة. فيكون السؤال دائما ما هو هذا الوجه؟ وأين يوجد؟

هناك -إذن- مناطق قشرية (corticaux) تميز المساحات المرئية، وتحدد في مقدمة هذه المساحات، في مناطق صدغية وتجويفية؛ وجميعها تساهم في هذا العمل الخاص بالتعرف والتعيين الزمني.

ولقد وصف المتخصصون في الأعصاب لدى بعض المرضى وجود عجز غريب لديهم في معرفة الناس والوجوه (Prosopagnosie)؛ غير أن هذا العجز لا يقدم أية علامة ظاهرة على الانهيار الفكري ولا على الخلل اللغوي، لأن هؤلاء المرضى يتعرفون بسهولة على الأشياء المتناولة أو على الحيوانات التي يربونها؛ ولكنهم لا يستطيعون معرفة مرشح في الانتخابات مثلا من خلال صورة فوتوغرافية تمثله، ولو أنهم قد سبق لهم رؤية هذا المرشح وأنهم قد عرفوا اسمه مسبقا. هناك -إذن- روابط جد مسيجة للقشرة الدماغية، تؤدي إلى مرض عجز معرفة الوجوه. وكل منا قد تعرض لتجربة خضوعه إلى كثير من المراحل المتتابعة لمعرفة الوجوه، حيث إننا نصاب إزاءها بثقب عرضي في الذاكرة؛ إذ الأمر يتعلق بوجه معروف بحق، ولكن يستحيل تبين هويته من جديد، أو تذكر المكان الذي رأيناه فيه آخر مرة، أو كما يحدث كثيرا تعذر تذكر اسم هذا الشخص المعين. فكل منا يعرف كذلك، أن كثيرا من مراحل هذه المعالجة تحدث دون أن نعيرها أي اهتمام أو أي انفعال عاطفي.

وهكذا، جاز لنا أن نقر بوجود “عصبونات” فردية تختص بتقديم الوجه المألوف في جهته الأمامية، وليس في جهته الجنبية أو العكس، كما تختص بتحديد تعابير هذا الوجه من ملامح، أو خاصية العينين واتجاهات النظر، أو الشعر…

إن التخصيص الوظيفي لكل خلية مسؤولة على ما ذكر، شيء مذهل حقا، ولو أن بعض ما اكتشف بخصوصها لم يكن مجربا. ومع ذلك، فإن الذي يدعو إلى التفكير هو أن أشباه هذه العصبونات التي تسمى أحيانا وحدات معرفية، توجد في دماغنا وأن نشاطها يتغير لما يتحول نظرنا إلى الوجوه والشخوص أو إلى الأشياء التي تساهم في تكوين اللوحة.

وبالنسبة لـ”مشكين”، فإن هذه العصبونات المتحركة في اتجاه انتقائها لنفس الوجه أو الشيء، تقوم بوظيفة إخبارية حاسمة عن طريق الانتقال من عصبون (neurone) إلى عصبون آخر، وذلك عبر مسافات بصرية موصلة إلى تجويفة الصدغ المؤهلة إلى الإجابة عن السؤال: ما هو هذا الوجه؟ أو الشيء؟

ثم هناك انتقال آخر منتشر عبر ألياف تجويفة الدماغ من أجل تحديد العلاقات الفضائية الرابطة ما بين هذه الوجوه، أو ما بين هذه الأشياء، وضبط حركيتها الدالة على وجودها.

إن تنشيط الخلايا العصابية المتخصصة، والكائنة تراتبيا تحت المسافات البصرية، لا يحدث إلا بهدف بلورة التمثل الداخلي للوحة وفق مستويات واسعة من القشرة الدماغية. وقد يضاف إلى هذا، وجود تطور نوع من اللاتوازي الوظيفي ما بين نصفي الكرة الدماغية (hémisphéres)؛ فالنصف الأيمن يتكفل بمهمة التنقيب في الفضاء، والأيسر ينتهض بتجميع الصور المعقدة. أما الخلايا المعرفية فهي تتجمع متداخلة للمساهمة في التعرف على الأشكال الأكثر تعقيدا، وفي استقصاء كذلك الملامح العامة لهذه الأشكال ضمن فضاء اللوحة. وهكذا يتحصل في النهاية نوع من التجريد، بل ستحول الهياكل الملونة عبر الأشكال إلى مفاهيم ضابطة ثم إلى تركيب مؤلف وجامع لهذه الأشكال جميعها.

مجلة الجابري – العدد التاسع


نص مترجم من كتاب: “Raison et plaisir

Jean-Pierre Changeux, Ed. Odile Jacob, Paris 1994,

من ص 33 إلى 38.