مجلة حكمة
الابستملوجي الباشلاري

مدخل لدراسة المشروع الابستملوجي الباشلاري – محمد اليزناسني


“الحقيقة هي بنت النقاش، وليست بنت التعاطف”[1]

إن قولة باشلار أعلاه والمقتبسة من كتابه “فلسفة الرفض” كافية مبدئيا لتحديد الخاصية الأساسية لفكره. فالحقيقة في تصوره ليست ممكنة إلاَّ عبر “النقاش” وبالتالي فليس هناك في المعرفة سوى أخطاء أولية وليس حقيقة أولية.[2] فالحقيقة ليس لها معنى تام إلاَّ في تعبيرها عن “الجدال”.

فما دلالة مفهوم “النقاش” إذا كانت “الحقيقة” و “الخطأ” ينسجمان، بحيث أن الخطأ له أولية على الحقيقة، و أنه ليس شرا؟ يقول باشلار في كتابه “تكوين العقل العلمي”: “ولنتمتم بدورنا مستسلمين كليا للحياة العقلية: أيها الخطأ لست شرا.” [3]

هل يمكن اعتبار مفهوم “النقاش” كلحظة من لحظات المعرفة العلمية أَم مجرد لحظة من لحظات المنهج التقريبي؟ كيف يمكن إذن التعامل مع مفهومي “الحقيقة” و “والخطأ” وما طبيعة العلاقة بينهما؟ وهل يمكن تصور “النقاش” بمعنى تقليدي أم بمعنى جديد تجتمع فيه “الحقيقة” و “الخطأ” في علاقة جدلية؟

إن الأجوبة حول هذه الأسئلة تشكل المعالم الأساسية لمدخل دراسة المشروع الابستملوجي الباشلاري الذي لا ينفصل عن باقي الأشكال المعرفية في فكره (علم، فلسفة، إبستيمولوجيا، آداب …). إن الإقتصار فقط على الجانب الإبيستملوجي سيقحمنا في إشكالية مشروعه الفكري المتمثلة في “الوحدة والتعدد في الفكر الباشلاري”، بمعنى “وحدة المشروع الإبستيمولوجي في تعدد مناحي الفكر الباشلاري”. هذه الإزدواجية في فكره ناتجة عن ازدواجية في شخصه.

إن هذا المدخل يقتصر فقط على محاولة فهم المشروع الإبيستملوجي الباشلاري، لكن هذه المحاولة لا تخلو من المشاكل والصعاب وذلك راجع إلى خاصية الإزدواجية التي تطبع فكره في كل الجالات المعرفية التي اهتم بها. هذه المساهمة تضاف إلى مساهمة أحد تلاميذ باشلار، مشيل فادي (Michel Vadée, 1934-2014) الذي اتخذ من دراسة إبيستملوجية باشلار مدخلا لفهم الفكر الباشلاري.[4]

إن تناول المشروع الإبيستملوجي الباشلاري يقتضي توضيح ثلاث مفاهيم أساسية تقودنا حتما إلى دراسة تاريخ العلوم عند باشلار وهي: “العائق الإبيستملوجي” و”والقطيعة الإبيستملوجية” و “الجدل”. في هذا السياق لا أدعي التفوق في عرض كل خصائص مشروعه الذي يرتبط بمختلف الأشكال المعرفية التي عاصرها.

صحيح يبدو مدخل فادي(Vadée)  مفضلا، ولكن ليس بالضرورة إجباريا، لأن خصائص الفكر الباشلاري نفسه لا تقبل أي مدخل لفكره  محدد سلفا أو منهجي.

على غرار مدخل فادي (Vadée) أقترح مدخلا جديدا لدراسة المشروع الإبيستملوجي الباشلاري – أقل عمومية من مدخل فادي – عبر دراسة مفهوم “الجدل” في إبستملوجية باشلار وهو مدخل لايخلو، كما سبق القول، من مشاكل وصعاب تكمن في طبيعة فكر باشلار وفي شخصه من جهة وفي كونه يقتصر فقط على جانب واحد من فكره المترامي.

إن الإقتصار فقط على دراسة إبيستملوجية باشلار يسصطم لامحالة مع إشكالية فكره – التي سبقت الإشارة اليها- و التي هي “إشكالية الوحدة والتعدد في الفكر الباشلاري”. فعن هذه الإشكالية يترتب الغموض في فكره، لذلك ربما يتوجب منذ البداية توخي الحذر من هذا الغموض. بهذه الطريقة سيتم تعاملنا مع مفهوم “الجدل” في المشروع الإبيستملوجي الباشلاري. يقول باشلار في نفس الصفحة من نفس كتابه “فلسفة الرفض”:  “ربما يتوجب الحذر دائما من مفهوم لم نتمكن بعد من جعله مفهوما جدليا. وأن ما يمنع جدليته هو العبئ المضاف الى مضمونه.”[5] إن من يهتم بمفهوم الجدل لدى باشلار سيتوصل إلى هذا الإقتناع الذي عبر عنه باشلار في نفس الكتاب: “والمؤكد أن هذا المفهوم تُعطى له معان كثيرة لأنه لم يٌفكر به أبدا بطريقة شكلية. ولكن إذا أُعطي معان كثيرة، يخشى الاَّ يعطيه عقلان مختلفان المعنى نفسه.”[6]

هذا الاقتناع هو الذي جعلني أقتصر فقط على تناول مفهوم الجدل في مشروعه الإبيستملوجي وليس في فكره أو في بعض كتاباته.[7] ولتحديد دلالة “الجدل الباشلاري” ينبغي قبل كل شيئ توضيح “الإبيستمولجية الباشلارية”- إن صح اعتبار الباشلارية مفهوما إبيستملوجيا- بحيث ينبغي وضع مشروعه الإبيستملوجي في إطار المسار التاريخي لتطور فكره.

سأحاول بطريقة تاريخية ومنهجية تتبع نشأة وتطور جدل باشلار في مشروعه الإبيستملوجي، ولتحقيق هذه الغاية يجب إنجاز ثلاث مهام:

  1. 1. عرض مسار تطور الفكر الباشلاري،

  2. تناول المشروع الابستملوجي الباشلاري ،

  3. إبراز دلالة الجدل الباشلاري.

  4. المهام الأول يتناول سيرورة تطور الفكر الباشلاري في مرحلتين متداخلتين: مرحلة التأمل الإبستملوجي ومرحلة التأمل الشعري. وسوف أقتصر فقط على الشق الإبيستملوجي من فكر باشلار.

  5. المهام الثاني يقدم نظرة عامة حول مضمون إبستملوجية باشلار. هنا أحدد فكر باشلار في اتجاهين: من التأمل العلمي إلى التأمل الإبستمولوجي ثم من هناك إلى التأمل الفلسفي مجددا. في هذه النقطة بالذات تتجلى إشكاليات مضمون إبيستملوجية باشلار، وهي إشكالية الترابط بين التأمل الإبيستملوجي والتأمل الفلسفي.

إن تناول إبستملوجية باشلار يقتضي توضيح ثلاث مفاهيم أساسية تقودنا إلى دراسة تاريخ العلوم عند باشلار، وهي “العائق الإبيستملوجي” و “القطيعة الإبيستملوجية” و “الجدل”. هذه المفاهيم تشكل نواة تصور باشلار لتاريخ العلوم. المفهوم الأخير أكرس له مجالا واسعا لأنه يشكل مدخلا لدراسة المشوع الإبيستملوجي الباشلاري. سوف أقتصر فقط على مفهوم الجدل الباشلاري على المستوى الإبيستملوجي رغم أن هذا التقسيم أو البتر لازال مثيرا للجدل وللنزاع وغالبا ما يقود إلى تأويلات إيديولوجية لفكر باشلار. إن تحديد طبيعة هذه التأويلات قصد إبراز مضامينها العلمية والفلسفية والإيدلوجية ستمكننا من تحديد إبيستملوجية باشلار في السياق التاريخي للإبيستملوجية الفرنسية مع بداية القرن العشرين.

باشلار نفسه يحذر من هذا النوع من التأويلات في مستهل كتابه فلسفة الرفض، حيث يقول: ” إن استعمال المنظومات الفلسفية في المجالات البعيدة عن أصلها الروحي يكون على الدوام عملية دقيقة، ويكون في الغالب عملية مخيبة للآمال، فالمنظومات الفلسفية المرحلة على هذا النحو تغدو عقيمة أو خادعة.” [8] الحديث عن الجدل عند باشلار لايتعلق بشكل واحد، بل بأشكال متعددة ومختلفة من الجدل.[9] هذه الأشكال من الجدل تحمل أوصافا مختلفة، لذلك أُوِّلت من طرف دارسي باشلار بطرق مختلفة، بل وحتى إديولوجيا. [10]

لقد تناولت بإسهاب تصور باشلار لمفهوم الجدل في مقال نشر بمجلة حكمة بتاريخ 2019.08.20 .[11]

                                                                                             فرانكفورت في 2019.09.01


* الكاتب: د. محمد اليزناسني، أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، المغرب

المـراجــــــــــــع

المراجع بالعربية

– باشلار، غاستون: فلسفة الرفض. مبحث فلسفي في العقل العلمي الجديد. ترجمة خليل احمد خليل، دار الحداثة، بيروت 1985.

– باشلار، غاستون: تكوين العقل العلمي. مساهمة في التحليل النفساني للمعرفة العلمية. ترجمة خليل احمد خليل، الطبعة الثانية، المؤسسة الجامعية

  للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1982.

– باشلار، غاستون: جدلية الزمن. ترجمة خليل احمد خليل. الطبعة الثالثة، المؤسسة الجامعية للدراسة والنشر والتوزيع، بيروت 1982.

المراجع بالفرنسية

 ــBachelard, Gaston: Idéalisme discursif. Recherches philosophiques. IV, 1934-1935.

–  Études. J. Vrin, Paris 1970.

–  Le Droit de rêver. Puf, Paris 1970.

ـ  Le matérialisme rationnel. Puf, Paris 1953.

–  L’engagement rationaliste, Puf, Paris 1972.

– Canquilhem, Georges: Études d‘ histoire et de philosophie des sciences. J. Vrin, Paris 1968.

– Lecourt, Dominique: Bachelard ou le jour et la nuit. Un essai du matérialisme dialectique. Pris 1974.

المراجع بالألمانية

ـVadée, Michel: Epistemologie oder Philosophie. Zu Gaston Bachelards neuem epistemologischem Idealismus. Frankfurt/ M. 1979.

 باشلار، غاستون: فلسفة الرفض. مبحث فلسفي في العقل العلمي الجديد. ترجمة خليل احمد خليل، دار الحداثة، بيروت 1985، ص. 152.[1]

[2] يقول باشلار: “Une vérité n’ a son plein sens qu’ au terme d’ un polémique. “

                Bachelard, Gaston: Idéalisme discursif. Recherches philosophiques. IV, 1934-1935, p. 22.

  لقد أعيد طبع هذا المقال في كتاب باشلار: Bachelard, Gaston: Etudes. J. Vrin, Paris 1970, p. 72.

[3]  باشلار، غاستون: تكوين العقل العلمي. مساهمة في التحليل النفساني للمعرفة العلمية. ترجمة خليل احمد خليل، الطبعة الثانية، المؤسسة الجامعية

  للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1982، ص. 194.

[4]        „ Zugänge zum Denken Bachelards öffnen sich von verschiedenen Seiten. Aber der Zugang über die            Epistemologie scheint der bevorzugte, der obligatorisch zu sein. „: Vadée, Michel: Epistemologie oder Philosophie. Zu Gaston Bachelards neuem epistemologischem Idealismus. Frankfurt/ M. 1979, S. 27.

[5]  باشلار، غاستون:  فلسفة الرفض. ترجمة خليل احمد خليل، ص. 152-153.

[6]  نفس المصدر، ص. 153.

[7]  لقد ألف باشلاركتابا بعنوان جدلية الزمن (ترجم من طرف خليل احمد خليل، الطبعة الثالثة، المؤسسة الجامعية للدراسة والنشر والتوزيع،

   بيروت 1982 ). هذا الكتاب وغيرمن الكتب الأدبية شغلت اهتمام الدارسين لباشلار في الدول الناطقة بالألمانية عن  مشروعه

    الإبستملوجي، لذلك لم تترجم إلى الألمانية إلاَّ أربع كتب في الإبيستملوجية، في حين قد ترجمت معضم كتبه الأدبية.

   كتابات باشلار تقع في أربع وعشرين كتابا وحوالي خمسين مقالة جمعت في أربع مؤلفات:

  • Bachelard, Gaston: Études. J. Vrin, Paris 1970.

    –  Le Droit de rêver. Puf, Paris 1970.

    –  L’engagement rationaliste, Puf, Paris 1972.

 [8]  باشلار، غاستون: فلسفة الرفض ، ص. 7.

[9]  لقد تناول باشلارالأوصاف المتعددة والمختلفة لمفهوم الجل في كتابه الإبيستمولوجي الأخير:

-Bachelard, Gaston: Le matérialisme rationnel. Puf, Paris 1953.

– „Bachelard ist für die französische marxistische  Philosophie und für die Philosophen von heute schlechthin  [10]    zu einem Problem geworden.“  Vadée, Michel: Epistemologie oder Philosophie. Frankfurt/M. 1979, S. 9.

       راجع كذلك: – Canquilhem, Georges: Études d‘ histoire et de philosophie des sciences. J. Vrin, Paris 1968.

           – Lecourt, Dominique: Bachelard ou le jour et la nuit. Un essai du matérialisme dialectique. Pris 1974.

[11]  راجع مجلة حكمة من أجل اجتهاد ثقافي وفلسفي. تاريخ الإصدار 2019.08.20.