مجلة حكمة
إيلين: رسائل لوي ألتوسير إلى زوجته في فترة ما قبل الحرب

العبقرية والهذيان؛ رسائل إلى إيلين – لوي ألتوسير

B2RRIw-IMAAWHXx
غلاف الكتاب

منذ بضعة أيام، اتصلت بي صديقة عبر الهاتف، كي تعبر عن سعادتها. لقد أنهت للتو، قراءة الرسائل التي كتبها الفيلسوف لوي ألتوسير (1918-1990) إلى زوجته “إيلين ريتمان” Hélène Rytman. أولى هذه الرسائل، تعود إلى فترة ما بعد الحرب، وتؤرخ للحظة التقاء المفكر الماركسي بعالمة الاجتماع. أما آخرها، فتشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي قتلها، بعد أن أصيب ألتوسير بنوبة جنون.

صدر مؤخرا، كتاب يتضمن هذه الرسائل، التي لم يسبق لأي أحد أن اطلع عليها. لكن، الصديقة المذكورة أعلاه، التهمته رسالة تلو الرسالة، مما جعلها تهمس لي  : ((الأمر بسيط، إذا بعث لي رجل برسائل كهاته، على امتداد ثلاثين سنة، فأريد حقا أن يكتم أنفاسي في نهاية المطاف !)).

دون ملامسة هذه الحدود، ينبغي الاعتراف بأن نصوص الرسائل ممتعة. أولا، هي من توقيع، أحد أكثر المفكرين تأثيرا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وعصابي ـ اكتئابي من العيار الثقيل. لكنها خاصة تنشد غنائية فتّاكة، مزجت بلا توقف بين الرقة والقساوة : ((هل يمكننا الانتشاء بالتدمير ؟ )) يتساءل رامبو. رسالة بعد رسالة  مخاطبا ألتوسير زوجته، سيجيب أخيرا “نعم”.

هذه الجدلية، بين الإبداع والتقويض، أضفت قوة أدبية على رسائل ألتوسير. مع انسياب مداد قلمه، يتم كل شيء كما لو أن إفناء الآخر والذات، يبقى الوسيلة الوحيدة من أجل العمل على تماسك الزوجان. رباط، وقد أضفى عليه ألتوسير صفة حزب، كان بالفعل هشا.ألتوسير، الكاثوليكي الراديكالي، صار ماركسيا علميا، وعانى مبكرا جدا من أولى اضطراباته النفسية. أما، زوجته إيلين فهي يهودية  ذات أصول روسية، مناضلة قديمة، طردت من صفوف الحزب الشيوعي لأسباب لم تكشف عنها أبدا. إيلين ، ليست حقا بالعنصر  المريح : الفيلسوف جون غيتون Jean Guitton (1901-1999)، أستاذ ألتوسير وصديقه، وصفها ب “اللغز المطلق” تشبه الأم تريزا. هكذا، ينصب شغفهما على النصي واللغوي، أكثر من الهاجس الجنسي. رسائل ألتوسير إلى إيلين ، تبرز خاصة متعة الورق هاته، ورغبة في خلق  الفراغ من أجل ملء الحياة : ((أضمك بحنان بين ذراعي، يا رفيقتي الصغيرة النابضة بالحياة)). كل شيء قيل أو تقريبا، منذ الرسالة  الأولى، تم تصير الرغبة قوية كي نقرأ مجموع الرسائل على ضوء النهاية المأساوية. ودود إلى أبعد حد، وبين الفينة والثانية، ساحر ومفعم بالدعابة، ويتكلم قليلا عن الفلسفة أو السياسة : جورج مارشيه Marchais “أراد فرض رأيه”. الحزب الشيوعي الفرنسي  “بدا مرتاحا” بدعمه الغزو السوفياتي لأفغانستان، ويبقى الأساسي لدى ألتوسير، استفساره عن أخبار إيلين ، فيسألها إذا كانت تتقدم خطوات في تأليف كتابها، ويقترح عليها فكرة تخص العنوان ثم يشجعها أكثر فأكثر (نصك محرّر) ويبعث لها بإشارات عملية كي تتمتع بمدينة فينيسيا. غير أن الرسائل في مجملها، يحكمها خاصة إيقاع “الاضطرابات الداخلية” التي تهز وجوده الذاتي : يتحدث ألتوسير بتفصيل عن الحوار مع الطب النفسي وتأثيرات الأدوية المضادة للانهيار العصبي، والصدمات الكهربائية. عندما نقرأه، نشعر بأن أستاذ المدرسة العليا للأساتذة، يتأرجح بين خبل مطلق (أنام الليل جيدا، لكن النهار بشكل سيء) ونشاط جامح (الدراجة، البحر، السباحة، الريف…) حسب قدرته أم لا، على التحكم في قواه الغامضة، التي يسميها “شياطين”. لكن على امتداد الرسائل، سيأخذ انتصار الشياطين، خطا تصاعديا. من وجهة النظر هاته، يبدو بأن سنة 1961، شكلت نقطة ترجيحية حيث اشتدت الأعراض، وبدأ نظامه اللغوي في الاختلال، ودخلت الكلمات دوامة الأزمة. هكذا، سيبدع ألتوسير على نحو مدهش، كتابة هذيانية. أحيانا، تغيب الفواصل عن النداء ومع لحظات أخرى، تصير لغة أساسها اللعب، تحافظ على طراوة الشفاهي، فاستبق ألتوسير بذلك، رسائل « SMS » الحديثة[2].  بالموازاة، مع جنون اللغة، سنلاحظ تحولات إيلين في متخيل ألتوسير. هكذا، ستترك  الزوجة على الفور، مكانها إلى الصديقة الحميمة وكذا أخت البؤس والرفيقة المضطربة. المحبة التي أظهرها الفيلسوف، أضحت شيئا فشيئا غامضة : دون إدراك منه تحول مبدع الرسائل العاطفية إلى كاتب للقسوة. إنها اللحظة، التي سيضاعف فيها ألتوسير الإشارات الخادعة لعشيقاته لاسيما أكثرهن شهرة « la môme franca » التي تحدث عنها إلى إيلين بنوع من الإعجاب : ((مع فرانكا جيدا (…). ومع “لابامبا” فإني أهيم، أما مع “نونا” فأوه !…)). لحظة أيضا، سينتقل فيها من مجابهة الحب إلى الوقوع في شركه : ((تذكري، وإن كنت شرسا، فإني أضمر لك محبة كبيرة))، يكتب ألتوسير، وهو مقتنع بأنه “أساء إليها كثيرا طيلة 35 سنة”، لذلك يتعهد لـ إيلين بأنه سيتوقف عن استفزازاته، وسيفعل كل ما من شأنه أن يصلح الأمور بينهما. لكن ما يرتسم جانبيا في الأفق، هو بالأحرى  “الانتشاء بالفراغ” بمعنى تلك القفزة الكبرى في المجهول، التي أقدم عليها الفيلسوف يوم 16 نوفمبر 1980. اثنتا عشر سنة، قبل ذلك، كتب ألتوسير إلى “نصفه الثاني” : ((خلال كل الصباحات، يتكرر هذا الأمر بشكل متماثل: أشعر بأني أستيقظ في غرفة وقد بتر نصفي الثاني  (على الجانب، وفي الأسفل، يوجد الشارع !) ويفتقد لمنتهى، أي  الفراغ)).

والحال أن الهوس بالفراغ، حاضر جدا كذلك في العمل النظري لألتوسير، المهيمن حتى اليوم، على الحياة الفكرية سواء داخل فرنسا أو خارجها، ما دام يشكل مرجعية لرموز مختلفة مثل : آلان باديو، جاك رانسيير، بيير ماشري، أو بيرنار هنري ليفي. مشروع ملغز دائما،  وإشكالي، بحيث يجد كل مفهوم نفسه على الفور، ممتلئا بالألغام داخليا، وقابلا دائما للانهيار. لهذا السبب، توجب”رسائل إلى إيلين” بحمولة جديدة  إحياء السؤال القديم :  إذا كان الوجهان المؤسّسان لألتوسير :  صاحب النظرية ثم المجنون، يمثلان واحدا دون أدنى تناقض أو أية قطيعة ؟ فنظن بأن ما يجمع بينهما عندما سننهي  قراءة الرسائل،يكمن في الانذهال بالتورط أي هذا الاعتقاد المؤلم شعريا : وحده تقويض الصلات، يؤدي إلى بناء  تحالف آخر، هكذا يبقى الإفناء، الفعل الوحيد للإبداع، وآخر دليل عن الحب.

II ـ تقرير مزدوج للتحليل النفسي :

تجربة الاكتئاب، أساسية في حياة وعمل ألتوسير. بالتالي، فلا التحليل النفسي وعشق النساء والتطلع إلى الثورة وكذا العبقرية النظرية، باستطاعتهم استيعاب حدود هذه الثنائية الدائمة (الإحباط/التمجيد) التي ألهمت كثيرا جيل سنوات 1965-1975.

لذا، فإصدار كتاب “رسائل إلى إيلين ريتمان”، زوجته، بعد مرور 12 سنة، على رسائل ألتوسير إلى “فرانكا مادونيا” عشيقته الإيطالية، يعطي إمكانية فهم كيف أن الفيلسوف لم يتوقف عن التأرجح بين نموذجين للنساء : الأول مذنب ومنهك نفسيا، تمثله إيلين والتي تعكس صورة خيالية عن أخته “جورجيت” Georgette، كموضوع لشفقة حاضنة وطفولية. أما النموذج الثاني، فهو غامض ومتوهج، تجسده “الأجنبية” التي بقيت باستمرار نصف خفية، وأحيانا تحمل وتكشف عن هوية إيطالية متوقدة. علاقة ألتوسير بـ إيلين ، وقد اتخذت أكثر مسارا جنونيا، تشبه علاقة أخرى جد عاطفية، إنه الانزواء الذي وجد دلالته من خلال ثلاث فضاءات : الحزب الشيوعي الفرنسي، المدرسة العليا للأساتذة  وكذا ملجأ العُصابيين.

منذ 1938، عانى ألتوسير من حالات عصابية، تنتابه كل سنة فترة شهر فبراير. لذلك، عاش أكثر من عشرين مرة الحكاية الميثولوجية ساغة « Saga »  التي تتوخى احتجاز المريض بهدف إخضاعه للعلاج النفساني. وضع وصفه جيدا، تلميذه ميشيل فوكو : مهدئات الأعصاب، الصدمات الكهربائية، وأملاح الليتيوم التي تنضاف إلى مختلف العلاجات النفسانية المتصفة أيضا بانشطار الأنا. في هذا الإطار، نسج ألتوسير مع التحليل النفسي علاقة مزدوجة، لما فصل دائما بين وضعيته كخاضع للتحليل والعلاج النفسي، ثم ألتوسير مفكر الفرويدية : من جهة يصف ذاته بالضحية، المجبر على الامتثال لعلاج كيميائي، فأبدى ضده تمردا مستمرا. ومن ناحية ثانية، أراد أن يكون مدافعا عن قراءة لفرويد (تلك التي جاء بها جاك لاكان)، كي يدحض المبادئ العلاجية التي خضع لها هو نفسه.

مع نهاية سنة 1963، واجهت لاكان صعوبة  كبيرة في علاقاته مع جمعية التحليل النفسي الفرنسي والدولية. إذن، وقد أصابه الانهيار وتراوده فكرة الانتحار، حدث اللقاء بينه وألتوسير الذي لعب معه بشكل واع، دور محلل نفساني “مدافع” ودعاه كي يحاضر بالمدرسة العليا للأساتذة، فهيأ له بذلك منبرا بجوار جيل جديد من الطلبة /الأساتذة، استقطب من بينهم مجموعة أنصار آخرين. كما، فهم لاكان على الفور دلالة هذه اللعبة (طبيب الطبيب) مما جعله يفكر في أن يقترح عليه، اصطحابه إلى أريكته، مفرقا هو أيضا العمل النظري عن العلاج. قبله، سبق لألتوسير أن اختار طبيبه. يتعلق الأمر ب روني دياتكين (1918-1998)، معالج قديم ل لاكان  ومشرف كذلك على حالة جورجيت أخت ألتوسير، المصابة أيضا منذ فترة طويلة بنفس الأعراض المرضية، لأخيها.

سنة 1964، كتب ألتوسير مقالة قوية في مجلة (النقد الجديد) عبر بين سطورها عن تقدير مؤثر ل لاكان، وتوجه بانتقاد لمواقف الحزب الشيوعي الفرنسي القديمة، التي طعنت في شرعية التحليل النفسي سنة 1949 بناء على تهمة “العلم البورجوازي”.

بعد مرور سنة، بادر “دياتكين” إلى أن يأخذ على عاتقه حالة “إيلين التي أصيبت بانهيار عصبي، وطردها الحزب الشيوعي الفرنسي، كما تجر وراءها طفولة قاسية. اهتم أيضا، بالمتابعة النفسانية لألتوسير، الذي أسر بدوره دياتكين” تحت سطوة قدراته : عشق الفيلسوف لعبة زواج نفس أفراد القبيلة، بأن ضم إلى دائرته النفسية كل أقربائه، لاسيما قرينته وأصدقائه وتلامذته وعاشقاته. في خضم ذلك، قام ألتوسير بدور المحلل النفسي لـ إيلين ، يشرح لها “حالتها” ويوجهها نحو فهم “أوديبها القديم” حسب منهجية ميلاني كلين Melanie Klein. ثم صنع نفس الأمر مع عشيقته “فرانكا”، بأن عرض عليها معطيات “إيلين”،  وأخيرا مع “دياتكين”، بحيث لقنه دروسا في اللاكانية : ((لماذا تطرحون جانبا كتابات لاكان ؟  إن ذلك يمثل خطأ)).

إبان العلاج الطيول الأمد، بقي ألتوسير يشغل موقع “محلل المحلل” أو “أب الأب”، مما قاده نحو انصهار زاخم ومستساغ بـ إيلين ، وتبلور مرعب لكل أشكال العلاجات الطبية. مع نهاية هذه المرحلة، بعد إفراط كل واحد منهما في المخدرات والكحول واليأس، بل وفكرا في الانتحار معا أو حريق يلتهم المدرسة العليا، وضع ألتوسير حدا لحياة “إيلين”، ظنا منه لحظتها بأنه يدلك عنقها كما اعتاد معها. إيلين ، من شكلت ((نقطته الثابتة الوحيدة، وسط بحر بلا أفق)) : حدثت واقعة الموت يوم 16 نونبر 1980.

أُودع ألتوسير، محتجز “سانت ـ أن”، لكنه استفاد من الفصل 64 للقانون الجنائي الذي ينص على ما يلي : ((لا جريمة ولا جنحة، إذا كان المتهم يعاني، حالة عته وقت ارتكابه الفعل)).

ما إن ذاع خبر القتل وطيلة سنوات، أصبح ألتوسير عنوان حملة صحافية مكثفة، تجمع بين اتهامات واهية، وتأويلات نفسية افتقدت للجدية مثل : “مدرسة عليا، غير عادية”، “توقف إنك تخنقني”[3] وصف البعض ألتوسير، بأنه مجرم ينتمي لأسوأ الأنواع، معبرين عن امتعاضهم، قتله زوجته اليهودية. ولدواعي ماركسيته، اعتُبر مسؤولا عن جرائم الغولاغ وضحايا الثورة الثقافية الصينية. أما، مناصرو الحركة النسائية، فقد استنكروا هذه اللامبالاة بالضحية. وجهت أيضا إلى ألتوسير تهمة معاداة السامية، وصاحب نزعة ذكورية، بعقائدية ستالينية.

سنة 1985، قارنته إحدى الصحافيات، بمجرم ياباني اسمه “إيسي ساغوا  « Issei Sagawa »، قتل فتاة ثم افترسها بعد أن قطع جسدها. ألتوسير ركن إلى الصمت، وهو مدرك لحالته الشبحية أو الكائن الميت/الحي نتيجة الحادث، ثم قرر أخيرا كتابة سيرته الذاتية. فترك لنا  نصا بديعا متفردا في حوليات الفلسفة، يروي وقائع طفولته كما وصف بدقة المشهد الشهير ومقدماته وكذا نتائجه، وهي السيرة التي ظهرت بعد وفاته تحت عنوان : [المستقبل يدوم طويلا].

يوم 22 أكتوبر 1990، وقف جاك ديريدا أمام نعش ألتوسير، كي يرثي صديقه، وكذا أهم فيلسوف  في النصف الثاني من القرن العشرين، كما تصوره دائما،.

لأني ارتبطت بعلاقة صداقة طويلة مع ألتوسير ـ تشير إليزابيت رودينسكو ـ امتدت لعشرين سنة أدركت في جميع الأحوال، أن تفسيره لما قام به يبقى أكثر حقيقة من تأويلات شتى، اكتست لباسا غريبا. لقد قتل من أحب، والتي توخت الموت كثيرا إلى درجة أنها رفضت الدفاع عن نفسها. تلك إذن طريقته لتحقيق رغبتها، ثم بعد ذلك أن يخبر بالقلم وللأبد، المحاكمة لم تستطع عدالة الأفراد اتخاذ إجراءات بصددها.

III ـ [مدرّس استثنائي، وفيلسوف صاحب مكانة دائمة].

سواء كان الأمر من ثمرات، الانشغال بالسير الذاتية للأموات، أو على العكس بمثابة مؤشر عن فكر يساري يعاني صعوبة التجديد النظري، فالاهتمام الحالي بشخص لوي ألتوسير وفي نطاق أقل مشروعه، يبدو غريبا شيئا ما. إن صاحب كتاب « Pour marx » أصدر قليلا من الأعمال، اللهم سلسلة مقالات تم تجميعها بعد رحيله وحملت إلى القارئ العديد من الدراسات، لم يسبق لألتوسير أن كشف عنها. سياق، سيغذي موجة منتظمة تروم التنقيب ثانية.

هذا التناول المابعدي، يبقى مثقلا بدين مشهد وازن : ارتداد الماركسية في فرنسا سنوات 1970، حيث ظل ألتوسير أيقونها الفكري. وإحدى الأسئلة، التي تطرحها مجموع المؤلفات التي تنكب حاليا على فكره، تركز على إبراز مسؤولية ألتوسير في هذا الانحطاط، تقول : هل حتمت فلسفته المآل منذ البداية، أم أصابها التهميش نتيجة انهيار المنظومة الشيوعية ؟

عندما نلقي نظرة سريعة، على الكتب الصادرة خلال حياة ألتوسير، سنلاحظ إلى أي حد أضحى أسلوبه الفلسفي عتيقا، مقارنة مع متون معاصريه مثل جيل دولوز، ميشيل فوكو، وزميله جاك ديريدا أو “كيمان” Caïman( لقب، معيد الفلسفة في المدرسة العليا للأساتذة(.

على أية حال، استمر تأثيره خالدا، لأن هذا المدرس الرائع اقترنت كل حياته بمهمة إستراتجية توخت أساسا تكوين أجيال فلسفية في المدرسة العليا، وتهيئهم للأستاذية. هكذا، أدت محاضراته الشهيرة لسنوات 1960 إلى اتساع حلقة طلبته، المباشرين وغير المباشرين، الأوفياء والمتمردين. ألتوسير فيلسوف ومهرب أيضا، لأنه امتلك موهبة استعارة عدد كبير من المفاهيم، أدمجها في نسق تأمله الخاص للماركسية. إدانته ل “النزعة الإنسانية”، التي شكلت فلسفة شبه رسمية للحزب الشيوعي الفرنسي سنوات الستينات ـ يعتبر روجي غارودي مفكرها الكبير ـ أحالتنا على البنيوية وكذا هيدغر. العديد، من المفاهيم الفرويدية وجدت طريقها إلى خطاب ألتوسير مثل “المحدد التضافري” أو “العلاج الموضعي”. لكن مشروعه، اندرج أساسا في إطار الصراع ضد الأرتودوكسيين  من مختلف الجهات والذين حرفوا الماركسية إلى عقيدة علموية. لقد صارع ضد أي نزوع نحو التحجر، بإلحاحه على دينامية القطيعة التي تجسد في نظره الماركسية (قياسا للتقليد الذي رسخته الهيغيلية) وتعميق مفهوم الإيديولوجيا. يعتقد ألتوسير، بأن الأخيرة، وبعيدا عن كونها محض انعكاس لأنماط الإنتاج، لها في المقابل مفعول على العالم المجتمعي، ثم لا يختزل كل شيء في “نهاية المطاف” إلى الاقتصاد، مما يبرر في نظره ممارسة الفلسفة.

أما، مفهومه عن “الأجهزة الإيديولوجية للدولة”، والذي إليه يعود الفضل في بناء كثير من التأملات حول مسرح بريخت أو منجزات مخرج مثل جيورجيو ستريلر Giorgio Strehler، فيظهر ألتوسير من خلاله كيف أن “البنى الفوقية” الثقافية يمكنها تغيير “البنية التحتية” الاقتصادية. هذا الجانب من العمل، يمثل رافدا نوعيا للماركسية الثقافية خلال القرن العشرين، يبقى بكل تأكيد، الأقل تأثرا بالتجاوز، بحيث يخلق إمكانية أن نقرأ دائما وندرس ألتوسير، سواء في فرنسا أو إيطاليا بل وداخل الجامعات الأنكلوساكسونية.

لم يكن، أيضا ألتوسير أقل حماسة كي يتصدى لمن أفرطوا في دفع ماركس نحو الفلسفة. الألتوسيرية، باعتبارها آخر المدافعين عن الماركسية، سلمت بوجود “قطيعة”، من جهة بين نصوص ماركس الشاب المتشبع لحظتها بالمثالية الفلسفية. ومن جهة ثانية كتاب “رأسمال”. لكن العلم المقصود هنا، ليس “العلم البروليتاري” المتداول في المعاهد الماركسية ـ اللينينية، ما دام ألتوسير تمكن من الاستيعاب الجيد للإبستمولوجية الفرنسية السائدة خلال حقبته، ولاسيما كتابات غاستون باشلار (1884-1962)، التي ألهمته فكرة المعرفة القائمة على القطيعة، أي على منوال منجز غاليلي عندما حقق انتقالا من نظرية مركزية الأرض، إلى أن الشمس هي المحور. إذن، ما إن ندرك الماركسية، كتغير للمنظور، سيواصل ألتوسير حديثة إلينا. لكنه لم يقترح قط بديلا عن الماركسية الأرتودوكسية، مما أدى حسب البعض، إلى ثغرة كانت قاتلة بالنسبة للماركسية نفسها. ويبقى إذن رهان الاكتشافات الخلاقة لفيلسوف شارع أولم Ulm مناهضة الرأسمالية وفق “علم مضبوط”.

IV ـ حوار مع بيرنار سيشير Bernard Sichère : وصف للروابط بين فكر المنظّر الماركسي ومصير المناضلين الماويين في فرنسا.

1 ـ أشرتم في عملكم [Ce grand soleil qui ne meurt pas] إلى “الشغف” السياسي الذي جسدته الماوية الفرنسية. ومن بين جميع رموز هذه الحركة، سنلاحظ بأن أغلبها تأثر بألتوسير، كيف تجلى الأمر ؟

نعم لعب، ألتوسير دورا حاسما في توجيه كثير من المفكرين الشباب، كي ينخرطوا في النضال. لقد أبان بداية على الأقل، عن إرادة توفق بين المواقف النظرية والالتزام الواقعي. كشف منظوره هذا، عن اختلاف  كبير مع لغة الحزب الشيوعي الفرنسي. في نفس الوقت، راوده شعور غير مستقر : اعتقاده بإمكانية تحريك الأشياء من داخل الحزب الشيوعي الفرنسي. بشكل سريع، أظهرت التجربة ضرورة طرح التساؤل بخصوص مسار جد رجعي لهذا الحزب العتيق.

2 ـ على الرغم من هوسهم بالأفق الثوري، فقد مر شباب “الحرس الأحمر” بجوار حدث ماي 1968، دون اكتراثه بما تنطوي عليه الثورة من جديد. في رأيكم، هل يرتبط الإخفاق، بدرس ألتوسير ؟

سؤالكم يلامس جوهر ماي 1968، قناعتي، أن ثورات 1968 الجميلة جدا والخلاقة، لم تلتقط إلا آخر الموجة التي سادت الولايات المتحدة الأمريكية سنوات 1960، وسعيها لتعبئة الشباب بهدف أن يرسي في العمق صلة أخرى مع العالم والحياة والحب، بحيث تعلق  الأمر، في الآن ذاته بثورة وجودية وسياسية وفنية. لكن يبدو، بأن مفهوما دوغماطيقيا وعقائديا للسياسة، أحال بين الماويين والتماهي مع كنه الحركة، وقد عكست بوضوح لغة ألتوسير أثر هذا الانغلاق. خلال تلك الحقبة، اتجه اهتمامي أكثر إلى جاك لاكان مقارنة مع ألتوسير، أظن لسبب دقيق : كان البناء المفهومي حاضرا كليا عند لاكان، ثم توفر لديه في الوقت ذاته ثقل الواقع، الذي تنطوي عليه معاناة العصابى وأضرار الذهاني. فبغير، هذا الوزن للجسد والعنف والانفعال الأولي، تبقى السياسة مجرد وهم أو دجل.

3 ـ بعد قطيعة أغلب رموز هذه الحركة مع الماوية، انقلبوا نحو المبتغى الديني. أنتم أنفسكم تحدثتم عن ((إعادة  اللقيا بالمنبع المسيحي)) فهل تلمّس ألتوسير، الذي تبلورت بداياته النضالية  ضمن  الشباب المسيحي، طريق التحول ؟

يمتلك ألتوسير ماضيا مسيحيا، بالتالي لا يمكنه أن يبقى غير مبال. وسيزداد الأمر تأكيدا، إذ علمنا بحضور المفكر المسيحي “جون غيتون” إلى جواره خلال فترات متأخرة. إن تاريخ الرجل، تؤسسه مجموعة مستويات تمارس حسب اللحظات، أدوارا يختلف زخمها. لقد تساءلت في كل الأحوال عن نزوع العديد من المناضلين الماويين، وجهة الدين، لكن ليس بالمعنى الضيق للمفهوم، بل أقصد التجربة الروحية التي مثلت محور التقليد الواحدي في الغرب : الحكمة العبرية لدى ليني ليفي، والروحانية الإسلامية عند كريستيان جامبي، وبالنسبة لموقفي الشخصي آمنت بقوة التيولوجية المسيحية، بحيث أراها نقيضا للانكفاء والانطواء : إحياء  للفكر، انطلاقا مما اعتبره، استنادا على ذخيرة اسمها الفكر المسيحي للتاريخ ظاهريا، لم يتجاوب ألتوسير مع هذا المنحى، ورفض عموما تفحصه، ولم يكن له الوقت أو الأدوات كي يجتاز المنافذ المسدودة التي ارتطم بها فكره الخاص. لا تضمر الدعوة إلى الفكر الديني، تخليا عن العقل، لكن الإيمان بوجود طريقة أخرى لتأمل التاريخ، غير ما ركسية النصوص التي بقي ألتوسير وفيا لها بإصرار، وهي في حقيقة الأمر، رؤية مختزلة جدا مقارنة مع ماهية الإنسان والوجود والحرية.

4 ـ في نتاجه وكذا حياته، تأرجح ألتوسير ذهابا وإيابا بشكل ملغز بين الخطاب والهذيان، ثم النظرية والجنون. بحسبكم أيشكل هذا المسار أيضا جزءا من إرث “ماو” ؟

خلال تلك الفترة، جسد ألتوسير بامتياز هذا التردد بين العقلانية المفرطة، وكذا احتمالية الجنون المهددة. الهذيان، يقوم حيث العقل النظري، يرفض معرفة أي شيء عن أهواء الجسد التي تنتقم بالضرورة. مع ذلك ينبغي الحذر من التعميم. إذا ركزت على أن أستعيد ثانية، علاقتي مع مجلة “تيل كيل” Tel Quel فلأن الالتزام أدبيا وفنيا يستبعد كل إنكار لهذا الجانب المزعج جدا، ويقترح على النقيض العمل على تعريته من أجل طرده والإفصاح عن ذاته عبر الضحك والسخرية. والتماهي الجنوني بالماوية، توخى أساسا إخضاع الفن والأدب إلى معايير الإيديولوجية السياسية، والحال أن التجربة الشعرية، والأدبية، تتنافى مع هذا النوع من التدبير  البوليسي، بحيث أن تكون روايات آلان باديو ضعيفة، يعكس إشارة لا تخطئ أبدا.

V ـ مقاطــــع :

* رسالة 30 شتنبر 1950 : ((تحية، صغيرتي. في هاته اللحظة، أقبّلك وأنا أخبرك بالأمر، بعد أن قبّلتك سرا لفترة طويلة. ألتمس منك فضل أن تتحملي بصبر الأيام التي تباعد بيننا، بمشاهدة أفلام وقراءة كتب توفر لك زادا لأبحاثك. تشجعي، صديقتي، مع القلب لا نعاني عزلة قاسية. أحضنك بحب جارف. حنان قوي، لا يبدو بأنه قد يتخذ منحى يضجرك، أو بالأحرى حسب قلبي…))

إليك.

* رسالة 25 يوليوز 1961 : ((معذبة قلبي، عندما أقرأ نصك، أشعر أيضا بتأثير، يزيدعن ما يقدمه لحظة الإصغاء إليه. إنه حقا، مدهش متين، جلي، دقيق، عميق، يزخر بخلفيات (مثل مناظر حقيقية)، وبنشاط شبيه، بما تظهره الحياة لما تكون ناجحة. أنت دائما في هذه المناسبات (النادرة جدا)، تعبرين نظريا عن إبداع  مفهومي عميق، يمثل دائما بالنسبة إلي، تجلّ لك. لكن أيضا، بخصوص ما تقولين وتطمحين إليه. اكتشاف : بالتالي، أنا محتجز تماما، وأعبر بكلمات الانفعال : مدهش، يا إلهي، رائع جدا)).

* رسالة أبريل 1980 :

الثلاثاء، منتصف الليل :

سكين يخترق فؤادي : مضطرب، لأني أخبرتك بكل ذلك، أردت، أن أخفي عنك تأثيرات الأمر، لكن بدا لي بأنه من الأفضل إحاطتك علما، بما يسكنني كهاجس: هكذا، أنا، خلال الفترة الحالية. لكن،   أحكيه إليك بكيفية، عوض أن تسمح بأخذ مسافة، فقد عبرت بالأحرى عن نفسها بقدر وقوعي في شباك قوة أعتى مني. حقا، خلف بعض التمظهرات التي أكشف عنها وأعرضها وأتماهى معها، تكمن حاليا قوة تهزمني كثيرا…).


1  – Le monde des livres : 27 mars 2011.

[2]  – « Moteur et Pneu . mékédéluj ! »

– si t’arriv avant moâ cessoir  je te fai la biz »

[3] ـ المقصود هنا، آخر الكلمات التي تلفظت بها زوجة ألتوسير.