مجلة حكمة
الشطرنج

لعبة الشطرنج: بين المهارة التقنية والحساسيّة الجمالية – ريفو داللّون / ترجمة: عبد الوهاب البراهمي


    هل الشطرنج فنّ؟ لا. إنّه لعبة. لا نطلب فيه الجميل، بل “موت” الخصم. ومع ذلك فأيّ لاعب لا يتأثّر فيه بجمال حركة قطعة شطرنج، وبأناقة تكتيك، بل بالموقف الكوميدي الذي يرافقه؟ إذن، هل الشطرنج فنّ أيضا؟ ولكن أين الفنّان في هذه الحالة؟ هل هو من يربح؟ ليس بالضرورة. وأين الأثر الفنّي؟ هنا وهناك: في هذه الحركة، أو بالأحرى في طبيعة هذه الحركة، أو في هذه المناورة ككلّ، هجوميّة أو دفاعية. يمكن للقيمة الجمالية أن تكمن في اللّحظة. لنتخيّل الرُّخ مثلا. إنّ له قيمة تقنية وتكتيكية، والمقالات تشرح مزايا كل من الرّخ الكبير والرّخ الصغير. وللرُّخ أيضا قيمة أخلاقية: أن نرخّخ ( أن نبدّل محلّ الشاه بمحلّ الرّخ) قبل أوانه فهو خطأ، ولكنّه أيضا جُبْن. كلّ حكمة هي قليل من الجُبْن. ولكن أن نرخّخ أيضا قبل الأوان بكثير فهو قُبْح. وعلى العكس من ذلك يمكن أن يكون للرخّ جمالا، حينما يكون في أوانه.

  لن ننتهي من كشف أشكال الحساسيّة الجمالية في لعبة الشطرنج. ويمكن أن نتلّهى بالإشارة إلى موطن الفنّ فيه؛ وقد نبيّن، باثنين أو ثلاثة مفارقات وبنصف دزينة من اللُّبْس، أنّه مسرح، أو فنّ عسكري، أو على وجه الاحتمال أكثر، هو تنظيم فريد  sui generis . ولكن، ليس لهذا من أهمية إلاّ للمفرطين في التصنيف، وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ مقالة أرسطية عن الشطرنج يمكن أن تغري حتّى أكثر المتحمّسين للتصنيف. يمكن أن نتصوّر برنامجا آخر إلى جانب هذا البرنامج قليل الجدوى، وسيكون هدفه الإجابة عن السؤال: فيم يتمثّل وجود حساسيّة استيتقية أو جمالية للشطرنج، وبالخصوص،هل يخبرنا الشطرنج بشيء عن الحساسيّة الجمالية؟

  يجب أن يبدو أمرا طبيعيّا منذ البداية، أن تكون لعبة الشطرنج أكثر ثراء على صعيد القيم الرفيعة من البيلوت belote أو اللّوتو loto. فكلّ شيء فيه مرتّب برقّة شرقيّة ليرضي الفكر، من الخيال إلى العقل المجرّد. والقطع شخصيات تملك حواسّ. خلف كلّ واحدة خُرافة تعرّف بها، وبعلاقتها بالأخريات في نفس الوقت: ملك منيع وعاجز، وملكة مخيفة، وبيدق وديع، وفيل ماكر اعتاد الإنجليز شقّ رأسه، الخ…و في نفس الوقت تُنجز خطواتها بدقّة، الدّوْرُ، وثمن القطعة، ودلالتها الخرافية في علاقة واسعة مع تعريفها التقني: وفي ترادف تقريبا. حتّى أنّه يمكن أن نقول بأنّ المرور من وعي تقني بـ الشطرنج إلى وعي جمالي، أو إن شئنا من المهارة إلى الحساسيّة، و أيضا من علم الشطرنج إلى فنّ الشطرنج، يحدث مباشرة وعفويّا وبشكل سريّ. ويكون هذا منذ أولى قواعد اللعبة.

   ومع ذلك، فليست هذه المقدّمة عن حساسيّة جمالية في الشطرنج بأقلّ إثارة للدهشة من جهة اعتبارات أخرى. فلتتدخّل هذه الحساسية هنا حيث تتكلّم الصدفة، في البريدج مثلا، فقد يبدو الأمر قابلا للفهم أكثر: سيكون الأمر في هذه الحالة معالجة وضعية، وسيوجد عمل، وعمل انطلاقا من مادّة مفروضة. إنّ قمّة الفنّ بالنسبة إلى لاعب البريدج هو الربح بلَعِب سيء، مثلما هو شأن الرسّام ينتج تحفة “بمسمار على حائط”. غير أنّه لا صدفة في الشطرنج، وما من وضعية معطاة: إنّما وضعيات نخلقها. وما من حريّة ولا اختيار، ولاشيء مجهولا في هذا الخلق- وأتحدّث هنا عن الشطرنح في صورته المثالية-  بل فقط ضرورات على صعيد عقلي. كم هو العدد المدهش للمباريات الممكنة، منذ وقت طويل وآلة لعب الشطرنج المعروفة تشتغل ويحرز بعض العباقرة الذين لاعبوها افتراضيا، بطولة العالم. وتأتينا آخر الأخبار، بأن السيبارنيطيقا أو التسيير الآلي وبدعم من المصابيح الكهربائية، تبتكر هذه الآلة. يقينا هي آلة لا تشتغل إلا بالنسبة إلى مَلَكَيْن ورخ. لكن الملك الأسود ميت لا محالة، مهما فعل. ربّما لايزال الأمر بسيطا، ولكن ليست سوى البداية. ويمكن أن نعتقد أنّنا سنظلّ في البدايات؛ ولنقل، مع إدغار بو، إنّه يوجد دوما إنسان- الإنسان الاصطناعي-homo- artifex – داخل الآلة، أي أنّه لا توجد آلة. نعم، من جهة الواقع، وأمّا من جهة الحقّ فلا. وفكرة آلة كهذه ليست مناقضة للشطرنج. بينما هي في تناقض مع الرسم والرقص، لأنّهما بالتحديد فنون. ويظلّ هذا التأويل: تتدخل الحساسية الجمالية في الشطرنج، بموجب محدودية الوعي التقني لأعظم الأبطال. ولن تكون هذه الحساسية سوى امتدادا، وبديلا، للمهارة؛ ومجرّد ملاذ. وسيكون الوعي الاستيتيقي أو الجمالي هنا شكلا هجينا غير أصيل، وسيكون الوعي التقني الشكل الأصيل. وبالفعل فنحن نلاحظ لدى المبتدئ حساسية جمالية أكثر نشاطا مما هي لدى لاعب متمرّس. وليست مباريات البطولة الأكثر نجاحا، وما فيها من الحركات الأكثر روعة سوى، وبجواز لغوي، مباريات جميلة أو حركات جميلة: لقد تقدّم علم الشطرنج في هذا الصدد إلى حدّ غاب فيه جانب الفنّ.

  نعم؛ نقف في الشطرنج على محدودية الذهن، في ضرورة اللجوء إلى الحدْس الحسّي. و ما أشار إليه كانط في شأن تناظر اليدين ينطبق هنا أيضا. فاللّاعب الأعجوبة الذي يربح عدّة مباريات في آن واحد معصّب العينين، هو مع ذلك يتخيّل، و يجب على العِصابة أن تساعده على ذلك. و يبدو أنهّ من الضروري في لعبة الشطرنج، تدخّل الوعي غير المعدّل على مستوى العقل. ينضاف إلى ذلك أنّه يمكن للحساسيّة أن تكون في هذه اللعبة نظريّة أو غير نظريّة، وأنّها تتدخّل فيما لا يجب خاصّة في شكلها هذا الأخير. هذا حقيقيّ؛ ولنسلّم عن طواعية بتدخّل دافعيّة نفسية خالصة (خشية ومفاجأة وجسارة ،الخ..) ودافعية جمالية خالصة، ربّما حتّى قبل الدافعية التقنية. وهذه التدخّلات مرتبطة بمباراة ما، بوصفها وضعية إنسانية عينية ومركّبة، محمّلة بمعاني نفسية غريبة عن “جبرية” الخالص للشطرنج . لكن هذا لا يمنع من أنّ هذه التدخّلات تَحِيدُ بنا، تُسَلّي  بمعنى باسكالي (نسبة إلى باسكال) عن ماهية الشطرنج بالذات، وتحجبها وتتيه عنها. إنّ اللاعب الكبير هو ذاك الذي لا تغيب عنه تلك الماهية، ذاك الذي لا تلهيه المتلازمات غير المتصلة بلعبة الشطرنج (الطبع ومزاج الخصم، والإغراء بإعطاء الخصم درسا، ونيل رضا الجمهور). لكنّه، إذ لا يهمل هذه المتلازمات بوصفه لاعبا، فإنّه على العكس يسيطر عليها، لأنّه أوّلا وقبل كل شيء ” لاعب شطرنج”.

   كلّ ذلك لا يعني أنّه لا توجد، نظريّا، حساسيّة جمالية في الشطرنج. ذلك لأنّها فيه من الأهمّية بمكان، بحيث، يوجد أولا مشكل؛ ثمّ يصبح الشطرنج ذاته ممكنا: فمباراة بين آلتي لعب أمر لا يمكن التفكير فيه قطعا. ومع ذلك تظلّ الحساسية الجمالية هنا كما ربّما في مكان آخر، أمرا غير ضروري بالنسبة إلى التقنية المحض التي عليها وحدها أن تفعل؛ هذا إن لم تكن هذه الحساسية غالبا مزعجة. إنّها تكشف إذن عن بعد آخر غير هذه التقنية الخالصة. وبالفعل، تتجاوز جاذبية الشطرنج جاذبية علم جبر بارد: لتكون بمثابة هذا الجبر الذي طعّمناه بشيء آخر. ماذا؟ إنّه تحديدا علم جبر- مضاد، ضرب من الاستقلالية، لا بل أكثر من ذلك، جبرا يمكننا أن نضطلع به بتحديد موقعه، وبتجاوزه واستعماله. ليس الشطرنج علما، ولكنّه ليس بالمرّة فنّا. إنّه لعبة، وذلك لأنّ فيه تنافسا بين الفنّ والعلم، كلٌّ منهما يستطيع، ويجب عليه الزعم باستمرار بأنّه حلّ محلّ الآخر. وباتّباع كل منهما طرقا حتّى امتداداتها القصوى، نلتقي بالآخر. وينكشف الشطرنج فنّا، في قمّة التقنية الصارمة القائمة منذ القديم. وإنّه في اللحظة التي تكون الحساسية الجمالية في أوجها ،يتدخّل التدبيري أو التركيبي ويفرض نفسه بكلّ صرامته.

    فنّ، تركيب..تفصح العبارة الأولى عن بعد آخر غير أوّل…ولكن هل الوقت مناسب للحديث عن تعالي الوعي الإستيتيقي أو الجمالي كما فعلت مثلا الصفحات الأخيرة من كتاب “الخيالي” لـ سارتر؟ لدينا بالأحرى ما نفعله لحركة تَخْلق هذا التعالي، وباختصار”التسامي”. إنّنا نتّجه إلى الطرق الجمالية، لعجزنا عن معالجة واقع التركيب بالطرق التقنية، حتى لو أدّى ذلك إلى فقدان معنى هذا التركيب وبالتالي التعرّض إلى ارتداداته العنيفة. ليس من الضروري إذن أن يوجد في الشطرنج فنّ حتّى يكون فيه حساسيّة جمالية؛ بل نقول تقريبا: على العكس.

   يجب إذن أن نتخلّى عن شيئين: الأوّل دراسة الحساسيّة الجمالية بوصفها حقلا مغلقا، أو خُرّاجا بلا جذور. فلا نتساءل فحسب عما تعد به هذه الحساسية، وما تدشّن، وإلى أي عالم تدعونا، بل نتساءل أيضا عمّا تُعرض عنه، وما تتخلّى عنه أو تتنازل، وبم تسمح في الواقع، إذا لم تكن تنوي الهروب. فقد يكون لنا هكذا حظّا في معرفةِ، لا فقط كيفية اشتغال هذه الحساسية، بل معرفة ماهيتها، وما تعنيه، وخاصّة ما تُعلّمنا إيّاه بشأن الحياة النفسيّة في مجموعها.

   بعد ذلك، يجب حتما التخلّي عن حصر الموضوع الجمالي في نظام الفنون الجميلة، وأن نمنحه بعض الامتدادات. فالشطرنج مثلا هو موضوع للإستيتيقي، للجمالية النفسيّة، ليس لكونه فنّا، بل لأنّ الحساسيّة الجمالية تتدخّل فيه. وإذا ما وُجدت مبرّرات لأجلها كان الفنّ الموضوع المميّز لعلم الجمال، فإنّ الإفصاح عنها مطلوب، ولكن لا يمكن أن تردّ حصرا إلى مبرّر واحد. ولا نكون مؤسّسين بشكل جيّد حينما نختزل موضوع علم الجمال في الفنّ، بمثل اختزال موضوع العلوم في المنطق.

 لعبة الشطرنج
غلاف كتاب (مزيج من الاستيتيقا وعلم الفن)

*أ.ريفو داللون أستاذ مبرز في جامعة لامادلان، من كتاب “مزيج من الاستيتيقا وعلم الفنّ“، مُهدى لإتيان سوريو من زملائه وأصدقائه وتلاميذه (مكتبة نيزات باريس 1952 ص 244-248)