مجلة حكمة
الإنسان اللاعنيف

الإنسان “اللاعنيف” وحضوره في التاريخ

الكاتببور ريكور
ترجمةعبد الوهاب البراهمي

   تنطلق هذه الملاحظات التي تخص العنف واللاعنف من سؤال مركزي: وفق أي شروط يمكن أن يكون اللاعنيف شيئا آخر غير يوغاني بالمعنى الذي قصده “كوستلار”، وشيئا آخر غير إنسان طاهر على هامش التاريخ؟ من البداهة أن السؤال ذاته يفترض قناعة سابقة(1) هي أن يكون لللاعنف قيمة ممكنة، أو- كما سنقول بأكثر دقة- أشكال مقاومة غير عنيفة: فالشكل الحقيقي للاعنف، ودون أن يكون، في الواقع، معطى دفعة واحدة، يمكن البحث عنه- وهو أمر مشروع- من بين الصور السّاخرة التي تشبهه أحيانا على نحو غريب: حساسية زائفة، تخاذل، تهرب وجداني، غياب عن العالم، عدم المقاومة. ولن أتردد في القول منذ البداية، وبصراحة، أن هذه القناعة السابقة قد ترسّخت لديّ إلى جانب قناعة أكثر جوهرية : أن عظة الجبل* تهمّ تاريخنا وكل التاريخ، بهياكله السياسية والاجتماعية وليست فحسب أفعالا خاصة ليس لها أي أثر تاريخي؛ إنما لأنها تدمج عموديا في هذا التاريخ مطلبا صعبا، يعسر استساغته، يضع كل من انشد إليه في قلق عميق، في شدة لا يجد أحيانا لها مخرجا آخر إلا في أفعال اعتباطية، قد تكون تاريخية تصنّعا؛ و مع ذلك فإن هذا القلق وهذه الحدّة وهذا التصّنع يعني أن عظة الجبل، بلا عنفها، تريد الدخول في التاريخ، وأن مقصدها عملي وأنها تدعو إلى الحضور لا إلى التهرّب.

  إن هذه القناعات السابقة هي ما يستدعي أن يبلور نقديا في السؤال التالي: وفق أي شروط يمكن لللّاعنف أن يهم تاريخنا؟ ذلك أن ما يستوفي معنى ما سنريده، هو فعلا التاريخ لا طهر نوايانا، هو ما كنا سنفعله للآخرين. وإذا وجب أن يكون اللاعنف ممكننا إيتيقيا، لزم حصره في دائرة ضيقة مع العمل الحقيقي المنجز، مثلما يحصل عن كل تأثيرات الأفعال المتبادلة، التي بها يتكوّن التاريخ.

  إن الشرط الأول الذي يجب أن يستجيب له مذهب أصيل لللّاعنف هو أن يكون قد اجتاز عالم العنف بكل كثافته؛ فحركة غير عنيفة تتعرض دوما لخطر حصر العنف في شكل خصوصي تهاجمه بإصرار وتضيًق عليه الخناق؛ يجب أن نكون قد قسنا طول وعرض وعمق العنف، وتمدّده على طول التاريخ، واتساع تشعّباته النفسية والاجتماعية والثقافية والروحية وتجذّره بعمق في تعدّد الذوات الواعية نفسه. يجب أن نختبر إلى حد أقصى هذا الوعي بالعنف الذي بواسطته يظهر عِظمه المأساوي، ويبدو بالذات كحاصل للتاريخ، “للأزمة”- ” للحظة النقدية” و”الحكم”- التي تغٌير فجأة شكل التاريخ. ولكن حينئذ، وحينئذ فقط، ولقاء هذا الصدق، يطرح السؤال عن معرفة إذا ما يكشف التفكير عن فائض، عن شيء أكبر من التاريخ، عمّا إذا كان للوعي ما يدًعيه ضد التاريخ والتعرّف على ذاته منتميا “لنظام” آخر غير العنف الذي يصنع التاريخ.

  لكن، هنا سؤال آخر على الإنسان اللاعنيف الاضطلاع به: هل هو قادر على أن يفكر في ذاته دوما داخل هذا التاريخ الذي ينفيه؟ وهل يقدر على ذلك دون أن يجعل النجاعة المحتملة لفعله أرفع من طهره المزعوم؟

ولكن هل لللاعنف نجاعة؟ وما هي؟ من البيّن أن هذا السؤال الثاني يتمفصل مع مشكل شاسع: معرفة ما إذا كان للنبيّ مهمّة تاريخية؟ وما إذا استطاعت هذه المهمة أن تتسلل بين لانجاعة ” اليوغي” و نجاعة ” المفوض” أو الرسول.

  سؤال ثالث: أليست النجاعة المحتملة لللاّعنيف إذن في توتّر ضروري مع دنس معترف به لعنف تقدمي؟ و بالفعل، إذا باشر النبٌي التاريخ بأفعال هي بالأحرى ضروب من الرفض والتمرّد وبالتالي أفعالا ظرفية، منفصلة ( متصلة بحدث إعلان حرب، بفتنة،الخ..)، أفلا يستوفي معنى فعله ضرورة فيما يمنحه من دفعٍ، في النّصيب الروحيّ الذي يضفيه على عمل سياسي خالص، لعمل بنًاء متواصل، على صعيد الهياكل والمؤسسات؟

   لن أخفي الحيرة التي يعسر على هذا التمشي تبديدها؛ إنها، هنا وهناك، حقائق نواجهها أكثر مما نعترف بها، نرحب بها أكثر من أن نملكها……

  ذلك أنّ المرعب هو من يصنع التاريخ: ويبدو العنف فعلا كالشكل المميّز الذي يتبدل وفقه التاريخ، كإيقاع لزمن البشر، كبنية لتعددّ ضروب الوعي.

 ولكن إذا كان التاريخ عنيفا، فإن اللاعنف هو من قبل الوعي السيئ للتاريخ، قلق الوجود في التاريخ وقد يصبح أمل الوعي وهو في وضعية تاريخية. لابد على أمنية اللاعنف، كي تكون أصيلة، أن تنبت على حافة تأمل في التاريخ: إنها أول وأعمق رابطة لها بالتاريخ، وهو الوزن الذي يثقله. فأن نأخذ عنف التاريخ مأخذ الجدً، فهو التعالي عبر الحكم. و بتناقض جوهري يقابل الوعي بما هو إيتيقا المسار التاريخي. يقول التاريخ: عنف. فيقفز الوعي ويقول: حبٌ. إن قفزته قفزة نقمة؛ بها يضع حدا للتاريخ: نفيه كعنف؛ وفي ذات الوقت يضع الإنسان كصديق ممكن للإنسان. تعتقد النزعة السلمية، لانعدام تقديرها الأبعاد الكبرى للعنف، أنّها سهلة وتجعل من نفسها كذلك؛ فتعتقد أنها بعد في العالم، ناشئة عنه، ناتجة عن الطيبة الفطرية في الإنسان وأنها مقنٌعة ببساطة، وممنوعة من بعض الأشرار.إنها لا تعرف أنها (مَهَمّة) عسيرة، وأن لها التاريخ ضديد، وأنها لا يمكن أن تأتي إلا من مكان آخر، وأنها تدعو التاريخ إلى شيء آخر غير ما يعنيه ببساطة.

   نجاعة اللاعنف

      إذا كان اللاّعنف آت من مكان آخر، فكيف يكون حاضرا في التاريخ؟ كيف لا يصير النبيّ اليوغي؟ يبدو لي أن اللاعنف لا يمكن أن يكون تصرفا مقبولا إلا إذا انتظرنا منه فعلا( أثرا)- قد يكون مخفيا جدا- على مجرى التاريخ. فأن يرفض إنسان القتل ويقبل الموت كي لا يلوث يديه (بدم الآخرين)، فذاك ليس بعد مهمّا. إذ فيم تهمّ طهارته؟ هل يكون طاهرا إذا كان الآخرين جميعهم مدنّسين؟ ثم ألا يلتحق فعله من جديد بالتاريخ مع الأفعال القاتلة التي لم يردها ولكنها تستوفي معنى فعله؟ وإذن، فإن العنف الذي يرفضه أحدهم كان على حساب عنف آخر لم يمنعه أو حتى شجّع عليه. وإذا كان لابد للاعنف، إذن، أن يكون له معنى، وجب أن يستوفي هذا المعنى في التاريخ الذي، في بداية الأمر، قد تعالى عليه. ووجب أن يكون له (أي للاعنف) نجاعة ثانية، تدخل في الحسبان مع نجاعة العنف في العالم، نجاعة تغيًر العلاقات بين البشر. فهل للاعنف نجاعة؟ وما هي؟

  1- إن إيمان اللاعنيف، هو أولا أن أشكال رفضه للطاعة تمنح حضورا فعليا للقيم التي يستشفًها الناس ذوي الإرادة الطيبة، فقط في نهاية تاريخ طويل. فإيمانه هو إذن أن هذه الشهادة العينية والآنية التي هي لصالح الصداقة الممكنة بين البشر، لن يكون لها نجاعة مختزلة في أفعالها المحتومة ضمن حساب ضروب العنف المضادة؛ إنه يأمل أنه، فضلا عن الدّنس الذي يتقاسمه مع جميع الأفعال التي تقع في التاريخ، فإن لفعله الغريب، القابل للنقاش دوما على أساس آثاره قصيرة المدى، معنى مزدوج؛ كونه يرعى مقصد القيم، وكونه انشداد التاريخ إلى اعتراف الإنسان بالإنسان.

  إني لا أفهم هذا السيل الجارف من الحماس الذي أفاض على مساحة واسعة من الرأي العام، بمناسبة مبادرة قاري دايفس، إذا كنا لا نحيًي فيه نجاعة واقعية، ولا أوّلا هذه القدرة، على إبطال سحر ما، وفتنة. يرتدّ التاريخ على الإنسان، على نحو قدَرٍ مجنون، مع أنه صانع هذا التاريخ: يذكّرني اللاعنيف أن هذا القدر إنساني، مادام قد علّقه مرة إنسان؛ وفي نقطة بالذات رُفع المحظور، وصار بالإمكان التطلع إلى مستقبل؛ فقد تجرًأ إنسان ما ؛ ونحن لا ندري ما الذي ينجرّ عن ذلك، ولا يمكن أن نعرف، لأنّ هذه النجاعة هي، في المعنى المحدد للمنهج التاريخي، غير قابلة للتحقق؛ إنها المسطًّح حيث يكون الفعل التاريخي موضوع إيمان؛ يعتقد اللاعنيف ويأمل في الحرية أن تقدر على مجابهة القدر، فيمكن له هكذا أن يحيي شجاعة المشاريع على مرّ التاريخ اليومي، وعلى مستوى الأرض.

  إن هذه النجاعة وحدها تكفي لتضع اللاعنيف داخل التاريخ: فليس هو على هامش الزمن، سيكون بالأحرى “في غير زمنه”، لاراهن،كحضور متقدًم، ممكن وممنوح، لعصر آخر، يحتّم على تأمل سياسي رصين ومضني أن يجعله تاريخيا؛ إنه يدفع ثمن تاريخ ينتظر أن يُصنع، وأن يدوًن على متن المؤسسات وأنماط الشعور والفعل.

 ولا يمنع التاريخ من أن يتراخى و ينهار من جديد بالعمل فحسب في اتجاه الغايات الإنسانوية للتاريخ –بقصد العدالة والصداقة- بل أيضا بواسطة قوة هذه الغايات المعزولة من السلاح. إنها المقابل(البديل) للأمل في عرضية التاريخ، لتاريخ غير مضمون.

  2- ويمكن أن يتخذ اللاعنف، في بعض الظروف الملائمة، وتحت تأثير شخصيات ممتازة، أبعاد تحرك، مقاومة غير عنيفة، و بنجاعة عظيمة؛ يمكن له( أي اللاعنف) إذن أن يحدث ثغرة تاريخية حقيقية. فغاندي المتعذر تقليده بقدر ما هو ذاته والمحدود بقدر ما هو عليه أثره، يشكّل في عصرنا الحاضر أكثر من أمل، إنه برهنة. ولعل أكبر الحماقات التي يمكن أن نقولها عن غاندي هو أنه يمثّل اليوغي بحسب كوستلار؛ فليس غاندي بأقل قوة حضور في الهند عن لينين في روسيا. يقينا لا يمكن أن ننكر حدود هذا الحضور: حذره من التقنية المعاصرة، عدم فهمه للبروليتاريا المنظمة، احترامه الكبير للهياكل التقليدية المسئولة عن استيلاب جموع هندية لصالح الكهنة والأغنياء.

  ويمكن أن نآخذه لو لزم الأمر على كل ذلك. (ولكن) لا أرى كيف يمكن أن نختزل في النهاية القوة المثلى لحملاته الناجعة المتمردة في إفريقيا الجنوبية وفي الهند. ويبدو لي أن قيمتها المثلى تكمن في ما يلي:كون هذه الحملات لم تحقّق – في ظروف ملائمة مرة أخرى : فأنقلترا لم تكن النازية- الحضور الرمزي للغايات الإنسانوية فحسب، إنما أيضا مصالحة فعلية لهذه الحملات مع وسائل تشبهها؛ فمن المستبعد إذن أن يبعِد اللاعنيف الغايات خارج التاريخ ويهجر مخطط الوسائل التي قد يدعها على دنسها،إنه يتمرن على ضمّها إلى عمل سيكون بعمق روحية ما وتقنية.

  ويبدو أن اللاعنف لم يكن، من جهة، في نظر غاندي سوى جزء من نظام روحي شامل إلى جانب الحقيقة والفقر والعدالة وطهارة النفس، والصبر والشجاعة، وكره الموت والخشوع،الخ. بل إنه لمن الرائع حتى، أنه قد وضع على قمة هذا الصرح الحقيقة “ساتياقراها”satyagraha الحضن السرمدي للحقيقة”.” إني نحتّ عبارة ساتياقراها في جنوب إفريقيا للتعبير عن القوة التي استخدمها الهنود في هذا البلد طيلة ثمانية سنوات كاملة…إن قوة الحقيقة هي أيضا قوة الحب”(3).وقد كان اللاعنف عند غاندي من جهة أخرى منهجا بل تقنية مفصًلة للمقاومة والعصيان. ولابد أن نعترف بكوننا مجرّدين من مثل هذه التقنية وأننا على جهل بها؛ وقد أخطأنا بعدم دراسة آلية حملاته في إفريقيا الجنوبية وفي الهند،(هذه الآلية) المصمّمة ببرودة والمطبّقة بعناية فائقة؛ فنحن نلاحظ فيها دلالة حادّة لأفعال الجماعة، في الانضباط، والتصميم وخاصة في الغياب الكلي للخوف تجاه السجن والموت؛ هنا ينبثق الطابع الفعّال لللاعنف : فالاستسلام الحقيقي في نظر غاندي هو العنف؛ به استسلم للمحرّض، للقائد؛ و القوة لديه هي اللاعنف.

إنها هذه القوة التي تختصر الغاية والوسائل في تجربة تاريخية فريدة. فالعنف التقدمي، ذاك الذي يزعم أنه سيزول بالسير نحو الغايات الإنسانوية للتاريخ، هو فن المواربة( الخداع) المغالطة: مواربة الحيلة والكذب والعنف؛ فجميع هيئات الأركان العسكرية والمدنية تمارسه:إنه تقنية الوطنية والثورة؛ يجيب اللاعنيف عن السؤال المطروح عليه حول نجاعته بسؤال آخر: ألا تحتمل ممارسة “المواربة” خطر تأبيد العنف؟ ألا يحتاج العمل السياسي- الوطني أو الثوري- كحضور ( متّهم)ملام،كدعوة وديّة إلى هذه الحركات الرمزية وإلى هذه الأعمال الناجحة جزئيا حيث تكون الغايات هي الوسائل.

      ” المقاومات غير العنيفة” و” العنف التقدمي”

     ولكن هل يمكن أن يكون اللاعنف كل شيء؟ أي أكثر من حركة رمزية، من نجاح تاريخي محدود ونادر؟ هل يمكن له أن يصنع البديل الكلي للعنف، هل يمكن له أن يصنع التاريخ؟

  يستوجب اللاعنف ـ على ما يبدو ـ حدودا غير مؤقتة، حتى في حال الارتقاء به من الامتناع إلى المقاومة.

  1. ليس من قبيل الصدفة أن شعار اللاعنف سلبي: لا تقتل. فقد كانت مسيرته، مسيرة رفض: عدم تعاون، امتناع عن أداء الواجب العسكري، الخ.وحتى عبارة مقاومة تحتفظ بشحنة سلبية: لا نطيع سلطة لا نمارسها. إني أعتقد في نجاعة ضروب الرفض هذه بما هي رفض: ولكن ألا تنبثق نجاعتها عن تمفصلها مع نشاطات إيجابية بنّاءة؟ عندما نمرّ من : لن تقتل، إلى أَحبَّ، من رفض الحرب إلى بناء السلام، فإني ألج دورة الأعمال التي أقوم بها: عندئذ أبدأ من جديد في القمع؛ وألج انفصال الوسائل والغايات بالمشاركة في مشاريع حيث الأعمال الإنسانية ليست” كشيء ممكن معا”compossibles “، وحيث أعاني من شرّ التاريخ مع نجاعة التاريخ.
  2. يبدو أيضا أن اللاعنف من جنس المنفصل: أعمال رفض ظرفية، حملات عصيان، إّنه من جنس السلوك. إنها هذه السلوكيات التي تشهد بتناوب على المطالب الفوق- إنسانية التي تثقل كاهل التاريخ وتدعو الإنسان بالفعل إلى إنسانيته. غير أن هذه السلوكيات تظهر وجوب العثور على ما يكمّلها في أعمال طويلة المدى، في حركات التاريخ، شأنها في ذلك شأن انتصار الدولة الحديثة على الإقطاعيات،في الحركة البروليتارية، وفي الصراع ضد الاستعمار، الخ.
  3. 3-            ، يرد العنف،باتساع أكثر، على وضعيات عينية، على أوامر الدولة التي تأثّر فيّ شخصيا؛ غير أن العمل السياسي يردٌ على ” التحديات”( كي نستعمل العبارة السعيدة لتوينبي) التي تنبثق عن البنى التالية: الاستعمار، الإجارة، والوضع البروليتاري، والخطر النووي؛ إنها تشتغل إذن، على صعيد المجرد، والمعتاد والمؤسسيّ، على صعيد ” التأملات” غير المعروفة بين الإنسان والإنسان.

  يبدو لي اليوم أنه على القائلين باللاعنف أن يكونوا النواة التنبؤية للحركات السياسية تحديدا، أي المتمحورة حول تقنية الثورة، والإصلاح أو السلطة. وخارج هذه المهام المؤسسيّة يجازف العلم الروحاني اللاعنيف بالانزياح إلى كارثية بلا أمل، لكأنما زمن المصائب والاضطهاد هو الفرصة الأخيرة للتاريخ، كأنه بقى علينا أن نمنح حياتنا لزمان حيث تكون الأفعال المخلصة بلا صدى، مخفية من طرف الجميع، بلا أثر تاريخي. قد يأتي هذا الزمان ومعه نظام، هو من اللاإنسانية بمكان، بحيث لا يترك مخرجا آخر سوى لاءات بلا صدى خارج جدران السجون. ما يزال زمان اللانجاعة يتسكع على أبواب التاريخ؛ يجب أن نكون على استعداد لاستقبال الليل.غير أن هذه الفكرة المسبقة لا يمكن أن تكون فكرة مستقبل، فكرة عمل وبناء. وقبل هذا الزمان ـ إذا كان لابد أن يأتي ـ ومادام الوقت نهارا، علينا أن نعمل وفق توقّع، وفق مخطط وبرنامج؛ هناك مهمة تاريخية وهذه المهمة هي بصدد الانجاز في التاريخ.  ولكن، ألا يجب إذن على اللاعنف التنبؤيّ، المنبثق عن انتصار الوعي على قانون التاريخ القاسي، أن يستثمر هذا التاريخ لصالح علاقة درامية يرعاها مع عنف متبقٍ، عنف تقدمي، في حين يستمد هذا العنف التقدمي فرصته الروحية من وعد ولطافة فعل غير عنيف؟

  غير أن هذا الفهم لجدلية لا عنف تنبؤي وعنف تقدمي داخل النجاعة بالذات،لا يمكن أن يكون إلا نظرة مؤرخ. فبالنسبة إلى من يحيا، ومن يفعل، ليس هناك تنازل ولا تأليف، إنما هناك اختيار.إن دغمائية الخلط هو روح اللاعنف ذاته؛ وإذا لم يكن الإيمان تاما، فإنه يتنكّر لنفسه؛ وإذا كان اللاعنف دعوة البعض، وجب أن تبدو لهم كواجب للجميع؛ يريد اللاعنف بالنسبة إلى من يحياه و يمتنع عن مشاهدته أن يكون كل العمل، وأن يصنع التاريخ.

    بول ريكور ” الحقيقة والتاريخ” نشر ” سيراس” تونس- seuil 1995 – ص 262-273

ــــــــــــــــــــــــــ

-هوامش:

*عظة الجبل: موعظة المسيح على الجبل العظة على الجبل أو عظة الجبل الموعظة على الجبل، وتعرف أيضًا باسم شريعة العهد الجديد، طرح فيها المسيح، إحدى وعشرين قضية تنظيمية تشكل لب الإنجيل والعهد الجديد، موضحًا نقاطًا في شريعة موسى، وملقيًا عددًا من الإرشادات التي يلتزم بها المسيحيون. تدعى العظة، عظة الجبل، أن المسيح ألقاها من على جبل، لعله أحد جبال الجليل بالقرب من كفر ناحوم. الشرّاح والمفسرين، يرون في عظة الجبل لبًا لمواعظ المسيح جميعها، وقد يكون أعاد جزءًا منها في مواضع أخرى من بشارته خارج كفر ناحوم، ولعلها استغرقت عدة أيام، وهي تشكل ثلاث فصول كاملة من إنجيل متى. (من ويكيبيديا، الموسوعة) المترجم

1- أريد فعلا أن نآخذ هذه الدراسة على الضمني التي تفترضه والذي أصوغه في مرحلة ما قبل-نقدية: ولكن من يباشر تحليلا دون افتراض ولا حكم مسبق؟ إن المشكل دوما في معرفة إلى أي مدى يمكن أن نتقدم بعد ذلك في طريق الصدق. إلى أي حد يبنى الضمني نقديا، ويندمج في بحث مشترك، يجابه النقاش، وباختصار، يستوضح على صعيد خطاب متعدد.

2- قول مقتطف من “تقرير المؤتمر الهندي “،مجلد1 1920( ترجمة لويس ماسينيون في مجلة العالم الإسلامي(أفريل جوان 1920).أب سيروسول مؤسس المصلحة المدنية التطوعية العالمية سأل غاندي عن إمكانية نقل اللاعنف إلى أوروبا فأجابه:”هل أنت متيقن من أن الشعب ليس جاهزا؟ وألا تعتقد أنكم تفتقرون لزعيم؟ يجب أن يكون الزعيم إنجازا إلهيا، في كل دقيقة من ساعات اليوم 24. يجب أن يسيطر على كل شيء في نفسه، وأن يجهل الخوف.يجب أن تنسى نفسك ولا تنساق للذات المأكل والمتع الجنسية. فإذا تطهرت نفسك حصلت على المتعة، لا متعتك أنت، إنما متعة الإله. فيم تتمثل القوة؟ إن صبي ال15سنة يمكن له أن يسقطني. أنا لاشيء، غير أنني حُررت من الرغبة والخوف، أعرف قوة الإله”. أنظر خلاصة سيرته الذاتية تحت عنوان”تجاربي مع الحقيقة

3- محاضرة حول”الإنسانوية والرعب”لمارلوبني، الروح، فيفري 1949،- ” اليوغي، الواعظ والنبي”.المسيحية الاجتماعية، جانفي 1949.