مجلة حكمة
التأسيس الائتماني لعلم المقاصد

تلخيصاً للأفكار الوسيطة لكتاب التأسيس الائتماني لعلم المقاصد لطه عبدالرحمن: معالجة نسيان حالة المواثقة التي توصل إليها المقاصديون وبنائها من جديد

الكاتبحامد الاقبالي

  تراوحت المقالات والمقولات التي أعقبت كتاب : التأسيس الائتماني لعلم المقاصد للفيلسوف المغربي : طه عبدالرحمن بين العابرة التي تثني على الأطروحة وتلك التي حاولت أن تقدم نقداً بناءً يسهم في إثراء الرؤية التي يطرحها المؤلف وتسديد مقاصدها الفكرية ، وهي آراء وملاحظات تثري كثيراً من أراد أن يتبيّن معالم النظرية التي يحاول أن يقدمها المؤلف ، ولذلك رأيت أن أسهم في هذا الدرس العلمي والاشتغال الفلسفي من خلال تلخيص الأفكار الوسيطة –إن صحت التسمية – للكتاب ، لاسيما أن معظم الأفكار المركزية قد تناولها عدد من الباحثين في المقاصد والأخلاق بالنقد والتمحيص سواء منطلقات المؤلف أو مفاهيمه التي بناها أو حتى نتائجه التي تحصّل عليها عقب ذلك  ، وهذا يعني ان ما أقوم به لا يتجاوز مسألة تقرير هذه الأفكار المكتوبة وبسطها دون التدخل فيها بالقدح أو المدح كخطوة أولية تستبق التأمل النظر والاشتغال الفلسفي إن سنحت فرصة لذلك.

وقبل أن أبدأ عرض هذه الأطروحة- المبسوطة بلغة حجاجية ومنهج كلامي – رأيت أن اسجل أربع نقاط مركزية متداخلة تطرق لها بعض المتخصصين في علم المقاصد والشريعة في تقويم الكتاب، وذلك خلال الندوة التي أقامها مركز نهوض -المركز الذي طبع الكتاب –  وأدارها الدكتور وائل الحارثى ، بحضور الدكتور عبد الرحمن العضراوي والدكتور حسان شهيد ، ومن هذه الأفكار النقدية:

  1. حين يقوله طه عبدالرحمن : أن الاستقراء لا يراعي قدسية النص وينزع عنه هيبته ، ألا يمكن أن نسأله نفس السؤال : ألا يهدم هذا النقل الكلي للاستقراء جهود كل العلماء التي قامت على الجهد الاستقرائي في الأصول والمقاصد كعلم أصول الفقه عند الشافعي؟!.
  2. لم يعدّ المقاصديون أن الاخلاق كلها من التحسينيات ، بل فصّلوا في ذلك ، فالمكارم من التحسينيات ، والعدل من أصول الاخلاق ، والأمانة من محارم الاخلاق مثلاً، ولم يضعوها جميعاً في سلّة واحدة، فهناك فرق بين المكارم والمحارم والأصول، كما أن الاخلاق التي انتقد المؤلف المقاصديين فيها أنهم لم يدرجوها ضمن الكليات كبرّ الوالدين والعدل مثلاً هي في حقيقتها مقاصد وليست كليات ، ومدار اشتغال المقاصدي هو الكليات وإن أوجبتها الشريعة واهتمت بها .
  3. أن العقل الذي استخدمه المقاصديون في تأسيس هذا العلم ليس عقلاً مجرداً كما قرر المؤلف ، بل هو مرتبط في أصله بالنص الشرعي ولصيق به فلا يتجاوزه ، فهو عقل فهم وليس عقل إنشاء ، كما أن التقسيمات الي فرّع عليها المؤلف هي محل تقدير ، لكن هذا التأسيس الائتماني ليس شيئاً ناجزاً وأمراً مفصلياً في النظر الكلي للشريعة كالفصل بين الجوانب المادية والمعنوية ، والأولى العودة إلى التقسيم الأصولي في فهم النصوص قطعية كانت أو ظنية ، عقلية كانت أم نقلية.
  4. اعتبار أن المقاصد والمصالح لا تحمل قيماً أخلاقية في داخلها قول يحتاج إلى إعادة النظر مجدداً ، إذا اعتبرنا أن العقيدة قائمة على الأخلاق في الأصل . ويمكن القول أيضاً أن التمحّل في استظهار دلالات الألفاظ ومعانيها لتقرير المفاهيم التي طرحها الكتاب – سواء في مفهوم القيمة أو غيره – هو اجتهاد غالى فيه كثيراً المؤلف وتوصل به إلى دلالات لم يقصد إليها أصحاب اللغة والمعاجم.

 ولننطلق الآن بعد أن انتهينا من عرض هذه التعليقات إلى متن الكتاب ، في البدء ذكر الدكتور طه عبدالرحمن أن هدف الكتاب ليس التأسيس التنسيقي للشريعة بل هو التأسيس الائتماني لعلم المقاصد ، لهذا توصل الى أن الأولى تأسيس الشريعة على الفطرة، ومقاصد الشريعة على الإرادة ، والمصالح على التزكية ، وذلك لأن الفطرة تتأسس على ميثاق الإشهاد ،والإرادة تتاسس على ميثاق الاستئمان ، والتزكية على ميثاق الإرسال ، وهذه فكرة كررها في خاتمة الكتاب عن هدفه المركزي: بناء علم المقاصد على أسس عالمية تسند مشروعيته وتنبرز معقوليته وتوطد مقبوليته في العالم  .

لخص طه عبدالرحمن في كتابه الجديد – مسائل الفقه على ثلاث محاور ، وهي : انبناء الشريعة على الفطرة ، وصلة الشريعة بالإرادة ، وصلة الشريعة بالتزكية، لذلك كان تناول المقاصديين للأحكام الفقهية شرعياً وليس مشروعاً وفقاً الى هذه المسائل مما يعتبر أن هذا التأسيس إئتمارياً وكان الأولى أن يكون تأسيساً إئتمانياً بحيث تكون كالتالي:  وهي

1- انبناء الفطرة على ميثاق الإشهاد

2- انبناء الإرادة على ميثاق الاستئمان

3- انبناء التزكية على ميثاق الإرسال

وبدأ بنقد بعض النظريات التي أقامها أشهر اثنين من المقاصديين في العصر الحديث وهما الطاهور ابن عاشور وعلال الفاسي ، فابن عاشور جعل قيام الشريعة على الفطرة لكن الإشكالية تكمن في أن دلالة المقصود بالفطرة عنده هي الغريزة والتي عبّر عنها بأنها : الفطرة الباطنية العقلية ، وهناك بون شاسع بين الفطرة التي تعني القيم الأخلاقية وبين الغريزة التي لا تعدو أن تكون سوى جملة الدوافع النفسية يقول المؤلف ” إن ابن عاشور أخذ بتصوّر ابن سينا في الفطرة العقلية وظلّ متمسكاً به مع أنه لا يفي بمدلول فطرة الإسلام”() بل إن نتيجته هذه تؤول إلى انبناء الشريعة على العقل المجرد بالمعنى الفلسفي ، وكمال الشريعة لا يبنى إلا على العقل المؤيد ، وهذا المفهوم راسخ لدى المؤلف ويعني به أن القيم الأخلاقية لا بد أن تبنى على المصدر الإلهي ، لذلك لم تفلح محاولة ابن عاشور المقاصدية لأنها أسست الشريعة على جزء من معنى الفطرة وليس المعنى الكلّي والأصيل لها.

أما محاولة الفاسي فقد اتخذت النقيض من نظرة ابن عاشور حيث تتأسس الشريعة عند على الفطرة ، لكنه اعتبر هذه الفطرة هيئة خلقية ، لذلك وجب الأخذ بميدأين (مبدأ التوحيد) و(مبدأ الاستصلاح) بحيث تجتمع الإنسانية على هيئة خلقية واحدة ، كما تقوم هذه الأخلاق على ثلاثة أصول كلية وهي مبدأ (الأخذ بالعفو) و(الأمر بالعرف) و(الاعراض عن الجاهلين) وهو يفضل على تأسيس ابن عاشور في اعتماده على الأخلاق المسددة ، وإن بقيت النظرة قاصرة حول مفهوم الفطرة التي تعني عندهم : جملة الاستعدادات والميولات المغروزة أسبابها في النفس الإنسانية باطنا وظاهراً ، بناء على هذا الفهم بنوا نظريتيهم في المصالح الإنسانية على هذا التقرير جاعلين أغلب المصالح الضرورية راجعة إلى العناية بالعناصر الغريزية تتبعها المصالح الحاجية والتحسينية في الأخذ بهذه العناية وهذه المصالح الضرورية الغريزية ثلاث من خمس :

  1. حفظ النفس الذي يحفظ غريزة البقاء 
  2. حفظ النسل الذي يحفظ غريزة الجنس
  3. حفظ المال الذي يحفظ غريزة التملك

وينتج من هذا أن تصبح المصلحتين حفظ الدين وحفظ العقل بمنزلة الفرع ، إذ تغدوان خادمتين للمصالح الغريزية الثلاث ، بمعنى أن هذه المصالح الثلاث لا تستقيم إلا بواسطة تشريعات الدين من جهة وتقريرات العقل من جهة ثانية،  ولا يرى المقاصدي في هذه التبعية إلا ما يجب أن يكون ، فالدين مستظهر بالعقل جاء لإقامة الحياة وتزكية النفس وتنمية المال ، هذا إذا سلمنا أن مراد المقاصدي بمصلحة حفظ الدين هو تشريعات الدين المنظمة للمعاملة ، أما إذا كان مراده الإيمان والعبادة فحينها تكون هذه التبعية تكميلية وليس ضرورية.

وقد بني هذا الترتيب بهذه المصالح كالآتي : الدين ثم النفس ثم العقل ثم النسل ثم المال ، لكن الإشكالية في هذا الترتيب أنه جمع بين القصد والوسيلة ، فالأربعة الأولى هي مصالح مطلوبة لذاتها أما المال فهو مطلوب لغيره ، وكان الأولى به أن يكون وسيلة وتلك المصالح الضرورية غايات ، كما أصبح الدين والعقل نتيجة لهذا التصور الغريزي تابعين لمصلحة المال فخرج من كونه وسيلة ليصبح القيمة الأساس التي تستتبع باقي المصالح ، ذلك أن التملك يصبح القيمة التي تحدد المصلحة ، فالبقاء أصله تملّك أسباب البقاء ، والجنس أصله تملك الجسد ، وسيصبح الدين بهذا السياق تملك العبادة ، حتى صارت مفاهيم الفقهاء تهيمن عليها لغة التملك والتجارة في صياغة الأحكام مثل (ملك البضْع) و(ملك الولد) .

ولأن المنظور الائتماني يهدف إلى إعادة الاعتبار للماهية الأخلاقية للإنسان أصبح من الضروري الاجتهاد في تطوير هذا التصور الأخلاقي للفطرة -على حد تعبير المؤلف- بما يمكّن من إعادة بناء المصالح والأحكام والقواعد المقاصدية عليه ، عوض التصور الغريزي الذي ظل يحجب جوانب السمو المعنوي في الدين ، وأول خطوة هي اعتماد المفهوم الجوهري للقيمة وجوباً وشرعاً.

استعرض المؤلف مفهوم القيمة المعنوية في القرآن وغفلة المقاصديين عن تطوير دلالاته لاسيما معانية الأساسية (الإقامة / التقويم/ الاستقامة) فكلمة (أقم) تحمل ثلاثة معانٍ وهي (الثبات/العزم/ النهوض) وهي كلها مفاهيم حسنة تأخذ بمبدأ القيمة وتشكّل علاقات دلالية فيما بينها ، وظل طه عبدالرحمن يقلّب هذه المفردات ويزاوج فيما بينها من خلال الرجوع إلى أصلها اللغوي واستعمالاتها المعنوية ومآلاتها الحسنة ، ثم يعتمد سياقاتها التي تنتجها وهي : الإقامة والذات والدين ، وتفاعل هذه المفردات إلى علاقة الذات بالإقامة التي تستلزم القصد إلى القبلة وعلاقة الذات بالدين التي تستلزم إخلاص النية، والعلاقة بين هاتين العلاقتين التي لا تتحقق إلا في الصلاة.

أما معنى التقويم في قوله تعالى ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (سورة التين) فقد أحال بعضهم هذا المفهوم إلى الصورة الحسية للإنسان بمعنى (القامة المديدة) أما فريق آخر فرأى أن التقويم ما هو إلا الصورة المعنوية للإنسان ، التي تعني تقويم عقل الإنسان وإدراكه إذ الصورة الحسية غير مؤثرة في إصلاح النفس والأرض، ليشق طه عبدالرحمن طريقاً ثالثاً يعني به : إقامة الإنسان على ما يجب من الخلُق والخلْق . وهو معنى القيمة المطلوب التي أتت من جهتين ، إحداهما : الوجوب (الإنسان أقيم على الوجه الواجب) والثانية: التفضيل (الوجوب بلغ مقاماً عالياً ) ويمكن حمل دلالة التقدير في ثلاث آيات قرآنية على دلالة (التعظيم) وهذا الوجه ينطوي على مفهوم (القيمة) وذلك لأن التعظيم يزيد عن الوصف ببعده الإرشادي ، كما يزيد عن المعرفة ببعده الوجداني ، وهذه الزيادة هي بالذات الجانب القيمي الذي ينقل التقدير من رتبة التقدير الحسي إلى رتبة التقدير المعنوي ويكون لفظ التقويم دالاً على التقدير الثاني ، ويكون تفسير الآية (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) أي في أحسن تقدير.

وحقيقة الاستقامة مقترنة بالقصد لكن المقاصديين اهتموا بمفهوم المصلحة وتركوا الاستقامة ، على الرغم من أن الاستقامة هي : تحصيل القصد الذي يفضي إلى المصلحة ، وقبل أن  يستنبط مفهوم (القيمة) من مفهوم (الاستقامة) عرّج المؤلف على علاقات معانٍ (العوج والحنف والاقومية والقيمية) التي تدخل في مجاله الدلالي . والخلاصة إجمالاً : أن مفهوم القيمة مفهوم قرآني صريح يتأسس على مفاهيم قرآنية راسخة أيضاً وهي : الإقامة والتقويم والاستقامة وكل مفهوم من هذه المفاهيم الثلاثة يحيل من حيث مبناه ومعناه إلى (القيمة ) بل إن علم المقاصد ليس إلا علم القيم الأخلاقية.

وفي الفصل الثالث قرّر أن هناك إشكالية في أن التأسيس الائتماري يردّ الشريعة إلى مجرد علاقات بين نوعين من الأفعال وهي أفعال إلهية (إرشادات) وأفعال بشرية ( امتثالات) وهو ما وقع فيه الفاسي وابن عاشور ، وكان المطلوب هو التأسيس الائتماني الذي يردّ هذه العلاقات بين نوعين من الذوات (الذات الإلهية) و(الذات البشرية) وهي العلاقات الذواتية حيث تسبق الذات في حضورها من الأفعال ، لذلك اقتضى التأسيس الائتماني الانتقال إلى مقام الفطرة حيث الميثاق الخطابي الأول : ميثاق الإشهاد ، وهذا الميثاق تداوله فريقان ، الأول : اعتبره إقراراً بألسنتهم على ربوبية الخالق ، لكنه أغفل جانب إبصارهم للخالق كأنهم سمعوه ولم يروه وهؤلاء هم فريق (الانطاق الحسي ) والآخر اعتبره إبصاراً حسياً للدلائل الخارجية،  لكنه ضخّم العالم الظاهر على أي عالم آخر لأن عنايته انصبت على الإبصار وهو فريق( الإبصار الحسي) وربما كان اختلافه مع ابن عاشور يعزى بعضه الى الاختلاف في الألفاظ وليس في الحقائق والمعاني ، ومن ذلك اعتبار ابن عاشور أن الأمانة في آية (إنا عرضنا الأمانة) تحتمل معاني الايمان والعقل والوفاء واعترض عليه طه في تقديمه الأمانة التي بمعنى العقل على الأمانة التي بمعنى الايمان ، بحجة أن ابن عاشور يعتبر الايمان من أخلاق العقل().

والحقيقة أن الإشهاد تحصيل التوحيد قولا والفطرة تحصيل التوحيد وجوداً ، فالفطرة من الانسان هي بمنزلة المحل الذي يواصل فيه تلقي السؤال الأول وشهود الاتصال الأول ، مما يؤيد ضرورة تأسيس التبليغ الشرعي على الخطاب الفطري كما يقول ابن تيمية ” الكمال يحصل بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة” ، فالفطرة هي دوام خطاب الفاطر سبحانه وتعالى في سرّ الإنسان  .

ويمكن إجمالا القول أن القضية المركزية التي خرج بها من هذا الفصل هي : أن الفطرة تستمد مضمونها المعرفي من ميثاق الإشهاد ، وأن هذا المضمون المعرفي هو في حقيقته معرفة بالاسماء الإلهية الحسنى ، اما الفصل الرابع فقد ناقش الآثار الراسخة التي تتركها الأسماء الحسنى في الفطرة وما ينبني على هذه الآثار من أسس الشريعة ، وهذه الآثار الراسخة تتفاعل فيما بينها ويتوالد بعضها من بعض ومن هذه العلاقات : المباينة والمماثلة والمفاضلة ، وبهذا تكون الفطرة هي القوة الإدراكية العلاقية التي تميز الانسان عن غيره من  الكائنات، وهذه القوة اشتهرت باسم العقل ، فقرن المقاصديون بين العقل والفطرة غير أن هذا الاقتران لا يصح لاسيما العقل المجرد . يقول المؤلف : وبهذا نستطيع أن نقول أننا أسسنا الفطرة على ميثاق الإشهاد الذي يعتبر حافظة للقيم المستقة من الأسماء الحسنى ، وأن هذه القيم لا يمكن الاستغناء عنها.

وفي الباب الثاني بدأ الفصل الخامس بالكلام على المستوى الثاني من التأسيس الائتماني وهو (ميثاق الاستئمان) وأول ما بدأ نقض كلام ابن عاشور في معنى الأمانة ، لأنه ردها الى العقل المجرد دون أدنى اعتبار ،  فالأمانة كانت في الآية المعروفة اختياراً وليس جبراً كما أن عرضها كان ميثاقاً واضحاً ، ليتوصل د. طه إلى أن معنى الأمانة هنا هو: الإرادة ، باعتبار ثقلها التكليفي ومغبة مقارفة المعصية، وإن شئنا حددنا أكثر هي (إرادة التملك) التي تتسق مع ميثاق الاستئمان، وفي الفصل السادس تناول المؤلف تفريق أبي إسحاق الشاطبي للإرادة إلى إرادة أمرية وهي المتعلقة بالأمر والنهي الشرعي وإرادة كونية (خلْقية) ، معترضا عليه بأن الشريعة جاءت بإرادة واحدة هي الإرادة الملكوتية ، وهي بهذا تبطل تقسيم الشاطبي الذي يستلزم إشكاليتين:أحدها أن الأمر يستوجب إيقاع المطلوب ولايستلزم إرادة وقوعه ، والأخرى: أن الله تعالى قد يأمر بما لايريد وينهى عما يريد ، لذلك كان مفهوم الإرادة هو الأفضل لأنه مفهوم تأسس على ميثاق الاستئمان ، ولأنه يقترن باختيار المكلف ومسؤوليته الكلية ، مما يصح معه أن يسمي علم المقاصد بعلم الإرادات ، لدلالته على الشريعة ، كما أن مفاهم الشريعة أدل من مفهوم مقاصد الشريعة ، لسعة معاني الشريعة.

وفي الفصل السابع تناول القصد الشعوري الذي يقصد بها : الحياة الوجدانية الباطنة التي يحياها القاصد في داخله وتكون لها غاية محددة ، وهذا القصد هو دليل حياة المكلف وأثر من آثار الإشهاد الرباني ، كما أنه يصحب كل الأعمال الواعية وكأن القصد طُوي فيه طياً ، على أن القصد الشعوري لا يعتبر في نفسه عملاً  إنما العمل في الجوارح ، وقد فرّق بين الباعث والنية ، معتبرا الباعث دالاً على معنى الإرادة ليصبح : قصد النفس الى تملك العمل حدثا واثراً ، فهو غريزة نفسية تجنح إلى التملك ، خلافاً للعزم الذي يعتبر قصد القلب الى دفع نسيان الائتمان على العمل ، لذلك فإن رتبة القلب ترقى على رتبة النفس درجة ، بحيث يكون القصد القلبي أعلى من القصد النفسي ، وذلك أن النفس موطن الغريزة ، والقلب موطن البصيرة والاعتقاد، ويريد طه من ذلك أن يصل الى تقرير حقيقة مهمة وهي أن القلب مصدر نتاج العقل أو القوة الادراكية المميزة للإنسان ، وأنه الرتبة الوجودية الثانية للذات ، وأن العقل الخاصية الأساسية للقلب ، وأن العزم فعل قلبي عقلي.

أما الفصل الثامن فيقعّد فيه طه عبدالرحمن مفهوم النية ،من خلال تعريف ابن تيمية للنيةّ وهو العالم الذي استشهد به في مجمل مشروعه في تأسيس علم المقاصد ولم يختلف مع أطروحاته حول هذا المفهوم ، حين جعل النية (التصوّر) أو (العلم) بمعناه الأهم ، وهو يريد أن يصل الى تقرير حقيقة أن النية ليس محلها القلب خلافاً لعلماء الأخلاق المسلمين، ذلك لأنهم لم يفرقوا بين أنواع القصد الشعوري وجعلوا بعضها ينوب عن بعض أو يرادفه ، كما أنهم جعلوه حقيقة باطنة ويريد طه عبدالرحمن أن يصل بذلك إلى أن النية محلها روح الإنسان ، ويأوّل آراء من قالوا بأن القلب محل النية يقصدون بذلك باطن الإنسان ويعنون به الروح ، وهو بهذا يفرق بين مرتبتين وجوديتين مختلفتين للذات : فالقلب رتبة العزم والروح رتبة النية ، وقد عرّف الإدراك الروحي باسم البصيرة الذي يعتبر : إدراك لبواطن الأعمال بوصفها معانٍ روحية ليصل إلى نتيجة مفادها : أن النية لا توجد إلا فيما يشاكلها من العبادات والتصرفات والتعاملات ذات الصبغة الأخلاقية ولا تُستخدم في غيرها إلا مجازاً ، وبهذا يستبعد القواعد المتعلقة بعموم القصد من إدخالها في موضوع النية ليصيغ تعريفاً واضحاً للنية يقول فيه : نية العمل عبارة عن قصد الروح إلى حفظ الإئتمان على العمل من جانب الوجود. فهي كما عبّر العلماء قصد العبادة أو قصد المعبود لذلك اعتبر أن وظيفة النية ليس التمييز بين العبادات أو التمييز للمعمول له ، بل إن أبرز وظائفها توجيه العمل إلى وجهة محددة. فوجودها كشرط لصلاح العمل أو كماله إضافة إلى تأسيسها لأنواع القصد الشعوري الأخرى.

ولأن حديث (الأعمال بالنيات) نص مركزي في هذا العلم فقد جعله دالاً على خصوص التقرب أكثر من عموم التوجه فيصبح (إنما الأعمال بالتقربات) فهو أخص دلالة على التسديد العملي منه إلى القصد إلى التملك ، وحمله على الإرشاد أولى من حمله على معنى الحكم إلى التزام النية موافقة لخطاب الشرع ، ثم عرف الإخلاص بقوله: قصد السر الى الاجتهاد الدائم في حفظ الإئتمان على العمل ، ويلاحظ امتداد آثاره في الزمن وارتقائه في العمل فلا إخلاص متناهٍ كما لا إخلاص ناجز ، ثم عرج على انشغال الفقهاء بالنية عن الإخلاص والإحسان ، انشغالاً يشي بأن اعتبار النية لا تتضرر بترك الإخلاص كما لا تتضرر بترك الإحسان مع أن هذه الاعمال تستوجب أخلاق وأوصاف لا تستقيم بدونها ،  بل ما توجبه من الترقي في مراتبها وطلب كمالها.

وفي الباب الثالث في فصله العاشر قرر أن المقاصديين غفلوا في علم المقاصد عن الجانب الأخلاقي إلا فيما يعلل لهم أحكامهم القانونية على الرغم من أن أصول المصالح تُبنى على التزكية ، وربما كان ذلك بسبب فهمهم للتزكية أنها إصلاح باطني فحسب، لكن مفهوم التزكية حقيقة هو إصلاح كلية الإنسان في تفاعل باطنه مع ظاهره ، ولأن التوحيد يقوم على أن التبليغ يدور على خطاب التزكية العالمية ، لذلك فهو يحاول إبراز عالمية التزكية من خلال تحرير الفكر والعمل من حضور الآخر فينا ، وأن نجعلها تستوعب أفهام الآخرين، وعلى الرغم من أن الحديث عن المصلحة تواتر كثيرا عن المقاصديين لكنه أصبح صيغة جامدة بعد ذلك والمصلحة في أصلها دفع المضرة وجلب المصلحة ويعني بها طه هنا جلب المصلحة التي تحفظ أحد الأصول الخمسة على الأقل أو دفع المضرة التي لا تحفظ أي واحد منها ، ولما كانت التزكية هي التخليق على مقتضى المصالح المشتركة، استلزمت استرجاع الفطرة التي بنيت عليها هذه المصالح فتعاطي التزكية لا يتسقيم بدون التسليم بمبدأ فطرية المصالح ، لكن المقاصديين اتبعوا في الوصول الى هذه المصالح الطرق الاستقرائية المجافية للإدراك الفطري .

وفي الفصل العاشر ذكر أن الاستقراء تكمن إشكاليته في النظر في الأدلة الشرعية على أنها كتلة واحدة غير أن الدليل الشرعي لا يتجرد كلياً من خصوصيته ، كما أن المستقرئ يعطّل صلته بالنص فيما الأولى هو الإيمان به أو عدم الايمان ، كما أن القيم الذي يتوصل إليها يجعلها قيماً مغلقة فيما الأولى أن تكون غير متناهية ، فبهذا يثبت ان الاستقراء لايناسب الاستدلال بالنصوص الشرعية هذا من الصفة الطبيعية ، أما من الصفة الدنيوية فالاستقراء في الأصل ليس له أفق غير الأفق الدنيوي ، فأمور الغيب يمتنع استقراؤها ، كما أن أمور الدين تبتغي التشبع بها والتفاعل معها وليس تتبعها وسردها كما يفعل الاستقراء ،وعلى كل فإن الكليات الضرورية هي كليات غريزية لا يليق بمقام الشريعة أن توجه كليتها إليه حتى لو تعاطت تهذيب الميول والشهوات، لأن الشريعة جاءت لتكريم الانسان لا لتسخيره واشغاله ، كما أن الاستقراء غير صالح لمعرفة الشريعة وما يصلح لها هو الرجوع الى علل وجود الشريعة والتي نجدها في (مواثيق الربوبية ) الثلاث : ميثاق الاشهاد وميثاق الاستئمان وميثاق الارسال وهي نفسها علل تكريم الانسان فتبيّن اذن ان لوجود الشريعة ثلاث علل مختلفة :أولا العلة العقدية وهو التوحيد الاشهادي ، وثانيا المسؤولية الائتمانية وثالثها التزكية العالمية .

وفي الفصل الحادي عشر قرر حقيقة مهمة وهي أن تأسيس علم المقاصد على الصلاح والإحسان يجعل منه علماً أخلاقياً بحق ،وهو الامر الذي غاب عن المقاصديين المتأخرين ، فهناك علاقة بين المصالح والقيم ، تجعل مفهوم القيم يجب أن تسود بدلاً من مفاهيم العلة والحكمة والسر والغاية  وذلك لأن هذا المفهوم يحفظ الصلة بين المصلحة والصلاح كما أنه يرادف معنى التزكية ، ومن مميزاته أيضا أنه يخرج المصلحة من وصف اللذة الى وصف التنوير ، كما أنه مفهوم قرآني ملازم لمعنى الدين والفطرة ولم يتعرض الى حالة من الاضطراب في الدلالة والمعنى ، وفي الفصل الثاني عشر والأخير قسّم هذه القيم الى أربعة مبادئ : وهي مبدأ الفرق بين أن يكون عبداً لله تخييراً أو يكون عبداً له تعالى تسخيراً ، والثاني قيمية كل شيء ،والثالث أخلاقية كل قيمة والرابع تقديم القيم الغائية على القيم الوسيلية ، ثم عرض لتقسم القيم الأخلاقية على قيم فطرية وأخرى غريزية تابعة لها وتنقسم هذه الأخيرة الى قيم حيوية تتولى حفظ بدن ونفس الانسان ، وقيم مادية مهمتها حفظ الأشياء المسخَّرة له  ، وهو ما يتوافق مع رؤية ابن تيمية الذي قسّم القيم الفطرية الى قيم التوحيد الاشهادي وقيم المسؤولية الائتمانية .

وفي الختام فإن هذا العمل التأسيسي الذي تنباه الدكتور طه عبدالرحمن له جانبان مهمان: الأول جانب نقدي وضح فيه آثار نسيان حالة المواثقة التي توصل إليها المقاصديون كالخلط بين الفطرة والغريزة ، وإهمال مفاهيم القيم الأخلاقية والتزكية والإخلاص، وتحكيم الاستقراء في مسلمات الشرع ،والسكوت عن العبدية الاختيارية التي هي القصد الأول من الشريعة ، والثاني : جانب بنائي وضع فيه معالم علم المقاصد كالتفريق بين الفطرة والغريزة ، والاستدلال على شرعية مفهوم القيمة ، والتفريق بين أنواع القصد ، وإثبات دلالة الأمانة على الإرادة ورد الكليات الضرورية الخمس الى ثلاث كليات وهي حفظ العقيدة والعقل والعمل .