مجلة حكمة
افتقار الفلسفة إلى التقدم الفلسفة والتقدم

افتقار الفلسفة إلى التقدم – كريستوفر دالي / ترجمة: آمال السيد

تبدو الفلسفة في وضع لا طائل منه؛ لديها تاريخ 2,500 عام في الغرب وكتالوج سابق واسع النطاق من المشاكل. هناك أسئلة عمَا هو موجود وعمّا نعرفه عنه، مثل: هل لدينا إرادة حرة؟ هل يوجد عالم خارجي؟ هل الله موجود؟ وما إلى ذلك، وهناك أيضا أسئلة التحليل والتعريف، مثل: ما الذي يجعل الحكم صحيحا؟ ما الذي يجعل الفعل عادلًا؟ مـــا هي السببية؟ ما هو الشخص؟ هذه مجرد عينة صغيرة، فكل فكرة مجردة تقريبا، تساءل بعض الفلاسفة عن ماهيتها.

مع ذلك، وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من الأسئلة والقرون التي قضوها في معالجتها، لم ينجح الفلاسفة في تقديم أي إجابات. لقد حاولوا طويلًا وبجِّد ولكن لا شيء ممّا قالوه للإجابة على هذه الأسئلة قد أسهم في تحقيق النجاح. لم يتباطأ الفلاسفة الآخرون في التقاط الثغرات وكشف العيوب أو الافتراضات المشكوك فيها خلال محاولاتهم للإجابة على الأسئلة. تتم بعد ذلك معالجة الثقوب في محاولة الإجابة وطرحها للنقاش مرة أخرى، ولكن ما يحدث هو ظهور ثقوب جديدة، أو تفشل المعالجة؛ فتعاود الثقوب القديمة الظهور من جديد. تنبثق الفلسفة كسلسلة لانهائية من الحجج، وتستقر أسئلتها في مشاكلَ تبدو مستعصية على الحل.

إليكم تحفة صغيرة من القرن الثامن عشر تُعرف بـ مشكلةِ مولينو تكريما للعالم والسياسي الأيرلندي ويليام مولينو (1656-98) الذي طرح سؤالًا حيّر الفلاسفة منذ ذلك الحين. تخيل شخصًا أعمى تمامًا منذ الولادة وكان قادرًا على استكشاف كلٍ من المكعب والكرة عن طريق اللمس، اتقن هذا الشخص تمييّز هذه الأشكال وتسميتها. الآن افترض أن هذا الشخص تمكن من الرؤية فيما بعد، هل سيتمكن بعد ذلك من تمييز المكعب والكرة فقط من خلال الرؤية؟ تخيله يقف على مسافة من الأشكال، هل سيكون قادرًا على التمييز ببساطة من خلال النظر أيهما المكعب وأيهما الكرة؟

هنا تجربةٌ فكرية مصاحبة تُسمى الآن حجة المعرفة (غرفة ماري): يمكنك معرفة كل ما يتعلق بكيمياء الأمونيا من خلال قراءة الكتب المناسبة؛ ومن خلال قراءة المزيد من الكتب، يمكنك معرفة كل ما يتعلق بكيفية عمل نظام حاسة الشم لدى الإنسان، وعلى وجه الخصوص، كيف يتفاعل استجابةً لجزيئات الأمونيا، أي ما هي التغيرات البارزة التي تحدث في الغشاء المخاطي والعصب الشمي. مع ذلك، وبالنظر إلى كل معلومات الكتاب، هل يمكنك إذًا الإلمام بكل ما يمكن معرفته عن رائحة الأمونيا؟ أم أن هناك شيئًا ما يتعلق برائحة الأمونيا والتجربة النوعية لتلك الرائحة الحادة والنفاذة، لن تفهمه من خلال هذا التعلم، بغض النظر عن التجربة؟

تُولد هذه التجارب الفكرية وغيرها من التجارب المشابهة نقاشات تدور وتدوي. الأمر ليس مجرد وجود جوانب مختلفة للتعامل مع أيٍ من هذه الألغاز؛ إنه إمكانية تقديم حجة افتتاحية قوية لكلٍ من هذه الآراء والحفاظ عليها على الرغم من حقيقة تعارض هذه الآراء.  خذ التجربة الفكرية الثانية كمثال، يبدو أن معرفة رائحة الأمونيا –ما الذي تبدو عليه رائحتها في الواقع- ليس نوع المعلومات التي يمكنك الحصول عليها من خلال قراءة الكتب، ولكن هل هناك حقائق عن التجربة الإنسانية لا يمكن للعلم التقاطها؟ وما الذي يمكن أن يقدمه في كتبه؟ هل لدينا أكثر مما يمكن وصفه علميًا؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني البشر ليسوا أنظمة فيزيائية بحتة، أي إنه استثناء ملحوظ لما تخبرنا به العلوم الطبيعية عن العالم.

هل تلقي التجربة الفكرية الضوء على الطبيعة البشرية؟ أم أنها أخفقت بشدة؟ تبقى هيئة المحلفين خارج هذه المشكلة، وفي الواقع، خارج كل المشكلات الأخرى في الفلسفة. تُظهر الفلسفة براعةً متزايدة دون ظهور توافق في الآراء. بالطبع، لا يتطلب التقدم إجماعًا: ربما قد حلَّ بعض الفلاسفة مشكلة معينة دون الاعتراف بذلك بوجهٍ عام، لكن درجة وجود إجماع أو عدم وجوده في مجال معين يمكن أن تكون مؤشرًا واحدًا على مدى التقدم الذي تم إحرازه.

التناقض بين العلم، الذي كان له تاريخ بداية متأخر جدًا، والفلسفة هو تناقض مذهل. لا يستطيع الفلاسفة حتى الاتفاق حول ما حققوه، ذلك بخلاف الجدل والنقاش الذي بلا رحمة. إلا أن هناك إجماع واسع وتقدم ملحوظ في إطار العلوم الطبيعية. تخضع العديد من المشكلات العلمية للتجارب واختبار الفرضيات، بينما تبدو الفلسفة متذبذبة باستمرار.

قد يدفع هذا التناقض مع العلم إلى ردين تعقِيبيَّين مفادها أن كل استفسار عن هذه الصورة المطمئنة للعلم يبني المعرفة لبنة تلو الأخرى. أكد كارل بوبر في كتابه منطق البحث العلمي (1959) أن العلم قابل للدحض والتزوير من خلال التجربة والملاحظة. تابع بوبر، يتمثل هذا في توضيح أن النظريات العلمية المقترحة زائفة، مزورة من خلال التجربة، ولا تُظهر أبدًا أن أي نظرية علمية صحيحة أو حتى من المحتمل أن تكون كذلك. قد نوسع نطاق تفسير بوبر للعلم ليشمل الفلسفة. ربما يمكن النظر إلى الفلسفة على أنها تتبعُ نفس أسلوب التخمينات الجريئة، أي بالرغم من أنها لم تؤكد قطّ، إلا أنه يمكن دحضها بالأدلة.

إن لوجهة نظر بوبر، القائلة بأن للملاحظة فقط دور سلبي ومزيف في العلم، نتيجة مشبوهة بشدة مفادها أنه لا يوجد دليل رصدي لأي نظرية علمية. فلنطرح جانبًا ما إذا كان قد وصف الطريقة العلمية بشكل صحيح ونفكر في امتداد تفسيره إلى الفلسفة. في معظم الأحيان، لا تقدم النظريات الفلسفية تنبؤات حول ما نلاحظه؛ لذلك لا يمكن دحض هذه النظريات من خلال اكتشاف أنها تقدم تنبؤات خاطئة حول ما نلاحظه.

عندما وضع جورج بيركلي نظرية اللامادية عام 1710 والتي بموجبها تنص على أن الأشياء المادية هي محض مجموعات من الأفكار إما في أذهاننا أو في عقل الإله، لم يكن يتنبأ بأية ملاحظات معينة قد تكون لدينا؛ أي التنبؤات التي تتعارض مع تلك التي تقدمها النظريات الفلسفية المتنافسة. وفقاً لبيركلي، الأمر ببساطة هو أن كل ما نلاحظه مجرد أفكار في العقل؛ راقب كل ما تودُّه، ولن تُكذِب بيركلي. لذلك فنحن بحاجة إلى التفكير في ما سيكون عليه نظير الملاحظة إذا قمنا بتوسيع نطاق تفسير بوبر للمنهج العلمي ليشمل الفلسفة، وهنا تبدأ المشكلة.

تقدم أي وجهة نظر فلسفية جديرة بالاهتمام ادعاءات غير واضحة، وإلا فلن تكون هناك فائدة تذكر من تقديمها. ثم يجب مناقشة الادعاءات؛ ولهذا فإن الحجة هي عُدَّة الفيلسوف. الآن، يجب أن يكون للحجة مقدمات والتي من المفترض أن يتبعها الاستنتاج من الحجة. توفر المقدمات سببًا لتصديق هذا الاستنتاج، وهذا ما يطرح سؤالين: ما الذي يوفر مقدمات الحجة الفلسفية؟ ولماذا تُقبل هذه المقدمات؟

يبدو حدس الفلاسفة نظيرًا ضعيفًا لملاحظات العلماء

إجابة واحدة على السؤال الأول الذي يستهوي الفلاسفة هي القول بأن مقدمات حججهم يتم توفيرها من خلال حدسهم، أي بما كانوا يميلون إلى التفكير فيه بعد التعرف على مشكلة فلسفية. بعد أن سمعت عن مشكلة مولينو (وسنفترض) أنه سيبدو لك بأن الشخص لا يمكنه التعرف على كل شكل، وهذا حدسك؛ وإذا بدا لك أنه يجب أن يكون هناك شيء ما غير منطقي حول ارتكاب الأشخاص للأخطاء في التمييز، فهذا حدس آخر أيضًا. وكأشخاص متمسكين بآرائهم، فإن لدى الفلاسفة الكثير من الحدس الخاص بهم. ومع ذلك، فإن احدى الصعوبات هي أن لدى الفلاسفة المختلفين حدسًا يناقض بعضه الآخر؛ لِذا لا يمكن أن تكون جميعها صحيحة.

هناك صعوبة أخرى وهي أنه حتى عندما يجد معظم الفلاسفة أنهم يتشاركون نفس الحدس، يبدو أن حدس غير الفلاسفة من الثقافات غير الغربية غالبًا ما يختلف عنهم. وأخيرًا، حتى لو تشاركنا جميعًا الحدس نفسه، فما الفائدة من ذلك؟ ما لم نعرف ما هي مصادر حدسنا –ونحن لا نعرفها-  لن نعرف ما الذي سنعتمد عليه عند استجداء حدسنا. يمكن أن نكون جميعنا مخطئين؛ يبدو حدس الفلاسفة نظيرًا ضعيفًا لملاحظات العلماء.

قلتُ أن هناك ردان يمكن تقديمهما حول الطريقة التي تتناقض بها الفلسفة بشكلٍ سلبي مع العلم. يستند الرد الثاني إلى عمل مختلف تمامًا لفيلسوف علوم آخر وهو توماس كون. رفض كون في كتابه بنية الثورات العلمية (1962) الصورة النمطية للعلم، والتي تنص على أن له تاريخ متزايد بانتظام يرتفع فيه مستوى المساهمات المتتالية لأجيالٍ من العلماء مع بعضها البعض بسلاسة، مما يؤدي إلى بناء المعرفة العلمية بزيادات ثابتة. اعتقَد كون أن مثل هذه النظرة قبِلت بسذاجة تاريخًا يخدم الذات كتبه المنتصرين، حيث أن المنتصرين هم علماء أيًا كان برنامج البحث السائد. وبدلًا من وجهة النظر هذه، دافع كون عن رواية تاريخية مفادها أنه لا توجد استمرارية في الأفكار بين برامج البحث على الجوانب المتعارضة للثورة العلمية. ليس هناك وجه مشترك للأفكار، كما زعم، بين أرسطو وغاليليو، أو بين إسحاق نيوتن وألبرت أينشتاين. تتحدث الأطراف المختلفة بشكل يتعارض فيه بعضها عن الآخر؛ ويحدث التقدم العلمي وفقًا لذلك.

إن آراء كون مقلقة ومثيرة للجدل. لكي نقارن العلم بالفلسفة، فإنه يكفي إجراء استجابة مقيدة. على مدى عقود، تغير الكثير في الفهم العلمي للأشياء، في النهاية الأكثر تكهناً للعلم وفي أحدث أبحاثه، ولا شك بأن المزيد سيتغير في المستقبل. لكن الكثير في الفهم العلمي للأشياء لم يتغير بعد. تم حل العديد من المشكلات العلمية ولا يزال المجتمع العلمي متأكدًا من الحلول وهناك احتمال ضئيل بأن بعضها سيحتاج إلى مراجعته أو التخلي عنه. إليك مجموعة من القوانين التجريبية الموثوقة مثل: قوانين التربيع العكسي التي تُطبق على الضوء والصوت، وقوانين كولوم للتفاعل المغناطيسي والكهربائي، وقوانين أوم وأمبير وفارادي للكهرباء. هذه القوانين الفيزيائية ثابتة ومؤكدة إلى حدٍ كبير، أيمكن قول الشيء نفسه عن شيء ما في الفلسفة؟ على العكس، بل أن الأمر متروك للجدال حول ماهية قوانين المنطق.

بعد أن أصبح لدينا بعض الفهم حول الحالة الراهنة للفلسفة، يمكننا الانتقال إلى مهمة التشخيص. ما الخطب الذي حدث؟ لماذا تقاوم المشكلات الفلسفية الحلول؟ سأنظر في خمس إجابات، آخرها ستكون إجابتي.

الإجابة الأولى تتحدى التشاؤم، والخبر السار يقول أنه تم حل بعض المشكلات الفلسفية. على سبيل المثال: يدَّعي نعوم تشومسكي أن مشكلة العقل والجسد قد تم حلها منذ قرون. عندما طرح رينيه ديكارت المشكلة اِعتبر الجسد مادة ممتدة في الفضاء ،كما أن الأجساد يمكن أن تؤثر في الأشياء الأخرى أو تتأثر بها فقط عن طريق التلامس. في المقابل، فإن العقل مادة واعية ولكنها تفتقر إلى الامتداد. نظرًا إلى أن العقول لا يمكن أن تتلامس حرفيًا مع الأجساد فهي لا يمكنها التفاعل، ثم تأتي المشكلة في كيفية تفاعل العقول والأجساد. أجاز نيوتن، من خلال فرض قوة الجاذبية، بأن الأشياء يمكن أن تؤثر على بعضها البعض دون تلامس. تتلاشى مشكلة العقل والجسد لأنه ما من شيء يجيب على أحد جانبيّ التمييز؛ لا يوجد شيء اسمه الجسد.

إذا نجح الأمر، فلن يكون هذا مجرد مثال على مشكلة فلسفية تم حلها، ولكن العلم كان سيقدم الحل. ما زلت غير مقتنعًا بذلك. كما أرى، فقد كشف نيوتن عن نقص في تفكير ديكارت حول ماهية الجسد وهذا يعني أنه كان لدى ديكارت نظرية خاطئة عن الجسد؛ لذلك لا يوجد شيء اسمه الجسد كما شرحه ديكارت، ولكن ذلك لا يعني أنه لا يوجد مطلقًا شيء يسمى الجسد.

كانت هناك نظريات خاطئة عن النجوم والبشر، ولكن ذلك لا يعني أنه لا وجود لأشياء مثل النجوم أو البشر؛ كل ما في الأمر أنه لا وجود لنجوم أو بشر كالتي شرحتها تلك النظريات الخاطئة وأن هناك شيء يدعى الجسد، مادي، كما هي أشياء أخرى مثل الكواكب و رؤوسنا. لا تزال هناك مشكلة ديكارت حول ارتباط العقول، وخصائصها الاستثنائية، بالأجسام وخصائصها المختلفة تماماً على ما يبدو. إن استمرار هذه المشكلة توضح الحقيقة الأكثر شيوعًا وهي أنه ليس من السهل العثور على أمثلة واضحة لمشكلات فلسفية قد تم حلها.

يعتبر التشخيص الثاني تشخيصًا رافض؛ حيث يقول إن المشكلات الفلسفية ليست حقيقية وأن فشل الفلسفة في الإجابة على اسئلتها يكشف أنها تافهة ومزيفة. يخترع الفلاسفة مجموعة من المشكلات المصطنعة، وكألعاب الصالون، يتسلون بها فيما بينهم.

ومع ذلك، فمِن رأيي أن ما هو تافه وسطحي هو تمامًا هذا التشخيص. المسألة الأولى هي أنه لا يقدم شيئًا لشرح سبب مقاومة المشكلات الفلسفية للحل. إذا كانت مجرد ألعاب كلمات بسيطة –ألعاب تستغل فيها التورية أو غيرها من أشكال التلاعب بالألفاظ- فلا ينبغي أن تتطلب الكثير من الوقت أو الجهد لحلها والتخلص منها، أي يجب أن يتم الانتهاء منها بسهولة مثل لغز الكلمات المتقاطعة في الصباح. الحقيقة هي أن المشكلات الفلسفية ليست كذلك، إنها تقاوم الإجابات الهينة والسهلة. النقطة الثانية هي أن هذا التشخيص الرافض، هذا الرد الأولي المناقض للفكر، يبدو خاطئًا بشكل خاص عندما نفكر في المشكلات الفلسفية المتعلقة ببعض الأشياء التي تهمنا كثيرًا، تلك القضايا التي تتعلق بالطريقة التي نعيش بها حياتنا وكيف يجب أن نتعايش مع الآخرين –قضايا متعلقة بالأخلاق والسياسة.

من الصعب التفكير في مشكلة لها عواقب أكثر من مشكلة تتعلق بكيفية عيش حياتنا

تخضع حياتنا -من بين جملة أمورٍ أخرى- للقواعد الأخلاقية، أي القوانين التي تحدد ما هو محظور (غير لائق أخلاقيًا) وما هو غير محظور (جائز أخلاقيًا). فقط ما هو القانون الأخلاقي؟ ما هو مصدر الأخلاق؟ هل هو عواطفنا؟ أم منطقنا؟ أم شيء آخر أيضًا؟ وهناك المزيد من الأسئلة: لماذا يجب أن يكون الكل خلوقًا؟ ما فائدة ذلك لهم؟ أولى أفلاطون اهتمامًا كبيرًا بهذه الأسئلة. لقد اعتبر أن الظالم هو الشخص الذي يرتكب خطا معرفيًا بعدم التفكير في الأمور بوضوح كافٍ. اعتقد أفلاطون أنه إذا كان لدينا فكرة جلية حول ماهية الصلاح الأخلاقي، إذا أمكننا فقط أن نعرفه على حقيقته، فسنكون ملزمين بتجنب ارتكاب الأخطاء. إن معرفة الخير هي أن تحبه.

اختلف فلاسفة آخرون ولم يجدوا رابطًا بين العقل والأخلاق. اعتقد ديفيد هيوم بأن العاطفة، وليس العقل، هي التي يمكن أن توفر التوجيه لحياتنا. ذكر هيوم بشكلٍ استفزازي في مقالته رسالة في الطبيعة البشرية (1739) أنه لا يوجد شيء منافٍ للمنطق في الاهتمام بخدشٍ في اصبعك أكثر من مصير البشرية. ما يجب أن نخرج به من هذا الجدال بين أفلاطون وهيوم هو أنه لا يشبه على الإطلاق ألعاب الصالون، والتي لا عواقب مترتبة عليها. في الواقع، من الصعب التفكير في مشكلة لها عواقب أكثر من مشكلة تتعلق بكيفية عيش حياتنا.

إن رفض هذا الجدال باعتباره تلاعبًا بالألفاظ وبلا قيمة يكون بمثابة تهربٍ من المواجهة، وعلى وجه التحديد، من مواجهة مشكلة فكرية بالغة الصعوبة. علاوة على ذلك، فهو بعيد كل البعد عن كونه مثالًا منفردًا. يثير الجدل حول حقيقة المسؤولية الأخلاقية، والأساس المنطقي للعقاب أو الحالة الأخلاقية للحيوانات، مسائل أخرى ملِحة فكريًا وأخلاقيًا.

يقول التشخيص الثالث إن المشكلات الفلسفية أصعب بكثير من المشكلات العلمية؛ ولهذا لم يحلها أحد حتى الآن، لكن الاِدّعاء بأن المشكلات الفلسفية صعبة سيكون تفسيرًا ضعيفًا لعدم حل أي من هذه المشكلات؛ إن درجة صعوبة المشكلة تعني فقط الدرجة التي تقاوم بها الحل. لا أرى بأي مقياس آخر يجب تصنيف كل مشكلة فلسفية على أنها أصعب من أي أخرى علمية.

يبدأ التشخيص الرابع حيث يترك الثالث. وفقًا لهذا التشخيص، فإن المشكلات الفلسفية حقيقية، ولكن من الاستهانة الخطيرة أن نقول إنها صعبة; المشكلة هي أننا معرفيًا لسنا قادرين على حلها. تجعلنا الخلايا العصبية التي في أدمغتنا بارعين في بعض الأشياء –مثل تعلم لغةٍ ما أو الحكم على المكان الذي ستهبط فيه كرة التنس- على حسابِ أشياء أخرى. نحن لسنا مناسبين لأن نكون فلاسفة بارعين ،ولا أيًا منا.

هذه تكهنات مثيرة للاهتمام. يبدو أن ما هو مغلق معرفيًا أمام البشر قضية تجريبية مفتوحة، ولكن التشخيص محرِج في الادّعاء بأن حل المشكلات الفلسفية مغلق أمامنا معرفيًا بينما نسمح بأن كل شيء آخر نفعله في الفلسفة –فهم المشكلات، وتقديم الفرضيات عنها، ونقد تلك الفرضيات أو تحسينها- مفتوح معرفيًا. يبدو هذا انقسامًا موحدًا ومرتبًا بشكل غريب.

إن التشخيص الخامس، والذي أعتقد أنه يوضح أكثر من غيره، هو أنه لا يوجد عامل واحد لشرح افتقار الفلسفة إلى التقدم. بدلًا من ذلك، يعتبر هذا تأثيرًا تفاعليًا لمجموعة من الأشياء. كما رأينا في مسألة الحدس، هناك خلاف ليس فقط حول النظريات التي يبتكرها الفلاسفة ولكن أيضًا حول العديد من الأساليب أو أنواع البيانات التي يستعينون بها لدعم نظرياتهم. كما أن للمشكلات الفلسفية طبيعة متشابكة: أي أن الحلول المقترحة لمشكلةٍ ما تتطلب افتراضات جدلية حول مشاكل حية أخرى. على سبيل المثال: هناك مشكلة في معرفة ماهية الأخلاق –ما هو الجيد أو السيء أخلاقيًا بالنسبة إلى الأفعال و الأشخاص- لكن هذه المشكلة ليست مجزأة.

إلى جانب هذه المشكلة حول طبيعة الأخلاق، هناك مشكلة حول سبب وجوب قبولنا لبعض الآراء الأخلاقية بدلًا من الأخرى، وكما رأينا هناك أيضًا مشكلة حول سبب اهتمام أحد ما بالأخلاق. إذًا فإن لدينا جملة من المشاكل هنا: مشكلة تعريفية (ما هي الأخلاق؟)، ومشكلة معرفية (كيف يمكننا معرفة ما هو أخلاقي؟)، ومشكلة تحفيزية (لماذا تعتبر الأخلاق مهمة؟). ستضع حلول هذه المشكلات افتراضات حول الواقع وحول عقولنا والتي ستوقظ مشاكل جديدة متعلقة بها، وبالتالي تتشعب القضايا.

إذا كان هذا التشخيص هو ما يعيق التقدم الفلسفي فما هو العلاج؟ كيف يمكننا تحسين الفلسفة؟ من البديهي القول إننا يجب أن نحاول بجدية أكبر لكن ذلك لا يخبرنا أي الطرق يجب الاعتماد عليه وأيها يجب التخلي عنه. ربما يمكن أن يساعدنا التقدم في الذكاء الاصطناعي. وكما يقولون، فإن التنبؤات صعبة للغاية خاصة فيما يتعلق بالمستقبل. إن البرمجيات التي ستنفذ أنماط التفكير المنطقي هي ما سيكون مطلوبًا، ولكن صعوبة إضفاء الطابع الرسمي على بعض هذه الأنماط تثير صعوبات في البرمجة.

علاوة على ذلك، يجب تخصيص أوزان بطرق مختلفة للحجج التي يتم تقييمها، ومن شأن هذا أن يعيد المسؤولية المعرفية إلى المبرمجين البشريين. وكنقطة ذات صلة، أدى استخدام الأساليب الرسمية بشكلٍ أكبر إلى تعزيز الدقة في الفلسفة. على سبيل المثال: شحذ كل من نظرية القرار ونظرية اللعبة التفكير في مجالات الفلسفة الأخلاقية المعنية بالعقلانية وإبرام العقود.

قد لا تحل المدخلات من العلوم المشكلات الفلسفية ولكنها مورد قيم يمكن الاعتماد عليه. استكمل البحث النفسي التجريبي (الذي يتضمن، على سبيل المثال، جراحة الساد) تفكير الكرسي في مشكلة مولينو. إن تبني ممارسة العلماء للعمل الجماعي في فرق البحث قد يفيد الفلاسفة أيضًا. ومع ذلك، فإن النزعة الفردية والمتناقضة للعديد من الفلاسفة قد تولد خلافات داخلية ذات طابع مألوف للغاية.

لدينا إذًا شيء ما نضيفه إلى مخزوننا من المشكلات الفلسفية: لماذا الفلسفة صعبة للغاية؟ وكيف يمكننا الحصول على نتائج موثوقة فيها؟ يمنحنا التفكير في هذا الأمر سببًا إضافيًا لتشكيل وجهات نظرنا الفلسفية بشكلٍ مبدئي ومؤقت. يمكنني أن أضيف بشكلٍ مبدئي أيضًا أن هذا ليس نهجًا سيئًا لتشكيل وجهات النظر حول أي شيء.