مجلة حكمة
جون راولز الديموقراطية الليبرالية

الليبرالية العليا: جون راولز وأزمة الديموقراطية الليبرالية – سيلا بن حبيب / ترجمة: محمد رضا


ماذا بقي من نظرية راولز للعدالة ؟

يُعد جون رولز على نطاق واسع أحد أهم الفلاسفة السياسيين في القرن العشرين. كتاباه ” نظرية في العدالة ” و ” الليبرالية السياسية”  أعمال كلاسيكية في الفلسفة السياسية ، ساعدت على  إحياء مجال الأخلاق التطبيقية والنظرية المعيارية بعد أن اوشكت على الموت ، وأثارت قدرًا لا يحصى من التعليقات والتحليلات والانتقادات في أكثر من  عشرين لغة.

 بعد الحرب الباردة ، علقت النظرية الاخلاقية الأنجلو ـ أمريكية وغالب  الفلسفة السياسية في نقاشات حول معنى مفاهيم معيارية مثل ” العدالة ” و ” المساواة” ، هل لهذه المفاهيم أساس عقلانى أم أنها بالكاد تعبير عن مشاعر وأحكام مستخدميها؟ واجه دعاة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية إتهامًا إن الإصلاح البنيوى من الأعلى إلى أسفل ينتج عنه نوع من الشمولية ، لذلك بات لزامًا عليهم أن يظهروا كيف يمكن لإعادة التوزيع ان تتوافق مع نموذج ليبرالى. حارب راولز على الجبهتين ، حيث بيًن أن المفاهيم الأخلاقية والسياسية لها أساسٌ عقلانى ، وكان يرى أنه لكى تحقق الديموقراطيات الليبرالية العدالة ،فإنها تحتاج إلى إصلاحات اجتماعية كبرى. وبذلك ، قدم عمله التبرير الفلسفى الأكثر أهمية لأجل ربط الديموقراطية الليبرالية مع دولة الرفاة ، على الرغم من انتقاداته المتأخرة لرأسمالية دولة الرفاة.

ومع اقتراب الذكرى المئوية لميلاده ، ليست الأمور على ما يرام سواء مع رؤيته ، او وبالتالى ، مع الديموقراطية الليبرالية نفسها. يقال أن ” الليبرالية العليا لدى راولز  ـ وهو مصطلح يشير أيضًا إلى أعمال رونالد دوركين ويورجين هابرماس أيضًا – ماتت ، لم يقتلها فقط منظرو النسوية feminism و النظرية النقدية العرقية race critical theory   الذين أظهروا انها تميل إلى استبعاد النساء والملونين من مجتمع للأشخاص العادلين ، ولكن أيضًا عن طريق الواقعيين السياسين ممن لديهم رؤىً أكثر قتامة حول الطبيعة البشرية وحول قدرة العقل على إرشاد عواطفنا.

وبالتالي ، اتخذت الفلسفة السياسية الليبرالية بُعدًا رثائيًا. كثرت الكتب التى تحمل عناوين مثل ” لماذا فشلت الليبرالية ؟” و” كيف تموت الديموقراطيات “؟ . ومع ذلك القليل من  يسأل النوع الآخر من هذه الأسئلة، ما الذى كان ضروريًا لروالز وليبرالية القرن العشرين العليا لتبدأ به؟ يعتبر كتاب أندريوس جاليسانكا ” جون راولز : طريق لنظرية العدالة” ، بداية جيدة لإجابة هذا السؤال. يقدم جاليسانكا سيرة ذاتية لراولز الذى توفى سنة ٢٠٠٢ ، ويتتبع تطور العمل الفلسفي لراولز بداية من استفساراته المبكرة في اللاهوت وجذور الشر وحتى تبريره العلماني لعدالة التوزيع distributive justice. مستندًا إلى المواد الأرشيفية المتاحة حديثًا ـ والتى تتضمن الدورات الدراسية التى تلقاها أو درّسها راولز في جامعات برنستون وكورنيل وأكسفورد وارشيف راولز في هارفارد ، التى تتضمن أوراقًا من عام ١٩٤٢ وحتى عام ٢٠٠٣ . توقف عن النظر في كتابات راولز اللاحقة التى واجهت الآثار السياسية للنظرية بشكل أكثر صراحة. ولكن هذا الكتاب يقدم لنا رواية مقنعة حول تطور راولز ويعطى صورة عن الصرامة الفلسفية التى تتمتع بها نظرية راولز لليبرالية العالية.

ولد راولز في بالتيمور سنة ١٩٢١ ، وهو الثاني من ضمن خمسة أبناء لوالدين بروتستانت ميسورين. والده كان محاميًا وكان مستشار بشكل غير رسمى لحاكم ولاية ميريلاند البرت ريتشى. انضمت والدته لرابطة للناخبات النساء ، وعملت في حملة ويندل ويلكى الرئاسية لعام ١٩٤٠. وعلى العكس من نشاط والديه السياسى ، كان راولز نسبيًا شاب غير مسيس. بعد التحاقه بالمدرسة الأبرشية في كونيكتيكت، ذهب إلى برنستون ، حيث كان ينوى في البداية دراسة الفنون والعمارة قبل ان يتحول للاهتمام بالدين وخصوصًا الأخلاق اللاهوتية. على الرغم من ان تربيته الاسقفية كانت تقليدية تمامًا، تملكه شعور قوى  حول حقيقة الخطيئة والإيمان والوجود الإلهى  في سنواته الأخيرة في الدراسة الجامعية. على أيه حال، كانت بداية الأربعينات لحظة مخيفة ، وبالنسبة لراولز الصغير  لم تكن تلك الأسئلة لاهوتية فقط ، ولكنها ايضا كانت أخلاقية بشكل عميق ، وهو الامر الذى بحثه في اطروحة تخرجه ” تحقيق قصير لمعنى الخطيئة والإيمان”

قطعت الحرب تدين راولز المتنامى ، وكذلك اهتمامه بتأثير الدين على السلوك الأخلاقى بشكل مفاجئ، كما ذكر في كتابه “عن دينى ” “On My Religion,” والذى تحدث فيه عن الاحداث التى دفعته بعيدًا عن أفكاره حول الانضمام للمدرسة الدينية نحو التخصص في الفلسفة.  خصوصًا في احد الحكايات الصادمة  ، يحكى راولز أنه أثناء خدمته في لوزون في الفلبين ، طلب ظابط من رتبة أعلى متطوعيَن ، واحد ليذهب مع الكلولونيل إلى حيث يمكن أن يرى المواقع اليابانية والثانى ، ليتبرع بالدم يحتاجه جندي جريح بشدة في مستشفى صغيرة مجاورة ، كانت فصيلة دم راولز هى ذات فصيلة الجندى المصاب ، بينما فصيلة زميله مختلفة لذا ذهب هذا الزميل للمهمة الأخرى  ، فقط ليلقى حتفه جراء قذيفة مورتر. طبقا لما استكشفه جاليسانكا ، أدى هذا إلى تغيير دراماتيكي كبير بالنسبة لراولز في رؤيته للعالم. لم يستطع راولز ان” يجد في الموت غرضًا أسمى ، وبدا أن الله ينسحب أكثر فأكثر من تفاصيل الحياة البشرية” ، ولما انكشفت حقيقة الهولوكوست ، تعمقت أزمة الإيمان عند راولز ، الله حقًا غائبًا _- خفيًا – ولا يتدخل في الشئون الإنسانية.

لم يفصل فقدانه للإيمان راولز عن باقي أقرانه خلال السنوات العصيبة للحرب العالمية الثانية ، ولكن الجوانب الأخرى من سيرته الذاتية عكست إحساسًا عميقًا بظلم العالم وحتى وحشية الحياة الإنسانية. عندما كان طفلا مات شقيقين له جراء الإصابة بأمراض انتقلت عدواها منه، لازمه الشعور بتلك الخسارة المأسوية طوال حياته. واسهم هذا في اهتمامه بالأخلاق ونظرية الأخلاق التطبيقية. في ظل تلك الاحتمالية العبثية للوجود الإنساني ، كان لابد ان تكون الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية التي يصر عليها راولز هي العدالة. فعلى الرغم من أن حتى المجتمع العادل لن يستطيع حماية كل أفراده من لحوق الضرر بهم ، فعلى الأقل يجب أن يعامل الناس باحترام متساوٍ ومعاملة بالمثل كي تعمل كبلسم للجراح الإنسانية. كتب راولز : ” الأخلاق الصحيحة” ليست فقط تربط الشخص ببعض ” الخير” الموضوعى التى يجب عليه ان يسعى إليه ، ولكن علاقة الشخص بالشخص ومن ثم بالله ” عندما تراجع الله في رؤية راولز للعالم ، برز الفرد كفاعل أخلاقى ، وسيظل كذلك حتى نهاية حياته المهنية.

لأجل تطوير تسويغًا علمانيًا للفعل الاخلاقى ، استمد عمل راولز الفلسفي المزيد والمزيد من كانط ، خصوصًا في مقالته الصادرة سنة ١٩٤٧ بعنوان ” ملاحظات في الأخلاق” ، حيث يجادل بأن ” هناك سمات وخصائص معينة للطبيعة البشرية ، لو وجدت في الفرد ، فإنها من المفترض أن تخلق ادعاءات أخلاقية أو تصبح أساسًا لحقوق معينة ” ولكنه لم يقدم أي إجابة عن ماهية تلك السمات. كان على يقين أن الأفراد في القلب من التسويغ الأخلاقي ، وأن إصرار كانط على أن المبادئ الأخلاقية الكونية قادرة وحدها على تأسيس كرامة الشخص كان صحيحًا. ولكن راولز كانت لديه شكوكًا قوية حول جوانب محددة من رؤية كانط واستنتاجاته. انتقد راولز ميتافيزيقا العالمين المنفصلين الكانطية ـ فكرة ان وراء العالم الظاهر يكمن عالم الأشياء  في ذاتها /  النيومين  noumena  الفائق التي لا يمكن لنا ان نعرفها في ذاتها ، وأيضًا كان متشككًا حول أن مبدأ الضرورة المطلقة/ مبدأ الكونيةuniversalizability  وهو المبدأ القائل ( تصرف فقط بقدر ما تستطيع حسب المبدأ الذي ترغب ان يكون مبدأ كونيًا) كافي بذاته لتوليد مبادئ أخلاقية. لذلك لا زال راولز يبحث عن أسس فلسفية يمكنها أن يؤسس عليها تبرير لا دينى للأفعال الأخلاقية.

قاد ذلك البحث راولز للانخراط في أفكار لودفيج فتجنشتين. أوضحت عملية إعادة البناء المضنية لمسيرة تطور راولز التى قام بها جاليسانكا، بصمة واضحة لفتجنشتين والفلاسفة التى تأثروا به مثل ستيفن تولمين في المنعطف التالي لتفكير راولز حول الأخلاق. حيث بدأ يتقبل رأيهم القائل ان مهمة التحليل الفلسفى هى الكشف عن القواعد المشكلة للتسويغ الأخلاقى ـ ليس إظهار المبادئ المشتقة من العقل العملى كما كان يقول كانط ـ ولكن أى أسلوب للتسويغ الأخلاق يُعد نموذجيًا لهكذا تحليل؟ ما هى المجتمعات أو أشكال الحياة التي يمكن النظر إليها كمثالية؟ وكلما سعى راولز إلى المزيد من الاعتبارات السياقية  للممارسات الإنسانية في تعددها المذهل ، كلما أدرك ان فتجنشتين فتح الباب واسع للغاية للنسبوية. لكى يتجنب ذلك ، شدد راولز على مفهوم ” الشخص ألعقلاني ” كنموذج إرشادي paradigm للتفكير حول المبادئ السياسية والأخلاقية. بيد أن هذا المفهوم يثير تساولاً آخر : إذا كانت العدالة هي ما يتفق عليها الأشخاص العقلانيون؟ ، فما هى هذه العقلانية ؟ سيكون الجواب ، ان العقلانية تتشكل من هؤلاء الناس الذين يتفقون على مبادئ العدالة تلك بالضبط.

شكّل هذا التردد بين مفهوم الكونية الكانطى ومفهوم السياقية contextualism  لدى فتجنشتين مسيرة راولز في الخمسينات حتى طور مفهومه حول ” التوازن الأنعكاسى” “reflective equilibrium – وهي الفكرة القائلة ان التسويغ الأخلاقى يتشكل عن طريق اختبار حدسنا الأخلاقى عن العدالة والمساواة وما إلى ذلك بإزاء العديد من المبادئ الأخلاقية مثل النفعية ( اكبر قدر من السعادة لأكبر قدر من الناس ) ، والماركسية ( من كلٍ حسب طاقته ولكلٍ حسب حاجته ). كان راولز قد جرب العديد من استراتيجيات التسويغ في الأخلاق. كمحاضر شاب في برنستون تأثر راولز بنظرية الألعاب game theory وعندما التحق بهارفارد أثرت فيه النزعة الضدـ أُسسية    anti-foundationalism لدى فيلار فان اورمان كواين W.V. Quine فيه بعمق. ولكنه بدأ الأن في استخدام أداة ” التوازن التأملي “reflective equilibrium للتعبير واختبار الحدس العميق بأن العدالةjustice يفترض بها ان تكون نوع من الإنصافfairness في محاضراته عن الفلسفة السياسية ، استكشف ان ” ما يحاول المرء تحقيقه هو حالة من ” التوازن التأملي الواعي بذاته فيما يتعلق بأحكام الفرد حول العدالة والظلم في المؤسسات ( والتصرفات والأشخاص).

في كتابه ” نظرية العدالة ” ، يوضح راولز كيف يمكن للتوازن التأملي أن يعمل على تطوير تسويغًا للأخلاق السياسية الليبرالية. فعل راولز ذلك من خلال ما بات أداة مشهورة الأن: تجربة ” الوضع الاصلى/ الطبيعي ” oringinal position  الفكرية : وضع الفرد للتداول حول المسائل الأخلاقية والسياسية خلف ” حجاب الجهل “veil of ignorance.” تفترض التجرية تخيل موقفًا افتراضيا حيث لا أحد يعرف مكانه في المجتمع أو وضعه الطبقى او حالته الاجتماعية ، لا أحد يعرف نصيبه في الأصول والقدرات الطبيعية ولا ذكائه وقوته ، ما إلى ذلك ، هؤلاء الأفراد لا يعرفون حتى مفهومهم عن الخير أو ميولهم النفسية.

على الرغم من أحد لم يعش هذه التجربة ، إلا أن ما طلبه راولز كان بديهيًا للغاية. لكى تتحقق العدالة كإنصاف ، فلا يجب التمييز على أساس من الحوادث الوراثية مثل القدرات الفطرية أو الموروثة ( ,يمكن إدراج النوع الاجتماعي / الجندرgender والجنوسة/ الميول الجنسية sexuality هنا على الرغم من أنهم يكونا موجودين في مداولات راولز) ، ,ولا يجب التمييز الحالات الطارئة للوضع الاجتماعى مثل الطبقة ، وثروة العائلة والوضع الاجتماعىsocial status. الناس سواسية ، أو كما كتب راولز ” الجميع في وضع متشابه ، ولا يمكن لأحدهم ان يصمم مبدأ لمصلحة حالته الخاصة ، ومبادئ العدالة هى نتيجة لاتفاق عادل أو صفقة عادلة”.

ولكن عندما يتسائل المرء حول مبادئ العدالة التى سيختارها هؤلاء الأفراد في الوضع الأصلي ، تصبح الأمور أكثر ضبابية. تصبح نظربة راولز اكثر صعوبة في التعبير ، باستبعاد المعرفة حول الخصائص التاريخية للمجتمع الذى يعيش فيه المرء ، ومراحل تطوره الاقتصادي ، تقسيمته الاجتماعية. كيف يمكن للأفراد القابعين خلف حجاب كثيف من الجهل أن يختاروا مبادئ معقدة ومؤسسة تاريخيا مثل مبدأي العدالة الذيَن انتهى إليهما راولزـ  وهما الأول :لكل فرد حق متساو في نظام شامل للحريات الأساسية المتساوية متوافقة مع نظام للحرية للجميع” والثانى: يُعاد تنظيم عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية بحيث أ- تحقق اكبر فائدة للأقل حظًا ب- خضوع المناصب لمبدأ تكافؤ الفرص. ، من الواضح ان كلا المبدأين تشكلا عن طريق التاريخ والثقافة ، انهما لا يعبران فقط عن التزام عميق بالمساواة الإنسانية ـ إرث التنوير ـ ولكن تقترح ان عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية ليست مصيرا نهائيا ولكن يمكن تغييرها عن طريق النشاط العام والسياسة الحكومية.

يصبح السؤال ” كيف يمكن للمرء الا يعرف شيئًا عن الحقائق البارزة عن مجتمعة وتاريخه ـ مثل ان يكون مجتمع سوق حر او مجتمع إقطاعى ـ وفي نفس الوقت يعرف ما يكفى للموافقة على هذه المبادئ؟ ، وأيضا هل يتم قياس عدم المساواة تلك عن طريق مفاهيم اقتصادية ضيقة مثل الدخل أو الناتج القومى الإجمالى GDP. أو وفق بعض المؤشرات الأخرى مثل تنمية القدرات the development of capabilities ، مثلما يرى امارتيا سين؟ ماذا عن مصادر عدم المساواة التى تعود إلى مفاهيم خاصة بالعرق أو النوع الاجتماعى ، التوجه الجنسى ، او الانتماء الثقافى؟

لم يقصر راولز عدم المساواة في الدخل أو السلع المادية. ولكن كما قالت إريس يونج في نقد نسوي مبكر لعمله في كتابها ” العدالة وسياسات الاختلاف” ، إن التهميش وعدم الاحترام التى تعانية بعض المجموعات لا يمكن التعامل معها  في ضوء نظرية راولز بسبب ان الاختلافات التى تصنع هذا الفارق جرى اهمالها. المساواة عند راولز تبلغ حد التشابه ، حد تجانس الأخر بدلا من الاعتراف به.

هناك نقد آخر مشابه طوره منظرو النظرية النقدية العرقية مثل شارلز ميلز. يؤكد ميلز ” لم يكن لدى راولز نفسه شيئًا نافعًا ليقوله عن العرق في الألفى ورقة التي تشكل  كتبه الخمس”، ” لم يأتى  حتى على ذكر الاستعمارية والإمبريالية” . بالنسبة لمايلز فإن امتياز ذوى البشرة البيضاء لا يمكن اختزاله إلى العنصرية ، إنها ليست مجرد نتاج للتوجه النفسى للفرد، وبالتالي لا يمكن صياغة العدالة من نقطة الامتياز تلك”. على الرغم من إدانته التفاوتات الناتجة عن الامتياز العرقى ، فإن نظرية راولز لم يستطع كما يقول ميلز وآخرون ، الخروج من نطاق الهيمنة البيضاء بسبب أن ” نظريته المثالية ” لم تتعامل مع الخصائص التاريخية الاجتماعية للاستعمار والامبريالية والهيمنة العرقية. ابتعدت تجربة راولز الفكرية عن الحقيقة المادية ، لذا فإنها شطبت ببساطة المؤسسات الاجتماعية التي لا يمكن تفسير العنصرية بدونها.

إنه لمن المخيب للآمال أن جاليسانكا أنهى تتبعه لتطور راولز فقط عندما أصبح راولز اكثر صراحة بشكل متزايد حول الأبعاد السياسية لنظريته. في كتاب ” الليبرالية السياسية ” يوضح راولز ان نظرية العدالة لم يتم صياغتها لتصبح ” من منظور أبدى مطلق ” sub specie aeternitais ( كما جادل في كتاب ” نظرية العدالة “) ولكن جرى تطويرها لمعالجة المآزق التي أوجدتها المجتمعات الليبرالية والتي مزقتها بعمق تحت وطأة الخلافات الأخلاقية والدينية والسياسية. لن يختار الناس القابعين وراء “حجاب الجهل ” مبدأي العدالة ، ولكن سيختارهم  المواطنين في مجتمعات ليبرالية ديموقراطية يحترم كل منهم الآخر ويتطلعون للتعاون عبر الزمن لبناء المجتمع العادل. كان بإمكان جاليسانكا ان يناقش تطور راولز في هذه المرحلة ، حيث انها توضح تماما سيطرة أفكار فيتجنشتاين السياقية عليه. ستصبح إذن مبدأي العدالة هى ما نختاره نحن  في المجتمعات الليبرالية الديموقراطية بعد الانخراط في مداولات تأملية حول العدالة كإنصاف، وليس تلك الذوات في عالم النيومين عند كانط .

ولكن حتى عندما اتخذ راولز منحى أكثر تاريخية ، لم يكن ذلك ردًا على النقد النسوى أو نقد النظرية النقدية العرقية لعمله ، وكلا التحليلين غالبا لم يكن محل أو حظي بردٍ مرضي في كتاب ” الليبرالية السياسية”. وباستثناء مطالبات سوزان أوكين مولر بإدراج الأسرة كبنية أساسية للمجتمع والتى يجب ان تنطبق عليها مبدأي العدالة ، تجاهل راولز هذه الانتقادات بشكل كبير.

بعد أكثر من عقدين من صدور ” نظرية العدالة ” لا زال راولز يتساءل ” كيف يمكن ان يوجد على مدار الزمن مجتمع عادل ومستقر من مواطنين أحررا ومتساوون ، وهى منقسمة بعمق إلى مذاهب دينية وفلسفية وأخلاقية متناقضة؟”. هذه الاختلافات بين المواطنين التى شغلته كانت حول النظرة حول العالم القائمة على الدين أو العلم أو أي مفهوم للخير ولكنها ليست الاختلافات التجريبية الناشئة عن العرق والجندر والميل الجنسي والثقافة.

آثار تركيز راولز على العقلانية والاستقرار مجموعة ثالثة من الانتقادات بالإضافة إلى الانتقادات النسوية وانتقادات النظرية النقدية العرقية. ، ما هو ” السياسي ” في النظرية التى تبدو انها لا تضع في اعتبارها الاحزاب السياسية والروابط والحركات بينما تمنح المحكمة العليا الأمريكية الكلمة الأخيرة في ممارسة العقل العام ؟ أين كفاح الاحزاب السياسية وحماسها واحتجاجاتها الصاخبة؟ منح ويليام صوتا قويا لهذا الاستياء عندما خلص في نقده إلى اليبرالية المتقدمة عند راولز أن الأخير اختزل الفلسفة السياسية إلى حقل فرعى للنظرية الاخلاقية. نادى كل من الواقعيين السياسيين مثل جيرميى والدرون والمتشائمون حول ” الطبيعة البشرية ” مثل جون جراى بتوجيه التنظير السياسي بعيدًا عن النظرية المعيارية نحو إتجاه يكون  اكثر ارتباطًا بالمؤسسات والتاريخ الإنساني.

بعد كل ذلك ، ماذا بقى حيًا من برنامج راولز؟ هل نحن ببساطة نفتش في أنقاض بناء نظري  للعدالة كان قائمًا يومًا ما؟ وعلى الرغم من أن تلك الانتقادات لا جدال فيها ، وكنت من بين الأوائل الذين انتقدوا راولز في مدى تماسك حجة ” الموقف الأصلي” وإنكاره النظرية الأخلاقية النسوية ، ولكنى لم أتقبل أبدا ان هذه التحليلات ترقى لرفض كامل لنظرية معيارية مبنية على التقاليد الكانطية ، والتي أعنى بها التزامًا فلسفيًا بالكونية الأخلاقية والقانونية التي تدعم المساواة والكرامة لكل إنسان ، وأن الترتيبات الاجتماعية البشرية بجب ان تكون مبنية على مبادئ العدالة و التضامن وقابلة للتغيير من خلال التنافس والتعاون. تعتبر هذه المساواة كل منا كائن ملموس وهش متجسد ومتضمن في سياق تاريخي وثقافي. كان كل من كانط وراولز محقين في أن معيار كرامتنا الإنسانية هو انه يمكننا الوصول إلى ما وراء مصالحنا الذاتية وصياغة مبادئ أخلاقية التى نؤمن انه يجب ان يتشارك فيها  الجميع. بغض النظر عن خطأ منطقنا ، نحن نستطيع ويجب علينا ان نفكر في مبادئ لعالم عادل الذي نروم بنائه ومشاركته مع الآخرين.

أيضا كانا محقين في إنه في سبيل المساواة بين البشر يجب ان نضع بعض الاختلافات جانبًا. كل منا يتساوى مع الأخر في هشاشتنا ككائنات بشرية بنفس قدر كرامتنا ككائنات عقلانية. إذا لم نعتبر انفسنا متساوين ، فإن اختلافاتنا ستصبح مصدرا للخلافات وعدم الاحترام. لقد كانت النسويات ونقاد النظرية النقدية العرقية في وقت ما متعجلين  في رفض هذه التطلعات المعيارية للكرامة والمساواة. المشكلة ليست في هذه المُثل نفسها ، ولكن في تحيزاتها الضمنية ضد أولئك البشر الذين يستحقون المساواة والكرامة. يمكننا دائما أن نتسائل ” ما المساواة؟” ، ” ما الكرامة؟” ، هذه المثل محل دائما للنضال ، للتفسير وإعادة ترميزها بين المجموعات البشرية. ولكن بدون التمسك ببعض المثل العقلانية لتقييم تلك النضالات ، سنصبح تحت رحمة قوى التاريخ. كما ذكر هيجل ذات مرة بشكل لاذع ” ان التاريخ هو محكمة العالم ” ، ذلك ليس موقف المهمشين والمظلومين ، الذين يقاتلون لأجل مثل عليا غير متحققة.

لو كانت الديموقراطيات الليبرالية في تراجع اليوم ، فإن ذلك ليس بسبب ان الليبرالية المتقدمة اختزلت النظرية الفلسفية إلى فلسفة أخلاق تجريدية. بل بسبب أن مؤسسات الديموقراطية الليبرالية لا تُظهر نفسها  قوية بما يكفى لتحمل الآثار المدمرة للعولمة المالية ، وتزايد اللامساواة ، التغير المناخي ، وأزمات التمثيل السياسي. لقد تم تقويض مساواة المواطنين والمقيمين _- وأنا أُضمّن هنا غير حاملي الأوراق الرسمية – عن طريق الخصخصة والتسليع  المتزايد لمجالات الحياة ، من الرعاية الصحية إلى التعليم إلى النقل إلى الإسكان. لا أحد يكترث بالأرق حالا على الرغم من أن راولز شدد انه يجب علينا الموافقة على مبدأ العدالة الثانى. من كان يوما ما عاملا صناعيا آمنا ، بات يرى حياته ومجتمعه يتعرض للدمار تحت وطأة التمويل الخارجى ، هروب رأس المال ، المنافسة العولمية ، باتت ” لولا تداركتنا رحمة الله ” هى الشعار. وأصبح المهاجرين وطالبوا اللجوء رمزا لتخريب الرأسمالية العالمية وثبت أنه من السهل تعبئة كراهية الغرباء الشعبوية ضدهم.

بالطبع ، من الممكن ألا تنجو الديموقراطيات الليبرالية من العاصفة ، ومن الممكن ان تتحول إلى نوع من السلطوية authoritarian  و حكومة جدارة تكنوقراطية/ ميرتوكراسية  technocratic meritacracy  والتى تنبأ بها كتاب ديفيد رايسنمان العبقرى (إذا كنت مرحا قليلا ) ” كيف تنتهى الديموقراطية”. وإذا انتهى مشروع الديموقراطية الليبرالية ، فسيكون بسبب اننا فشلنا في تحقيق المساواة والكرامة في وسط النظم المالية والسياسية التي تحيط بنا والغارقة في المال والسلع و النزعة الاستهلاكية.

في كتابها ” في ظلال العدالة : ليبرالية ما بعد الحرب وملاحظات حول الفلسفة السياسية ” تحدد كاترينا فورستر الأسئلة الكبرى.

ولكن إذا ارتبطت الفلسفة السياسية الحديثة بالليبرالية الحديثة ، والليبرالية قد فشلت ،فقد يكون حان الوقت لنتسائل ان كانت تلك الأفكار الخالدة قد ولى زمانها ولم تعد مجدية. تطورت أفكار راولز في فترة متمايزة جدا من تاريخ الولايات المتحدة. ولنظريته علاقة حميمة مع الديموقراطية الليبرالية في فترة ما بعد الحرب. فهل الفلسفة السياسية متواطئة على فشلها؟ هل الفلسفة السياسية مثل الليبرالية ذاتها ، في أزمة ،وفي حاجة إلى إعادة الابتكار؟ ولو كان الامر كذلك ، فكيف يبدو مستقبلها؟

لست مقتنعة باننا في حاجة إلى رفض كل أفكار راولز لأجل التعامل مع أزماتنا الحالية. وارفض فكرة أننا يجب أن نقرأ راولز في المستقبل القريب كما لو كنا نقرأ الكلاسيكات السابقة في الفكر السياسي ، أي فقط تذكر تاريخى غامض لأنواع من الكيانات التى كنا نتطلع إليها في السابق والمجتمعات السياسية التى كنا نأمل فيها ولكننا فشلنا. ولكننى أوافق أن الفلسفة السياسية اليوم في حاجة إلى أسئلة جريئة مثل تلك التي طالبت بها فروستر. وخصوصا أن في عالم معولم ، يجب إعادة النظر في إطار للعدالة فيما وراء الدولة القومية. لا يجب أن يؤدى بنا هذا التحول نحو الرفض الكامل لأفكار راولز ، بدلا من ذلك ، كما في كتاب جاليسانكا ، وكما أظهر النقد النسوي والمابعد كولينيالي ، يجب ان نتمسك بالتوتر بين الكونية من جهة والسياقية من جهة أخرى في صياغة الأسئلة الخاصة بزماننا.

المصدر