مجلة حكمة
السعادة العظمى

السعادة العظمى: بيكاريا وعصر التنوير – مراجعة: فرانسوا-رولان ديبوا / ترجمة: رشيد المشهور

السعادة العظمى بكاريا
غلاف كتاب (السعادة العظمى)

السعادة العظمى

ظهر العمل الشهير الجرائم والعقوبات في عام 1746 الذي اختصر فيه بيكاريا Beccaria[4]**** فلسفته الجنائية ودافع عنها، والتي كانت بمثابة نقطة تحول في تفكير عصر التنوير حول موضوع عالم السجن وتطبيق العقوبات. ومن البديهي، فإن الدفاع عن إلغاء عقوبة الإعدام شكّل، في وقت مبكر جدا مكانة متميزة، في الأسطورة التي شُيدت حول بيكاريا، ولكن واجب العمل الجماعي الحالي فحص هذا المؤلَّف من جميع الجوانب. وغالبا ما ركّز هذا الفحص على شرط جوهري: وضع بيكاريا في السياق الطويل من التفكير الجنائي، وفي إيطاليا بخاصة. وتتميز الإسهامات الثمانية عشر المنتظمة في خمسة أجزاء بغناها، وتتناول، بقدر كبير، الظروف المحتملة وتلقي الجرائم والعقوبات وباقي التفاصيل المشار إليها في هذا الكتاب.

يضع تقديم فيليب أوديجان Philippe Audegean والمقال المترجم من لدن جياني فرانسيوني Gianni Francioni سنة1990[5] عمل بيكاريا في السياق العام لأوروبا عصر التنوير، وعلى وجه الخصوص، في تداول الحجج المفيدة التي لعبت دورا أساسيا في النظرية الجنائية لبيكاريا، لأن بالنسبة له إصدار الأحكام على الأفراد لا يكمن تبريرها إلا من خلال فائدتها التي يفرضها عليهم المجتمع. وفي الجزء الأول، “الإرث الجنائي”، يعود إلى التقاليد القانونية التي أشار إليها بيكاريا وينتقده في بعض الأحيان. وكشفت إسهامات كل من ماريا جيغليولا دي رينزو فيلاتا Maria Gigliola di Renzo Villata[6] ولوريدانا غارلاتي Loredana Garlati[7] على مدى زمني طويل هذا التقليد وتمثلّتا التفكير البطيء والتقدمي الذي مهّد للتحليلات البيكاريانية. ويضيف بييار موسيتلي   Pierre Musitelli  تعليقا على ممارسة الإخوة فيري Verri للدفاع عن سجناء مدينة ميلانو في هذه الدراسة النظرية أساسا، وعلى مدى زمني طويل من العصور الوسطى إلى الحداثة، الأمر الذي يسمح باستشراف تفكير بيكاريا[8]. ودون إنكار أصالة عمله، تبيّن هذه الدراسات الثلاث إذًا أن عمل بيكاريا حصيلة، في الآن نفسه، للتاريخ الطويل للفكر الجنائي الإيطالي والتفكير حول الممارسات السجنية المعاصرة له.

يسمح الجزء الثاني، “نقد الثقافة القانونية”، بفهم جيد للتباين حول إسهام بيكاريا في التاريخ العام للعقوبة في إيطاليا. وفي الواقع، إذا كان بيكاريا يوفر أساس النقاش لعدة قرون دون شك، فإنه لا يوصف، على الأقل، مثل إيليو تافيلا Elio Tavilla، كناقد للفقهاء القانونيين المهنيين[9]. إن نص الجرائم والعقوبات ليس بالأطروحة القانونية السليمة وبالشكل المطلوب؛ فهو يقترض الكثير من الخطاب القضائي الذي لا يخلو من الغموض أو الحجج الخفية، كما يشير جيروم فيراند Ferrand [10] Jérôme   لذلك، يحتل بيكاريا وضعا مزدوجا: إذا كان يعارض العادات القانونية التي تخلد نفسها على أنها عمليات تقنية محضة وتفتقر إلى التفكير الفلسفي المؤسّس، فإنه لا يطمح على الأقل، تبعا لدينيس بارانجر Denis Baranger، إلى إسقاط توصياته عن التشريع[11].

 في الواقع، يعود بيكاريا في الجزء الثالث، “الاقتصاد والحكومة”، ولم يكن راضيا باقتراح خطاب فلسفي، لأنه شارك شخصيا في الإدارة، بدرجات متفاوتة من النجاح، وبلور خلفية وظيفية تقفى كارلو كابرا Carlo Capra تفاصيلها[12]. غير أن جيرولامو إمبروغليا Girolamo Imbruglia بيّن في معرض حديثه عن تهريب، التفكير الاقتصادي لبيكاريا، لأن إحدى كتابات الشباب حول النقود، ترتبط ارتباطا وثيقا بفكره الجنائي[13]. ومن دون شك أنه من الصعب تقدير أن هذا التعبير يقدم للقارئ جميع أعمال الفيلسوف بوصفها نظرية متماسكة وصلبة، خالية من التناقضات الرئيسية. إلا أنه يشكّل ملامح مشروع إصلاحي عام، حيث يأخذ بيكاريا القضايا المشرقة في التنوير الأوروبي، مثل الرفاهية باعتبارها محركا للاقتصاد التي تكرس لها سيسيليا كارنينو Cecilia Carnino مقالتها[14].

لذلك، فمن اللازم النظر في لمسة بيكاريا وقيمته المضافة في هذا السياق الشاسع لعصر التنوير؛ وهو ما يشمله الجزءين الأخيرين من الكتاب. ويتبنى الجزء الرابع، “المناقشات الأوروبية: إيطاليا”، منظورا وطنيا. ومع ذلك لم يكن استقبال بيكاريا في إيطاليا سلسا، حتى لو تم تنفيذ أفكاره في بعض المدن. ويذكِّر بيترو كوستا Pietro Costa أيضا بالغموض والفصاحة البلاغية لكتاب الجرائم والعقوبات، السبب الذي لم يمنع إقبال قراء تلك الحقبة الذين كانوا قادرين على انتقاد منطق بيكاريا بهذا الصدد، وحول إلغاء عقوبة الإعدام خاصة. وقد شكك فقهاء آخرون في أصالة وأولوية بيكاريا، كما هو الشأن مع توماسو ناتال Tommaso Natale، في دراسة حول صقلية من إجراء روزامارا ألبراندي Rosamara Alibrandi، أو الإخوة فيري [15]Verri وبطبيعة الحال، لم يكن تفاعل المثقفين الإيطاليين مع بيكاريا سلبيا تماما، وكان في تواصل مع عدد معين منهم، مثل سياراملي Ciaramelli بما في ذلك أطروحة لويجي ديليا Luigi Delia حول عقوبة الإعدام[16].

وفي المقابل، كان تفاعل بيكاريا موجها خارج إيطاليا، إذ كرّس الجزء الأخير من الكتاب، “المناقشات الأوروبية: فرنسا وانكلترا وسويسرا” لهذا الغرض، غير أنه خصّص تعليقات حماسية لمؤَلَّف المفكر الإيطالي. وهكذا يعود كل من كريستوف كاف Christophe Cave وإليزابيث سالفي Élisabeth Salvi إلى الترحيب الإيجابي جدا الذي تلقاه بيكاريا في فرنسا، بالرغم من المدة الوجيزة التي نزل بها الفيلسوف بباريس: الأول يسلط الضوء على الدَّيْن الذي يطالب به فولتير بيكاريا، والثانية اقتصرت على مكانته لدى بريسو Brissot[17]. ويسهم ميشيل بوريت Michel Porret من جانبه في هذا التحليل للمجال الفرانكفوني من خلال إظهار الأهمية القصوى لبيكاريا في النشاط الذي قام به جان جاك دي سيلون Jean-Jacques de Sellon في سويسرا ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر[18]. وهذا يعني أن كتاب بيكاريا ستستمر أهميته لاحقا. ويشرح ريمي دوثيل Rémy Duthille الأمر نفسه في إنجلترا أيضا، حيث لعب بيكاريا دورا أساسيا في التفكير الإنجليزي الإشعاعي، بعد الثورة الفرنسية[19] خاصة. وسرعان ما ترجم إلى العديد من اللغات. لذلك، شارك كتاب الجرائم والعقوبات، بشكل جيد، في النقاش الأوروبي حول السياسات الجنائية الجديدة.

بعد هذا المشهد البانورامي الغني والعام من المؤسف أنه لا يتم تناول مسألة تلقي عمل بيكاريا خارج الفضاء الفرانكفوني والإيطالي والإنكليزي، حيث يبدو من الصعب النظر في مناقشة عصر التنوير دون الأخذ بالاعتبار ما يجري من تفاصيل بالمنطقة الجرمانية وكذلك بأوروبا الوسطى والشرقية. ومن المأمول فيه أن تكتمل هذه الدراسات قريبا وتسهم في تكوين نظرة عامة وأكثر شمولا، وستمكن من التدقيق في بعض الشكوك الواردة في هذا العمل الجماعي.


العمل في الأصل الفرنسي:

           Philippe Audegean, Christian Del Vento, Pierre Musitelli, Xavier Tabet (dir.), Le bonheur du plus grand nombre. Beccaria et les Lumières, Lyon, ENS Éditions, coll. « La Croisée des chemins », 2017, 330 p., ISBN : 9782847888836

مراجعة فرونسوا رولان ديبوا وهو أستاذ… والمقال الفرنسي:

François-Ronan Dubois, « Philippe Audegean, Christian Del Vent, Pierre Musitelli, Xavier Tabet (dir.), Le Bonheur du plus grand nombre. Beccaria et les Lumières », Lectures, consulté le 06 novembre 2017. URL : http://lectures.revues.org/23670

****  سيزاري ماركيز بكاريا بونيزانا (1738 – 1794) فيلسوف إيطالي اهتم بالسياسة والاقتصاد واشتهر بأطروحته حول الجرائم والعقوبات عام (1764)  التي أدانت التعذيب  وعقوبة الإعدام وكانت عملاً مؤسِّساً في ميدان المعاملة مع المجرمين وشكّلت قطيعة مع الفهم الجنائي القديم ومهّدت للثقافة الأوروبية التنويرية في هذا المجال؛ وهي من الأعمال النادرة التي تقارب مفاهيم السعادة و علمانية القانون الجنائي وإلغاء عقوبة الإعدام ومصدر القانون الجنائي الأوربي وغيرها من منظور الفلسفة الجناية في فجر عصر التنوير الأوروبي تبعا للباحثين المشاركين في الكتاب الذي قام بعرضه ومراجعته الباحث فرانسوا-رولان ديبوا. (من وضع المترجم).

[5] « Beccaria, philosophe utilitariste », p. 21-44.

[6] « Avant Beccaria. La culture juridique à l’épreuve du temps », p. 47-62.

[7] « Tradition et réformisme. Les inspirateurs culturels du Beccaria processualiste », p. 63-78.

[8] « Défendre et protéger les prisonniers à Milan au temps de Beccaria. L’expérience d’Alessandro Verri », p. 79-94.

[9] « Beccaria, l’anti-juriste. Critiques de la culture juridique et résistances aux réformes dans l’Italie du XVIIIe siècle », p. 97-110.

[10] « La nécessité, passager clandestin de l’abolitionnisme beccarien », p. 127-138.

[11] « Beccaria et le siècle de la législation », p. 111-126.

[12] « Beccaria fonctionnaire et l’évolution de ses idées », p. 177-194.

[13] « Beccaria, l’opinion publique et Diderot. À propos de la contrebande dans Des Délits et des peines », p. 155-176.

[14] « ‘L’envie prompte et inquiète de se distinguer’. Beccaria et le luxe », p. 139-154.

[15] « La ‘merveilleuse oppression’ de la peine. Tommaso Natale, précurseur de Beccaria ou épigone de Leibniz? », p. 243-254.

[16]« Une suite philosophique au chapitre XXVIII de Beccaria. Le traité Della pena di morte de Cammillo Ciaramelli », p. 225-242.

[17] « ‘Adoucir le sort des hommes accablés par l’oppression légale’. La réception de Beccaria dans la Bibliothèque philosophique (1782-1785) », p. 271-286.

[18] « C’est en vain que le sang coule. Le philanthrope Jean-Jacques de Sellon (1782-1839), disciple chrétien de Cesare Beccaria », p. 301-316.

[19] « Les radicaux anglais lecteurs de Beccaria (1767-1795) », p. 271-286.