مجلة حكمة
ابن رشد التصحيح والإصلاح الإسلامي

ابن رشد: التصحيح والإصلاح في العقيدة والفلسفة والعلم – محمد عابد الجابري


1- مرجعيات متعددة (*)

يمكن ربط الكتاب الذي بين أيدينا (الكشف عن مناهج الأدلة) بمرجعيات متعددة، تحدده نوعا من التحديد. فعلى مستوى مؤلفات ابن رشد يفرض الكتاب نفسه كاستمرار للكتاب السابـق له، أعني “فصل المقـال” الذي أعلن فيه ابن رشد عن نيته في تأليف كتـاب في “الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها”، يكون كبديل لتأويلات المتكلمين التي قال عنها : إنها مزقت الشرع وفرقت الناس.

أما على مستوى تاريخ علم الكلام، الذي انتهى في زمن ابن رشد إلى “بيانات التكفير” التي أصدرها الأشاعرة ضد كل من لا يعتنق مذهبهم، والتي نشرنا نماذج منها كـ “ملحق”، في الصفحات الماضية، فيمكن اعتبار الكتاب الذي بين أيدينا بمثابة شرح وتطوير للفتوى التي أصدرها ابن رشد الجد عندما سئل في موضوع “بيانات التكفير” المذكورة. وبذلك يكون الكتاب استمرارا مباشرا لتلك الفتوى التي كانت آخر مواد الملحق السابق. إن ابن رشد الحفيد، الفيلسوف، يتبنى هنا نفس موقف ابن رشد الجد، الفقيه.

أما إذا نظرنا إلى الكتاب من خلال المخاطَب الرئيسي فيه، الذي يستحضر ابن رشد كتبه وتنظيمه للمذهب الأشعري، والذي كان “المرجع،” في هذا المذهب، في عصر فيلسوفنا، فإن أبا المعالي الجويني، أستاذ الغزالي، يفرض نفسه كـ” مخاطَب” أول، بوصفه الشخص الذي حـاول إيجاد حلول للمشاكل الكثيرة التي كـان يعاني منها علم الكلام الأشعري. ويبقى الغزالي حاضرا –كما كان في “فصل المقال“، بوصفه الرجل الذي “طَمَّ الوادي على القرى”، حسب تعبير ابن رشد.

لنقف قليلا مع هذا “المرجع” لنتعرف بالمقارنة معه على بنية الكتاب الذي بين أيدينا، لنعود بعد ذلك إلى مستوى آخر، هو الأهم بالنسبة لنا نحن اليوم، لارتباطه المباشر باهتماماتنا العاصرة.

2- بين “الإرشاد” للجويني.. و “الكشف” لابن رشد

إذا نظرنا إلى فهرس الكتاب الذي بين أيدينا أو إلى بنائه الداخلي وجدناه يعكس بشكل واضح الصورة العامة التي استقرت عندها مباحث “علم الكلام” زمن ابن رشد. وهي الصورة التي ترسمت مع أبي المعالي الجويني (كما بينا ذلك في المدخل) بعد أن اكتملت صياغتها مع كل من أبي بكر الباقلاني وعبد القاهر البغدادي.

ومع أن الشكل الخارجي لهذه الصورة العامة قد يختلف قليلا أو كثيرا من مؤلف لآخر، فإن بناءها الداخلي كان قد استقر على مقدمات وأركان ولواحق. المقدمات في النظر والاستدلال و “المعلومات”، (= المعارف)، وأنواعها من حسية وعقلية وخبرية الخ… أما الأركان فثلاثة، وقد باتت تشكل الأبواب الرسمية في علم الكلام وهي: ذات الله، صفاته، أفعاله. وأما اللواحق فتتناول قضية الإمامة، ومسائل فرعية أخرى أقل أهمية.

وإذا نحن أردنا أن نربط ، من هذا المنظور، الكتاب الذي بين أيدينا بكتاب معين من الكتب التي سبقته، فإن كتاب “الإرشاد” للجويني يفرض نفسه كـ “مرجع” أول، سواء على صعيد بنية النص أو على صعيد مضمون القضايـا موضـوع النقاش. لقد ذكر ابن رشد أبا المعالي الجويني بالاسم مرات عديدة، وأشار إلى رسالته “العقيدة النظامية” وكتابه “الإرشاد” (أنظر مثلا الفقرة رقم 180)، متعاملا مع آرائه بوصفها أنضج ما انتهى إليه “الكلام” الأشعري، مركزا نقده عليها بوصفها كذلك.

ليس هذا فحسب، بل إننا نستطيع أن نقرأ عنوان كتاب الجويني في عنوان كتاب ابن رشد بوصفه، أعني هذا الأخير، ردا مباشرا، أو معارضة “كلامية” صريحة. إن النص الكامل لعنوان كتاب الجويني هو: “الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد”. أما كتاب أبي الوليد ابن رشد فعنوانه الكامل هو كما يلي:”الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة” فالمعنى إذن واحد: الإرشاد-أو الكشف عن- الأدلة (العقلية) التي تثبت بها عقائد الإسلام.

غير أن هذا التطابق على مستوى العنوان الرئيسي سيتحول إلى “تعارض” بل إلى معارضة صريحة بمجرد ما ننتبه إلى العنوان الفرعي لكتاب ابن رشد والذي يُهْمَل ذكره في الغـالب. ذلك أن العنوان الكامل لهذا الكتاب هو كما يلي: “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشُّبَهِ المزَيَّفة والبدع الضالة”.

وهكذا فبينما يقتصر الجويني في كتابه على تقرير مذهب الأشعرية في صورته الرسمية التي اتخذهـا في زمانه، يأخذ ابن رشد على عاتقه مهمة مزدوجة قوامها نفي وإثبات، نقد وتقديم بديل.

ذلك ما يصرح به ابن رشد في مستهل كتابه حيث يشرح الغرض من تأليفه فيقول: “… فقد رأيت أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشارع حمل الجمهور عليها وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع (ص) بحسب الجهد والاستطاعة، فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب، في هذه الشريعة، حتى حدثت فرق ضـالة […] اعتقدت في الله اعتقادات مختلف وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزَّلُوها على تلك الاعتقـادات وزعموا أنها الشريعة الأولى التي قَصَد بالحمل عليها جميعَ الناس […]، وإذا تُؤُمِّلَت جميعها وتؤمل مَقصِد الشرع، ظهر أن جلها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة” (فـ: 1-4 ).

يتعلق الأمر إذن بمهمتين اثنتين: الكشف عن العقائد التي قصد الشارع حمل الجمهور عليها من جهة، والتعريف بـ “الأقاويل المحدثة” و “التأويلات المبتدعة” التي تقررها فرق المتكلميـن، وعلى رأسها الأشعرية. ومع أن المهمتين مستقلتين إحداهما عن الأخرى فإن ابن رشد يحرص على الربط بينهما: تارة يقدم الأولى ويؤخر الثانية ليجعل “الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها” بديلا قرآنيا عن تأويلات الأشعرية، وتارة يفعل العكس: يقدم البديل القرآني أولا ثم يأتي بالمذهب الأشعري بوصفه ابتداعا وانحرافا الخ…

ومهما كان الأمر فالقضية المطروحة ليست مجرد قضية “كلامية”، قضية رأي أو آراء مقـابل أخرى، كلا. إن المسألة أعمق من ذلك وأبعد أثرا: إنها قضية العقـائد التي يجب أن يحمل الجمهور -بل جميع الناس- عليها، وبالتالي قضية “الدين والمجتمع”.

3- القضية: قضية الدين والمجتمع

هكذا يرتبط كتاب “الكشف عن مناهج الأدلة” بكتاب “فصل المقال…”، على هذا المستوى أيضا، ارتباطا مباشرا: فهو استمرار له وتتمة، كما نبه إلى ذلك ابن رشد نفسه في أول الكتاب (فـ: 1). وكان قد وعد به في خاتمة “فصل المقال” عندما نبه إلى أن “التأويل الحق [..] ليس يوجد -كما يقول- لا في مذاهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة، أعني أن تأويلاتهم لا تقبل النصرة، ولا تتضمن التنبيه على الحق ولا هي حق، ولهذا كثرت البدع”. ثم يؤكد أنه: “من قِبَل التأويلات والظن بأنها يجب أن يصرح بها في الشرع نشأت فرق الإسـلام حتى كفـر بعضهم بعضا وبدع بعضهم بعضا وبخاصة الفاسدة منها، فأولت المعتزلة آيات كثيرة وأحاديث كثيرة، وصرحوا بتأويلهم للجمهور، وكذلك فعلت الأشعرية، وإن كانوا أقل تأويلا، فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب ومزقوا الشرع وفرقوا الناس كل التفريق”.

واضح إذن أن الشاغل الذي كان يؤطر تفكير ابن رشد في الكتاب الذي بين أيدينا، كما في الكتاب الذي سبقه ( فصل المقال)، لم يكن مجرد شاغل كلامي نظري، بل هو أساسـا شاغل اجتماعي سياسي يتمثل في “الأضرار” التي نجمت عمـا قامت به الفرق الكلامية من “التصريح للجمهور” بتأويلاتها، وما نتج عن ذلك من “شنآن وتباغض وحروب” وتمزيق للشرع وتفريق للناس “كل التفريق”.

وتتضح آفاق هذا الشاغل الاجتماعي السياسي في ثنايا الكتاب، وفي أكثر من موضع. فهو يشبه حال الشريعة، يعني الدين، بدواء ركبه من عدة عناصر “طبيب ماهر ليحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر”، فجاء رجل لم يناسبه ذلك الدواء فغير من تركيبه وقال للناس: هذا هو الذي قصده ذلك الطبيب، فصدقوه وأخذوا من ذلك الدواء، فأصابهم بسببه مرض، ثم جاء رجل آخر وادعى نفس الادعاء وفعل الشيء نفسه، وأصاب الناس من ذلك مرض آخر. ثم جاء ثالث فرابع الخ… وادعوا ما ادعى الأول والثاني وفعلوا فعلهما، وكانت النتيجة أن توالت الأمراض على الناس بسبب ذلك: “حتى فسدت المنفعة المقصودة بهذا الدواء المركب”.

ويضيف ابن رشد قائلا: “وهذه حال الفرق الحادثة في هذه الطريقة مع الشريعة. وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلا غير التأويل الذي تأولته الفرقـة الأخرى وزعمت أنه الذي قصده الشرع، حتى تمزق الشرع كل ممزق وبعد جدا عن موضعه الأول ” (فـ: 160 – 161).

ثم يخاطب قارئه : “وأنت إذا تأملت ما في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح” ( فـ: 162). فذلك: “ما فعله بالشرع الخوارج ثم المعتزلة ثم الأشعرية ثم الصوفية “. ثم جاء أبو حامد [ الغزالي ] فطم الوادي على القرى” (=أغرقها) وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور ,وبآراء الحكماء، على ما أداه إليه فهمه”. ( (فـ: 163)

 

 

4- التصحيح والإصلاح والبعد الإصلاحي للكتاب: الدفاع عن العلم وحرية الإرادة 

من هنا، أعني من استحضار “تأويلات” المتكلمين البعيدة بل المتعارضة مع ” الحـق” سواء منه ما تقرره الأقاويل العلمية البرهانية، أي المعرفة العلمية –كما كانت في عصره- أو “الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها”، وأيضا من خلال استحضار دور الغزالي في التشويش على “الحكمة”، وهي العلوم الفلسفية، ورمي المشتغليـن بها بالكفر ، من هنا، إذن ، نستطيع أن نتبين في الكتاب الذي بين أيدينا كتابا في الدفاع عن العلم، وبعبارة أدق، التصور العلمي الفلسفي للكون الذي يشيده العقل بعيدا عن أي شاغل آخر غير طلب الحقيقة. وذلك ضدا على تأويلات المتكلمين الذين ذهبت بهم الرغبة في نصرة آرائهم إلى بناء ما يسمونه “الشاهد”، أي الكون وظواهره، بالصورة التي تمكنهم من قياس “الغائب” عليه. و”الغائب” عندهم هو عقائدهم الكلامية في موضوع ذات الله وصفاته وأفعاله.

وكما رأينا في المدخل فقد انتهى التطور بعلم الكلام عند الأشعرية إلى آراء في الكون مبنية على ما يقررونه، من خلال الجدال الكـلامي، وليس من خلال البحث العلمي والفلسفي، حول طبيعة العالم، أي حدوثه الذي بنوا وجهة نظرهم فيه على ما سموه “الجوهر الفرد” وما ألحقوا به من خصائص تطال عالم الإنسان، هذا إضافة إلى إنكارهم “الضروريات العقلية”، وفي مقدمتها: مبدأ ” الهوية” ومبدأ السببية، وفعل “الطبائع” -وهي المبادئ التي يقوم عليها العلم والفلسفة- مكرسين آراء في التجويز تقبل المحال من أي نوع كان. هذا مع سلبهم الإنسان حرية الإرادة والاختيار والقدرة على إتيان أفعاله، جاعلين من “القضاء والقدر” ومن تجويزهم الجـور والظلم على الله تعالى، ما يجعل وجود الإنسان بلا معنى، اللهم إلا ما يقولونه من “الابتلاء”، ابتلاء الإنسان واختباره.

من هنا يبدو كتاب ابن رشد أقرب ما يكون إلى مشاغل عصرنا، إلى حال العقل العربي ” المعاصر” الذي ما زالت تتحكم في كثيـر من حامليه تلك التصورات التي قررهـا المتكلمون حول الطبيعة والإنسان وعلاقة الله بهما والتي رآها ابن رشد بالأمس أبعد ما تكون عن الحقائق العلمية الفلسفية بعدها عن مقصد الشرع ومن الغاية توخاها من الدين.

يتصدى ابن رشد إذن للرد على كل ذلك، مدافعا بقوة وإخلاص عن العلم والحرية وأيضا وبشكل لم يسبق إليه، على قضايا الدين الخاصة كالنبوة وكمال الشريعة الإسلامية قياسا على ما تقدمها من شرائع، مناقشا قضية الحرية الإنسانية ومسألة القضاء والقدر ومسألة السببية وما نسميه اليوم بالحتمية، مناقشة علمية عميقة أقرب إلى الفكر الحديث، خاصة نظرية ” تلاقي سلاسل الأسباب ” التي فسر بها كورنو مسألة الحتمية.

***

لم تكن مناقشة ابن رشد لآراء الأشعرية من جنس ردود المتكلمين بعضهم على بعض، بل لقد انفصل فيلسوف قرطبة، وبوعي ومسئولية، عن أقاويل المتكلمين، متجنبا الانخراط في إشكالياتهم الكلامية، جاعلا نصب عينيه، ليس الرد على المخالفين، كما هو شأن المتكلمين، بل القيام بإصلاح ديني فلسفي وعلمي في آن واحد:

– إصلاح ديني هدفه، كما عبر هو نفسه: ” تصحيح عقائد شريعتنا مما داخلها من التغيير”. والرجوع بهـا إلى “الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها”، ووضع قانون للتأويل يبين للعلماء ما يجب تأويله وما يجوز وما لا يجوز الخ…، وكيف؟

– و إصلاح فلسفي، أعلن عنه فيلسوفنا بكل صراحة في بداية مشروعه الفلسفي، فكتب يقول في المقدمة التي استهل بها أول كتاب له في الفلسفة”، ما نصه: فإن غرضنا في هذا القول أن نعمد إلى كتب أرسطو فنجرد منها الأقاويل العلمية التي تقتضي مذهبه، أعني أوثقها ، ونحذف ما فيها من مذاهب غيره من القدماء، إذ كانت قليلة الإقناع وغير نافعة في معرفة مذهبه. وإنما اعتمدنا نقل هذا الرأي من بين آراء القدماء إذ كان قد ظهر للجميع أنه أشدها إقناعا وأثبتها حجة […] فلنبدأ بأول كتاب من كتبه، وهو المعروف بالسماع الطبيعي، ونلخص ما في مقالة [ مقاله ] من الأقاويل العلمية، بعد أن نحذف الأقاويل الجدلية، لأنها إنما مضطرٌّ إليها عندهم في الفحص عن المطالب الفلسفية قبل أن يوقَع عليها بالأقاويل العلمية. فأما إذا وقع عليها فلا مدخل لها (=الأقاويل الجدلية) قي التعليم، إلا على جهة الارتياض، ويكفي في ذلك الاقتصار على مسائل محدودة العدد”.(4)

– وإصلاح علمي، وقد دشنه بكتابه “الكليات في الطب” الذي كان من بواكير أعماله العلمية. وقد عمد فيه إلى بناء الطب على العلم، والعلم الطبيعي خاصة، لتكون الممارسة الطبية في الجزئيات منتظمة تحت “كليات” علمية وليس على مجرد التجارب العفوية أو الوصفات الجاهزة التي تعطيها “الكنانيش”. كما أفصح عن رغبته في القيام بـإصلاح علمي على مستوى علم الفلك، أي مستوى تصور نظام الكون، كي يغدو مطابقا للعلم الطبيعي. يقول في آخر شرحه لكتاب “السماء والعالم” لأرسطو: “ولعلنا إن أنسأ الله في العمر سنفحص عن الهيئة (=علم الفلك) التي كـانت في عهد أرسطو، فإنه يظهر أنه لم يكن فيها محال بحسب العلم الطبيعي، وهي الحركـات التي يسميها أرسطو اللولبية”. كان نظام بطليموس، السائد زمن ابن رشد وقبله، يقوم على الحساب دون مراعاة تطابق المقدمات التي تُعتمد فيه مع نظام الطبيعة. ومع أن النتائج كانت تأتي صحيحة في الجملة، فإن صحة النتائج ليست دليـلا على صحة المقدمات، بل لابد من القيام بفحص المقدمات لمعرفة مدى صحتها أي مطابقتها للواقع، وبالتالي لابد من القيام بعملية “التركيب” إلى جانب عملية “التحليل” التي يعتمدها الرياضيون،،فهذه وحدها لا تكفي في بناء الحقيقة العلمية. لم يمهل الأجل المحتوم فيلسوفنا لتحقيق هذا المشروع العلمي، فقـام تلميذه ومعاصره نور الدين أبو اسحق البطروجي فحقق ذلك، وصار كتابه المرجع المعتمد في موضوعه -بأوربا- إلى أن ظهر كوبرنيك بنظريته التي أعلنت ميلاد علم الفك الحديث.

لنكتف بهذا الاستطراد حول المشروع الإصلاحي الرشدي، في مجالات الدين والفلسفة والعلم، فذلك ما سنعرض له بتفصيل في الكتـاب الذي نعده بعنوان: “ابن رشد، فكر وسلوك”. لقد كان غرضنا من إثارة الموضوع هنا هو إبراز جانب من الجوانب الأساسية التي لابد من استحضارها لرسم الإطار الذي يندرج فيه الكتـاب الذي بين أيدينا، أعني ما عبر عنه ابن رشد بـ “تصحيح عقائد شريعتنا مما داخلها من التغيير”. فلنتتبع معه في هذا الكتاب، باختصار، عملية “التصحيح” هذه، من خلال عرض موجز لبنيتة ومضمونه.

5- فرق محدثة وأقاويل مبتدعة

يستهل ابن رشد كتابه هذا بالتذكير بما كان قد وعد به في “فصل المقال” من أنـه ينوي تأليف كتاب خاص يكون موضوعه “الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها”، وبيان جوانب الضعف والابتداع والانحراف في تأويلات المتكلمين بمختلف فرقهم، وأشهرها في زمانه كما يقول أربعة: الأشعرية والمعتزلة والباطنية والحشوية.

أما الحشوية فتتلخص دعواهم في قولهم: “إن طريق معرفة وجود الله تعالى هو السمع لا العقل”. بمعنى أن الإيمان بما جاء به الرسول وحده كاف، وأن لا مكان لإعمال العقل لإثبات وجود الله وصفاته الخ… تماما كما لا مكان له في التعرف على أحوال المعاد الخ… فتلك كلها أمور “لا مدخل فيها للعقل”. ويرد ابن رشد على هذه الدعوى بكونها باطلة تتناقض مع القرآن نفسه الذي يدعو الناس إلى استعمـال عقولهم للتعرف على وجود الله من خلال النظر في مخلوقاته، وهذا في غير ما آية. (فـ : 7-10)، كما تتناقض وتتعارض مع الحكمة التي من أجلها خلق الله العقل للإنسان الخ…

وأما الصوفية (وهم داخلون في عداد الباطنية الذين ذكرهم كفرقة) “فيزعمون -يقول ابن رشد- أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة (=بالتفكير) على المطلوب”. ويرد ابن رشد على هذه الدعوى بأن هذه الطريقة، طريقة الكشف والإلهام -إذا سلمنا بوجودها- “ليست عامة للناس بما هم ناس، فضلا عن أنها ليست الطريقة التي قصد الشرع حمل الناس عليها: فالقرآن كله دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر” (فـ:65-66).

أما المعتزلة فيقول ابن رشد عنهم إن كتبهم لم تصل إلى الأندلس في زمانه وإن كـان يبدو أنها من جنس طرق الأشعرية (فـ: 7)، وبالتالي فما سيقال في الرد على الأشعرية ينطبق كذلك على المعتزلة.

يبقى الأشعرية إذن، وهم الذين كانت لهم السيادة، كما قلنا، على الساحة العقدية زمن ابن رشد. لقد جعلوا من مذهبهم وحده المذهب الحق وحكموا بالبطلان على جميع المذاهب الأخرى. بل إن بعضهم جعل المقدمات العقلية التي وضعوها للاستدلال على وجهة نظرهم شرطا في الإيمان، حتى إنهم كفروا “من ليس يعرف وجود الباري بالطرق التي وصفوها لمعرفته” . هذا فضلا عن كونهم يجحدون كثيرا من الضروريات العقلية، وعن كون الغزالي، وهو من أقطابهم قد كفر الفلاسفة لاختلافهم مع وجهة النظر الأشعرية.

سيركز ابن رشد إذن على المذهب الأشعري: يحلل طريقتهم في إثبات العقائد الدينية الإسلامية، ويكشف عن جوانب الوهن والخلل فيها من الناحية المنطقية، ويبين ابتعادها، عن الطريقة التي “قصد الشرع حمل الجمهور عليها”، وهي الطريقة الواردة في القرآن الكريم، من جهة، وتناقضها مع العقل والمعرفة العلمية الفلسفية من جهة أخرى.

6- العلماء والجمهور: الفرق في المعرفة، لا غير.

ولابد من الوقوف هنا قليلا مع هذا التمييز الذي يقيمه ابن رشد بين العلماء والجمهور: إنه تمييز على مستوى المعرفة فقط، فالاختلاف بين معارف العلماء ومعارف الجمهور اختلاف في التفاصيل، وبالتالي في الدرجة، لا في النوع: الجمهور يقتصرون “على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس”، ولذلك يخاطبهم الشرع بضرب المثل وتصوير صفات الألوهية والقضايا الأخروية تصويرا حسيا مستمدا مما هو مشاهد عندهم. “أما العلماء فيزيدون على ما يدرك من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان” (فـ:82) أي ما يتوصلون إليه بأنواع الاستدلال التي يستعملونها لاستخراج المجهـول من المعلوم، ولذلك كانت معارف العلماء أوسع من معارف الجمهور.

أما الفرق بين العلماء والمتكلمين، الجدليين، فهو أن العلماء -والمقصود هنا الفلاسفة وأرسطو بكيفية خاصة- ينطلقون من دراسة “الشاهد” أي معطيات الحس والتجـربة، والارتقاء منها إلى “الغائب” أو “ما وراء الطبيعة”، إلى العالم الإلهي، وهم يتوخون اليقين الذي يتوقف على صدق المقدمات التي يعتمدونها، وتماسك الخطوات المنطقية التي يسيرون عليها. غرضهم في كل ذلك البحث عن الحقيقة وبناء العلم من أجل العلم نفسه: العلم الذي به ينال الإنسان كماله فينفصل به عن الحيوان والنبات والجماد الخ…أما المتكلمون الجدليون فهم، بالعكس من ذلك، ينطلقـون من أصول مذهبهم التي تتعلق بـ “الغائب” أي بعالم الألوهية وما في معنـاه ثم يبنون “الشاهد”، أي معطيات الحس، بالشكل الذي يمكنهم من الاستدلال به على صحة تلك الأصول. هدفهم، كما قلنا، كسب الأنصار وليس بناء العلم.

7- “الكلام” شيء، والمعرفة العلمية البرهانية شيء آخر.

هذا من جهة ومن جهة أخرى لابد من الإشارة إلى أن اعتراضات ابن رشد على الأشعرية والمتكلمين عموما ليست اعتراضات جدلية من ذلك النوع الذي كل ما يهدف إليه هو هدم دعوى الخصم أو التشكيك فيها على الأقل. كلا، إن ابن رشد يستحضر في ذهنه ما كان يعتبر في عصره معرفة برهانية، أي علما، أعني العلم الأرسطي، وبكيفية عامة نظام الكون كما شيده أرسطو بطريقته “البرهانية”، التي تنطلق من المحسوس إلى المعقول. ثم يقارن بين آراء المتكلمين وبين هذه “المعرفة العلمية”، فيبـين الخلل في تلك الآراء دون أن يشرح بتفصيل ما تعرضه تلك “المعرفة العلمية” من معطيـات وما تتصف به من يقين، إدراكا منه أن ذلك لا يمكن عرضه مجزءا، فالأمر يتعلق بمنظومة (المنظومة الأرسطية) مترابطة الأجزاء، كالبناء يشد بعضه بعضا ويستند بعضه إلى بعض، لا يمكن ولا يصح اقتطاع جزء منه وعزله عن الباقي. وهذا الإدراك العميق للطابع المنظومي لـ “العلم البرهاني” الأرسطـي، والذي عبر عنه ابن رشد بوضوح حينما أشار إلى أن الفلسفة في عصره قد كملت وصار من الممكن تعليمها بطريقة برهانية كما تعلم الرياضيات ، هو الذي اضطره إلى الوقوف عند مجرد الإحالة إلى طلب المعرفة “البرهانية” في موضعها. ومعلوم أن موضعها هو كتب أرسطو، وكان ابن رشد منكبا على شرحها تـارة شرحا مختصرا وتارة تفسيرا مطولا. ثم إن كتب أرسطو نفسه كانت موجودة متداولة. وإذن فإحـالته إلى “كتب البرهان” ليست إحالة إلى مجهول ولا إلى ما ليس في المتناول. بل إنها إحالة إلى أهم كتب أرسطو الطبيعية وفي مقدمتها كتاب “الطبيعة”.

لقد انطلق أرسطو في هذا الكتاب من دراسة الظواهر الطبيعية التي أرجعها في نهاية المطاف إلى ظاهرة واحدة هي الحركة. ومن استعراض أنواع الحركة في الأرض والسماء يخلص أرسطو إلى النتيجة التالية: وهي أن جميع هذه الحركات ناتجة عن تحريك متحرك، وأن المتحركات المحركة تتسلسل من الأرض إلى السماء تسلسلا لابد أن يقف به العقل إلى افتراض محرك لا يتحرك، وإلا تسلسل الأمر إلى غير نهاية. وهذا المحرك الـذي لا يتحرك (أو المحرك الأول أو السبب الأول، وهو الله عنده) هو أشبه بمعشوق ثابت في مكانه، تنشدُّ إليه وتتحرك نحوه جميعُ الموجودات لجماله وبهائه، ولكونه السبب الأول والمحرك الأول.

وبما أن جميع أنواع الحركة التي في الأرض مرتبطة بالحركة التي في السماء وتابعة لها، وهذه مرتبطة كلها بحركة الكواكب والنجوم على أفلاكها إلى الفلك المحيط الذي يحيط بالعالم كله ويحرك بحركته جميع الأفلاك الأخرى، فإن المحرك الأول الذي يحرك مباشرة ذلك المتحرك الأول، لا بد أن يكون مثله في السماء العليا ولا بد أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه، لأنه إن كان داخل العالم لم يكن محركا للمتحرك الأول، بل سيكون متحركا به كبقية أجزاء العالم، أما إذا فرضناه خارج العالم فسيغدو من الصعب تصور كيفية تحريكه للعالم. وهذا راجع إلى أن الفكر “العلمي” القديم، فكر أرسطو خاصة، لم يكن يستسيغ التحريك من بعد وبدون واسطة.

هذه الصورة -المختزلة جدا- لنظام الكون حسب أرسطو ينبغي، بل يجب، استحضارها في الذهن عند متابعة ابن رشد في مناقشته للمتكلمين وردوده عليهم، وكذلك عند عرضه لـ “المعنى الظاهر” للآيات التي يستشهد بها بوصفها تعبر عن “الظـاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها”. إن حماس ابن رشد لهذا “المعنى الظاهر” في النصوص الدينية، وفي القرآن خاصة، حماس صادق، وهو مخلص فيه تمام الإخلاص، ذلك لأنـه كان يراه أقرب إلى “المعرفة العلمية” في عصره من تأويلات المتكلمين.

إننا نعتقد أن ابن رشد كان يؤمن إيمانا صادقا ويعتقد اعتقادا راسخا في هذا التوافق، بل التطابق، الذي كان يراه بين ما يستفاد من ظاهر الشرع وما يقرره العلم الأرسطي والنظام الفلسفي المشيد عليه. لقد كان يراهما مظهران لحقيقة واحدة، ولذلك قـال بصددهما إنهما معا الحق بعينه: “والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد لـه. ومن هنا كان إعجاب ابن رشد بأرسطو لا يوازنه ولا يتفوق عليه إلا إعجابـه بالقرآن وإيمانه به. ومن هنا إشارته إلى تلك السعادة التي يحس بها من يجمع بين المعقول والمحسوس·

مجلة الجابري – العدد السابع