مجلة حكمة
الرأسمال الجديد (الرأسمال الثقافي)

الرأسمال الجديد (الرأسمال الثقافي)

الكاتببيار بورديو
ترجمةعبد الوهاب البراهمي

1- المدرسة وشيطان ماكسوال

    يمكننا، في مرحلة أولى، حتى نقدّم نظرة شاملة عن اشتغال ميكانيزمات إعادة الإنتاج المدرسي، أن نستحضر الصورة التي يستخدمها الفيزيائي ماكسوال لتقريب الفهم لكيفية إمكان توقّف فعالية القانون الثاني للديناميكا الحراريةّ: يتخيّل ماكسوال شيطانا، يقف أمامه ـ ويقوم بفرز، من بين الجزيئات المتحرّكة الساخنة شيئا ما، أي السريعة شيئا ما، باعثا بأكثرها سرعة إلى وعاء، ترتفع فيه الحرارة، و بأقلّها سرعة إلى وعاء آخر، تنخفض فيه الحرارة. فيحفظ بفعله هذا الفارق والنظام الذي على نحو آخر يميل إلى الزوال. يتصرّف النظام التربوي بنفس طريقة شيطان ماكسوال: يحتفظ بالنظام السابق، أي المسافة بين التلاميذ ذوي الرصيد غير المتكافئ من الرأسمال الثقافي، على حساب تصريف الطاقة الضرورية لتحقيق عملية الفرز. وعلى نحو أدقّ، يفصل، بواسطة سلسلة كاملة من عمليات الانتقاء، حوامل الرأسمال الثقافي الموروث من أولئك الذين جرّدوا منه. ولمّا كانت الفوارق في المواقف غير منفصلة عن الفوارق الاجتماعية وفق الرأسمال الموروث، فإنّه يميل إلى الحفاظ على الاختلافات الاجتماعية السابقة.

  ولكنه، في المقابل، ينتج أثرين لا يمكن أن ندركهما إلاّ بالتخلّي عن اللغة (الخطرة) للميكانيزم. فبإنجاز القطيعة بين تلاميذ المدارس الراقية وتلاميذ الكليات، ترسم المؤسسة المدرسية الحدود الاجتماعية المماثلة للحدود التي تفصل النبالة الكبرى عن النبالة الصغرى، وهذه الأخيرة عن العوامّ. يتجلّى هذا الفصل أوّلا، وقبل كلّ شيء في ظروف الحياة ذاتها، بالتقابل بين الحياة المنعزلة للمبيت المدرسي وبين الحياة الحرّة للطالب، ثمّ في المحتوى خاصّة في تنظيم العمل على الإعداد للمناظرات: فمن جهة، ثمّة تأطير صارم وأشكال تعلّم جدّ مدرسية، وخاصّة مناخ الاستعجال والمنافسة التي تُكره على الطاعة والتي تشكّل تماثلا مع عالم المؤسّسة؛ ومن جهة أخرى ” الحياة الطلابية”، التي تحمل، باعتبارها قريبة من تقليد الحياة البوهيمية، قليلا جدّا من الانضباط والإكراه، حتّى في الوقت المخصّص للعمل؛ فهي تتميّز في النهاية في وبواسطة المناظرة ذاتها وبالقطيعة الطقوسية، حدّا حقيقيّا سحريّا، ينشئه بفصل آخِرِ من وقع قبوله عن أوّل من وقع إلصاقه باختلاف في الطبيعة، متّميّزة بالحقّ في امتلاك اسم ولقب titre.ا. إنّ هذه القطيعة لهي بحقّ عملية سحرية، تستند إلى باراديغم الفصل بين المقدّس والمدنّس على نحو ما حلّله دوركايم.

   إنّ فعل الترتيب المدرسي هو دوما، ولكن بصورة خاصّة في هذه الحالة، فعل اصطفاء أو ترتيب ordination فيما يحتمله من معنى مزودج في الفرنسية. فهو يؤسس لتفاوت اجتماعي في المنزلة، وعلاقة تنظيم نهائية: فالمصطفون متميّزون، إلى الأبد، بانتمائهم ( تلميذ قديم لـ…)إنّهم أعضاء نظام ordre في دلالة قروسطية للعبارة، و بنظام نبالة، جميعها مرسوم الحدود بوضوح ( أن نكون كذلك أو لا نكون) لأناس منفصلين عن عامّة الفانين باختلاف في الماهية والمشروعية، وتبعا لذلك في الهيمنة. وفي هذا، فالفصل الذي تقوم به المدرسة، هو أيضا اصطفاء في معنى تكريس consécration إدماج ضمن صنف مقدّس، ونبالة.

  يمنعنا الإلف عن رؤية ما تخفيه الأفعال التي تقوم بها المؤسّسة المدرسية والتي هي ظاهرها أفعال تقنية. إنّ تحليل ماكس فيبر للشهادة diplôme بوصفها تتويجا لتكوين مدرسي Bildungspatent والامتحان بوصفه مسار انتقاء عقلاني، يظلّ جزئيا وإن لم يكن خاطئا: فهو يسقط من حسابه الطابع السحري للإجرائيات المدرسية التي تؤدّي أيضا وظيفة عقلنة، ولكن في غير المعنى الذي يعنيه ماكس فيبر… فالامتحانات أو المناظرات تبرّر عقلانيا التقسيمات التي ليس لها بالضرورة المعقولية كمبدأ، و الألقاب التي تجازى بها النتيجة تمثّل ضمانات كفاءة تقنية لشهائد الكفاءة الاجتماعية، لتكون قريبة جدّا في هذا من ألقاب النبالة. في كلّ البلدان المتقدّمة، في فرنسا وفي الولايات المتحدة أو اليابان يرتبط النجاح الاجتماعي من هنا فصاعدا وبشكل واسع بفعل تسمية أولية ( فرض تسمية، هي في العادة تسمية مؤسسة تربوية، جامعة توداي Todaï أو هارفارد أو مدرسة البوليتكنيك التي تكرّس مدرسيا فارقا اجتماعيا موجود ماقبليا.

  إنّ تسليم الشهائد الذي يحدث غالبا في احتفالات رسمية، هو قابل أن يقارن بالضبط بمنح اللقب لفارس. فالوظيفة التقنية البَدَهية، والمفرطة في البداهة، وظيفة التكوين ونقل الكفاءة التقنية وانتقاء الأكثر كفاءة تقنيا تخفي وظيفة اجتماعية، يعنى الاعتراف بأصحاب نظام الكفاءة الاجتماعية، وحقّ القيادة،( الجيل الثاني) les nisei كما نقول هنا. لنا في فرنسا كما في اليابان، نبالة مدرسية وراثية لقادة الصناعة، وأطباء كبار وموظفين سامين بل حتّى قادة سياسيين، و تتضمّن هذه النبالة المدرسية جانبا هامّا من ورثة النبالة القديمة لعلاقة الدم التي حوّلت ألقاب النبالة إلى ألقاب مدرسية.

  هكذا، تميل المؤسّسة المدرسية التي اعتقدنا منذ أزمان أخرى، أنّها يمكن أن تدمج شكلا من الاستحقاقيةméritocratie أو الجدارة بتفضيل المواقف الفردية بالنسبة إلى الامتيازات الموروثة التي تميل إلى إرساء، من خلال العلاقة الخفيّة بين الموقف المدرسي والموروث الثقافي. ويكفي أن نعود إلى التاريخ،  حتى نرى أن هيمنة هذه النبالة المخصوصة، التي لها صلة بالدولة، هي استكمال لمسار طويل: نبالة الدولة، في فرنسا ومن دون شكّ أيضا في اليابان، هي جسم خلق نفسه بخلقه الدولة، و كان عليه خلق الدولة لخلق نفسه بوصفه محتكرا شرعيا لسلطة الدولة. إنّ نبالة الدولة هي الوريث لما نسمّيه في فرنسا نبالة الثوب Noblesse de robe، التي تتميّز عن نبالة السيف Noblesse d’épée، التي تتحد بها أكثر فأكثر غالبا بالزواج بقدر ما نتقدّم في الزمن، فيما تدين به لمنزلتها من رأسمال ثقافي، من نوع حقوقي بالأساس.

 لا يمكنني التذكير هنا بمجموع التحليل التاريخي الذي رسمته في الفصل الأخير من نبالة الدولة بالارتكاز على العمال التي قلّ ما تُتناول، أعمال مؤرخي التربية ومؤرخي الدولة ومؤرخي الأفكار. فقد تصلح كأساس لمقارنة منهجية مع المسار، المماثل تماما في رأيي بالرغم عن الاختلافات الظاهرة، والتي قادت فئة الساموراي والتي تحوّل قسم منها بعدُ إلى بيروقراطية متعلّمة أثناء القرن 17م، إلى تعزيز، في النصف الثاني من القرن 19م، دولة حديثة مؤسسة على جسم من البيروقراطية وتجمع مع أصل نبيل وثقافة مدرسية متينة ومنشغلة بإثبات استقلاليتها في وبطقس الدولة الوطنية المتجذّرة بشكل جدّ مباشر في الارستقراطية وفي إحساس قويّ بالتفوّق بالنسبة إلى الصناعيين والتجّار، دون الحديث عن السياسيين.

  إذن، ولكي نعود إلى الحالة الفرنسية، نلاحظ أن اختراع الدولة، وبالخصوص، أفكار ” الجمهور”، و” الخير العام” و” الخدمة العمومية”، التي هي لبّها، غير قابل للفصل عن اختراع المؤسسات التي تقيم سلطة نبالة الدولة وإنتاجها: على سبيل المثال، مراحل تطوّر المؤسسة التعليميّة و، وبالخصوص، ظهور مؤسسات من نوع جديد في القرن 18م، المدارس الإعدادية، التي تمزج بين بعض أقسام الارستقراطية وبورجوازية الثوب في المبيتات، والتي تفصح عن النظام الحالي للمدارس الكبرى، وتتوافق مع مراحل تطوّر بيروقراطية الدولة ( وبشكل ثانوي، الكنيسة على الأقلّ في القرن16م). إنّ التسمية الذاتية للحقل البيروقراطي ومضاعفة المواقف المستقلّة للسلطات المؤقّتة والروحية القائمة، ترافق تطوّر بورجوازية ونبالة ثوب، مصالحها، في مجال إعادة الإنتاج، متصّلة اتصالا كبيرا بالمدرسة؛ إنْ من ناحية أسلوب حياتها، الذي يجعل للممارسات الثقافية مكانا كبيرا،أو من ناحية نسق قِيَمِهَا، هذا الضرب من البورجوازية الفكرية bildungsburgertum مثلما يقول الألمان، مُعَرِّفَةً نفسها في مقابل من جهة رجال الدين، و من جهة أخرى نبالة السيف، التي تنقد ما لديها من إيديولوجيا النّسب، باسم الجدارة وبما سيسمّى فيما بعد الكفاءة. و في النهاية، تُخترح الايدولوجيا الحديثة جماعيا في الثوب، – حتّى لو يعزل تاريخ الأفكار أسماء الأعلام- إيديولوجيا الخدمة العمومية، والخير العام والشيء العمومي، وباختصار ما سُمّيَ ” الانسانوية المدنية للموظّفين” الذي سيلهم الثورة الفرنسية، من خلال المحامين الجيرونديين girondins خاّصة.

  إنّ الطبقة الجديدة إذن، ومن أجل فرض ذاتها في الصراعات التي تواجهها ببقية الأجزاء المهيمنة، نبالة السيف وأيضا بورجوازية الصناعة والتجارة، هذه الطبقة الجديدة التي ترتكز سلطتها على الرأسمال الجديد، الرأسمال الثقافي، يجب عليها أن ترفع مصالحها الخاصّة إلى درجة من الكونية السامية، وتخترع صيغة للإيديولوجيا يمكن أن نسمّيها ” تقدّمية” ( بالنسبة إلى المتحوّلات الأرستقراطية التي يخترعها في وقت لاحق الموظّفون الألمان والموظّفون اليابانيون)، إيديولوجيا الخدمة العامّة والاستحقاقية méritocratie: بالمطالبة بالسلطة باسم الكوني، وتقوم النبالة والبورجوازية بتعزيز تموضع هذه السلطة ومن هنا، الفعالية والكفاءة التاريخية للكوني ولا يستطيعان استخدام الدولة التي يزعمان استخدامها دون خدمة و القيم الكونية إن ببعض الشيء،و التي يماهونها بالدولة.

 2 الفنّ أم المال؟

   يمكنني هنا أن أوقف حديثي، ولكن أريد أن أعود سريعا على صورة شيطان ماكسوال التي وظّفتها لحاجة إلى التواصل ولكنّها، مثل أيّ مجاز مستعار من الفيزياء و بشكل أخصّ من الديناميكا الحرارية، هي صورة ضخمة لفلسفة عمل خاطئة تماما ولرؤية محافظة للعالم الاجتماعي ( مثلما يشهد بذلك الاستعمال الواعي أو اللاواعي الذي يقوم به كل أولئك الذين، هيدجر مثلا، يتّهمون ” التسوية” nivellement والإبادة المتدرّجة للاختلافات “الأصيلة ” في اعتيادية مسطّحة وباهتة لقيم ” متوسّطة”). وبالفعل، فليس الفاعلون الاجتماعيون، التلاميذ الذين يختارون شعبة أو تخصّصا، والأسر التي تختار مؤسّسة لأبنائهم، الخ.، جُزَيْئات خاضعة لقوى ميكانيكيّة وفاعلة تحت تأثير الأسباب؛ و ليسوا فضلا عن ذلك ذوات واعية وعارفة تنقاد لعوامل وفاعلة عن معرفة تامة، مثلما يعتقد في ذلك المدافعون عن “نظرية الفعل العقلي”Rational Action Theory ( يمكنني أن أبيّن، لو كان لي متّسعا من الوقت، بأنّ هذه الفلسفات، المتعارضة كليّا في الظاهر، تتداخل في الواقع بما أنه، إذا كانت المعرفة على صعيد الأشياء والأسباب كاملة وإذا ما كان الاختيار منطقيا تماما، فلا نرى فيم تختلف عن الخضوع الخالص والبسيط لقوى العالم، وفيم بالتالي، يظلّ اختيارا).

  إنّ ” الذوات” هم في الواقع ذوات فاعلة وعارفة تمتلك حسّا عمليّا sens pratique ( هنا العنوان الذي أعطيته للمؤلف حيث فيه أتوسع في هذه التحاليل)، نسقا مكتسبا من المرجعيات، ومبادئ رؤية وتقسيم ( ما نسمّيه في العادة ذوقا)، وبنيات عرفانية دائمة ( التي هي في أغلبها نتيجة إدماج البنيات الموضوعية) ومخطّطات أو ترسيمات عمل schèmes d’action توجّه إدراك الوضعية والجواب الملائم. فـ”الهابيتوس”L’habitus هي هذا النوع من الحسّ العملي لما هو للإنجاز في وضعية معطاة- ما نسمّيه، في الرياضة، حسّ اللعب، وفنّ استشراف مستقبل اللعب الذي هو مرسوم بتنقيط pointillé en في الحالة الراهنة للعب. ولنضرب مثلا لذلك في ميدان التربية، يصبح حسّ اللعب شيئا فشيئا ضروريا بقدر ما، مثلما الشأن في فرنسا وفي اليابان أيضا، تتنوّع الشعب و تتشوّش ( كيف الاختيار بين مؤسسة مرموقة تتقهقر ومدرسة ملجأ هي في تصاعد؟) . يصعب توقّع حركة البورصة للقيم المدرسية وأولئك الذين يمكن أن يستفيدوا، من خلال عائلاتهم وآباءهم وإخوانهم أو أخواتهم الخ …أو علاقاتهم، بمعلومة حول دوائر التدريب ومردودها التفاضلي، الحالي والممكن، يمكن أن يصرفوا على نحو أمثل استماراتهم المدرسية والاستفادة بشكل أفضل من الرأسمال الثقافي. هنا تكمن إحدى الوساطات التي من خلالها تربط النجاح المدرسي – والاجتماعي- بالمنبت الاجتماعي.

  وبتعبير آخر، فإنّ ” الجزيئات ” التي تتقدّم نحو ” الشيطان” تحمل في ذاتها، أي في “الهابيتوس” habitus، قانون اتجاهها وحركتها، ومبدأ ” التوجّه” الذي يوجّها نحو مؤسسة ما أو تخصص ما. ولقد توسّعتُ في تحليل كيف أنّ الوزن النسبي، في رأسمال المراهقين ( أو عائلاتهم)، وفي الرأسمال الاقتصادي والرأسمال الثقافي ( ما اسمّيه بنية رأسمال) يجد نفسه مترجما في نسق خيارات تقوده إلى تفضيل إمّا الفنّ على حساب المال، وأشياء الثقافة على حساب أمور السلطة، الخ..، وإمّا العكس؛ وكيف لهذه البنية للرأسمال، ومن خلال نسق الخيارات التي تنتجها، أن توجّههم( المراهقون او عائلاتهم)، في اختياراتهم المدرسية، ثم الاجتماعية، نحو هذا القطب أو الآخر لحقل السلطة، القطب الفكري أو قطب الأعمال، وتبنّي الممارسات والآراء المطابقة( هكذا يُفهم ما لا يستقيم بذاته لأنّنا تعودّنا عليه، بمعنى أنّ تلاميذ مدرسة العليا، أساتذة المستقبل أو المفكرين يعتبرون أنفسهم بالأحرى في جانب اليسار، يطالعون نشريات فكرية، ويرتادون كثيرا المسرح والسينما، ويمارسون الرياضة قليلا الخ ..، بينما يعتبر تلاميذ مدارس التجارة أنفسهم من جهة اليمين، و ينصرفون بكثافة إلى الرياضة، الخ …)

  وبالمثل، يوجد من بين أشياء أخرى، عوضا عن الشيطان، آلاف من الأساتذة يطبقون على التلاميذ مقولات الإدراك والتقييم المهيكل وفق نفس المبادئ ( لا أستطيع هنا توسيع التحليل الذي قمت به لمقولات الفهم المهنيl’entendement professoral، وأزواج النعوت من قبيل مميّز/ جدّي، التي يطبقها المعلمون، لتقييم منتجات تلاميذهم وكل كيفيّات وجودهم وعملهم). وبعبارة أخرى، فإنّ فعل النظام المدرسي هو حاصل أفعال تقريبا مدبّرة من آلاف شياطين ماكسوال الصغيرة التي، باختياراتها المرتّبة وفق نظام موضوعي ( البنى المُنَنْيٍنَة structurantes، هي كما أسميتها، بُنى مُبَنْيَنَة structurées)، تتجّه إلى إعادة إنتاج هذا النظام دون معرفته ولا الرغبة فيه.

  غير أن مجاز الشيطان خطير، أيضا، لأنّه يفضّل وهم المؤامرة، التي تأزم غالبا الفكر النقدي، فكرة إرادة متيقّظة ستكون مسئولة عن كلّ ما يحدث، من أجل الأفضل وخاصّة من أجل الأسوأ، في العالم الاجتماعي. وإذا ما كان من حقّنا وصفه بمثل ميكانيزم، من أجل حاجيات التواصل، فذاك لأنّه يعاش أحيانا كآلة جهنّمية (نتحدّث هنا عن “جحيم النجاح”)، بما هو مأزق تراجيدي، خارجي وأعلى من الفاعلين، هو أن كلّ فاعل ملزم على نحو بالمشاركة، حتى يوجد، بالنسبة إلى لعبة تفرض عليه جهودا كبيرة وتضحيات جسيمة.

  وأعتقد أنّ النظام الاجتماعي، في الواقع، والذي يضمن نمط أعادة إنتاج مكوّنات مدرسية يلقى اليوم حتّى بالنسبة إلى الذين يستفيدون منه أكثر، درجة من التوتّر قابلة للمقارنة تماما لما يلقاه مجتمع البلاط، مثلما يصفه “إلياص” Elias، نظام يُفرض على هؤلاء بالذات الذين كان لهم امتياز الانتماء إليه:” في نهاية التحليل، إنّها فعلا، ضرورة الصراع من أجل حظوظ القوّة، والرتبة و الفخامة المهدّدة دوما تدفع المعنيين، بالذات بموجب البنية الترابية لنظام السيطرة، إلى الخضوع إلى احتفالية يجدها الجميع حملا ثقيلا. فليس لأيّ من الأشخاص المكوّنين للفريق، القدرة على تفعيل إصلاح ما. فأقلّ محاولة للإصلاح، وأقلّ تحوير للبنيات التي هي هشّة بقدر ما هي متوتّرة قد يؤدّي لا محالة إلى مراجعة، التنقيص أو حتّى إلغاء حقوق و امتيازات الأفراد والعائلات. ويمنع ضرب من المحرّم الطبقة العليا لهذا المجتمع من المساس بهذا المعنى بمثل حظوظ القوّة فما بلك بإلغائها. فكلّ محاولة في هذا الاتجاه ستحشر ضدّها طبقات واسعة من أصحاب الامتيازات، الذين يخشون، وقد يكونوا على حقّ، على بنى السلطة التي منحتهم هذه الامتيازات أن تكون في خطر التنازل أو الانهيار إذا ما مسسنا بأقلّ تفاصيل النظام القائم . هكذا، لم يتغيّر أيّ شيء”. في اليابان كما في فرنسا، يكون الآباء الغاضبون والشباب المنهكين والموظّفون اليائسون بفعل منتوج تعليم يجدونه غير ملائم، هم ضحايا عاجزون لميكانيزم ليس شيئا آخر غير أثر متراكم لإستراتيجياتهم الناجمة والمحكومة بمنطق منافسة

الكلّ للكلّ

  وحتّى ننهي حسابنا أيضا مع التمثّل المبتور والكاريكاتوري الذي أضفاه بعض المحلّلين سيئي الاطلاع أو سيئي النية، على أعمالي، يجب أن يتوفّر لي الوقت لأبيّن هنا كيف أنّ منطق نمط الإنتاج ذي مكوّن مدرسي- وخاصّة طابعه الإحصائي-، والتناقضات التي تسمه، يمكن أن يكون في ذات الوقت، ودون تناقض، هو المبدأ في إنتاج بُنَى مجتمعات متقدّمة وعدد من التغيّرات التي تلحقها. وتمثّل هذه التناقضات(التي حلّلتها خاصة في فصل التميّز المعنون” الترتيب واللاترتيب وإعادة الترتيب”) دون شكّ مبدأ خفيّا لبعض النزاعات السياسيّة المميزة للآونة الخيرة ّ، مثل حركة ماي 68 التي، بحكم أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، قد صدمت تقريبا وبشكل متزامن، ودون أن نقدر على افتراض أيّ تأثير مباشر لها، الجامعة الفرنسية والجامعة اليابانية. لقد حللت طويلا، في مؤلف آخر من مؤلفاتي، جعلت له عنوانا، بشيء من التهكّم ” أومو أكاديميكوسHomo academicus ( الانسان الكاديمي)، جملة العوامل التي حددت أزمة العالم المدرسي التي كانت حركة ماي 68 تعبيرا بارزا لها: فائض إنتاج لأصحاب الشهائد وإنقاص قيمة الشهائد ( ظاهرتان تؤثران، إذا ما سلمت بما قرأت، أيضا في اليابان)، إنقاص قيمة منزلة الجامعيين التابعين ( الملحقين) خاصّة، الذين تضاعف عددهم دون أن تفتح لهم مسارات مهنية بشكل متكافئ، بموجب أنّ البنية التقليدية تماما للتراتبيّة الجامعية ( وهنا أيضا أود أن أقوم ببحث مقارن عن الشكل الذي تتخذه في الحالة اليابانية، علاقات الزمن بالسلطة الجامعية على نحو ما حلّلته في فرنسا).

  وأعتقد أنّه في تحوّلات الحقل المدرسي و، خاصّة، تحوّلات العلاقات بين الحقل المدرسي والحقل الاقتصادي، وفي تحوّلات التطابق بين العناوين المدرسية والبريد، سنجد المبدأ الحقيقيّ للحركات الاجتماعية الجديدة التي ظهرت في فرنسا، في امتداد لماي 68 و حديثا أيضا مثل ظاهرة المستجدّة “التنسيقيّات” coordinations “، والتي، إذا ما صدّقت الكتاب الذين أقرا لهم، بدأت تظهر في ألمانيا أيضا واليابان، لدى العمال الشبان خاصّة، الأقلّ تمسّكا بالآداب التقليدية للعمل من القدماء. وبالمثل، فليست التغيّرات السياسية التي تلاحظ في الاتحاد السوفياتي والتي تلوح في الأفق في الصين دون صلة بالنموّ الكبير بالقسم الكبير من سكان هذه البلدان الذي مرّ بواسطة التعليم العالي وبما يتبعه من تناقضات، وأوّلا داخل حقل السلطة بالذات.

  لكن، علينا أن نفحص أيضا الرابط بين الانحراف المدرسي الجديد، الأكثر تطوّرا في اليابان منه في فرنسا، ومنطق المنافسة المشدّدة التي تهيمن على المؤسسة المدرسية وخاصة تأثير المصير l’effet de destin الذي يمارسها النظام المدرسي على المراهقين: تفرض النظام المدرسي وغالبا بقسوة نفسية كبيرة جدا، أحكامه الشمولية وقراراته غير القابلة للاستئناف التي تنظم كلّ التلاميذ في تراتبية متفردة لأشكال التميّز- المهيمن عليها اليوم بواسطة تخصّص،الرياضيات . ويجد المَقْصِيُّون أنفسهم محكوم عليهم باسم معيار جُرّب فصحّ ومعترف به جماعيا، وبالتالي غير قابل للنقاش نفسيا وغير مناقش، هو معيار الذكاء: أليس لهم أيضا ملجأ آخر، حتّى يعيدوا بناء هوية مهدّدة، غير القطيعات الحادّة مع نظام مدرسي ونظام اجتماعي (لقد لا حظنا في فرنسا، أن عددا من عصابات المنحرفين يتشكّل ويتلاحم في الثورة ضد المدرسة) أو، مثلما هو الحال، الأزمة النفسية، بمعنى المرض الذهني أو الانتحار).

  ويجب أخيرا تحليل كلّ الاخلالات التقنية، من منظور النظام ذاته، أي من وجهة نظر المردودية التقنية تحديدا ( في المؤسسة المدرسية وما بعدها،)، التي تنتج عمّا يسبق من استراتيجيات إعادة الإنتاج الاجتماعي: لن أذكر كمثال سوى المنزلة الدنيا التي تعطيها العائلات موضوعيا للتعليم التقني والامتياز الذي تمنحه للتعليم العام. من غير المؤكّد، في اليابان كما في فرنسا، أنّ القادة الكبار الذين هم ذواتهم قد تخرجوا من الجامعات العمومية الكبرى، يدعون إلى إعادة الاعتبار للتعليم التقني الذي اختزل في ملاذ أو مدفن نفايات( وضحية، خاصة في اليابان، لمنافسة تعليم المؤسسات)، معتبرين تنزيل أبنائهم في التعليم التقني كارثة. يوجد نفس التناقض في موقف نفس القادة إزاء نظام تربوي يدينون له بموقعهم إن لم يكن بالسلطة ومشروعية ممارستهم لها: كما لو أنهم يريدون الاستفادة بالمنافع التقنية للفعل الاجتماعي دون تحمّل تبعاته الاجتماعية- من قبيل المتطلبات والضمانات المتصلة بامتلاك الألقاب التي يمكن أن نقول عنها كونية، مقابل الألقاب ” الخاصة بدار” التي تمنحها المؤسّسات.-، إنّهم يفضلون التعليم الخاص ويسندون أو يستنبطون كل المبادرات السياسية التي تهدف إلى اختزال استقلالية المؤسسة التعليمية وحرية هيئة التعليم ؛ ويكشفون عن أكبر غموض في النقاش حول تخصص التعليم، كما لو أنهم يريدون الاستفادة بمنافع جميع الاختيارات، والحدود والضمانات المتصلة بتعليم رفيع التخصص والانفتاح على استعداد يتيحه تعليم الثقافة العامّة، خاصيته تطوير القدرات التكيف المناسبة لموظّفين متحركين و” مرنين”، أو أيضا الضمانات والتأمينات التي يوفّرها ” السادة الشباب” المتخرجين من المدرسة القومية للإدارة أو من توداي، Todaï,، المتصرفين المتوازنين لوضعيات التوازن، وتحمّس ” شبابٌ ذئاب” jeunes loups” الخارجين عن الصفّ، والمفترضين أكثر تلاؤما لوقت الأزمة.

  لكن، إن جاز لعالم الاجتماع، لمرة واحدة، القيام بتوقعات، فمن غير شكّ، في العلاقة المتوتّرة بشكل متزايد بين نبالة الدولة الكبيرة والصغيرة التي يقيم فيها مبدأ النزاعات الكبرى للمستقبل: يسمح كل شيء بالفعل بافتراض أنّه، وقبالة المدارس الكبرى في فرنسا، والجامعات العمومية الكبرى في اليابان، التي تميل أكثر فأكثر نحو احتكار دائم لكلّ المواقف الكبرى للسلطة، في البنك، وفي الصناعة، وفي السياسة، سيكون الماسكون بالألقاب من درجة ثانية، بمثابة ساموراي صغير للثقافة، وسيكونوا دون شكّ محمولين، في صراعهم من أجل توسيع فريق السلطة، إلى إثارة تبريرات كونية جديدة، مثلما يفعل في القرن16 م في فرنسا وحتى في أوائل الثورة الفرنسية، النبلاء القرويون الصغار أو، في القرن19م، الساموراي الصغير المنبوذ الذي يقود الثورة باسم ” الحرية والحقوق المدنية” ضدّ إصلاح مايجيMeiji.

بيار بورديو من كتاب: “مبررات عملية حول نظرية الفعل” . الفصل الثاني: الرأسمال الجديد ص 31