مجلة حكمة
الظاهرات عند أرسطو و المسلمات

الظاهرات ومنهج المسلّمات عند أرسطو – كريستوفر شيلدز


الظاهرات عند أرسطو والمسلمات

  • مقدمة

إذا أردنا أن نصل إلى فهم أوّلي للمقاربة الرئيسية التي يقارب بها أرسـطو الفلسفة فإنّ أفضل السبل لذلك هي المقارنة؛. فبينما يسعى ديكارت لوضع الفلسفة والعلم على أسس متينة بإخضاع كلّ الادّعاءات المعرفية لشكّ منهجي صارم،. يبدأ أرسطو مقاربته باعتقاد مفاده أنّ ملكات الإدراك الفكري والحسّي لدى الإنسان غير مستقلّة في أساسها، فهي تضعنا، في معظم عملها، على تماس مباشر مع خصائص العالم وأقسامه، ويجب أن لا نلهو بأنماط التفكير النقدي قبل أن ننخرط في تفكير فلسفي عميق.

ويعتمد أرسطو رؤيته هذه لكلّ حقول البحث على نحو يماثل نهج علماء الطبيعة في أيّامنا، فهو يسلّم بحدوث التقدّم كنتيجة مباشرة لعمل الذهن المواظب المدرّب جيدًا، والذي يبدأ عمله فورًا بعد عرضه على أيّ مشكلة. ويبيّن أرسطو لنا كيف يبدو العالم لهذا الذهن، فيقول بأنّه عندما يبدأ بعمله يفكّر بما يحيّره من الظاهرات الخارجية،. ويراجع ما قيل له حول هذه المحيّرات في السابق وإلى الحين؛ وهذان المنهجان يتشكّلان من لجوئه المزدوج إلى الظاهرات ومنهج المسلّمات.

هذان المنهجان يعكسان، وبطرق مختلفة، الحوافز الأعمق التي تحفّز أرسطو للتفلسف في الأصل، إذ يقول:.

«بدأ الإنسان بالتفلسف للسبب نفسه الذي يدفعه للتفلسف في أيّامنا، وهو التعجّب، إذ يتعجّب من الأشياء الغريبة التي يراها أمامه، ثمّ يتقدّم شيئًا فشيئًا لأنّه وجد أن الأشياء الأكبر تنطوي على محيّرات» (Met. 982B12).

إذن، يرى أرسطو بأنّ الإنسان يتفلسف لأنّه يلاحظ غموضًا في جوانب من تجربته الحياتية؛. وهذا النوع من الغوامض الذي يواجهه عند التفكير في الكون وموقعه منه (معضلات aporiai، وفقًا للمصطلح الأرسطي) يرهق الفهم ويدفع الإنسان إلى التفلسف.

ويرى أرسطو بأنّ هذا الأمر يدفعنا إلى البدء بالتفلسف من خلال عرض الظاهرات (phainomena)، وهي:. الأشياء التي تظهر ذات علاقة بما يجري، وفي الوقت نفسه:. تجميع ما يدعوه المسلّمات (endoxa)، أي: الآراء الموثوقة التي حصل عليها في ما يتعلّق بالأمور التي تحيّره. وكمثال نموذجي: يواجه أرسطو في موضع من كتابه (الأخلاق النيقوماخية) أمرًا محيّرًا في الأداء البشري،. وهو أنّ الإنسان يبدو أحيانًا ضعيف الإرادة، وإزاء هذا اللغز المحيّر يتوقّف أرسطو ليفكّر في مبدأ أساسي يحكم مقاربته للفلسفة، فيقول:.

«وكما هو الحال في جميع الحالات، يجب علينا أن نعرض الظاهرات ونستكشف ما يحيّرنا فيها. وبموجب هذه الطريقة يجب علينا أن نبرهن كلّ المسلّمات حول هذا النوع من التجارب الحياتية، وهذا يشمل في الوضع المثالي كلّ المسلّمات، لكن إذا تعسّر ذلك فيمكن الاقتصار على أغلبها ممّن تحتلّ أعلى مواقع الأهمّية. والسبب في ذلك أنّه إذا أجبنا على الاعتراضات دون أن نمسّ المسلّمات فلن يكون في أيدينا حينها برهان كافٍ» (EN 1145b2–7).

 

وهنا يختلف المختصّون حول مدى اعتبار أرسطو نفسه معتمدًا على المسلّمات التي يعدّدها والظاهرات الرئيسية التي يلجأ إليها.[i] فلا شكّ في أنّه لا يمكن الوثوق بهما بشكل كامل، وذلك لأنّ المسلّمات تتضارب في ما بينها أحيانًا،. وهذا التضارب يحدث في كثير من الأحيان لا لشيء سوى أنّ الظاهرات تنتج معضلات أو أمورًا محيّرة؛. ولذلك يجب إعادة تفسيرها ومنهجتها، كمجموعة، وعندما لا يكفي ذلك يجب رفض بعضها دون تلكّؤ. ومن الواضح جدًّا في كلّ الحالات أن تجد أرسطو مستعدًّا للتخلّي عن بعض أو كلّ المسلّمات والظاهرات أينما اقتضى العلم أو الفلسفة منه ذلك (Met. 1073b36, 1074b6; PA 644b5; EN 1145b2–30).

ومع ذلك، فإنّ موقف أرسطو من الظاهرات لا يتعارض مع تفضيله المحافظة على أيّ عدد من الظاهرات يقع في حدود الإمكان العملي ضمن أيّ مجال من المجالات،. وليس هذا لأنّ الظاهرات دقيقة إلى أبعد حدّ، بل لأنّها تميل، كما يفترض، لاقتفاء أثر الحقيقة؛. فنحن مجهّزون بأعضاء للإدراك الحسّي وبقوى ذهنية مبنية على نحو يضعنا على تماس مع العالم، ولذلك تزودنا ببيانات تتعلّق بمكوّناته وأقسامه الرئيسية. وبينما لا تتمتّع هذه الملكات بالعصمة من الخطأ، فإنّها في الوقت نفسه ليست خادعة أو مضلّلة من الناحية المنهجية. وبما أنّ الفلسفة تهدف للحقيقة، وبما أنّ معظم ما يظهر أمامنا يثبت صدقه بالتحليل،. فإنّ الظاهرات توفّر أمرين في آن واحد: دافعًا للتفلسف، وضابطًا يقيّد بعض ما يصدر عنها من اندفاعات أكثر تطرّفًا.

 

  • الظاهرات ومنهج المسلّمات

ولا شكّ في أنّ تحديد ما يعتبر (ظاهرة) ليس من الأمور الواضحة في جميع الحالات،. والأقلّ وضوحًا من ذلك تمييز الظاهرة التي يجدر أخذها بعين الاعتبار عندما ينشب خلاف حقيقي. وهذا جزء من السبب الذي دفع أرسطو لتأييد مبدئه المنهجي الثاني المتعلّق بهذه القضية،. وهو أنّه يجب علينا أن نبدأ النقاشات الفلسفية بجمع ما وصلنا من أسلافنا من الآراء الأكثر استقرارًا ورسوخًا في ما يتعلّق بالمسألة المدروسة.

وصاغ أرسطو لهذه الرؤى الاستثنائية مصطلح المسلّمات (endoxa) الذي يترجم بأشكال متنوّعة من قبيل “الآراء حسنة السمعة”. أو “الآراء الموثوقة” أو “الآراء الراسخة” أو “المعتقدات الموثوقة” أو “المعتقدات الشائعة”،. وكلٌّ من هذه الترجمات يلتقط جزءًا ممّا ينتويه أرسطو بمصطلحه،. لكن من المهمّ أن ننتبه إلى أنّه يستخدم هذا المصطلح على نحو تقني تامّ؛ فالمسلّمة هي ذلك الرأي الذي نعتبره، تلقائيًا،. ذا مصداقية أو جديرًا بالاحترام، حتّى وإن كان التفكير فيه يحيطه بالتساؤلات .(اشتقّ أرسطو هذا المصطلح من لفظة عادية في اللغة الإغريقية، إذ تعني لفظة “إندوكسوس” الرجل الوجيه أو المحترم، أي:. رجل ذو سمعة حسنة يحظى باحترامنا تلقائيًا، مع احتمال أن نجد ما ننتقده بسببه عند تفحّص أحواله عن قرب).

ويشرح أرسطو استخدامه للمصطلح بأنّ المسلّمات هي الآراء التي يتشاطرها الناس على نطاق واسع،. وتكون في الكثير من الحالات صادرة في الأصل عن من نقابلهم بأعلى مشاعر الاعتزاز:.

«المسلّمات هي الآراء التي يقبلها الجميع، أو الأغلبية، أو الحكماء (وقد يقبلها كلّ الحكماء أو معظمهم)، أو من يتمتّعون بأعلى مستويات الاحترام وحسن السمعة» (Top. 100B21–23).

ومن الأسباب التي تجعل للمسلّمات دورًا خاصًّا في الفلسفة الأرسطية هو أنّها تشكّل فرعًا ثانويًا من الظاهرات (EN 1154b3–8)،. وذلك لأنّها الآراء الامتيازية التي نجد أنفسنا تؤيّدها دون تفكير وتعيد تأكيدها بعد القليل من التفكير، فتأخذ هي نفسها منزلة تؤهّلها لتكون ظاهرات يجب الحفاظ عليها ما أمكن.

إنّ هذا السبب يجعل منهج أرسطو المعتمد على البدء بالمسلّمات أكثر من مجرّد عبارات منافقة يراد منها إلزامنا بالاهتمام بآراء من يفوقوننا في المنزلة؛. فهو يعتقد بهذا التأثير مهما كان المدى الذي يصل إليه، لكنّه يؤكّد أيضًا، وعلى نحو يبيّن لنا مراده،. بأنّنا قد نضلّ الطريق بسبب الهيأة التي وصلتنا المشكلات الفلسفية عليها، ففي كثير من الأحيان يحدث أنّ الأمور المحيّرة. التي تواجهنا قد تناولها في الماضي مفكّرون سابقون وأعطوها صيغًا موجزة تجعلها تبدو محيّرة في نظرنا؛. ومع ذلك، يحدث في كثير من الأحيان أيضًا أنّنا إذا فكّرنا في الهيأة التي صيغت بها. هذه الأمور المحيّرة فسنجد الطريق المناسب لتوضيحها، فعندما تتعارض هيأة الأمر المحيّر مع افتراض لهيكلتها لا يمكن الدفاع عنه، من الطبيعي أن يبرز الحل نفسه بشكل طبيعي. وهذا هو السبب الذي يجعلنا في ميادين البحث الأكثر تجريدًا نميل إلى أن نجد أنفسنا ونحن نفتّش عمّن يرشدنا من الأسلاف حتّى وإن كنّا نسائل طرقهم في التعبير عن ما نواجهه من مشكلات.

ويطبّق أرسطو منهجه هذا (استكشاف الظاهرات وجمع المسلّمات) على نطاق واسع بشكل يكاد يشمل كلّ حقول فلسفته. وعلى سبيل المثال النمطي:. نجد هذا المنهج مطبّقًا بوضوح في مناقشته للزمان في كتابه الطبيعة (Physics iv 10–14)،. إذ يبدأ بالظاهرة من شعورنا الأكيد بـ(وجود الزمان) أو (مضيّه) على الأقلّ،. وذلك إلى الحدّ الذي تبدو فيه هذه الظاهرة في عالمنا بشكل لا ينكر،. أي ما تخبرنا به خبرتنا مع الزمان بأنّه يمضي، وأنّه وحيد الاتّجاه، وأنّه يستحيل استرجاعه بعد ضياعه؛. ومع ذلك فإنّنا عندما ننتقل لتقديم تفسير لماهية الزمان تنعقد ألسنتنا، فنطلب الإرشاد ممّا قيل حول الزمان على ألسنة من فكّروا حول طبيعته،. ويتبيّن لنا فورًا أن الفلاسفة وعلماء الطبيعة كليهما قد أثاروا مشكلات حول الزمان.

وعندما يبدأ أرسطو بعرض هذه المشكلات فإنّها تأخذ شكل ألغاز أو أمور محيّرة (يدعوها: المعضلات aporiai)،. وذلك في ما يتعلّق بوجود الزمان أو عدم وجود،. وكيفية هذا الوجود في حالة وجوده (Phys. 218a8–30)؛. فإذا قلنا بأنّ الزمان هو محصّلة الماضي والحاضر والمستقبل،. فسنجد على الفور من يعارض ذلك قائلًا بوجود الزمان وعدم وجود الماضي والمستقبل، لأنّ الحاضر هو الموجود وحسب وفقًا له؛. وإذا رددنا عليه بأنّ الزمان هو ما (وُجِد) وما (يُوجَد) في الحاضر وما (سيُوجَد)، فسنلاحظ أوّلًا بأنّ تفسيرنا غير كافٍ،. فهنالك في نهاية المطاف الكثير من الأشياء التي وُجدت أو تُوجَد أو ستُوجَد لكنّها أشياء (في) الزمان ولذلك فهي ليست الزمان نفسه.

وعلاوة على ذلك، سنلاحظ بأنّ تفسيرنا يعاني فعلًا من خطر الإصابة بمغالطة (الاستدلال الدائري)،. فعندما نقول بأنّ شيئًا وُجِد أو سوف يُوجَد يبدو أنّه لا يختلف عن القول بأنّه وُجِد في (زمان) سابق أو سيُوجَد في (زمان) لاحق. وبعدها سنجد مرّةً أخرى من يعترض على تفسيرنا قائلًا بأنّ حتّى فكرة (الحاضر) تعاني من مشكلة، ففي نهاية المطاف:. إنّ الحاضر إمّا يتغيّر باستمرار وإمّا يبقى على حاله إلى الأبد؛. فإذا كان يبقى على حاله إلى الأبد فهذا يعني أنّ الحاضر الحالي هو نفسه الحاضر قبل عشرة آلاف عام، وهذه سخافة،. وإذا كان يتغيّر باستمرار فليس هنالك حاضران متماثلان،. وفي هذه الحالة فإن الحاضر المنصرم لا بدّ أنّه جاء إلى الوجود وذهب قبل الحاضر الحالي، لكن متى؟. إمّا إنّه ذهب من الوجود حتّى في لحظة مجيئه للوجود، وهو أمر أقلّ ما فيه غرابة نطقه على اللسان،. وإمّا إنّه ذهب من الوجود في لحظة تلي مجيئه للوجود، وهذا يعني، في هذه الحالة أيضًا،. أنّه لا بدّ من وجود حاضرَين في لحظة واحدة.

وعندما يضع أرسطو هذه المعضلات فإنّه لا يريد بها دعم أيّ مسلّمة (endoxon) لجهة دون أخرى،. بل إنّه يعتقد بأنّ هذه الاعتبارات تطرح ألغازًا ذات مصداقية قد يؤدّي التفكير بشأنها إلى توجيهنا نحو فهم أعمق لطبيعة الزمان. وبهذه الطريق تمكّننا المعضلات من تحقيق راحة حقيقية من الاضطراب في المسائل التي تتطلّب الانتباه،. وذلك عند إنجاز أيّ تقدّم؛. وعلى هذا الأساس: إنّ التفكير بالمعضلات المتعلّقة بالزمان ينقلنا فورًا إلى التفكير بإمكانية التقسيم (الكمّات quanta). والاستمرارية (الاستمرارات continua)، وحول مجموعة متنوّعة من الأسئلة المتعلّقة بـ(المقولات الأرسطية)،. أي: إذا كان الزمان موجودًا فأيّ نوع من الأشياء هو؟. هل هو من النوع الذي يوجد بشكل مطلق ومستقلّ؟. أم إنّه من النوع الذي يعتمد في وجوده على أشياء أخرى (كالسطوح)؟. عندما نبدأ بالتعامل مع هذه الأنواع من الأسئلة فإنّنا نبدأ أيضًا بالتثبّت من الفرضيات العاملة ضمن ما وصلنا من المسلّمات المتعلّقة بطبيعة الزمان.

وبالنتيجة: إنّنا عندما نجمع المسلّمات وندقّقها بعين ناقدة فإنّنا نتعلم شيئًا ما بشأن ضالّتنا،. وهي طبيعة الزمان في مثالنا، ولا بدّ أن نعلم أيضًا شيئًا ما بشأن مجموعة المفاهيم. التي يجب تصفيتها إذا كنّا نرغب بتحقيق تقدّم فلسفي حقيقي فيها. إنّ أرسطو يجادل بأنّ ما يسري على الزمان يسري. على أيّ حقل آخر، وهذا هو السبب الذي يجعله يتميّز بنهجه المتمثّل في عرض الظاهرة، وجمع الآراء،. واستكشاف ما يثيرانه من ألغاز.


[i] يقدم أوين (Owen 1961) مدخلًا جيدًا جدًّا للكتابات المتعلّقة بهذا الموضوع. راجع أيضًا: (Irwin 1988, §§13, 16)، و(Cleary 1994).