مجلة حكمة
مع آلتوسير

ذات ظهيرة مع آلتوسير (صيف 1977) –   بيري آندرسن / ترجمة: هشام عقيل صالح


[امضى آلتوسير مع زوجته إيلين رايتمان بضعة أيام في لندن لزيارة صديق لهما: الفنان السوريالي التشيلي ماتا. كانت هذه الزيارة الأولى له لإنكلترا. ويبدو أنه تواصل معي لأنني نشرت مقالة، في العدد 100، حول غرامشي — بما أنه يكتب مقالة حول غرامشي لمجلة ريناشيتا [Rinascita]. تحدثنا لأربع ساعات تقريباً].


       كان آلتوسير ، عموماً، متحفظاً بعض الشيء في المسائل المتعلقة بسيرته الذاتية — كان حذراً في ردوده بخصوص الاسئلة الشخصية حول تاريخه، رغم أنها لم تكن فارغة. إن أهم التجارب التي خاضها كشاب تنحصر في اثنين: الكاثوليكية مع اهتمامها، حينها،” بالمسائل الاجتماعية“ (واحدة منها، كما علق بسخرية). أما الثانية فهي فترة اسره في ألمانيا النازية أثناء الحرب. انقطع تعليمه بفعل الحرب، مثلما حدث مع ويليامز أو هوبزباوم، ولكنه واصل تعليمه مرة اخرى في 1945. كما أنه لم يحض على تدريب فلسفي كافٍ، وأنه في أفضل الأحيان حضر بعض المحاضرات لمارلو بونتي. ولم تشكل الثورة الصينية، ولا الأزمة التشيكية، دافعاً لقراره للإنضمام إلى الحزب في 1948 — لكن يبدو أن هذا القرار كان نتيجة لتطور بطيء من 1945 فصاعداً (من ضمنها آثار الحرب الأهلية الاسبانية أيضاً)، واضف إلى ذلك الدوافع الشخصية (لقاءه بزوجته التي لم يتحدث عنها؟ — على ما اتصور).

       حين سألته حول ردة فعله بخصوص المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، أدلى بأهم ملاحظة تتعلق بتطوره الفكري. قال: ”اعتقدتُ، بشكل خاطئ، بأنه – المؤتمر – شكل أكبر خطر على الماركسية. هكذا كان تفكيري السياسي حينها وبعدها، عند كتابتي لمقالاتي في الستينيات. أما الآن، فأنني أفهم بأن الخطر الحقيقي للماركسية يرجع إلى أبعد من ذلك — إلى الثلاثينيات، إلى الستالينية. كانت الستالينية هي هي الأزمة في الماركسية، حيث قامت بتقنيعها على شكل ركود جامد أو اللا-أزمة. إن ركود، وجمود، الآيديولوجيا الستالينية كانت اسوأ العوارض لهذه الأزمة، ولم تقم الخروتشوفية سوى بتحريكها وجعلها مرئية. يمكننا اليوم أن نعظم من شأن فيرناندو كلودين الذي رأى عمق أزمة النظرية الماركسية بشكل مبكر جداً — رغم أنه لم يتعامل معها فلسفياً. لا ريب بأن تلك الحالة التاريخية أنتجت نوعاً من التشائم في فكره [ هنا يشير إلى فصل مترجم قد قرأه من كتابي ”تأملات في الماركسية الغربية“] وذلك ينطبق على كثيرين غيره“.

       مؤخراً، نشر كراساً حول المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي الفرنسي. أما الآن فهو يكتب مقالة مثيرة للجدل حول غرامشي لمجلة ريناشيتا. تسير المقالة في خط لا يختلف كثيراً عن نصي المنشور في مجلة اليسار الجديد (حيث انتقدتُ فكرة الهيمنة)، ولكنها ستقدم عرضاً فلسفياً لذلك بدلاً من كونه تاريخياً. كما إنه لمح بأنه من الممكن أن يسحب المقالة، بما إنها قاسية جداً. وبدلاً من ذلك، يود أن يؤلف كتاباً قصيراً حول الدولة الرأسمالية الآن، للفائدة الجمعية.

الحزب الشيوعي الفرنسي

       حين سألته حول حياته في الحزب الشيوعي الفرنسي، أكد بأن الحاصل هو تحويل كامل لعضوية الحزب؛ شيء قد استمر منذ خمس سنوات تقريباً. فليس لجمهور المنتسبين الجدد أي تكوين ماركسي جاد من أي ناحية — الدافع الوحيد لعضويتهم يأتي في سياق البرنامج المشترك [Programme commun]. إنهم، بإختصار، العكس المباشر لمن عاشوا المرحلة الثالثة، والجبهة الشعبية، والمعاهدة السوفيتية-النازية، والمقاومة، والحرب الباردة — تلك التجارب التي فرضت حدتها وقوتها على مناضلي تلك الحقبة أن يفكروا لأنفسهم، وأن يفكروا بجدية. القليل جداً من هذا الكادر لا يزال موجوداً في الحزب. أما أغلب الكبار ينحدرون من جيله — مثل جورج مارشيه.

       أما بالنسبة إلى القادة، فأنه لا يكن احتراماً بالغاً لهم. تم اختيار مارشيه، من بعد فالديك روشيه، بوصفه أقل القادة اثارة للجدل وأكبرهم. الآن له سلطة ما في الحزب بفعل صراحته واسلوبه المباشر، وهيبته في التلفاز، لكنه محدود جداً. مثلاً، كان رولان ليروي أقدر منه[2]، ولكنه وقع تحت سطوة المرض. أما بُل لوران ورينيه-إيميل بيكيه كانا صغاراً جداً للنجاح[3]. أضاف، بشكل يوحي أن ذلك الأمر أشبه بفضيحة، بأن لوران لم يتعد خمس سنوات حين نشبت الحرب الأهلية الأسبانية. كما أنه قال بأن قادة الحزب هم، في حقيقة الأمر، مناهضين للاتحاد السوفيتي في الخفاء، كاشفاً رؤيتهم الشوفينية تجاه الروس الذين يصفونهم “بالمتخلفين” ولا يتعدوا كونهم فلاحين موژيك [Muzhik]، وعلى ذلك يتباهون بقدرتهم على العمل في فرنسا بشكل أفضل من الاتحاد السوفيتي في روسيا. بشكل عام يجدون الاتحاد السوفيتي كعنصر محرج بالنسبة لهم. أما حين سألته بمدى معرفتهم بالاتحاد السوفيتي، اجابني بأن لكل عضو في اللجنة المركزية الحق في أن يأخذ اجازة مجانية للإتحاد السوفيتي كل اربع سنوات، بينما يمكن لأعضاء المكتب السياسي القيام بذلك كل سنة — بالتالي، أن لهم معرفة جيدة حول الحياة في روسيا. ورغم ذلك، لم ينتجوا رؤى جدية حول التجربة التاريخية للمجتمع السوفيتي.

       إن الرؤية الأممية للأحزاب الشيوعية الغربية اليوم قريبة جداً، ببعض الأشكال، لرؤية الحزب الشيوعي الصيني — دعم الناتو، والتأكيد لواشنطن بأن لا شيء جاد سيحصل في إطار هيمنتها. أما مناهضة-السوفييت فهي طاغية في فرنسا، وإيطاليا، واسبانيا (ووصف كاريلو كقائد شيوعي ذا قدرة عالية، ولكنه للأسف غير ماركسي). كما إن مستقبل إتحاد اليسار هو قفزة كبرى نحو الظلام — ليس ثمة قوة تعلم بحق ما سيحصل، حالما ينتصر في الإنتخابات، ما بالك بالحزب الشيوعي الفرنسي. في كل الأحوال، أن خطة الرئيس في فصل الحزب الاشتراكي عن الحزب الشيوعي لم تكن واقعية — من المستبعد بأن الحزب الاشتراكي ككل، الذي يتضمن مناضلين يؤمنون بحق في الأفكار الواردة في البرنامج المشترك، وقاداته الذين أصروا على ضمان الهيمنة السياسية للحزب على الطبقة العاملة الفرنسية، للتعويض عن ضعفهم النقابي، سيقبلون بائتلاف مع الوسط. كما إن الحزب الشيوعي سجل مكاسب إنتخابية في الدوائر الإنتخابية، واهم أثنين هما سان-إتيان ورانس.

       أما وضعه الشخصي في الحزب هو عبارة عن: عملية ممنهجة في تهميشه والتشكيك به. فحين كان سيلقي خطاباً في اتحاد الطلبة الشيوعيين في ابريل، هاتفه كاتالا – أمين عام تنظيم شبيبة الحزب البالغ 41 من عمره – ليلغي المناسبة ككل. رفض هذا الأمر تماماً. وبعد ذلك، سعى لنشر خطابه في النشرة الحزبية. ما قابله هو: تأخير، وعرقلة، وتحجج بعدم توفر الفرض لذلك، ورفض عام. بالتالي، سينشر الآن بشكل موسع مع دار ماسبيرو. وبما أن حججه ضد حق تكوين الفصائل في الحزب ضعيفة، أجاب بأن القضية هي أشبه بديناميت في الحزب الشيوعي — أحد أقدس المقدسات التي دافع عنها القادة. اقر بأنه من المستحيل أن ندعو تكوين الفصائل في الحزب الشيوعي الفرنسي اليوم، مهما كانت الأمور في الحزب الشيوعي الروسي في حقبة لينين. القيام بذلك يعني الوقوع في الهامش. غير أن الحزب الاشتراكي نفسه يخضع الآن لضغط من ميتران للقضاء على الفصائل. استذكر، بحس من الاستعجاب والفضيحة، بأنه ثمة فصائل رسمية ضمن الحزب الاشتراكي،  ومعها مكاتب، وصحف، وتنظيمات خاصة بها — لم يستطع ميتران تحمل ذلك لفترة طويلة. فما هو البديل لذلك؟ قال له بعض الأصدقاء في العصبة الشيوعية الثورية بأن الفصائل موجودة للنقاشات ما قبل المؤتمر هناك، وبعد ذلك تختفي تماماً. هكذا، عندهم لا توجد حقوق شرعية لتكوين الفصائل. وفي كل الأحوال، لا بد، عاجلاً أم آجلاً، أن تكون هناك حريات أوسع للنقاش في الحزب الشيوعي الفرنسي — ذلك كان منطق المؤتمر الثاني والعشرين، مهما كانت القيادة غير مرنة وغير متعاونة. كما أن اللائحة المقترحة قد يتم الغاؤها أيضاً — لكن علينا ألا نتفائل كثيراً من النتائج. ولما كانت العضوية مصممة على التوافق والإنصياع، فإن ذلك يعني أن الأعضاء سيصوتون لمثل الأشخاص ولمثل السياسات في كل الأحوال.

       لن يلجأ الحزب إلى عمليات الطرد أو التطهير بعد الآن — ولكن بإمكانه أن يفرض النفي والمقاطعة. فمنذ المؤتمر الثاني والعشرين، ازدادت حدة التحكم الثقافي ولم ترتخ ابداً. إن المؤشر الرئيسي لذلك هو استبدال السكرتير المسؤول عن جريدة لابنسيه [La Pensée]، ذاك الليبرالي الذي دائماً وفر دعمه لـ آلتوسير عبر نشر مقالاته، بأنطوان كازانوفا— موظف جهازي معروف. غير ذلك، تخضع الثقافة بشكل عام تحت إشراف شامباز [Chambaz]، متعاون عادي مع مارشيه. وبشكل عام، عامل الحزب أفكار آلتوسير بصمت ممنهج. لم يتم ابداً مراجعة كتابيه (إلى ماركس) و(قراءة رأس المال) في النشرة الحزبية. أما كتابه (مواقف) فأن دار إيديسون سوسيال [Éditions Sociales] قامت بنشره، ولكن لم يباع اكثر من عدد الأعضاء — ضع في البال أن العمال قادرين على شراء كتب ماسبيرو إن ارادوا ذلك.

       إن طلبة إيكول نورمال [École Normale] وغيرها من الجامعات أكثر بعداً عن السياسة عما كان الوضع عليه في الستينيات — أما الذين انضموا إلى الحزب الشيوعي الفرنسي فأنهم على العموم أكثر هدوءاً ويطغي عليهم نوع من التفكير غير-النقدي. لم يتبق أي مثقف يملك أدنى درجات الجدية في الحزب. كل أصدقائه، من جيله، تركوا الحزب بشكل تدريجي — ذكر منهم: جان-بيار فيرنان، وجان-توسان دوزانتي، وميشال فوكو الذي كان عضواً في 1948. لا أحد يضايق علماء النفس، ولا الكتاب، ولا الفنانين، والعلماء في الحزب الشيوعي. والعكس تماماً حين تأتي المسألة للمؤرخين، والفلاسفة، والسوسيولوجيين. وذلك أدى، بالتالي، إلى نضوب العمل أو البحث الماركسي. كما أنه قال إن عدد المثقفين الحقيقيين في الحزب الشيوعي البريطاني يفوق العدد الموجود في الحزب الشيوعي الفرنسي.

الصين

       ثم رحت اسأله عما إذا كان يظن بأنه قد أساء في الحكم على الحزب الشيوعي الصيني في نهاية الستينيات، مثل الكثيرين من الماركسيين في الغرب. اتفق معي في هذه النقطة. إنه من الصعب معرفة وقائع المجتمع الصيني، ولم يكن قد شكل زائري الصين والمتعاطفين معها أية اهمية تذكر، رغم أنه ذكر بأن حماس اصدقائه الذين زاروا الصين مؤخراً قد خبا في السنوات الأخيرة. ولكنه رأى بأن ثمة امرأة مكثت هناك لمدة سنتين واعطت شيئاً من الوصف الدقيق للوضع. فبالنسبة إلى الجماهير، كان العالم مجرد الحياة اليومية المعاشة — الوجود اليومي الذي كان يتمتع بشفافية كبيرة، بمعنى كل شخص كان عالم بما يقوم به الآخر، ولماذا يقوم به، بطريقة لا يمكن تفكيرها في المجتمع الرأسمالي.

       ورغم تلك الحياة اليومية التي تتمتع بشفافية، إلا أنه بقت السياسة منفصلة عنهم ولم يعرفوا شيئاً عنها ابداً. نزلت الأوامر من فوق، وكان عليهم الإنصياع. وشهدت الدولة التي تصدر هذه الأوامر اهتراءاً واضحاً في السنوات الأخيرة. في كل الأحوال، المشكلة الحقيقية كانت تكمن في التقليد الصيني الطويل في الإنصياع، في أن تقول “نعم”، ويرجع هذا التقليد إلى القدم. إن ذلك ما أنتج الكمون العميق لدى الجماهير في الصين اليوم.  ولقد كان كونفوشيوس المفكر الذي نظّر تقليد الإنصياع — ولم يكن عرضاً بأن الراديكاليون قد شنوا حملة ضد كونفوشيوس في النهاية. إن هذا النوع من الإنصياع مفقود تماماً في الغرب، حيث أنتجت الثورات البورجوازية تقليداً فكرياً قادراً على الرفض. إن غياب أية ثورة بورجوازية في تاريخ الصين له أهمية مركزية في دراسة وفهم هذا البلد.

       وحين ناقشنا الأبنية المقارنة للثورة الروسية من جهة والثورة الصينية من جهة أخرى، أقر بمشاركة الأغلبية الفلاحية في الثورة الصينية، ولكنه ذكر أيضاً بأن الثورة دفعتهم نحو السياسة، ولكن بعد ذلك رجعوا إلى بيوتهم مرة اخرى؛ إلى أراضيهم والخضوع للأمر الواقع. أما العمال الذين أعطوا الثورة الروسية دمغتها كان من الممكن أن يلعبوا دوراً هاماً في الصين، لولا الثورة المضادة في 1927 (… باقي الجملة غير واضحة — وتفسيرها مستحيل).

غرامشي

       كان غرامشي قائداً شيوعياً عظيماً، ولكنه كان متشوشاً من الناحية الماركسية. وفي سبيل تقديم عرض لأفكاره حول الهيمنة، صمم آلتوسير معادلة تبين ذلك. قال: في (دفاتر السجن)، ”الهيمنة = القهر + الهيمنة”. النتيجة: القهر = صفر. يتحدث غرامشي عن أجهزة الهيمنة، ولكن دائماً من وجهة نظر أثر الهيمنة التي تنتجه. إنه لا يسأل نفسه: ما هي قوى أو منتجات هذه الأجهزة، ما هو محركها لا آثارها؟ بكلمات أخرى، يتجاهل الترابط القهري الذي يمسكها معاً. وبدا لي بأن تشبيه مخزون الذهب الذي استخدمته في كتابتي قد نالت على اعجاب آلتوسير[4]. ثم راح يسأل عن أعمال بوبيو حول المجتمع المدني، ويبدو أنه متابع عن قرب للنقاشات الإيطالية حول غرامشي.

تروتسكي

       إن لتروتسكي مكانة لا خلاف عليها في التقليد الثوري للماركسية والحركة العمالية. من سينكر ذلك؟ ولكن ما الذي يفكر به هؤلاء الذين ينضمون إلى منظمات تروتسكية اليوم؟ أيمكنهم أن يكسبوا دوراً حقيقياً ما بين الجماهير؟ في فرنسا، بقت قيادة الحزب الشيوعي عدائية وقمعية تجاه التروتسكية؛ ولكن ثمة علامات تحول الآن. في سان-إيتيان، أثناء الإنتخابات، وافق المرشح الشيوعي لمنصب المحافظ أن تجري مجلة روج [Rouge] التروتسكية مقابلة معه (وكانت المنظمة التروتسكية: العصبة الشيوعية الثورية قد شنت حملة دعماً للحزب الشيوعي هناك). ولكن لم يرض المكتب السياسي بذلك، ورفض بعنف نشر اللقاء في صحيفة العصبة، مؤكدين بأنهم ضد الفكرة تماماً— على العكس من الحزب الشيوعي الإيطالي مثلاً. أما آلتوسير فكان له أصدقاء في العصبة نفسها.

الثقافة

       زار آلتوسير روسيا مرة واحدة فقط من أجل مؤتمر حول هيغل في 1974. كان الفلاسفة المحليون واسعي المعرفة هناك، ولكن كان عليهم اخفاء ذلك. كانت أعماله ممنوعة بصرامة هناك، والقيت في الدائرة الثالثة من جهنم (ايّ الكتب الممنوعة في المكتبات الروسية من الدرجة الثالثة، تلك التي تحتاج إلى اذن خاص كي تحصل عليها). تم نشر كتاب (قراءة رأس المال) في بولندا، أما في رومانيا فكتابه (إلى ماركس) تم نشره، كما إن مجموعة من كتاباته نشرت في هنغاريا (ومن ضمنها كتب لم تنشر في الغرب). أما بلغاريا وألمانيا الشرقية (فوق كل شيء آخر) فلم تنشر كتبه على الإطلاق. زار آلتوسير إيطاليا، وكان في اسبانيا مؤخراً، حيث لأول مرة يجد نفسه في موقف يتوجب عليه أن يجيب عن اسئلة الصحفيين.

       أما بخصوص الاقتصاد، قال إنه مدرك بالمميزات المتفجرة لأعمال سرافا. ففي فرنسا، توجد مدرسة سرافية منتجة، تتركز في دي برانهوف وبينيتي. وحين أخبرته عن أعمال إيان ستييدمان أبدى اهتماماً بالغاً وطلب أن ترسل له نسخة منها. واوحى بإستعداد تام ليقبل بأن نظرية القيمة لماركس قد تكون خاطئة بمجملها، وأن يتم التخلي عنها بالتالي. بالإضافة إلى ذلك، بين بأن ماركس صمم كتاب (رأس المال) بطريقة خاطئة تماماً، عبر البدء بالسلعة في الفصل الأول[5].

       وفيما يتعلق بالفلسفة، قال إنه لم يقرأ حرفاً لراسل ولا فيتغينشتاين. قال له الآخرون بأن شعاره: ”ليس للفلسفة أي موضوع“ كانت مطابقة تماماً لما قاله فيتغينشتاين، وبأن هناك تناصاً ما بين العملين. ولكنه لم يقرأ فيتغينشتاين. وبشكل عام، كان التقليد الروحاني في الفلسفة مناهض للوضعية الجديدة الأنغلو-نمساوية. وثم قال بإن لو خير له أن يكتب عن الفلاسفة لأختار أن يقول شيئاً حول ماكيافيلي (لا لذاته، بل لتفسير أوجه معينة من غرامشي) وشيء حول أبيقور.

       لم يسمع آلتوسير بسباستيانو تيمبانارو من قبل، وتعرف عليه لأول مرة عبر كتابي (تأملات). كما إنه وجد نظرية بولانتزاس حول الطبقات في كتابه (السلطة السياسية) مدرسية وصعبة جداً، رغم أن له مميزات اخرى. اندهش آلتوسير حين علم بأن هناك أي شكل من الماركسية في الولايات المتحدة الأمريكية. إنه معجب بلي روي لادوري، ولكنه كان ستالينياً متحمساً في شبابه والآن ضد-الماركسية. أما لوسين سيف فهو الفيلسوف الرسمي للحزب الشيوعي الفرنسي، ومدير تحرير إيديسون سوسيال، ولكنه رجل يتبنى شعاراً فكرياً يتسم بتوافقية متحمسة — جاعلاً من: ”يتوجب علي ذلك، إذن يمكنني ذلك” شعاره النظري. وبين المثقفين الإنكليز، سأل عن ميليباند (وربما قام بذلك لأنه يعمل على نظرية الدولة الآن) وجيمس كلوغمان، نادماً بأنه لم يتواصل معه في زيارته للندن، بما إن كلوغمان ينشر مقالاته دائماً في مجلة الماركسية اليوم [Marxism Today] من دون أية صعوبات. كما إنه مدرك بتعيين مارتن جاك. ثم أدلى برأيه حول شارل بيتيلهايم، قائلاً بأن كتابه الثاني قد يكون أقوى من السابق، بما إنه بدا أقل تبريراً لما حدث في الثورة الثقافية. رأى آلتوسير بأن فالينتينو غيرتانا فيلسوف صادق، رغم أنه انتقد نهاية مقالته الأخيرة حول غرامشي واصفاً أياها بأنها شيء أشبه بكلمات دينية.

الآلتوسيرية

       حين كنا نتحدث عن “الماركسية الغربية”، قال: لم يسأل أي أحد عن الطريقة التي تكونت فيها في مختلف البلدان، ولا عن الشخصيات التي قامت بها. إنها لظاهرة مذهلة. كان دائماً متعجب بما صنعه الناس من أعماله. ففي تنظيم ما، قد تتغير أفكارك أو تتشوه، ولكن على الأقل أنها عملية يمكنك التحكم بها بطريقة أم أخرى — حيث يمكنك أن تلاحظ ما يحدث أمامك. ولكن حين تتعلق المسألة بخارج التنظيمات، فأن على الأغلب يتم القبول بعمل ما بشكل غريب تماماً ومشوش. من تبنى أفكاره؟ وماذا صنعوا منها؟ إن حدث بسيط يرمز له بمصيرها: لقد زاره استرالي ما في أحد الأيام ليقول له بأن الجامعات الاسترالية منقسمة بشكل جاد ما بين الآلتوسيريين والمناهضين لـ ألتوسير . وتضررت حياتهم اليومية بفعل هذا الإنشقاق — وذلك بفعل عنف الآلتوسيريين في المقام الأول. ألا يمكنه، آلتوسير المعروف بهدوئه وحكمته، أن يحاول أن يهدأ من روع تلامذته عبر رسالة ما؟ نظرياتي في استراليا! — تكلم آلتوسير بشيء من تشاؤم فكاهي حول المنطقة المجهولة [Ultima thule] للحركة العمالية. وتحدث بمزيد من الأسى، قائلاً بإن تأليف الكتب هو كمن يلقي زجاجة تحمل رسالة داخلها نحو البحار البعيدة.


[1] ترجمنا هذا النص عن اللغة الإنكليزية من المصدر التالي:

Anderson, Perry. “An Afternoon with Althusser”. New Left Review, 113 (2018): 59-66.

[2] قد تكون الإشارة هنا إلى حقيقة أن رولان ليروي كان عضواً شيوعياً في البرلمان الفرنسي حين كان في الثلاثين من عمره فقط، في 1956 حتى 1958؛ وإنتخب مرة اخرى في 1967 حتى 1981. – ملاحظة المترجم

[3] إن بُل لوران من مواليد 1925 (توفي في 1990) وانضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1945. أما رينيه-إيميل بيكيه فهو من مواليد 1932، وكان عضواً في البرلمان الأوروبي من 1979 حتى 1997. -ملاحظة المترجم

[4] بالفعل، كان آلتوسير معجباً بهذا التشبيه واستحضره في كراسه (ماركس في حدوده)، حيث يقول: ((علينا أن نذكر أن المؤرخ الإنكليزي بيري آنديرسون فهم هذه النقطة جيداً ووضحها في النظرية والسياسة.  (…) يشبه اندرسون وجود-غياب – وجود صار مؤثراً بفضل غيابه – القوات المسلحة للدولة بإحتياطات الذهب النقدية للبنوك المركزية. (…)) يجري التدوير العام بكل أشكاله (التي هي لانهائية عملياً) بشكل مستقل عن وجود مخازن الذهب في السوق. على رغم من ذلك إلا أن تدوير كهذا سيكون من المستحيل إذا لم توجد هذه الإحتياطات…)). -ملاحظة المترجم

[5] إن الآراء الواردة في هذه الفقرة ستكون اكثر وضوحاً في كراسه (ماركس في حدوده)، حيث يقول: ((ماذا يمكننا أن نفكر في نظرية تضع لنفسها مهمة عرض إنتاج أسعار الإنتاج بدءاً من القيمة، ويكون ممكناً فقط بثمن غلطة، عبر إستبعاد شيئاً من عملية الحساب؟ يجب إرجاع الفضل إلى سرافا … ومدرسته لفحص برهنة ماركس في هذه النقطة، وإكتشاف، بدهشة، أن هذا البرهان هو خاطىء…))، ولكنه ايضاً لم يتخل عن مفهوم القيمة مطلقاً، حيث في الفقرة التالية يقول: ((بلا شك علينا، في نقطة معينة- إذا أردنا أن نفهم ماركس بشكل صحيح- أن نبدأ بشيء يتعلق بالـ”قيمة”. لا شيء، على أية حال، يلزمنا أن نبدأ بها، إلا إذا كان هدفنا هو أن نفيض هذا المفهوم بمعاني يصعب التحكم بها)). -ملاحظة المترجم