مجلة حكمة
الاستقلالية في السياسة بول ريكور

الاستقلالية في السياسة

الكاتببول ريكور
ترجمةعبد الوهاب البراهمي

“إن ما يظل على الدوام موضع إعجاب في الفكر السياسي للفلاسفة اليونانيين ، هو أنه لا أحد من بينهم – ربما ما عدا أبيقور – لم يَنْقَد إلى إقصاء السياسي مما يستكشف من حقل المعقول؛ جميعهم أو تقريبا عرفوا أنه إذا اعتُبر السياسي شريرا، غريبا و ” آخر” ، في نظر العقل و الخطاب الفلسفي، وإذا قذف بالسياسي إلى الشيطان ، فإن العقل ذاته – حرفيا – سيغرق. إذ أنه لن يكون إذن عقلا للواقع وفي الواقع، مادام الواقع الإنساني سياسيا. وإذا لم يكن في الواقع السياسي للبشر أي شيء معقولا، فإن العقل ليس واقعيا، إنه يسبح في الفضاء، وستُنْفَى الفلسفة إلى العوالم المخفية للمثل الأعلى والواجب. لم تخضع أيّ فلسفة عظيمة لهذا ، حتى لو  بدأت بمحاكمة الوجود اليومي (بالذات) وانحطت وأعرضت أولا عن العالم؛ تريد كل فلسفة عظيمة فهم الواقع السياسي لتفهم ذاتها.

غير أن السياسيَّ لا يكشف عن معناه إلا إذا كان مقصده – غايته( تيلوس) يمكن أن يكون مرتبطا  بالمقصد الأساسي للفلسفة ذاتها ، بالخير والسعادة. فالقدامى لا يدركون أن سياسة ما- أو فلسفة سياسية – يمكن أن تنطلق من شيء آخر غير لاهوت الدولة، من” الشيء العمومي”، المموقع هو ذاته بالنسبة إلى الغاية القصوى للبشر؛ هكذا تبدأ السياسة لدى أرسطو: ” إن كل دولة كما نعلم هي مدينة ، مبدأها الأمل في خير مثلما هو شأن كل اجتماع، إذ غاية كل أعمال البشر هي ما تقدًر هي أنه خير. فلكل المجتمعات إذن غاية هي بعض المنافع، وتقدم تلك التي هي أساسية وتحوي في ذاتها جميع المنافع الأخرى على كونها أعظم المنافع الممكنة. نسميها دولة أو مدينة.” إنه “بالعيش الكريم” يتشارك السياسي والإيتيقي.

عندئذ، فإن التفكير في استقلالية السياسي، هو العثور في لاهوت الدولة عن طريقته اللازمة في المساهمة في إنسانية الإنسان. ولا يمكن لخصوصية السياسي أن تظهر إلا بواسطة نظرية الغائية هذه؛ إنها خصوصية هدف، قصد. يطلب الناس بواسطة الخير السياسي خيرا لن يدركوه دونه، وهذا الخير جزء من العقل ومن السعادة. ويكوّن هذا الطلب وهذه الغائية طبيعة المدينة؛ “فطبيعة” المدينة غايتها، مثلما أن ” طبيعة الشيء غايته”(أرسطو).

انطلاقا من هذا فإن الفلسفة السياسية مدعوة إلى البحث عن كيفية إقامة هذا المعنى، الذي هو “غاية ” و” طبيعة” الدولة ، في الدولة ككل، كجسم بأسره، وبالتالي إلى البحث عن كيفية تكوّن إنسانية للإنسان عن طريق الجسم السياسي؛ فالقناعة الراسخة للفلسفة السياسية ككل هي أن الكائن ” الذي يوجد بحكم طبيعته لا بحكم الصدفة خارج أي وطن، سيكون فردا مكروها، يتفوق جدا على الإنسان أو دونه بكثير…إذ أيّ أحد لا يحتاج لأناس آخرين أو لا يمكنه العزم على البقاء معهم، فهو إله أو إنسانا فظّا، ثمّ إن الميل الطبيعي يقود البشر إلى هذا الضرب من المجتمع.” أن يمرّ مصير البشر عبْر جسد، عبر كلّ وعبر مدينة تتميّز “باكتفائها”، فإن ذلك يمنع من أن نبدأ بمقابلة الدولة بالمواطن. وعلى العكس من ذلك، فإن منظور الفلسفة هو أن الفرد لن يصير إنسانا إلا في هذه الكليّة التي هي ” كونية المواطنين”؛ وعتبة الإنسانية هي عتبة المواطنة، ولن يكون المواطن مواطنا إلا بالمدينة؛ هكذا تتّجه الفلسفة السياسية من السعادة، التي يطلبها سائر البشر إلى الغاية الخاصة للمدينة ، ومنها إلى طبيعتها كشمولية كافية، ومن هذه إلى المواطن؛ لأن ” الدولة هي الموضوع القارّ للسياسة والحكم .” و تنطلق حركة الفكر السياسي حصرا من المدينة إلى المواطن لا العكس: ” فذاك  مواطن لأنه هو الذي خضع في البلد الذي يقيم فيه للقضاء وللقرار”؛ يتميز المواطن إذن بخاصية السلطة: ” إذ نعرّفه بمشاركته في القوّة الشعبية”.

وينمّي المواطن بدوره ” الفضائل” الخاصّة لهذه المشاركة في القوة الشعبية؛ إنها الفضائل الخاصّة التي تضبط علاقة الحكم بأناس أحرار والتي هي فضائل طاعة متميّزة عن العبودية، مثلما تتميز قيادة المدينة الجديرة بهذا الاسم عن الاستبداد. هكذا يتجه الفكر السياسي من المدينة إلى المواطنة ومن هذه إلى التمدّن لا العكس.

ذاك هو نظام الفكر الذي يقترحه النموذج القديم؛ وذاك هو أيضا نظام الفكر الذي يجب أن يخضع له كل فرد يريد أن يملك الحق في الكلام جديا عن الداء السياسي. فأي تأمّل في السياسة سينطلق من مقابلة “الفيلسوف” “بالمستبدّ” وسيردّ كل ممارسة للسلطة إلى أذيّة إرادة القوة، سينغلق إلى الأبد في نزعة أخلاقية ذات نتيجة عدمية؛ لابد للتفكير السياسي في حركته الأولى أن يطرد صورة ” المستبدّ” إلى الهوامش ويتركها تبدو كالإمكانية المخيفة التي لا يمكن له تحاشيها لأن البشر شريرون؛ غير أنها لن تكون موضوع علم السياسة:” يجدر أن نشير في نهاية الأمر إلى الاستبداد كأسوأ أنواع الفساد والأقل جدارة باسم المؤسسة (الدستور) . لذلك استبقيناها أخيرة”.(أرسطو).

لكن استقلالية السياسي هي شيء أكثر من المصير المشترك الغامض للحيوان الإنساني وأكثر من هذا الانتماء للإنسان، بفضل المواطنة، إلى الإنسانية؛ إنها بأكثر دقةّ خصوصية الرابط السياسي في مقابل الرابط الاقتصادي.إن هذه الحركة الثانية للتفكير أساسية فيما بعد ، إذ سيكون الداء السياسي خصوصيا أيضا بمثل هذا الرابط وكذلك علاج هذا الداء.

ويبدو لي أنه لا يمكن لنا مباشرة نقد أصالة الحياة السياسية دون أن نكون قد عينّا جيدا من قبل حدود المجال السياسي واعترفنا بصلاحية التمييز بين السياسي والاقتصادي. فكل نقد يفترض هذا التمييز ولا يلغيه أبدا.

ولكن، ما من تفكير يعدّ لهذا الاعتراف أفضل من تفكير روسو ؛ فالعثور على “العقد الاجتماعي”   وتجديد الدافع الأعمق له في حدّ ذاته ، هو العثور في الآن نفسه على معنى السياسي مثلما هو ؛ ويبدو لي أنه لابد لأي رجوع لروسو، ينوب عن رجوع للقدامى ـ إلى سياسة أرسطو بالخصوص،ـ  أن يوفّر القاعدة والخلفية لكل نقد للسلطة، رجوعا لن يعرّف  البداية بنفسه.

إن فكرة العقد الاجتماعي، هذه الفكرة العظيمة التي لا تردّ ، هي أن الجسم السياسي ينشأ عن فعل افتراضي، عن اتفاق ليس هو بحدث تاريخي، ولكنه لا يطفو إلا في الفكر. هذا الفعل هو تعاقد : لا تعاقد البعض مع البعض الآخر، و لا تعاقد تنازل لفائدة طرف ثالث خارج التعاقد ،هو صاحب السيادة ، الذي ، بعدم انخراطه في التعاقد تكون سيادته مطلقة؛ كلاّ، إنما هو تعاقد كلّ فرد مع الجميع، تعاقد ينشأ بموجبه الشعب كشعب بإنشائه في دولة. هذه الفكرة الرائعة التي أسيء فهمها غالبا وكثيرا ما تنقد، هي المعادلة الأساسية للفلسفة السياسية: ” إيجاد شكل من الاجتماع يدافع ويحمي بكل القوة المشتركة شخص وممتلكات كل شريك اجتماعي وبواسطته يتوحد كل فرد مع الجميع ولا يطيع إلا نفسه ويبقى حرا بمثل ما كان من قبل.” وليس هذا التعاقد مقايضة الحرية المتوحشة في حالة الطبيعة بالأمن، بل الانتقال إلى وجود مدني بواسطة القانون المتفق عليه من قبل الجميع.

قد نقول ما نشاء وكل ما يجب أن يقال ضد التجريد، ضد المثالية، ضد مكر هذا التعاقد،ـ وهذا حقيقي أيضا ولكن قد نقوله في موضعه وفي أساسه ـ ولكن لابد أولا من الاعتراف بأن في هذا التعاقد يكمن الفعل المؤسس للأمة- للدولة؛ إنه هذا الفعل المؤسس الذي لا يمكن لأي جدلية اقتصادية أن تحدثه ؛ إنه هذا الفعل المؤسس هو الذي يكوّن السياسي كما هو.

ألم يحدث هذا التعاقد؟ تحديدا، إنه من طبيعة الاتفاق السياسي، الذي يصنع وحدة الجماعة الإنسانية المنظمة والموجهة من قبل الدولة ، اتفاقا ليس بالإمكان تحصيله إلا في فعل لم يحدث، في تعاقد لم يبرم، في تعاقد ضمني لا يظهر إلا في فعل الوعي السياسي، في الاستذكار ، في التفكير.

بالتأكيد لأجل هذا يتسرب التمويه بيسر كبير في السياسي؛ ينزع السياسي إلى الكذب لأن للرابط السياسي واقعا مثاليا: ـ هذه المثالية، هي مثالية مساواة كل فرد أمام الجميع،” إذ عندما يهب كل فرد نفسه كلية، يكون الوضع مساو للجميع ، ولما كان الوضع مساو للجميع ، فلا منفعة لأحد في جعله مكلفا للآخرين”ـ ولكن قبل أن يوجد الدهاء الذي يتخفى وراءه استغلال الإنسان للإنسان ، كانت المساواة أمام القانون، المساواة المثالية لكل فرد أمام الجميع، هي حقيقة السياسي. إنها التي تصنع واقع الدولة. وبالعكس كان واقع الدولة الذي لا يختزل في صراع طبقات، في ديناميكية الهيمنة والاغتراب الاقتصادي، هو قدوم مساواة لن تكون قابلة للاختزال تماما في إسقاط لمصالح الطبقة. فإذا اختزلت الدولة في إسقاط مثالي لمصالح الطبقة المهيمنة على مجال الحقوق؛ فإنه كلما كانت هناك دولة، وجسم سياسي، وتنظيم للجماعة التاريخية، كان هناك واقع لهذه المثالية؛ ثمّ إن هناك وجهة نظر للدولة لا يمكن مطابقتها إطلاقا بظاهرة هيمنة طبقة. وإذا ما اختزلت الدولة في إسقاط مثالي لمصالح طبقة مهيمنة، فإنه لن يكون هناك دولة سياسية، بل سلطة استبدادية: غير أن الدّولة حتى الأكثر استبدادية هي أيضا دولة من حيث أن شيئا ما من الخير العام لكونية المواطنين يمرّ عبر الاستبداد ويتعالى على مصالح الجماعة أو الجماعات المهيمنة.ومع ذلك وحدها تستطيع الاستقلالية المتأتية من السياسي تفسير التوظيف الماكر للمساواة لتغطية الاستغلال الاقتصادي: إذ لن تعبر الطبقة المهيمنة عن حاجة لإسقاط مصالحها على الحيلة الحقوقية، لو لم تكن هذه الحيلة الحقوقية أولا شرط الوجود الواقعي للدولة؛ ولكي تكون طبقة ما هي الدولة، وجب أن تدمج مصالحها ضمن فلك كونية الحق؛ هذا الحق لا يمكنه أن يقنّع علاقة القوة إلا بقدر ما تنبثق سلطة الدولة ذاتها من مثالية الاتفاق.

أنا لا أجهل الصعوبات التي تثيرها مقولة الإرادة العامة، والسيادة لدى روسو؛ فهو يتحدث بعد في مخطوط جينيف عن ” تورط السياسي في نشأة الدولة ” (مثلما كان فعل النفس على الجسد، في خصوص نشأة الإنسان، هو ورطة الفلسفة)؛ وليس روسو بمسئول عن هذه الأخطاء، إنما هي أخطاء ملازمة للسياسيّ كما هو: إن اتفاقا يكون اتفاقا افتراضيا وينشأ جماعة واقعية ، ومثالية للحق تشرّع واقعية القوّة،وحيلة هي على استعداد تامّ لتغطية مكر طبقة مهيمنة ،لكنّه، قبل أن يفسح المجال للكذب ، يؤسس حرية المواطنين، حرية تجهل الحالات الخاصّة، والفوارق الواقعية للقوة، والأوضاع الحقيقية للأشخاص لكنه اتفاق قيمته في تجريده بالذات،ـ تلك هي بالضبط معضلة السياسي.

والواقع ،إن روسّو هو أرسطو، الاتفاق الذي يولّد الكيان السياسي، إنه، وبلغة إرادوية وعلى صعيد الاتفاق الافتراضي ، (من قبيل ” كما لو”) ، “تيلوس”télos المدينة حسب اليونانيين. فحيثما يقول أرسطو «طبيعة”، غاية. يقول روسو ” اتفاق “، ” إرادة عامة”؛ إنه نفس الشيء من حيث الجوهر، إنه في كلا الحالتين خصوصية السياسي ، وقد انعكس في الوعي الفلسفي. فقد تعرّف روسو على الفعل الاصطناعي لذاتية مثالية ، “لشخص عمومي” حيث حدد أرسطو طبيعة موضوعية؛ غير أن الإرادة العامة لروسو موضوعية بينما الطبيعة الموضوعية لأرسطو هي تلك التي للإنسان الذي يطلب السعادة. فالاتفاق الأساسي لهذه الصيغ يبدو في تبادلهما بالذات. ويتعلق الأمر في كلا الحالتين ، عبر تيلوس غاية المدينة والاتفاق المولّد للإرادة العامة، بإبراز توافق إرادة فردية وانفعالية مع إرادة موضوعية وسياسية ، وباختصار بتمرير إنسانية الإنسان عبر المساواة والإرغام المدني.

روسو هو أرسطو . ربما قد يكون من اللازم الإقرار بأن هيجل لم يقل شيئا آخر. فهذا مهم ّ.بما أن ماركس ، كما سنرى ، قد باشر نقد الدولة البورجوازية و في اعتقاده، كل دولة ، من خلال نقد” فلسفة الحق” لهيجل.سيكون هذا كل الفكر السياسي للغرب ممثّلا في أرسطو، روسو وهيجل الذي سيستدعيه النقد الماركسي.

وعندما يرى هيجل في الدولة تحقق(تعيّن) العقل في الإنسان، فهو لا يفكر في دولة معينة ، ولا في أيّ دولة، بل في هذا الواقع الذي ينكشف في ومن خلال الدول العينية ، التي تصل إليها الأمم حينما تتجاوز حدّ الانتظام في دولة حديثة، بواسطة عناصر متفرقةّ ، دستور وإدارة، الخ. وتنضمّ إلى المسؤولية التاريخية في إطار علاقات دولة بدولة. وتبدو الدولة، حينما تفهم على هذا النحو، شبيهة بما تريد الإرادات كي تحقق حريتها: يعني تنظيما معقولا، كونيا، للحرية . ويجب أن تفهم الصيغ القصوى والأكثر صراحة لهيجل عن الدولة ، والتي يستعيدها إيريك فايل في كتابه عن هيجل والدولة (7)، كتعبير أقصى ، كالحد الأقصى لفكر عزم على أن يضع كل مؤاخذاته داخل لا خارج الواقع السياسي المعترف به تماما. انطلاقا من هذا التعبير الأقصى لابد من فهم كل ما يمكن أن يقال ضد الدولة وضدّ الزعم المجنون الذي يستحوذ على قصدها المعقول.”

                    بول ريكور ” الحقيقة والتاريخ”  دارسيراس( 1995) تونس  ص 291-298

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

7ـ “إذا كان المجتمع إذن هو القاعدة، المادة اللامتشكلة للدولة، فإن العقل الواعي بذاته هو منحاز كليا إلى جانب الدولة : فخارجها يمكن أن يكون هناك أخلاقا واقعية، عادة وعملا وحقا مجردا وشعورا وفضيلة، ولكن لن يكون هناك عقل. وحدها الدولة تفكر، وحدها الدولة يمكن أن يفكّر فيها كليا” إيريك فايل ” هيجل والدولة. “ص (68)