مجلة حكمة
أخلاقيات الحياة

“أخلاقيات الحياة” : تحدي للديموقراطية: حوار مع فريدريك وورمس وجان فرانسوا دولفرايسي – أجرى الحوار: إريك فوتوراينو، إيمان أحمد / ترجمة: الحسين بوتبغة


خصصت المجلة الأسبوعية الفرنسية LE UNالعدد281 الصادر بتاريخ: 29 يناير 2020 لملف متميز تحت عنوان: ” نقاشات حول الإنساني ” فتحت فيه صفحاتها لمتخصصين ومهتمين من مجالات مختلفة، وذلك في إطار تتبع النقاش الدائر حاليا في فرنسا وفي عموم أوروبا حول القضايا الفلسفية والأخلاقية الشائكة التي يثيرها التقدم العلمي والتكنولوجي وتطبيقاتهما في ميدان الطب خاصة وفي مجال علوم الأحياء بشكل عام، وما لذلك من انعكاسات أخلاقية على تصور الإنسان، على هويته وعلى وجوده. وقد أجرت المجلة مقابلة مع متخصصين في مجال الأخلاقيات المرتبطة بعلوم الأحياء (بيوئطيقا) هما فريديريك وورمس FREDERIC WORMS، فيلسوف وأستاذ الفلسفة المعاصرة بالمدرسة العليا للأساتذة بفرنسا، وجان فرانسوا دولفرايسي JEAN FRANCOIS DELFRAISSY وهو طبيب ورئيس اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاقيات في علوم الحياة والصحة بفرنسا. وقد ارتأينا نقل هذه المقابلة إلى اللغة العربية لتعميم الفائدة في موضوع ذي راهنية خاصة.

سؤال: ما الذي يغطيه مصطلح ” أخلاقيات الحياة”    BIOETHIQUE؟

*ج.ف.دولفرايسي : يتقدم العلم بخطى متسارعة ووطيدة ، فإلى أي حد يمكن قبول كل جوانب ونتائج تقدمه ؟ وباسم ماذا؟ هذا هو منطلق تفكير “أخلاقيات الحياة”. إن الأمر لا يتعلق في هذا المجال بأخلاق أو بقواعد سلوك فحسب، وإنما كذلك بمحاولة خلق إطار مشترك سواء في سياق إدماج نتائج التقدم العلمي أو خارج ذلك السياق. لقد نشأ مصطلح “أخلاقيات الحياة” المعاصر مع محاكمة نورمبرغ الثانية (دجنبر 1946 – غشت 1947) التي تعاملت مع التجارب لتي أجراها أطباء نازيون في معسكرات الاحتجاز. فقد خلصت المحاكمة إلى نتيجتين: أولاهما أن التجارب على البشر أجريت في ظروف غير مقبولة، لاإنسانية. والثانية أن هذه التجارب أشرف عليها وأنجزها مسؤولون كبار في الطب الألماني إبان حكم النازية، ولم يكن هدفها على الإطلاق المساهمة في تقدم العلم. وكدليل على أن لا أحد يمكنه الاستغناء عن إطار أخلاقي، فإن المنتظم الدولي شرع في إرساء قواعد التفكير في العلم، وذلك بالنظر إلى أن ليس كل ما يقدمه العلم هو دائما مقبول.

* ف.وورمس : هناك أولا أخلاقيات تهدف إلى معيرة ممارسات علوم الحياة ، وهي تندرج ضمن مجال الأخلاق عامة ، وفي إطار القانون بمعناه العام كذلك. إن تجريم الاكراه والتعذيب يذكراننا بأن الطب يخضع للقواعد القانونية والأخلاقية والسياسية. ثم إن هناك أخلاقيات الطب التي تقوم على العناية وعلى التعاطي الإيجابي مع آلام الناس. غير أن المشكل البيوئتيقي الأساس لا يبرز إلا مع هذا البعد الثالث : هناك أخلاق و مبادئ ذات طابع كوني تبرر بشكل خاص بعض أشكال الرفض. هكذا، لا يجوز أن تستخدم كائنا إنسانيا باعتباره وسيلة: هذا هو المقصود باحترام الشخص. و في ما وراء هذه المبادئ العامة المشتركة، فإن الأخلاقيات تتضمن كذلك اختيارات جوهرية تتعلق بمعنى الحياة. بيد أننا نجدنا أمام عدد من هذه الاختيارات التي لها كلها نفس المشروعية، وتتواجد جنبا إلى جنب داخل مجتمع واحد يتسم بالتعددية. وهناك أسئلة نابعة من علوم الحياة تجعل هذه الاختيارات تدخل في مواجهة مع بعضها البعض ، رغم أنها جميعا تتمتع بنفس درجة الصلاحية. وبهذا المعنى ، فإن “أخلاقيات الحياة” ليست مجرد أخلاق أو قواعد سلوك ، بل هي كذلك طريقة لجعل وجهات النظر الأخلاقية المختلفة تتعايش جنبا إلى جنب ، وطريقة لإرغامنا على التصريح بها . لو لم تكن المساعدة الطبية على الانجاب موجودة، لما كان للسؤال حول المكانة التي يحتلها “الواهب” في العلاقات الإنسانية أي معنى.

* ج . ف . دولفرايسي : هناك أولا ما يحققه العلم من أشكال التقدم ثم هناك تساؤلاتنا الأخلاقية حول تطبيقاتها. وبالموازاة مع ذلك ، هناك التحولات المجتمعية : فالمجتمع الفرنسي اليوم ليس هو مجتمع الخمسين سنة الماضية. والقابلية للتعامل الإيجابي مع التطور التقني وقبول نتائجه تتغير من فترة تاريخية لأخرى. لذلك، فإن أخلاقيات تتطور دون أت تأخذ بعين الاعتبار ما يفكر فيه المجتمع حاليا لن تكون معقولة.

سؤال : ماهي “أخلاقيات الحياة “؟

* ف.وورمس : مهمة لجنة الأخلاقيات هي التفكير في معالم مشتركة ، مع العلم أن مجرد الإعلان عن معالم أمر لا يحل جميع المشاكل. فلو أخذنا ” الكرامة ” على سبيل المثال ، سنجد ان لها معاني و تأويلات مختلفة. بالنسبة للبعض ، فإن ما يؤسس الكرامة هو الحرية الفردية، وبالنسبة لآخرين فالكرامة تنبني على الحياة( بألف لام التعريف ) التي تتقدم على كل ما عداها. ولهذا، لابد من الإعلان عن القيم ، والتأكيد في الوقت عينه على إمكان تعارضها مع بعضها البعض .

هناك قيم أساس، تتعلق بالعمق ، و أخرى مرتبطة بالمنهج. ضمن الأولى ، نجد الكرامة والمساواة والانصاف والتضامن واحترام الفئات الهشة ورفض “تسليع” الجسد. وضمن النوع الثاني ، نجد مثلا احترام مواقف الآخرين و البحث عن التوافق و رسم  الأرضية والحدود المشتركة .

* ج . ف . دولفرايسي: إن القيم المشار إليها تواجه تحديات جديدة. لنأخذ مثلا رفض تسليع الجسد : إنها قاعدة مركزية في “أخلاقيات الحياة” الفرنسية ، وهي في أساس عمليات التبرع بالأعضاء او بالدم أو بالخلايا المخصبة. مع ذلك ، من الضروري وضعها موضع اختبار.

سؤال : بأية كيفية ؟

* ج . ف . دولفرايسي : مع ظهور تكنولوجيات جديدة في مجال الأحياء تتيح إمكانات الدخول إلى قلب الخلية وتعديل أجزاء من الحمض النووي الصبغي ، ومع إيجاد السلاسل الطويلة المتضمنة للمعطيات الصحية ، مع كل هذا وغيره، يصبح التساؤل حول حدود الجسد ملحا. فحين يتعلق الأمر بالتبرع بعضو من أعضاء الجسد مثل الكبد أو الكلية ، فالأمر لا يطرح أي إشكال. ولكن حين يتم التدخل في الحمض النووي الصبغي بالتعديل ، فهل مازلنا نتعامل مع الجسد ؟ إننا حين نجمع معطيات مجتمعية مع معطيات جينومية ، فإننا نكون بعيدين جدا عن المعنى المتعارف عليه للجسد. هذه بعض من أسئلة جديدة ذات بعد أخلاقي طرحت علينا.

                 سؤال لفريديريك وورمس: في كتابكم ” دفاعا عن إنسية حيوية ” تقولون إن البشرية تعيش مرحلة يشتد فيها الخطر على الكائن الحي. لماذا؟

* ف.وورمس : قد يعتقد البعض أن علوم الأحياء لا تعنى إلا بقضايا ذات صلة بحياة وموت الجسد عند الإنسان. لكن الحقيقة ان هذه العلوم تشمل أبعادا أخرى مثل: تمثل الإنسان، قضايا العدالة ، الولوج إلى العلاجات ، الإنصاف…وهذه الأبعاد في نظري ليست أقل أهمية من الأبعاد التي ذكرناها سابقا. والثنائية التي تفصل بين ” الحيوي ” (الذي يتطلب الأمر التضحية بكل شيء من أجله) ، و بين كل شيء آخر عداه، لا تستقيم . علينا أن نعتبر العدالة متمتعة بنفس أهمية البقاء على قيد الحياة. وأنا غير مستعد للبقاء على قيد الحياة بأي ثمن ، ولا أقبل أن يتم إنقاذي من الموت بفضل عضو تتم سرقته من شخص حكم عليه بالإعدام. إن القضايا التي تثيرها الحياة تمتد من العطب الذي قد يصيب دماغنا ،لتشمل كذلك أعطاب المناخ وكل ما له علاقة بالسلم العالمي. ونحن ملزمون أن نكد من أجل معرفة ما يدمر أجسادنا، ولكن كذلك ما يمكن أن يدمر مجتمعاتنا. وهذا ما يبرر حاجتنا إلى تخصصات معرفية متنوعة. إن رهانات ” أخلاقيات الحياة ” تلامس جميع القضايا ذات الصلة بالعدالة. من جانب آخر، فالصحة تحدد طريقة نظرتنا إلى جميع الأمور. كل شيء يتوقف على الصحة. أنظروا إلى مجال الرقمي. فالمعطيات الصحية تساعد على الرفع من فعالية بعض العلاجات، لكنها تفتح الباب كذلك لولوج التعسف وإلحاق الأذى بالآخرين إلى مجال الطب.

    سؤال : ماذا تعملون لأجل انخراط المواطنين في التفكير في هذه القضايا ؟

* ج . ف . دولفرايسي : الأمر بالنسبة إلينا يتعلق بعمل يحتاج نفسا طويلا. قد يعتبر البعض أن طلب راي الجمهور في قضايا بهذا المستوى أمر ساذج. هذا ليس رأيي. فأنا، بالعكس، مقتنع بضرورة خلق مناخ مناسب لنقاش عمومي، عن طريق مد المواطنين بالمعلومات الضرورية، وعبر إتاحة إمكانات النقاش مع علماء ومختصين. لقد حان الوقت لإفساح المجال للديموقراطية التشاركية. وفي هذا المجال، فإن فرنسا رائدة ومجددة في تجريب نماذج متنوعة. إن الصحة مجال أثير للنقاش. والسؤال المطروح على “اللجنة الوطنية الاستشارية للأخلاقيات الخاصة بعلوم الأحياء والصحة ” المحدثة في فرنسا سنة 1983 في عهد الرئيس ف.متيران  بعد ولادة أول مولود أنبوب ، هو : هل من الضروري إحداث لجنة مواطنة ؟ أي دور سيكون لها ؟ هل من الضروري حشد أو تعبئة تلاميذ الثانويات أو الطلبة حول القضايا التي نفكر فيها ؟ الواقع أن ليس هناك إجماع داخل مجموعتنا حول الأجوبة على هذه التساؤلات. فلذى البعض خشية من أننا نقيم ديموقراطية مزيفة.

سؤال : ما هي السمة المميزة للنقاشات حول الإنسان ؟

ف.وورمس : النقاشات  حول الإنسان متنوعة ومعقدة. وليس مستبعدا أن يكون بعضها موجها نحو غايات محددة. أعتقد أن من الضروري فحص حدود “الحي “، ولكن من الضروري كذلك الكشف عن حدود النقاش حوله .هناك تجاوزات في مجال النقاش لابد من العمل على كبحها. من الضروري وضع حدود لما يسعى البعض إلى القيام به باستعمال التقنيات البيولوجية . ثم إن الشك واللجوء إلى السباب يعرقلان النقاش بشكل كبير. لا أحد ينكر أن هناك تحديات خاصة بصورة الإنسان، وأن هناك مخاطر وانتهاكات. غير أن هناك مواقف معقولة من الجانبين في أبرز النقاشات داخل المجتمع. إن ” أخلاقيات الحياة ” تشكل تحديا بالنسبة للديموقراطية . غير أن قدرة الديموقراطية على معالجة (وإن بشكل غير مكتمل ) قضايا شائكة من النوع المشار إليه ، يعطي البرهان على أن الديموقراطية هي النظام الوحيد القادر على احتضان هذه النقاشات.

               سؤال : ماهي النقاشات السائدة حاليا داخل حقل ” أخلاقيات الحياة ” ؟

* ج . ف . دولفرايسي : كل ما له صلة ببداية الحياة وباستعمال التقنيات الجديدة المساعدة على الانجاب ، وكل ما يتعلق بالتعامل مع الجنين وتعديله  ومع الخلايا المخصبة ، كل ذلك يشكل حاليا موضوع نقاش. فهناك تقنيات تتيح استئصال مورث يعتقد أنه المسؤول عن مرض ما. واستئصال مورث خلال الأيام الأولى لتشكل الجنين ، ثم زرع الجنين المعدل في رحم امرأة ، يمكن إما أن ينظر إليه باعتباره مقاربة جديدة في مجال الطب ، و إما أن يعتبر ، على العكس ، توجها لتحسين النسل . وهناك مثال آخر يتعلق بالخلايا الجذعية التي يمكن بفعل تدخلنا أن تصبح قادرة على التحول إلى خلايا الورك فتغني عن وضع ورك اصطناعي. هذا هو طب المستقبل . غير أنه يمكن كذلك تحويل الخلية الجذعية إلى خلية مخصبة – ذكر أو أنثى – وبذلك يصير بالإمكان من الناحية التقنية ” صنع ” جنين خارج أية علاقة جنسية . هذه الأمثلة توضح كيف يمكن تطوير الصحة ( وهو ما يشكل تقدما ) ولكنها تكشف  كذلك كيف يمكن تحطيم مفهوم الكائن الحي ، بل و تحطيم الحي ذاته .

هناك موضوع آخر يثير النقاش في مجال ” أخلاقيات الحياة ” يتمثل في كون بعض المهتمين يعتقدون أن على الطب أن يركز على علاج الأمراض و الوقاية منها، وأن يأخذ على عاتقه مسألة الألم. ولكن مع ظهور التقنيات الطبية المساعدة على الإنجاب المتاحة اليوم لكل النساء ، ألسنا نطالب الطب أن يأخذ على عاتقه مسألة الرغبة Le désir  نفسها، أي أن يقوم بوظيفة لا تدخل في نطاق اختصاصه ؟

* ف .وورمس : هناك  صنفان كبيران من النقاشات : صنف أول مصدره مواضيع وقضايا يهتم الناس  بها بشكل كبير مثل الجنس ، الانجاب ، الموت ، الهوية وما يرتبط بها (أي الدماغ و الوجه والذاكرة والجينات) ، وصنف ثان متعلق بتقنيات الحي وبصورة الكائن الانساني . ولعل أحد أهم الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا المجال : هل يساهم الطب في الرفع من مستوى حياتنا ، أم إنه سيعمل على التحكم فيها عن طريق استيهام ” ما فوق الإنسانية ” Transhumanisme، عن طريق التحكم في أدمغتنا وفي أفكارنا وفي أجسامنا؟ هل سنجد أنفسنا في المستقبل حاملين رقائق إلكترونية  في جميع أجزاء أجسامنا ؟

إن التقنيات المرتبطة بالكائن الحي تثير الخوف ، وهي  في الواقع تجسد الطابع المزدوج للتقنية بشكل عام : داء و دواء في الوقت ذاته . هذه نقاشات فلسفية و أخلاقية قوية جدا ، تثير أصنافا من القلق أو أصنافا من الرغبات . وحين يجتمع القلق والرغبة حول رهان بيولوجي معين ، فإن الوضع يصبح متفجرا. ومع ذلك، نحن نملك الموارد والإمكانات للتعامل مع وضع مماثل.


المصدر: LE UN – NO : 281 –mercredi 29 janvier 2020 , « UN DEFI POUR LA DEMOCRATIE « – pages : 5-6