مجلة حكمة
افرين رومل

أضواء جديدة على أسطورة رومل، “ثعلب الصحراء” – كريستيان هارتمان / ترجمة: محمد المهذبي


لقد آمن “إرفين رومل” لوقت طويل بأدولف هتلر الذي مكّن الضابط الطموح من مسيرة مهنيّة استثنائيّة. أظهر في شمال إفريقيا بالخصوص موهبته العسكريّة اللافتة. ثمّ سقط في النهاية ضحيّة النظام القمعي الذي خدمه بإخلاص. 

          “رأيت رومل جالسا على كرسيّ السيّارة الخلفي، وبدا واضحا أنّه يحتضر، منكفئا على نفسه، وهو ينتحب. لا يصدر عنه تأفّف ولا أنين بل نحيب، وقد سقطت قبّعته. أمسكت به وأَجْلَستُه ثمّ سوّيت له القبّعة.”

مات رومل في واقع الأمر وحيدا. لم يرافقه سوى منفّذو حكم هتلر بالإعدام. ولم يتحدّث عن الانتحار القسري للجنرال إلاّ شخص واحد شهد الحدث، وهو هاينريش دوزي. فقد حمل كسائق، يوم 14 أكتوبر 1944، الجنرالين فيلهلم بورغدورف وإرنست مايزل إلى مدينة هيرلنغن في منطقة ألب بسوابيا(1). كلاهما كانت لديه كبسولة مملوءة بمادّة سمّ الزيانكلي. وبانتحاره الذي أجبراه عليه، كان بإمكان رومل على الأقلّ حماية عائلته.

       سبق لـ رومل مواجهة الموت في مناسبات عديدة. فقد رأى أناسا كثيرين يموتون أثناء الحربين العالميّتين الأولى والثانية، وأصيب خمس مرّات بجراح، وكانت خطيرة. ولم يوجد قطّ أيّ شكّ في شجاعته وفي ازدراءه للموت. ورغم ذلك فقد مات في النهاية “منتحبا”. في إعلان الوفاة، الذي ظهر في اليوم الموالي، لا نجد، إلى جانب المعطيات المألوفة، سوى جملة وحيدة عنه شخصيّا: “كانت حياته في خدمة الوطن”. وغابت في المقابل تلك الصيغة المألوفة التي وشّحت كثيرا جدّا من توابيت الجنود الألمان منذ سنة 1939:” من أجل الفوهرر (2)، والشعب والوطن.”

       لطالما آمن رومل بالفوهرر، بل إنّه كان، لفترة ما، المفضّل عند هتلر من بين الكثير من جنرالات الفيهرماخت.(3) تغيّر ذلك بتأثير الأزمات العسكريّة، ومنذ نوفمبر 1942، بدأ الإثنان في التباعد بشكل تدريجيّ. لم يكن ذلك ضمن مسار خطيّ. وفي النهاية، جاء حكم هتلر عليه بالإعدام. وجب على ذلك أن يبدّد لدى رومل كلّ شكّ حول حقيقة الرجل الذي خدمه لفترة طويلة. لقد أعطى إرفين رومل كلّ شيء خلال حربين اجتاحتا العالم، ولكن بدا كلّ ذلك عندها دون جدوى. واجه رومل موته أيضا برؤية عن خراب الوطن، الذي كان من الممكن منذ مدّة طويلة التفطّن إلى أنّه سيكون شاملا، مثلما كانت تلك الحرب.

       لماذا يبدأ هذا المقال المخصّص لعمل رومل العسكري بتصوير موته؟ لأنّ الأمر لا يتعلّق في ذلك المشهد بشخص واحد فقط بل بخلاصة استنتاجات عسكريّة وسياسيّة عامّة. إنّها ما يشكّل سياق التحليل الذي سيأتي للجانب العسكري. لقد صار رومل كعسكري وكقائد حربي شخصيّة تاريخيّة استثنائيّة. ولذا يكون التساؤل أوّلا عن سبب حدوث ذلك.

بداية تخلو من الإثارة

       بدا إرفين رومل وكأنّه غير مهيّأ للعمل العسكري. فهو لم يكن راغبا في البداية في أن يكون ضابطا في الجيش. وعندما أصرّ والده على ذلك، رفضت قوات المدفعيّة، وقوات النخبة ترشّح الـطالب النحيف -باعتباره ابن رئيس جامعة بورجوازي، من جنوب ألمانيا، ودون علاقات ومن عائلات ليست لها تقاليد عسكريّة- الذي لم يكن يملك شيئا يؤهّله بشكل من الأشكال لسلك الضبّاط. ولم يكن فيلق المشاة “الملك فيلهلم الأوّل” عدد 124، الذي بدأ فيه الشابّ ذو التسعة عشر عاما حياته المهنيّة في النهاية أثناء شهر يوليو 1910، من أفضل الفيالق سمعة، فقد قضى حرب 1870/1871 خلف الجبهة. وكذلك فإنّ موطنه في “فاين غارتن” بسوابيا العليا لم يكن مطلوبا لدى علية القوم. يبدو أنّ رومل لم يغادر فاين غارتن إلاّ في حالات نادرة قبل سنة 1914. لم يكن مرشّحا إلاّ للمدرسة الحربيّة الإجباريّة التي تخرّج منها بمدينة دانتسيغ سنة 1911، ولكن ليس لمدرسة الضبّاط العسكريّة بمعناها الدقيق، أي الأكاديميّة العسكريّة ببرلين.

       غير أنّ جدارته بالانتماء للنخبة العسكريّة فهي ما برهن عليه رومل ليس أثناء الدروس أو في فصول الدراسة المغبرّة، بعد أن منحته الحرب العالميّة الأولى ما يكفي من الفرص لذلك. فقد بدت حتّى السريّة التي قادها في أكتوبر من سنة 1915 غير عاديّة. أُنشئت الكتيبة الجبليّة الفرتمبرغية (4) في شهر مايو سنة 1915 بعد أن أعلنت إيطاليا الحرب، وعندما صارت أعالي الجبال جبهة حربيّة. ففي ذلك الميدان القاسي بطبيعته على الإنسان، تحوّلت القوّات الألمانيّة الجبليّة الجديدة إلى قوّات نخبة، ستقاتل خلال السنوات القادمة في مختلف النقاط المشتعلة. وفي ذلك المحيط بدأ نجم رومل في الصعود.

 

منعرج الحرب العالميّة الأولى

       ظهرت قدراته الكاملة في خريف سنة 1917 على جبهة إيسونزو (5). حاولت القوّات الإيطاليّة اختراق المواقع العسكريّة النمساويّة-المجريّة غربي سلوفينيا إحدى عشرة مرّة، وفي شهر سبتمبر من سنة 1917 لم يعد بالإمكان إيقاف تقدّمها. قرّرت القيادة العليا للقوات المشتركة النمساوية المجريّة الهروب إلى الأمام وتنظيم هجوم معاكس بمساندة ألمانيّة. انطلق ذلك الهجوم يوم 24 أكتوبر من سنة 1917 على امتداد خمسة وثلاثين كيلومترا.

       كون المهاجمين قد استطاعوا اختراق المواقع الإيطاليّة بسرعة وأنّ النجاح التكتيكي تحوّل إلى نجاح عمليّاتي وضع إيطاليا على حافّة الهزيمة، فهو ما كان أيضا نتيجة مهارة رومل . لقد برهن الملازم الأوّل، الذي لم يتجاوز عمره الرابعة والعشرين، في ثلاث مناسبات كيف يستطيع المرء، بقوّات أقلّ عددا بكثير من قوّات العدوّ وبأقلّ الخسائر الممكنة، أن يستولي على مواقع بدت غير قابلة للاختراق: في كولفرات وفي مونت ماجور وقرب لغاروني.

       لقد أعلنت القوات الإيطاليّة سقوط عشرة آلاف قتيل ونحو ثلاثين ألف جريح. يُضاف إلى ذلك مائتان وخمسة وستّون ألفا وقعوا في الأسر، وثلاثمائة ألف من المفقودين. فقط على مسافة 160 كيلومترا على ضفاف نهر بيافي، استطاع الإيطاليّون الوصول إلى تثبيت الأوضاع على جبهتهم بعض الشيء.

       ولم يكن الوسام العسكري الذي حصل عليه رومل في 10 ديسمبر 1917 أقلّ إبهارا فهو وسام “بور لو ميريت “. (6) فمن بين العدد الذي تجاوز ثلاثة عشر مليونا من القوّات الألمانيّة في الحرب العالميّة الأولى، لم يحصل على وسام الشجاعة الأرفع ذلك سوى ستمائة وسبع وثمانون، وكانوا في الغالب من كبار الضبّاط. وكان تسليم الوسام أيضا غير مألوف. فقد تمّ في البداية توسيم ضابط على وجه الخطأ. ولم يحصل رومل على الاعتراف الذي يستحقّه إلاّ بعد تَظَلُّمِه بنبرة عالية. وذلك أيضا يكشف أشياء كثيرة. فقد صار رومل شديد الثقة بنفسه، بعد أن اكتشف –مثلما قال ابنه لاحقا- مدى “تأهّله كعسكري وكقائد قوات”. وقد اكتشف أيضا عند ذلك أنّه متفوّق كثيرا على معظم معاصريه.

       لقد كانت مذكّرات رومل ، الصادرة سنة 1937، أكثر من عمليّة استعادة للذكريات. فبكتابه “قوّات المشاة تهاجم”، ألّف الملازم الأوّل أحد الأعمال الكلاسيكيّة في فنّ الحرب، لا يزال يعاد نشره، وليس فقط باللغة الألمانيّة. وفي ذات الوقت فإنّ ذلك الكتاب يعتبر رسما نفسيّا لمؤلّفه، ولطموحه وقوّة عزيمته وإبداعه، وأخيرا وليس آخرا، سعيه إلى الكمال العسكري. الكتاب الذي هو مزيج من تجارب عسكريّة وتأمّلات، يُرفِق، مثلما في كتاب مدرسي، كلّ حدث كبير بمقطع من التأمّلات النظريّة.

 

شعاره: أعلى درجات النجاح بأقلّ ما يمكن من الخسائر البشريّة

       يثير الانتباه أيضا أنّ الكتاب خال من أيّة نبرة قوميّة أو عنصريّة. وراء تلك الشهادة الشخصيّة في شكل تقرير قصير عن التجارب، وجافّ أحيانا، يكمن دائما السؤال العسكري المركزي، الذي طرحته الحرب العالميّة الأولى: كيف يمكن تنفيذ القرارات العسكريّة في ظلّ ظروف القرن العشرين، بسرعة وبأعلى درجات النجاح وبأقلّ ما يمكن من الضحايا؟

       كون رومل قد درّس في العديد من المدراس العسكريّة –في دريسدن وبوتسدام وختاما في “فينر نوير شتات”- قبل سنة 1939، فلا بدّ أن يساعد ذلك المناقشة النظريّة للممارسة الحربيّة بشكل إضافي. إنّ التجارب الأخيرة هي التي كانت تحتلّ الصدارة، وليست المعتقدات التقليديّة: “لا تهتمّ بآراء كلاوزفيتس (7) بل ما رأيك أنت؟” وهو السؤال الذي كثيرا ما ردّده رومل . يشمل ذلك أيضا بالتأكيد تعريف كلاوزفيتس للحرب على أنّها “مواصلة للسياسة بوسائل مختلفة”. لم يكن لرومل في ذلك الوقت خطط استراتيجيّة تلعب فيها العوامل السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة دورا.

       سيتحوّل رومل إلى أسطورة عسكريّة في شمال إفريقيا. لم يكن ذلك أيضا قابلا للتوقّع في البداية. كانت مهمّة الفيهرماخت هناك، في المنطلق، تكمن في إيجاد حلّ لوضعيّة حرجة. ففي شتاء 1940-1941 انتهى الهجوم الإيطالي على مصر التي تحتلّها بريطانيا نهاية كارثيّة، وبدت ليبيا التي كانت مستعمرة إيطاليّة قد ضاعت. عندما عُيّن رومل في فبراير 1941 قائدا للقوّات الألمانيّة بشمال إفريقيا، كان هتلر وقيادة الفيهرماخت قد اختاروا نقطة استراتيجيّة أخرى، وهي الحرب المخطّط لها ضدّ الاتّحاد السوفييتي. أمّا شمال إفريقيا في المقابل فكان عليها أن تبقى جبهة ثانويّة. ففي برلين كانوا يفكّرون في تأمين “المجال الاستراتيجيّ” بوسائل متواضعة على الأرجح. وكان المنظّر الحربي الشهير كارل فون كلاوزفيتس يرى أنّ الدفاع الدائم “يناقض تماما مفهوم الحرب“. وبعبارة أخرى كان أكثر إشكاليّة. وذلك لستة أسباب: فقد كان الأفريكا كور (8) الألماني دائما أقلّ عددا من أعدائه تقريبا. ثمّ إنّ قسما كبيرا من الإمدادات الألمانيّة قد تمّ تحطيمها، نظرا لأنّ قوى المحور لم تستطع أن تعقد العزم على غزو مالطا الجزيرة ذات التحصينات، وأنّ العدوّ البريطاني قد اخترق شيفرة اللاسلكي وكان على علم جيّد بنوايا رومل ، وأنّ الحلفاء الإيطاليّين كانوا حلفاء على قدر من الصعوبة وقد بدا اعتدادهم بأنفسهم وطموحاتهم لا علاقة لها غالبا بقدراتهم العسكريّة، وأنّ القوّات المسلّحة الألمانيّة لا تمتلك أيّة خبرة في منطقة شمال إفريقيا. ومع أنّ شمال إفريقيا لا تقع في مركز اهتمامات هتلر، فإنّ طلباته غير الواقعيّة وتدخّلاته أصبحت تمثّل أعباء إضافيّة.

       وفي يوم 12 فبراير 1941 وصل رومل إلى طرابلس وسرعان ما أطلق في 24 مارس الهجوم الأوّل. “لم أستطع مقاومة الفرصة المناسبة”، مثلما كتب فيما بعد. في شهر يوليه من سنة 1942، إثر هجوم ألماني ثان، كان الأعداء البريطانيّون يترنّحون بالفعل إلى درجة بدت فيها قواعدهم في مصر مهدّدة. بل إنّ الأمر قد وصل إلى حدّ جعل الوزير الأوّل البريطاني ونستون تشرشل يصف رومل آنذاك بأنّه “جنرال عظيم”. يكمن خلف مثل تلك الكلمات دائما أيضا محاولة تبرير الهزيمة البريطانيّة بالطبع. إلاّ أنّ ذلك كان ينمّ رغم كلّ شيء عن اعتراف بمكانة الرجل. وكون الدعاية الألمانيّة كانت تشتغل بحماس على “أسطورة “ثعلب الصحراء” فهو أمر لا يرقى إليه الشك. ولكن هل كانت تلك الأسطورة مجرّد ثمرة للدعاية حقّا؟

 

شمال إفريقيا: نجاحات مدهشة بوسائل عسكريّة متواضعة

أثار الانتباه في البداية التضارب الصارخ بين نجاحات رومل المدهشة وإمكاناته العسكريّة المتواضعة نسبيّا، من حيث القوّات والعتاد. وذلك في حدّ ذاته ما يجعل شخصيّة هذا القائد العسكريّ وفكره وطبعه يظهر إلى الضوء حتّى بشكل أكثر سطوعا ممّا هو معتاد. مقارنة به فإنّ أعداءه يقودون بدون خيال، مع إضاعة الوقت ودون مرونة، وفي النهاية انتصروا بسبب الكمّ الهائل من الرجال والعتاد.

       إلاّ أنّ رومل برهن خلال السنتين السابقتين الطويلتين كيف يمكن الخروج من وضعيّات صعبة وأحيانا ميؤوس منها: بفضل السرعة والابتكار والارتجال، ثمّ الشجاعة والاستعداد لمواجهة الخطر، والكاريزما وختاما بفضل القدرة على الاستشعار. ولذا فقد نجح يوم 21 يونيو 1942 في الاستيلاء على طبرق، الميناء الليبي ذي الأهميّة الاستراتيجيّة.

       ثمّ إنّ تدخّل رومل الشخصيّ الكبير بدا غير مألوف. فكونه قاد تلك الحرب في أحيان كثيرة على الجبهات الأماميّة فهو ما يمكن أن يكون تهوّرا، بل لعلّه حتّى غير مسئول أحيانا. إلاّ أنّ أسلوب القيادة ذاك لم يساعد على تحفيز القوات التابعة له فحسب، بل إنّ وجوده في مواقع متقدّمة جدّا قد منحه القدرة على إمكانيّة التأثير المباشر والسريع سرعة البرق على الأحداث العسكريّة، بشكل لم يتوفّر أصلا لبقيّة القادة العسكريّين في الحرب العالميةّ الثانية.

       ولم ينجح أعداء رومل ، حتّى بعد انتصارهم في العَلَمين، خلال شهري أكتوبر/نوفمبر 1942، في إيقاف وتطويق القوّات الألمانيّة البالغ عددها نحو سبعين ألفا والقوّات الإيطاليّة التي تعدّ ثلاثين ألفا والتي فرّت باتّجاه الغرب، وحسم الحرب بذلك. لقد صار ذلك ممكنا منذ نوفمبر 1942 عندما حلّ حوالي مائة ألف من القوّات البريطانيّة والأمريكيّة بالمغرب والجزائر. وحتّى بعد ذلك فقد استمرّ الأمر إلى حدّ شهر مايو من سنة 1943 لكي تخسر قوى المحور شمال إفريقيا.

       وقد كان لقيادة رومل التكتيكيّة والعمليّاتيّة جانبها المظلم أيضا. فكلّ ما يميّزه يمكن أن ينعكس ضدّه. يمكن الإشارة هنا إلى تشديد رومل المفرط على الهجوم، وإلى طموحه الجامح، وسوء تقديره البدائي للجانب اللوجستي أو إثقاله الدائم على قوّاته، وعلى الضبّاط منهم بالخصوص. وأحيانا فقد كانت قيادة رومل مقامرة، ولكن يمكن التساؤل من هذه الزاوية بالتأكيد إن كان هناك بديل عسكري آخر.

       كانت انطلاقة “الحملة الإفريقيّة” عمليّة تعلّم بالنسبة لـ رومل . فقد كان إلى حدّ كبير خاضعا لتقلّبات المزاج التي استطاعت أن تضخّم تقييماته للأوضاع العسكريّة مثل رجع صدى. غير أنّ ذلك لا يغيّر الكثير من كون رومل يبقى ظهورا استثنائيّا مثلما لا يحصل ذلك إلاّ نادرا حتّى في تاريخ الحرب الطويل.

 

اعتداد بالرأي في المسائل الاستراتيجيّة والأخلاقيّة

       يُقال إنّ رومل لم يفهم حقّا استراتيجيّة أدولف هتلر. ولكن هل كان ذلك صحيحا؟ فقد أراد بعناده دائما أيضا خلق وقائع ومنح مواقعه الحربيّة أهميّة استراتيجيّة، وجب على هتلر والقيادة العليا للفيهر ماخت قبولها مجبرين.

       لم يكن ذلك رفضا للواقع. ومع ذلك فقد دعا جانب من القيادة العسكريّة الألمانيّة إلى وضع مركز الاهتمام الاستراتيجي مستقبلا في المنطقة المتوسطيّة. وكذلك فإنّه كان بالنسبة للفيهرماخت، إثر الأزمة المسجّلة على الجبهة الشرقيّة في شتاء 1941/1942، مثل ذلك التركيز العسكري أكثر معقوليّة من الناحية الحربيّة من الهجومات باتّجاه ستالين غراد والقوقاز. ولحسن الحظّ أنّ ذلك لم يحدث أصلا، فإنّ احتلالا ألمانيّا لفلسطين لوحده كان يمكن أن تكون له تبعات سيّئة لليهود المقيمين هناك. ولكن من منظور المنطق العسكري فإنّ مقاربة رومل لم تكن خاطئة مثلما اعتقد البعض أحيانا.

       وكذلك فقد كان رومل عنيدا في المسائل الأخلاقيّة. فعندما وصلت أوامر هتلر إلى الأفريكا كور بقتل أسرى الحرب اليهود والألمان المهاجرين (9 يونيو 1942) وكذلك القوّات الخاصّة البريطانيّة (18 أكتوبر 1942)، تجاهل رومل تلك الأوامر بشكل مؤكّد. ثمّ إنّ ممانعة رومل العسكريّة أثناء الاختراق البريطاني بالعلمين، عندما تجاوز أمر هتلر بالتوقّف (3 نوفمبر 1942)، فهو لم يكن ناتجا فقط عن أسباب مهنيّة. “لا توقّف غير مشروط في الموقع الحالي، لا ضحايا دون جدوى”، كذلك كانت أوامر رومل آنذاك.

        في الجانب الألماني والإيطالي تمّ على كلّ حال تسجيل اثنين وعشرين ألفا بين مصابين ومفقودين عموما، في حين كانت خسائر الأعداء أكثر من ذلك. ومع هذا فقد كان للحرب في شمال إفريقيا طابعها الخاصّ، فلم تكن مؤدلجة إلى الحدّ الذي كان في جبهات أخرى أثناء الحرب العالميّة الثانية. ويعود الفضل في ذلك أيضا إلى رومل .

       كانت تجربة الهزيمة في موقعة العلمين الثانية “تحوّلا” بالنسبة لـ رومل . “رومل منهار إلى حدّ كبير، حتّى من الناحية العصبيّة”، مثلما كتب جنرال إثر محادثة مشتركة في مقرّ القيادة المركزي. ومن أجل تلك المحادثة، في شهر 9 مارس من سنة 1943، ترك رومل جيشه. ولم تحصل الاستجابة لـ “رغبته في السماح له بالعودة الفوريّة إلى إفريقيا.”

 

 

طالب باستخلاص “النتائج” إثر عمليّة إنزال الحلفاء بفرنسا

       أُعطي رومل في شهر نوفمبر 1943 فرصة أخرى. فبصفته القائد الأعلى الجديد للجيش “ب” في فرنسا، كان عليه إعداد جيش الغرب لمواجهة عمليّة إنزال يقوم بها الحلفاء. كان ذلك بالنسبة لـ رومل في البداية بمثابة تعويض، فقد استيقظ مرّة أخرى طموحه والأمل في احتمال صدّ الهجوم. لقد نجح بالفعل خلال الأشهر الموالية، في إعادة تنشيط جيش الغرب نوعا ما وتعزيز مواقعه الدفاعيّة على نطاق واسع.

       من وجهة نظره، لم يكن صدّ إنزال للحلفاء يملك فرصة للنجاح إلاّ إذا حصل قرب الساحل. لذلك ركّز على تدعيم “الجدار الأطلسي” ودعا إلى نقل الفرق الاليّة إلى ما خلف الشواطئ. كان ذلك في حدّ ذاته معقولا تماما، ففي أغسطس من سنة 1942 انتهت محاولة صغيرة من جانب الحلفاء للإنزال قرب مدينة “دياب” إلى كارثة شاملة. غير أنّ القوّة الألمانيّة في الغرب لم تعان فقط من هياكل قيادة وتصوّرات عملياتيّة متناقضة بل كذلك من الضعف المعلوم لسلاح الجوّ وللقوّات البحريّة.

       كان حاسما، مثلما سيظهر على أقصى تقدير بتاريخ 6 يونيو 1944 في يوم الإنزال (D day)، أنّ الحلفاء كانوا أقوى من الفيهرماخت من الناحية العدديّة بشكل جليّ. منظورا إليه من تلك الزاوية، كان 6 يونيو بالفعل “يوم القرار” (Decision day): ففي كلّ الشواطئ الخمسة استطاعت قوات الحلفاء تحصين مواقعها إلى حدّ المساء، وبعد ذلك بستّة أيّام ربطوا رؤوس جسورهم على طول مائة كيلومتر.

       فمنذ 16 يونيو واجه رومل قائده الأعلى بالسؤال:” قائدي، كيف تتصوّر الآن مصير هذه الحرب عموما؟” دون أن يتلقّى إجابة عن ذلك. في 15 يونيو 1944 كتب رومل لهتلر “تقييمه للأوضاع” والذي جوهره كالتالي: إنّه لمن الـ”ضروري أن يتمّ استنتاج تبعات هذا الوضع”. لقد دفعه رئيس مكتبه إلى حذف لفظ “سياسي”، ومع ذلك فقد كانت الصياغة واضحة بذلك الشكل. تسارعت الأحداث إثرها. فبعد يومين من ذلك أصيب رومل وهو في طريقه إلى الجبهة بجراح خطيرة. وفي العشرين من شهر يوليو انفجرت قنبلة وضعها متآمرون في مقرّ قيادة الفوهرر.

       إن كان رومل على علم بالمؤامرة أو حتّى متورّطا فيها، فهو ليس موضوع هذا المقال. ليس هناك شكوك تتعلّق بمذكّراته بتاريخ 15 يوليو 1944. فقد كان ذلك ضمن نظام شمولي مثل “الرايخ الثالث” وثيقة صادمة. فليس هناك أيّ جنرال قد اقترح، في أيّ وقت من الأوقات، على الفوهرر رسميّا إنهاء الحرب حتّى ولو كان على جبهة واحدة. تقف تلك الوثيقة في نهاية مسيرة مهنيّة استثنائيّة جعلها هتلر وحده ممكنة. كان في البداية تحت حماية هتلر ومن أتباعه، ثمّ عندما أصبح جنرالا، بدا دائما قليل الاستعداد لقبول التناقضات العسكريّة والسياسيّة والأخلاقيّة التي تنتج عن تلك التبعيّة. وبرهن رومل ، في النهاية، على شعور أكبر بالمسؤوليّة السياسيّة والعسكريّة والأخلاقيّة من معظم كبار الضبّاط. وكذلك فليس هناك سوى القليل من الشكّ حول قدراته العسكريّة الكبيرة، حتّى وإن كان هناك أحيانا نقاش حول ذلك. المشكلة كانت في النظام الذي خدمه ذلك العسكري والذي سقط هو ذاته ضحيّة له في خاتمة المطاف.


مراجع:

Cornelia Hecht (Hrsg), Mythos Rommel. Katalog zur Sonderausstellung 18. Dezember bis 30. August 2009. Haus der Geschichte Baden-Württemberg. Stuttgart 2008.

Erwin Rommel, Infanterie greift an. Salzburg 2010.


هوامش الترجمة:

  • Schwäbische Alb بالألمانيّة أو Swabian Jura بالإنجليزيّة وهي سلسلة جبال بجنوب ألمانيا.
  • هو اللقب الرسمي لأدولف هتلر ويعني “القائد” بالألمانيّة Führer .
  • الفيهر ماخت Wehrmacht هي تسمية الجيش الألماني خلال الفترة النازيّة وتعني حرفيّا “قوّات الدفاع”.
  • نسبة إلى فرتمبرغ Württemberg وهي مقاطعة بجنوب ألمانيا تكاد تتطابق مع منطقة سوابيا.
  • Isonzo نسبة إلى نهر يمتد بين شمال شرقي إيطاليا وسلوفينيا.
  • Pour le mérite وردت بالفرنسيّة في النصّ وهي من أرفع الأوسمة العسكريّة الألمانيّة في الفترة التاريخيّة المدروسة.
  • Carl von Clausewitz (1780-1831) وهو أحد أكبر المنظرين للحرب، اشتهر بكتابه “في الحرب”.
  • Afrika Korps أو الفيلق الإفريقي هو القسم من الجيش الألماني الذي أرسل إلى شمال إفريقيا أثناء الحرب العالميّة الثانية.

 

العنوان الأصلي للمقال (تُرجم عن الألمانية):

Ein selten begabter Feldherr, بقلم Dr.Christian HARTMANN ، نشر في مجلّة DAMALS ، الألمانية، العدد الثاني عشر من سنة 2017.