مجلة حكمة
الدماغ الهش: الثورة البيولوجية في الطب النفسي - نانسي أندرياسن

الدماغ الهش: الثورة البيولوجية في الطب النفسي – نانسي أندرياسن / ترجمة: مريم المطيري

the broken brain cover
غلاف كتاب (الدماغ الهش) The Broken Brain

ولدت فكرة هذا كتاب الدماغ الهش (طبع هذا الكتاب في العام 1984م) مع حملي الأول بطفلتي قبل عشرين سنة مضت، على الرغم من أنني لم أدرك هذا تمامًا في ذلك الوقت. كنت بروفيسورًا للغة الإنجليزية، وأستاذة للإنسانيات، التي تعرف الكثير عن إنجازات العقل البشري، لكنها لا تعرف شيئًا على الإطلاق عن الدماغ البشري والجسد الذي يحتويه. وكان الشيء الوحيد الذي أعرفه عن الطب والأطباء هو أني أردت أن أقلل من حاجتي إليهم قدر الإمكان. تغيرت هذه النظرة، في ظل وجود طفلة تنمو في أحشائي، ومواجهًة للاحتمالات المخيفة في ولادتها، وجدت نفسي أزداد فضولًا عن كيفية عمل وظائف الجسم، وعن الأطباء أنفسهم، كيف يعملون وكيف يفكرون! ولطالما كانت حياتي متمثلة بمقولة فرانسيس بيكون الأثيرة: (المعرفة قوة). سأكون واثقة وشجاعة لو كنت أعلم ما الذي يحدث وما هو الذي سيتلوه.

كان طبيبي – للإنصاف- ذكيًا مرهف الحس، لكنه لم يكن يمتلك الكثير من الوقت ليخبرني بكل ما أود معرفته. وحينما أتأمل الماضي، أجد أنه من المدهش بالنسبة لي أن أعتبر إنسانًا متعلمًا بالرغم من عدم معرفتي بأي شيء –على الإطلاق- عن بيولوجية الإنسان. فالكتب والكُتيبات المتوفرة لشرح بيولوجية التناسل وعملية الولادة كانت تميل إلى الإيجاز، كما كانت مضخمة واستعلائية مما جعلني ألقيها جانبًا باستياء شديد. ووجدت نفسي بعدها استعير كتبًا طبية من مكتبة أحد الاصدقاء المقربين من الأطباء. وبفهمي لبعض اللغات الأجنبية، صرت التقط المصطلحات الطبية سريعًا، مُعطية لنفسي دورة قصيرة في علم الأجنة، وعلم وظائف الأعضاء في الجسم، وطب النساء والولادة، لكن تحضيري كان بلا جدوى، فقد اتضح لي أن معرفتي ساعدتني في ولادتي المتعسرة وأتاحت لي التعرّف على بعض المضاعفات الخطيرة التي تحدث بعد الولادة، التي حدثت بعد خروجي من المستشفى،  حيث استلزم الأمر أن أبقى أسبوعًا إضافيًا في المستشفى، أتلقى مضادات حيوية عبر الوريد. لقد غيرت هذه التجربة حياتي، حيث قررت بعدها بأشهر قليلة أن أصبح طبيبة وعالمة.

وشعرت منذ ذلك الوقت بأن القراء العاديين يستحقون جهودًا أجود لترجمة عالم الطب والعلم إلى عالم واضح جدًا وقابل للقراءة. ولا شك أن الآلاف، بل الملايين، من النساء أردن معرفة ذات الشيء الذي عرفته. وحتى ذلك الحين، كان الخيار ينحصر بين المطويات الوصائية والمفرطة في التبسيط وبين اللغة التقنية والمبهمة للمراجع الطبية. لقد تعهدت بعدها أن أحاول كتابة شيء أفضل؛ شيء يشبه ذلك الصنف من الكتب التي وددت قراءتها، ينقل الحقيقة بكل جوانبها الجيدة والسيئة، ويتفادى الغموض والمصطلحات المبهمة.


يحاول هذا الكتاب أن يقوم بالغرض المطلوب في مجال تخصصي؛ في الطب النفسي . وعلى نحوٍ غريب، رغم من وجود آلاف من الكتب المتوفرة في علم النفس والطب، لا شيء من تلك الكتب يشرح هذا المجال من منظور طبي. ويشرح هذا الكتاب الطب النفسي ، الذي يمضي قدمًا في تغيرات تطورية ويضع نفسه في مسار الطب الحيوي. وما بين العشرين والعشر سنوات الماضية، وصلت العلوم العصبية إلى فتوحات معرفية في كيفية عمل الدماغ، وعلمنا هذا أن العديد من الاضطرابات الذهنية سببها شذوذ في تركيب أو كيميائية الدماغ. حيث ينتقل لطب النفسي من كونه دراسة (العقل المضطرب) إلى دراسة (الدماغ الهش).

تلامس الاضطرابات الذهنية بنحو ما جميع البشر تقريبًا. فلدينا جميعًا صديق أو طفل أو والد يعاني من أحد المشاكل العقلية. وقد تمت كتابة هذا الكتاب للقارئ النشط الذي يريد معرفة المزيد؛ المزيد من المعلومات الدقيقة في الطب النفسي ، التي لم تبسط تبسيطًا يضر بها، تمامًا كتلك المعلومات التي كنت انشدها عن طب النساء والولادة. بل إن الحاجة إلى هذه المعلومات في الطب النفسي أهم من غيرها. ففي حين أصبح الطب النفسي فيه أكثر علمية وبيولوجية من قبل، أصبح صعبًا على القراء العاديين فهمه؛ بل صعبًا حتى على الأطباء النفسيين الذين مارسوا الطب النفسي قبل أعوام عديدة. كذلك أصبح لهذه التغيرات آثار اجتماعية وأخلاقية. فكما يتغير الطب النفسي إلى أن يكون بيولوجيًا وأكثر علمية؛ فإن سلوكنا بدوره سيتغير تجاه الاضطراب الذهني وطريقة التعامل معه.

لقد بدأت هذا الكتاب بنية التعليم، ولكن لاحظت حين كنت أكتبه بأنني أصدر بيانًا اجتماعيا. وبالإضافة إلى جعل الناس أكثر معرفة بـ الطب النفسي ؛ وددت أيضًا أن يكونوا أكثر تبصّرًا في الاضطرابات الذهنية. لقد أردت أن أعلم الناس أن ينظروا إلى المضطربين عقليًا كما أنظر إليهم أنا، وكما ينظر لهم أي طبيب نفسي محترف؛ كبشر مشوشين ومضطربين يستحقون نفس القدر من الحب والعطف الذي يحصل عليه مرضى القلب، أو مرضى ضمور العضلات، أو مرضى السرطان. وكما يصف هذا الكتاب، فقد حدثت بالفعل الثورة البيولوجية في الطب النفسي ، والتي يجب أن يتبعها ثورة اجتماعية في إدراك المجتمع للمرض الذهني.