مجلة حكمة
العقل العمومي والدين

الدين والعقل العمومي: مقارنة بين مواقف جون رولز، ويورغن هابرماس، وبول ريكور – مورين جنكر كيني / ترجمة: توفل الحاج لطيف


المقدمة

لقد أصبح تنوع الثقافات وتعدد القناعات في المجتمع الواحد جليا في الحياة اليومية للمواطنين: في مقرات عملهم، وفي دائرة أصدقائهم وفي أحيائهم، وفي وسائل الإعلام، وكذلك في الفضاء السياسي حيث يتم تشكيل حياتهم ومستقبل الأجيال القادمة. ولما كان المواطنون أعضاء في مجتمعات ديمقراطية، فإنهم ليسوا مجرد متلقين سلبيين للقرارات التي يتم اتخاذها في أي مكان آخر. إنهم يساهمون في حياة المجتمع من خلال مساعيهم الشخصية والمهنية ومبادراتهم الاجتماعية ومناقشاتهم غير الرسمية والطرق المختلفة التي يبلغون عبرها آرائهم لممثليهم. وأمام تضارب مصالح وتطلعات ومطالب العديد من الأطراف، تعتبر الدعوة إلى “عقل عمومي” كدعامة لتقييم الإجراءات والحلول خطوة إيجابية لأنها تؤكد على ضرورة أن تستجيب العملية الديمقراطية لمعايير تتجاوز المصالح القطاعية، وتوفر أفقًا مشتركًا للمشرعين وأعضاء المجتمع المدني من أجل بلورة رؤاهم للمشروع الجمهوري فيما يتعلق بالمسائل العينية المناسبة لاتخاذ القرار. ولقد باتت المصادر الضرورية لإسناد الدوافع والطرق الجديدة اللازمة لتحقيق التماسك، من القضايا المهمة كلما تعلق الأمر بمسألة مشروعية الدولة.

ما هي التصورات التي تم تطويرها لتحديد معالم “العقل العمومي” ومحتواه؟ ما مدى ارتباطه بالقناعات الراسخة لدى للمواطنين كأشخاص يتمتعون بالحماية بموجب حقين ليبراليين أساسيين، حرية الضمير وحرية المعتقد؟ ما هو نطاقه، بين المحلي والكوسموسياسي؟ هل يقوم بذاته أم أنه بحاجة إلى موارد لتطعيمه وإنعاشه؟ ما موقفه من الدين، والحال أن البعض يعتبره تهديداً محتملاً لاستقرار المجتمع: هل يتعارض “العقل العمومي” مع الدين لأنه يصر على معايير قابلة للتعميم بحيث يمكن أن تشمل رؤى خاصة وليست متاحة عمومًا؟ أم أنه يمكن للدين أن يكون، في الحقيقة، شريكا محتملا للعقل العمومي كافتراض مسبق؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، يتعيّن علينا رسم حدود المجال الحيوي للتقاليد الدينية. ولأجل ذلك سنلجأ إلى مجموعة متنوعة من الإجابات المستلهمة من أطر مميزة للتأويل يمكن رصد معالمها في الايتيقا الفلسفية. ويمثل المؤلفون الثلاثة الذين وقع عليهم الاختيار للمقارنة في هذه الدراسة ثلاثة مناهج من خلفيات لغوية ومفاهيمية مختلفة، من التصور الليبرالي الذي بلوره جون رولز (الجزء 1)، إلى إعادة صياغة يورغن هابرماس للخطاب الايتيقي الكانطي الكلي وتنزيله في الفضاء العمومي (الجزء 2)، وإلى الدور التأسيسي للمجال العمومي الذي يعزو بول ريكور لقاءه بالايتيقا التأويلية والمعيارية إلى تقاليد تفكير بعينها شكلت ثقافة وقناعات مواطنيها المختلفة (الجزء 3).

ألف كل واحد من هؤلاء الفلاسفة أعمالًا أدت إلى انطلاقات جديدة في مؤسسات البحث في مختلف التخصصات وعبر سلسلة من التدابير أو التعديلات على مدار عقود؛ وقد شكلت نظرياتهم هي بدورها مجالات للتخصص في حد ذاتها. لماذا الجمع بين أعمال لــــــثلاثتهم هي على غاية من التشعب والتعقيد ورغم ما عرفته من تحليلات وانتقادات؟ قد يلاحظ المتخصصون في كل منها أن الإحالة إلى السجالات طويلة الأمد حول مفاهيمهم الأساسية ومواقفهم النظرية منعدمة. وفي الحقيقة لن أبحث في الدوافع التي قادتني لهذه المقارنة في شموليتها وإنما حسبي أن أتوقف عند سببين: يتمثل الأول في أن هدفي من وراء كل ذلك هو المساهمة في مناقشة أعمالهم باللغات القارية، وخاصة الألمانية، باعتبارها تمثل أيسر السبل للنفاذ إلى الايتيقا والفلسفة واللاهوت في العالم الأنجلو- سكسوني؛ يتعيّن على جماعات الباحثين هذه أن تتوحد من جديد، على الأقل، حول اكتشاف مواطن الاختلاف في اهتماماتهم ومساهماتهم الفكرية. وأما السبب الثاني فيكمن، في اعتقادي، في أن الايتيقا اللاهوتية تفقد هويتها عندما تتخلى عن المتطلبات الداخلية التي يجب إجراؤها باعتبارها ضربا من التخصصات الفرعية اللاهوتية الفلسفية. ولقد تقهقر التراث من إيرينيوس إلى شلايرماخر، على سبيل المثال لا الحصر من حيث هما يمثلان نموذجين أساسيين في العصرين القديم والحديث، في علاقة بالوعي العام بالحقيقة كما تنعكس في المقاربات الفلسفية لعصر ما[1]، أمام المسوغات المبرمجة للتفسيرات الذاتية الداخلية للإيمان. ونأمل أن تنتعش هذه التصورات اللاهوتية عبر التجذر في منابعها الخاصة [2]. يبدو لي أن الحركات اللاهوتية التي تبنت هذا الاتجاه غالباً ما تستند إلى مفهوم للهوية لا يثير جدلا، وأنها انتبهت منذ البدء إلى ما يمكن أن نغنمه من نور العقل وانضباطه. وشأني شأن الزملاء من مختلف التخصصات اللغوية والفكرية ممن سأخوض معهم سجالات فيما سيأتي، لا أعتقد أن الايتيقا اللاهوتية يمكن أن يكون لها دور دون أن تأخذ في عين الاعتبار بشكل بنّاء المقاربات النموذجية للفلاسفة الثلاثة الذين تقارن بينهم هذه الدراسة التي يتمثل غرضها في توضيح الأسس النظرية التي تنهض عليها الأشكال الثلاثة المتمايزة التي توفرها للمساهمات الدينية في المجال العمومي. ومن خلال مقارنة أطرها المفاهيمية، نتبيّن أن النظريات المتنافسة على بيّنة بأنه من المفيد أن يكون للمبادرات المدنية والمقترحات السياسية ومساهمات الأديان ومسوغاتها صدى في اللاهوت العام والايتيقا المسيحية خاصة في أبعادها الاجتماعية والعملية[3].

يتخذ تحليل المقاربات الفلسفية الثلاث لأسس العقل العمومي وعلاقته بالدين الخطوات التالية. بعد تحديد الإطار المعياري الذي يحدد الوظيفة المحددة للعقل العمومي، تُفحص الأنثروبولوجيا (الصريحة والضمنية) ونظرية الفعل اللتان تعينانه. ثم تُستكشف أبعاد الحياة الاجتماعية وتُعيّن في إطار سياسي ديمقراطي. وأخيرًا، يُعنى بتصور الدين الذي يترتب عن ذلك: مكانة متطلبات الحقيقة الميتافيزيقية والدينية؛ دور الدين كممارسة وقناعة في مجتمع تعددي؛ والآثار المترتبة عن نقد اللاهوتيين للسياقات القارية الأنجلو-سكسونية على تاريخ ومستقبل تقاليدها الدينية، ودورها المحتمل في تنوع ثقافات العالم من أجل تشكيل أفق مشترك للحكم والفعل.

كلمة أخيرة حول المفهومين الرئيسيين إلى جانب عنوان هذه الدراسة، “العقل العمومي” و “الدين”. تنبثق تعاريفهم من تاريخ الفكر، ومن جزء من الجدل الدائر في الزمن المعاصر بشأنهما. ينطبق الأول على السعي لإقامة أساس مشترك للرأي وتشكيل الإرادة في الديمقراطيات التعددية ويشمل مسألة إضفاء المشروعية على ممارسات الدولة. والأمر الأهم من ذلك يتعلق بما إذا كان علينا تعقب أصله في نظرية القانون أم في الأخلاق.[4] وكمصطلح كانطي الأصل، يظل معناه الدقيق في تعارض مع “الاستخدام الخاص للعقل” معيارًا حاسمًا للحكم على استخدامه الحالي في الفلسفة السياسية وفي الايتيقا. ولقد تم توضيح هذا التمييز بإيجاز في مقارنة أونيل Onora O’Neill بين فهم كل من كانط ورولز لهذا المصطلح[5]. شكلت نشأة فضاء عمومي مستقل لحظة تاريخية جديدة وانطلاقة سمحت بالتعبير عن مجموعة متنوعة من رؤى العالم وأنماط الحياة. وبالنسبة للمواطنين وأصحاب المناصب، يعني الالتزام بالعقل العمومي الاعتراف بأنه بقدر ما سيتم تشكيلهم وتحفيزهم بواسطة تقاليد مختلفة، بقدر ما أنهم يشتركون في القدرة الأخلاقية الإنسانية التي تسمح لهم بالدفاع عن مناصب يمكن الاتفاق عليها بشكل مشترك. يختلف نطاق العقل العمومي وطرق تفعيل هذا المستوى من التفكير والتحقق منه وتعيينه بين المؤلفين الثلاثة المعنيين هاهنا؛ إلا أن أصله الكانطي يتطلب الانتباه إلى ارتباطه بالتفكير الأخلاقي الذاتي الابداعي الذي يمكن أن يكون في متناول جميع البشر.

وعلى غرار “العقل العمومي”، فإن “الدين” يدين في أصله كمفهوم يحيل إلى مجال مميز من الحياة البشرية الواعية إلى فترة الحداثة. ويعتبر المؤلف اللاهوتي الكلاسيكي فريدريش شلايرماخر هو الذي استهل تسويغا جديداً للدين في سياق فحص نقدي للعقل في الحداثة. يشير مصطلح “الدين” في الآن ذاته إلى هذا المجال الابداعي للتجربة الإنسانية، وإلى تقاليد تاريخية معينة تجسد تنوعه. وفي العديد من الحالات، سيشمل المصطلح العام، “الدين”، المصطلح الثاني، “الأديان”، فيما يتعلق بالتقاليد التاريخية في خصوصيتها. وتحتاج سياقات التحليل حيث ينبغي التمييز بين المرجعيتين إلى أن تكون على قدر كبير من الوضوح فيما سيأتي من مناقشات. لا يمكن توضيح “الإمكانات السيميائية” التي يمكن أن توفرها التقاليد الدينية لعقل علماني من وجهة نظر يورغن هابرماس إلا انطلاقا من تقاليد معينة؛· ولقد استقى  أمثلة على ذلك، من قبيل أن الكائن خُلق على صورة الله، من التوحيد اليهودي والمسيحي الذي يمثل الجذر المشترك للثقافة الغربية. وفي السياق ذاته استخدم ريكور النصوص الكلاسيكية من الكتاب المقدس في شتى صنوفها وكذلك من الفلسفة والآداب اليونانية والرومانية لتعيين عتبات مراحل جديدة من التفكير. إن محتواها “السيميائي”، الذي يتميز بترجمات محددة للمصطلحات الرئيسية باللغة العبرية واليونانية واللاتينية التي استوعبتها تواليا، بحاجة إلى النقاش بين الفلاسفة واللاهوتيين والفيلولوجيين (فقهاء اللغة) من أجل تأوّل الدين لا فقط على المستوى العام؟ ولكن أيضًا في نطاق التطور التاريخي لفهم تقاليد معينة لذاتها. إن المهمة الهرمينوطيقية المتمثلة في تحديد الاختيارات التي اتخذت في أقلمة الرسالة الإنجيلية للخلاص ضمن التيارات الفكرية عبر العصور المختلفة تحتاج إلى لاهوت قادر على أن يكون ثنائي اللغة وعلى استعداد لذلك. ويمثل مصطلح “ترجمة” المصطلح الرئيسي الذي يساعد على تبيّن علاقة الدين بالعقل العمومي. وتعمل هذه الدراسة التي تفتح سجالا بين الفلاسفة الثلاثة على بيان أن الترجمة كانت حاضرة بالفعل قبل أن يبدأ تدبر أمر الدين تحليلا وبيانا. إن الحاجة إلى هذا الجهد لا تفرضها فقط التناقضات من قبيل العقل والوحي، ولكن أيضا تأويلاتهم المختلفة لنفس المصطلحات الأساسية مثل الأخلاق، والاستقلالية الذاتية، والعدالة، والمبادئ، والسياسي، والعمومي، والعقل. وقبل التفكير في الجسور المحتملة التي يُفترض أن تضيّق الفجوة بين الدين والعقل، سيكون من المفيد تدبر حقيقة الاختلافات القائمة بين استخداماتهم لمفاهيم مستلهمة من خلفية واحدة مشتركة: لغة كانط.


[1] Th. Pröpper, “Freiheit als philosophisches Prinzip der Dogmatik”, in Evangelium und freie Vernunft. Konturen einer theologischen Hermeneutik (Freiburg : Herder, 2001), 5–22

 نتبيّن مهمة الاتصال ب “الحقيقة العامة” أيضًا في مقاربات “اللاهوت العام” التي تعتبر “اللاهوت نشاطًا عموميا، يجري في خضم الحياة العمومية وأن غرضه الحقيقة العمومية”.

  1. F. Storrar/A. R. Morton, “Introduction”, in Storrar/Morton (eds.), Public Theology for the 21st Century. Essays in Honour of Duncan B. Forrester (London/New York: T & T Clark, 2004), 1–21, 8.

[2] للمقارنة الثاقبة للاهتمامات المتباينة للاهوت في المملكة المتحدة وألمانيا، انظر

Johannes Hoff, “German theology in contemporary society”, in Modern Believing (Special Issue, ed. by J. Hoff) 50/1 (2009) 2–12.

[3] في “Foreword” إلى Festschrift لـفورستر D. Forrester، يشير ريموند بلابنت Raymond Plant إلى أنه على الرغم من الأحكام القيميّة المضمّنة في تشكيل السياسة العمومية، يتم اتخاذ القرارات من قبل أولئك الذين يتمتعون بخبرة أداتية … ولكن … لا يوجد خبراء فيما يتعلق بـطبيعة وترتيب القيم التي تكمن في صميم السياسة العمومية، وبالتالي لا يعدو أن يكون ميلنا لترك هذه الأمور للخبراء في نهاية المطاف سوى وهم … إن الانخراط في نقاش حول خلقية ما يُمارس باسمنا يكاد يكون متعذرا ولكنه يظل في صميم المسؤولية الإنسانية لا يمكن تجاهلها”. ويؤكد على أن الطريقة “للوصول إلى رؤية أخلاقية ومدنية” تتمثل في توفير “منتدى عمومي يمكن أن تجري فيه مثل هذه المناقشات بين واضعي السياسات والاخصائيين واللاهوتيين والفلاسفة”، كما قام بذلك مركز اللاهوت والقضايا العمومية في كلية اللاهوت بجامعة إدنبرة.

The Centre for Theology and Public Issues at the University of Edinburgh’s Divinity School

  1. Plant, “Foreword”, in Storrar/Morton (eds.), Public Theology, ix–xi, ix–x.

[4] Cf. H. Nagl- Doceka l, “Moral und Religion aus der Optik der heutigen rechtsphilosophischen Debatte”, in Deutsche Zeitschrift für Philosophie 56 (2008) 843–855.

[5] O. O’Neill, “Bounded and cosmopolitan justice”, in Review of International Studies 26 (2000) 45– 60.

  • Cf. Th. Schmidt, “Der Begriff der Postsäkularität”, in J. Manemann/B. Wacker (eds.), Politische Theologie – gegengelesen (Münster: LIT-Verlag, 2008), 244–254, 252.