واحسرتاه؛ على المزاعم التي اضطر كتاب Kalligone (*) أن يقاومها! تلك المزاعم أصبحت هذه الأيام تُسمى بالنقد في كثير من الدوريات، وغدت النسق السائد في هذا العصر. جميع الشباب الكانطيين [نسبة إلى كانط]، والفيتشيين (**) ، والشيلينغيين (***) وغيرهم؛ يقرأون هذا القرآن المُرسَل من السماء والمهموس في أُذُن النبي.
رسالة هيردر إلى غلايم (****) حزيران/يونيو 13، عام 1800
رغم التَّندر المصاحب لتشبيه هيردر كانط بالنبي الزائف، وإن يكن فاتِنًا، والذي يقوم بإغواء الجيل الشاب من ضعاف النفوس بتجلياته النقدية؛ فإن هذا التشبيه يحمل في طياته بعض الحزن. فالصورة المقدَّمة تكشف عن هيردر / الفيلسوف الممتعض، ذي الستة والخمسين عامًا، والذي لم يتمكن ـ على الأقل أثناء فترة حياته ـ من التفوق على أستاذه السابق. وتتفق هذه الصورة مع مدونة كئيبة لنيتشه بعنوان (المفكر المنزعج وغير الحر) ، الذي لم يشعر أبدًا بأن بمقدوره «الجلوس في مأدبة لمبدعين حقيقيين» . تقفز المدونة فورًا إلى أذهاننا حين قراءة تصور هيردر عن كانط المعتدِّ قليلاً بنفسه باعتباره محمدًا بروسيًّا، يضع الأساس لعقيدة جديدة قائمة على العقل Vernunft بقرآنه الذي يتألف من عقل خالص.
راقب هيردر من هدوئه الخريفي وتأملاته في فايمار صعود نجم أستاذه السابق، وأحس بجلاء أن دينًا جديدًا على وشك الظهور . ينبغي أن يقال هنا؛ إن كانط لم يكن الشخص الوحيد في رسائل هيردر الذي نُسِب إلى منزلة محمد. في مواقف مختلفة خلال مراسلاته؛ وظَّف هيردر تلك الاستعارة لوصف زوجته، وصديقه (لافاتير) (*) ، والشاعر كلوبشتوك (**) (الذي كان لقصائده ما يشبه «الجرأة المحمدية» ) ، والأهم من أولئك: يوهان جورج هامان؛ «نبي طاهر، وأصيل» . يكتب هيردر لمعلمه في عام 1784:
اقرأ كتابي [أفكار ـ Ideen ] بصبر وعناية (***) .. امنحني ردًا، وأيًّا يكن، فليخرج من أعماق قلبك! ستخبرني بأفكارك، وهذا ما سيدفعني لأزداد قربًا منك وتشجيعًا على التودد إلى فضلك. بدأ محمد بتلاوة سورة في قرآنه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ فوهب البشرية ريشة القلم؛ وليهَبْها لك أيضًا!
هيردر الشاب؛ كما هو معروف؛ تتلمذ على يد كل من كانط وهامان في جامعة كونيغسبيرغ Knigsberg ، ودوائر معتَبَرة للمِنح أصبحت مكرَّسة لبحث أي من هذين النجمين ـ التنوير أو الهجوم والاصطلام Aufklrung, Sturm und Drang استطاع ممارسة التأثير الأكبر على مسار الكواكب الخاص بهيردر؟
هذا التجاور بين مُحَمَّدَيْن ـ أحدهما مخادع ماكر، والآخر طاهر ومصدر للعون والإلهام ـ ليس على أي حال مجرد اهتمام بسيرة ذاتية؛ أي مصدرًا في متناول يد تلامذة هيردر لتلوين تاريخ منافس معروف. النبيَّان عند هيردر يشيران إلى شيء أكثر جدية وأكثر تعقيدًا يكمن في مواقف المفكر نفسه تجاه الإسلام، وتجاه الشعوب والثقافات التي فهم أنها «محمدية» .
المد والجزر في التناول النقدي لهيردر؛ بدءًا من وضعه المُلتبِس كتلميذ لكانط، ومراسلاته مع غوته، ومرورًا بأسطورة مقته للتنوير، والطعن الذي تعرضت له كتاباته على يد مجموعة متنوعة من المفكرين القوميين الألمان، ووصولاً إلى الانتعاش التدريجي (جزء كبير من الفضل هنا يعود إلى إزايا برلين وأبحاثه القوية) والاعتراف بمكانته كمفكر سبق عصره وشجع على التسامح والتعددية والهوية العرقية.. هذا التراث النقدي المتقلب بلغ أوجه تقريبًا في إحياء ما بعد الحداثة لـ«أبو القومية» المزعوم [أي: هيردر] كناقد ذي بصيرة للمركزية الأوروبية، ومؤكد على اعتبارها منظومة قيم غير عالمية وصالحة نسبيًا .
حتى المفكرون الذين توقفوا عن استدعاء مقارنات ليوتار ودريدا؛ يبدو أنهم متفقون على اعتباره شخصية «كانت تمقتُ كل أشكال الشوفينية الثقافية» (بايسر) (*) ، والتي كان دافعها لكتابة التاريخ يقوده «حبها للجنس البشري» (كنول) (**) ، وشكلت كتاباتها «واحة من التسامح والإنسانية» (***) (أدلر) .
بدون شك؛ لا يوجد شيء زائف في تلك الأوصاف. نقد هيردر المبكر للاحتفاء الذاتي الأوروبي (لماذا يجب أن تمتلك وحدها الزاوية الأوروبية من الكرة الأرضية الثقافة؟) هو بالفعل أمر استثنائي، وكذلك هجومه على الإمبريالية والمناطقية المتعصبة؛ فعلى عكس لايبنتز، لم يرغب هيردر أبدًا في «خطة مصرية» ، لا من قِبل البرتغاليين أو أي طرف آخر.
في حقيقة الأمر فإن الادعاءات التي تباهت كثيرًا بإنسانية هيردر، وبقبوله للتعددية وبتبصُّره ـ كما يزعم ـ في نسبية التفوق الثقافي؛ تستلزم بعض التحفظات المهمة. معظم المفكرين مبتهجون لتذكيرنا كيف أن هيردر قام بتوبيخ فينكلمان (****) وشافتسبري (*****) لحكمهما على الثقافة المصرية من منظور المعايير اليونانية / الأوروبية بدلاً من المعايير المصرية؛ بينما يمعن قليلون منهم النظر في الكيفية التي عبّر بها هيردر عن رأيه بالضبط «إن معطف الصبي هو بالتأكيد قصير جدًا بالنسبة إلى عملاق» .
توكيد هيردر على صبيانية المشرق وسلبيته وأحيانًا شيطنته المطلقة للأتراك، وتحفظاته البروتستانتية تجاه «البربرية البابوية» die Barbarei des Papismus ؛ تساعد على تذكيرنا أننا لا نتعامل مع فرد؛ كائن بشري فاتن؛ بل مع مجموعة من النصوص المتنوعة والمتضاربة. كما رأينا سابقًا مع كانط ولايبنتـز؛ الإسلام ـ وموقف هيردر الغامض تجاهه ـ سيلعب دورًا حيويًا في هذا الاستشكال المتعلق بمكانة غير الأوروبي في كتاباته.
كان هيردر ـ مثل كانط ـ قارئًا نهمًا لأدب الرحلات والدراسات الاستشراقية، رغم أن النقاد اعترفوا بصعوبة التأكد من مصادر فهمه للإسلام بشكل محدد . إن السياق المتنوع والحيوي في كتابات هيردر يقف في مواجهة التطورات المتنامية في الدراسات العربية والفارسية بألمانيا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ويُظهِر هذا السياق تعاطفه إلى حد ما مع المشرق الإسلامي كأمر غير اعتيادي لكنه لم يكن بأي حال دون سابقة.
أدب الرحلات الذي اضطر هيردر الاعتماد عليه ترواح على نطاق واسع جدًا من «حكاية المسافرين» المتحيزين بشكل صارخ، إلى رواية أكثر توازنًا، والتي ـ وإن لم تخل تمامًا من النظرة الأوروبية ـ حاولتْ على الأقل تحرِّي قدر من الموضوعية. من جهة كان هناك كتاب «رحلة شو» (*) (عام 1783) الذي جسّد نظرة قس أنجليكاني لشمال أفريقيا وجزيرة العرب والتي ـ بسبب أهمية وجدارة جميع أوصافها الحسية ـ رأت أن العرب أساسًا مرادفون للصوص. «لا يوجد سمت مميز لأي واحد منهم، جميعهم متشابهون، ويملكون نفس ميول السرقة والنهب والقتل» قرأ هيردر واطَّلع على الترجمة الألمانية للنص بعين الرضا في سبعينيات القرن الثامن عشر.
من جهة أخرى، ظهرت ملاحظات أكثر عمقًا نسبيًا من قبل شخصيات مثل كارستن نيبور (**) (ثمة مراسلات عديدة بينه وهيردر) الذي كانت أوصافه لجزيرة العرب (عام 1772) تُتيح على الأقل إمكانية تعميم المركزية الأوروبية. ملاحظات السير وليام جونز (*) الإيجابية عن العرب في آخر مقالة له «أعينهم مليئة بالحيوية، وكلامهم فصيح ومُمَفْصَل، وسلوكهم وقور ورجولي» قد ظهرت تقريبًا في نفس الوقت الذي كان هيردر يمجد فيه العرب. إلى جانب أدب الرحلات؛ فإن كتابات هيردر ظهرت على المسرح عقب نقاش هام وبارز بين المستشرقين الألمان حول مكانة اللغة العربية.
مفكرون من أمثال العالم البارع يوهان جاكوب ريسكه (**) ـ من مدينة لايبزيغ Leipzig الألمانية والمتخصص في اللغة البيزنطية ـ هاجموا بشراسة مفكرين قاموا بالتنظير لأصالة اللغة الجوهرية والراسخة والتي قال بها علماء مثل شالتينس Schultens وميخائيل Michaelis (كتب الأخير عن صعوبة العثور على أمة Volk ظلت تقاليدها راسخة زمنا طويلا مثل العرب) .
طوال خمسينيات القرن الثامن عشر؛ أبدى ريسكه وعيًا لافتًا إزاء الجهل المصاحب للتفسير الأوروبي للنصوص العربية: «ماذا سنقول لمحمدي لا يعرف لاهوتنا بإطاره الأوسع وقام بترجمة العهد الجديد وسكب عليه وحل فلسفته بشكل كامل» .
رجال مثل ريسكه؛ وبسبب كافة تصدُّعاتهم؛ كانوا واعين على نحو لافت بمدى سهولة أن ينتهي المطاف بالأوروبيين المستعربين لقراءة نص لن يكون سوى «قرآن مسيحي» . وفي الواقع؛ فإن مقاربة هيردر التأويلية تدين بجزء كبير لراديكالية ريسكه ومنهجيته «السياق والحساسية الثقافية» ، والتي استشهد بها هيردر بصورة متكررة في مُؤَلَّفِه «أدراستيا» (***) عبر إشاراته لامتداد الإسلام.
بصرف النظر عن المواضع القليلة في أعمال هيردر والتي احتل فيها المشرق الإسلامي مركز الصدارة ـ مثل: الفصول الوسطى من كتاب (أفكار) والتي تناولت جزيرة العرب بالإضافة إلى الحروب الصليبية، مقالته القصيرة عام 1792 عن السعدي (****) ، والفصل المطول عن الثقافة العربية في كتابه (تأثير الشعر على أخلاق الشعوب) ـ نرى عرضًا مشوشًا بالكامل للمشرق الإسلامي، بِدءًا من إشارة عابرة للتراجيديا التركية عام 1765، وانتهاء بحاشية في مُؤَلَّفِه (أدراستيا) عن الجذور العربية لولع الأوروبيين بالشعر؛ أضيفت إلى الكتاب عام 1804 [بعد وفاته] .
تعاطي هيردر مع المشرق الإسلامي في كتاباته متضارب على نطاق واسع؛ يبدو هيردر تارة جافًا وأكاديميًا كانتقاده ـ على سبيل المثال ـ تقليد ° Saracens الأتراك والمسلمين» (*) الفلسفة اليونانية، ما أدّى بالتالي إلى فقدانهم روحانياتهم، وإشارته إلى المعجم العربي الذي أحصى أربعمائة كلمة مرادفة لمفردة «شقاء» .
يسخر هيردر من نفسه تارة أخرى ويبدو جذلاً وهو يطلق على نفسه ـ في رسالة له إلى هامان ـ «راعي إبل تركي» ، أو حين يخاطب في رسالة أخرى المستشرق كارستن نيبور ويناديه بـ «الحاج» ؛ وفي بعض الأحيان كان هيردر يبدو مسيحيًا تقليديًا؛ في مُؤَلَّفِه (فيض الروح) Die Ausgiessung des Geistes يخبرنا كيف نشر محمد الدين بحدّ السيف والنار ؛ أو في لحظة أخرى لاحقًا ـ عاطفية للغاية ورومانتيكية بأقصى معنى علماني للكلمة ـ يقول: «ثمة رسائل إيجابية عديدة في أحلام محمد، وتصوراته، وإلهامه أو القصص التي كان النبي فيها يمنح الحياة لأشجار بلا ورق» .
البنية الثقافية للإسلام لدى هيردر تختلف باختلاف الإحالات، ورغم أنه نظر إليها بالدرجة الأولى باعتبارها ظاهرة عربية إلا أنه كان يخلط أحيانًا بين العرب والأتراك (في كتابه؛ فلسفة أخرى للتاريخ ـ A uch eine philosophie der geshichte يبرز العرب الذين [كما يزعم] أحرقوا مكتبة الإسكندرية، عرب القرن العاشر الذين أعادوا تقديم الفلسفة اليونانية إلى الغرب والأتراك الذين غزوا القسطنطينية مُدمَجون معًا في كتابات هيردر باعتبارهم جميعًا «نفس البرابرة» ) ، وأحيانًا يصيغ هيردر عبارات من قبيل «قرآن الأتراك» . المفكرون الذين يبحثون عن شكل من التطور الكرونولوجي/الزمني في كل ما سبق سينتهي بهم الأمر إلى الإحباط.
على نطاق محدود جدًا؛ يمكن للمرء أن يجادل أن رأي هيردر في القرآن كان يتضح تدريجيًا ـ إن كان في عام 1766 قد سماه «بخليط غير متجانس» من أديان مختلفة، فإنه بظهور كتابه (أفكار) عام 1786 أصبح القرآن مجرد «مزيج عجيب» ، ومع ذلك فقد تم تقويض هذه الإشارات من قبل عراقيل جوهرية: موقف هيردر الإيجابي من القرآن بعد ثماني سنوات من ظهور كتابه (أفكار) واعتباره مليئًا «بالإشارات المقدسة/الجليلة» erhabene Stelle ؛ هو أقل غموضًا. وعلاوة على ذلك؛ فإن التَّماس السهل بين الأوصاف السلبية والأوصاف الإيجابية في إشارات هيردر «للمحمدي» ؛ في العَقْد ذاته وأحيانًا في السنة ذاتها؛ يثبط عزيمة محاولة رسم أي شكل من أشكال التطور في أفكاره.
إن أولى إشارات هيردر إلى الإسلام (عام 1765) كانت في الحقيقة تذمُّرًا من الحاضر، وتعبيرًا وعظيًا عن مأساة الألمان المهووسين بالتصورات المسيحية الساخرة عن محمد، إذ تنتهي إحدى رسائل هيردر بهذه العبارة: «أكتبُ كشخص يمارسُ التجديف، كوثني أعمى، وكتركي» ، عبارةٌ تُغْرِقُ بسرعة أي مدلول لاستجابة ناضجة متدرجة للإسلام في كتاباته. بدلاً من التساؤل ببساطة: «ما رأي هيردر؛ الشخصية التاريخية البارزة؛ في الإسلام؟» قد يكون أكثر صوابية واتصالاً بالموضوع أن نسأل: أي الأصوات استخدم هيردر حين كتب عن المشرق الإسلامي؟ أي نوع من المفردات وَظَّفتْ تلك الأصوات المتضاربة؟ وإلى أي درجة تداخلت المفردات المختلفة مع بعضها البعض، وأي نمط من الصراعات خلقتها؟
هيردر القِسّ؛ وأعداء الدين
كل من يعرف جهل وبؤس الوثنيين، حتى لو كان ذلك عن طريق تقارير الرحالة أو الحكايات القديمة فحسب، سيدرك مع تقدير عميق أن الدين المسيحي بركة على الدولة وعلى العلوم، ونعمة لمصلحة المواطنين ولقلوب البشرية.
فيض الروح Die Ausgiessung des Geistes (27) من الخطأ محاولة عزل إيمان هيردر المسيحي، أو التظاهر أنه قابع في جزء غير قابل للاختراق في نفسيته ومستقل ومنفصل عن سائر جوانب شخصيته. عقيدة هيردر البروتستانتية المسيحية ـ البعيدة عن كونها مجرد هوية جانبية ومخفيَّة ـ شكلت نواة أفكاره. عبَّرت تلك العقيدة عن نفسها في ميوله القومية التي ظهرت في مقالة له عن مارتن لوثر حيث وصفه بـ«معلم الأمة الألمانية» ، وفي فقه اللغة / الفيلولوجيا التي استخدمها في كتاباته لتأويل الإنجيل، وفي فهمه للتاريخ كـ«كتاب الرب العظيم المتجاوز للزمان والمكان» ، وفي تحفظاته تجاه عصر التنوير باعتباره «قرنًا يكره كل ما هو معجِزٌ أو كامِنٌ أكثر من أي شيء آخر» .
إلا أنه فيما يتعلق بالإسلام؛ فثمة عدد من المزاعم التي كان هيردر يعود إليها مرارًا وتكرارًا: اعتراضاتٌ لم يتنازل عنها حتى في لحظات التمجيد والدفاع، تتمثل في ثلاث نقاط: خداع محمد للذات، والطبيعة العنيفة للإسلام، والجذور المسيحية للإسلام. في وقت مبكر (كان هيردر حينها بالكاد في الحادية والعشرين من عمره) نرى تعبيرًا شديد الوضوح عن هذه الاعتراضات المألوفة؛ يكتب هيردر:
«يكمن فرق واسع سِعة السماء بين الإسلام والمسيحية. فعندما شَرَع أعداء الدين بنشر تعاليم محمد سريعًا لمواجهة كنيستنا؛ كان جليًّا أنهم فضلوا البقاء في الظلام. نشر محمد الدين بالسيف والنار؛ الرُّسُل لا يستمدون تأثيرهم من أسلحة البشر، بل من برهان الروح ومن قوتهم [المقدسة]. آنفُ الذكر جعل دينه خليطًا غير متجانس من جميع الأديان كي يقذفه في وجه الجميع» .
كُتبَت عبارة «أعداء الدين» قبل عَقْد تام من وصفه للعرب بأمة عاشقة للشعر ونموذج للوعي القومي؛ علينا أن نتساءل ما إذا كان هيردر قد توقف عن استعمال العبارة في وقت ما. إعجاب هيردر لاحقًا ببراعة محمد وبإنجازاته الموجَّهة لتوحيد الأمة دفعه إلى المشي في طريق صعب بين إدانة عقيدة زائفة والإعجاب بأداء سياسي مذهِل وبالتصورات الشِّعرِية بالتأكيد. مصطلح «خليط غير متجانس» Mishmash بالكاد يشير إلى افتقار محمد إلى ملَكَة الخيال، أو ـ في أفضل الأحوال ـ إلى فعل ماكر غير مثمر.
المصطلح يؤكد على اعتقاد هيردر الذي ظل متمسكًا به طوال حياته؛ أن الإسلام ـ ولا سيما في «جوانبه المُتَبصِّرة» يدين بالفضل للمسيحية، والتي بدونها كان سيستحيل أن يظهر ابتداءً بعد اثني عشر عامًا (في عام 1787)؛ في مُؤَلَّفِه (في تأثير فن الشعر) ؛ نجد وصفًا للقرآن مجردًا تقريبًا من أي تفسير مسيحي صريح، إذ يبدو هيردر؛ قِسُّ مدينة ريغا؛ منشغلاً بالعلاقة بين السياسة وعلم الجمال:
«ترك قرآنه تأثيرًا عظيمًا في نفوس [العرب]، ولأنه يحتوي على الكثير من الإشارات الجليلة؛ فلا يمكن بالتالي إلا أن يكون مُرسَلاً من السماء. عَيَّن محمد نفسه على هذا الأساس وتحدى جميع المنافسين، لأنه تفوق [على كل من حوله] في الشِّعر، كما أصبح أيضًا ظافرًا بالدين، ومعتَقَدُه كان قويًا جدًا في لاهوتية الشِّعر» .
ما زال المعنى المسيحي المُبَطَّن موجودًا بالطبع. القرآن زائف، لكنه الآن زيف فعَّال سياسيًا وبلاغيًا على نحو رائع. ومع ذلك؛ فعدم وجود أي إشارة إلى «الخداع» أو إلى «الخليط غير المتجانس» أمر يستحق الاهتمام، رغم الاستخدام البدهي لخطاب منقول. في مقالة معنية أساسًا بالسؤال السياسي الاجتماعي: (كيف يمكن للشِّعر أن يؤثّر ويُلهِم الوعي والأخلاق في مختلف الثقافات؟) يقلَّل هيردر من قيمة أي مداخلات مسيحية محتَمَلَة من أجل التركيز على فكرته الأساسية: الفاعلية السياسية للأستاطيقا / الجماليات التي تحلَّى بها محمد. هناك تتوارى نصف شرعية نجاح محمد؛ من خلال إشارة هيردر إلى عقيدة النبي المستمَدَّة من التقوى البلاغية/الشِّعرية Dichtkunst .
ما الذي مكَّن هيردر من تجاوز تحفظاته المسيحية ضد دين «السيف والنار» وضد قرآن «الخليط غير المتجانس» بهذه السهولة؟ بين هذين المسارين ثمة بالتأكيد فرق واسع سِعة السماوات: محمد؛ التاجر المُخادِع، بائع سَقْط المتاع من الإيمان والقناعات المُرَقَّعَة؛ يصير الشاعر المهيب الذي يُعزِّز رسالته بالآيات لا بالعنف. رغم تشديدنا على محورية معتقدات هيردر الدينية في فكره، لكن هناك دون شك لحظات يظهر فيها استعداد هيردر لتقليص بل تغطية هويته المسيحية من أجل السماح لمشروع أكثر علمانية بالبروز. هيردر نفسه أقرَّ بوجود طُرُق «دافئة» وأخرى «باردة» لكتابة التاريخ، وأن أكثرها برودة هي أكثرها «ذكاء» ، تلك القريبة من ميكيافيللي، والتي «تختبر نتائج قِوى معينة، وتمضي قُدُمًا معتمدة على خطة» .
ربما كان الاعتبار الإيجابي الذي أعطاه هيردر للإسلام برمته مثالاً على التاريخ «الدافئ» ؛ وقطعة متوهجة من الاستشراق، والتي كان على مشاعره المسيحية أن تبرُد بما فيه الكفاية إزاءها. هذه المقاربة كانت قابلة للتغيير كسائر مقاربات هيردر الأخرى. بعد عشر سنوات؛ في كتاب «أفكار» (1784 ـ 1787) نجد بدايات العودة إلى وصف أقل إيجابية، وأكثر غموضًا وبرودًا في سياق الإشارة إلى وحي محمد:
«قرآنه مزيج غريب من الشِّعر، والبلاغة، والجهل، والذكاء، والغطرسة؛ إنه مرآة روحه التي تُبرِز بوضوح أكثر من أي نبي آخر مواهبه وعيوبه، ميوله وأخطاءه، خداع الذات وسِعة الحيلة التي خدع بها نفسه والآخرين» .
تلك جملة تُبيِّن ـ أكثر من أي فقرة أخرى في أعمال هيردر ـ التوترات الكامنة في نفسه بين منظورات رومانتيكية ومسيحية تجاه ظاهرة الإسلام التي كان يحاول تحليلها. «واسع الخيال ومع ذلك مُزوِّر إلى حد ما، موهوب ومع ذلك ماكر إلى حد ما، جميل ومع ذلك مُخطئ إلى حد ما» ؛ حين نتتبع وصف محمد المسرود في صفحتين من كتابه (أفكار) ، وتوكيده على فصاحة النبي، وجماله الجسدي «شاب جميل المظهر» ، وخياله المؤثر «خيال متألق gluhend Phantasie » ؛ ندرك أن إقرارًا جَمَالِيًّا بقوة الإسلام كان الموضوع الوحيد الذي جمع بصورة تلقائية بين مفردات هيردر البروتستانتية ومفرداته الرومانتيكية الأولى مع دوافع شديدة التباين. ويبدو أن نبرةً وكأنها «دفاع عن حياة محمد» (*) apologia pro vita mahometis تنسَلُّ إلى وصف إنجازات محمد.
إن كان الهدف الرئيس من جزء «محمد» في كتاب (في تأثير الفن الشِّعري) هو تبيان كيفية استخدام الشِّعر في إعطاء الشعوب هوية محددة وجمعهم وتوحيدهم؛ فإنه يبدو أن هيردر عرض في كتابه (أفكار) ـ ليس فقط من خلال رصده مواهب النبي، بل أيضًا من خلال ملاحظاته بخصوص «حياة النبي الشفافة [أخلاقيًا]» ـ كيف أن مُعتَقَد محمد النابع من الوحي السماوي هو أمر لا مفر من إقراره (ومن ثَمَّ؛ فهمه). هذه الصورة المُلتبِسة لشخص حَسَن الخُلُق ومبدِع بشكل مثير للإعجاب وإن كان لا يزال في نهاية المطاف ضالاً؛ هي تسوية مضطربة بين هيردر القِس وهيردر الشاعر.
هيردر المعارِض للبابوية
التفاوتات الكبيرة بين أوصاف هيردر الثلاث البارزة للإسلام (والتي قدمها في أعوام 1766، 1778، 1786) تعطينا ملامح التطورات؛ ليس فقط في سلوكه تجاه الإسلام ولكن أيضًا تجاه المذهب الكاثوليكي المسيحي وتاريخ إيمانه المسيحي. إن كان الفتح الإسلامي «بحدِّ السيف والنار» ـ في المراحل المبكرة من كتابات هيردر ـ يجاور على نحو سلبي المسيحية «كنيستنا» ويقف ضد انتشارها «بأدلة روح القُدُس» ، فإنه وبعد عشرين عامًا تنبثق من كتابه (أفكار) صورة مختلفة تمامًا:
«لسوء الحظ كان المسيحيون أيضًا يتبعونه [أسلوب تحويل المسلمين قناعات جيرانهم]؛ إن كانت جميع الأديان تفرض قناعاتها على أراضٍ أجنبية كشرط أساسي للبركة / النَّعيم؛ [ففي هذا العصر] لم يُبَدِّل العرب الدين عن طريق النساء ورجال الدين والتجارة غير المشروعة فحسب، وإنما بحدِّ السيف في أياديهم مع صرخة صارمة: بَدِّل دينك أو ادفع الجزية!» .
«النساء، والرهبان والتجار غير الشرعيين» Frauen, friars und bootleggers السخرية هنا لافتة للنظر، أو ربما ليست ملحوظة بما فيه الكفاية، نظرًا لحقيقة أن «كنيستنا» أصبحت الآن «كنيستهم» [في إشارة إلى الكاثوليك]، مع ضرورة أن نضع في الاعتبار أيضًا التقدير المنخفض عمومًا والذي كان يُكِنُّه هيردر للكاثوليك الأوروبيين والكاثوليك الشرق أوسطيين على حد سواء، (يخبرنا؛ في كتابه أفكار ؛ أن كاثوليك الشرق ليسوا سوى «سلالة حقيرة، لا تستحق الصلبان التي على كنائسهم» ). من الواضح هنا وجود نظرة متشكِّكة كُلِّيًا من انتشار الأديان، رغم أن التزام هيردر العَقَدي وإيمانه بغموض المأساة الدينية المتمثل في «حِكمتها وحبكتها المعقدة» سيكون قادرًا على استيعاب كل الأنماط التفسيرية لنجاح المسيحية. إلا أن هناك أمرًا آخر جديرًا بالملاحظة: ابتعاد Distanzierung بروتستاني جَلِيٌّ عن الانتهاكات المتفاقمة للماضي الكاثوليكي / الأرثوذكسي؛ ونوع من الإصرار اللوثري على إعادة تعريف انتصارات الإسلام على أنها منافِسة «للتقاليد المسيحية الفاسدة» .
إشادات هيردر المألوفة كانت تشدو بتأهبِه لنقد التاريخ الوحشي للشعوب المسيحية وشجبه أي شكل من أشكال «المركزية، والإكراه، والاحتلال» . عادة ما يتم إهمال هذه النقطة. تأفُّف هيردر من الحروب الصليبية ومن الإمبريالية ليس نابعًا من حسه الإنساني فقط، بل إن جزءًا منه ينبع من هويته البروتستانتية؛ فتصريحات مثل: «نحن البروتستانتيين لا نرغب في المشاركة بأي حملة صليبية من أجل تقديم القرابين على مذبح الكنيسة» ، أو تذكيره بما فعله البابا نيكولاس الخامس حين أعطى إذنًا بتحويل كل من لم يؤمن بالمسيحية إلى عبيد ؛ أمور تدل على نظرة هيردر ـ أحيانًا ـ للاستعمار وللانتهاكات العسكرية المسيحية باعتبارها كاثوليكية في المقام الأول، لا ظاهرة مسيحية.
وللمفارقة؛ فعلى الرغم من أن إيمان هيردر اللوثري ساهم في تشكيل تحفظاته تجاه الإسلام، لكنه لعب أيضًا دورًا مختلفًا حيث ساهم في تحقيق تقدم إيجابي وُديٍّ في مفهومه للآخر المسلم كلما جُلِبتْ الكاثوليكية إلى المعادلة. حدث هذا بطريقتين؛ أولاهما: في الارتياب البروتستانتي الشديد من تمثيل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وتنميقها وتشويهها للمسيحية؛ الأمر الذي قاد هيردر إلى تصحيح مفاهيم القرون الوسطى عن الإسلام برفضه المحاولات الرمزية لتعريف «محمد» بالأهوال المذكورة في الأبواق الأربعة (*) الواردة في سِفْر الرؤيا؛ «كألعاب تخمين» Ratselei ـ أحاجي) ؛ في موضع آخر [من كتاباته]؛ يذهب هيردر إلى شرح بعض التفاصيل: «خلال العصور الوسطى البربرية؛ كل شخص كان يعلم أنه تَمّ اختصار اسم محمد، وكيف أنه مازال يُكتَبُ ويُنطَقُ بشكل مختلف» ، إلى حد أنه يسرد قائمة بالبدائل المُغايرة .
ثانيهما؛ في موازناتِه المبكرة بين التراجيديين اليونان والتراجيديين الفرنسيين؛ يشكو هيردر من «البربرية البابوية» التي خلقت مسرحًا رائجًا «للغباء المُنقاد» الذي لم يحقق شيئًا سوى زيادة اهتياج الدُّمَى الموجَّهة والمرعوبة من صور محمد الصادمة Schreckbilder التي رسمها المحتالون المتدينون .
في كل تلك التصحيحات؛ كان هناك قلق دائم بشأن صدق الصورة التي يجب ألا يتمّ تهويلها لدرجة التماهي مع الكائن محل التَّمثيل. رغبةٌ في المصداقية وسأمٌ تاريخيٌّ مصحوبٌ بأفكار مندفعة وغامضة ومتحيزة؛ قادت في النهاية تعهد هيردر الذاتي بنقد تلك الانحرافات.
على الرغم من أن هيردر لا يمكن أن يُسَمى أبدًا بـ «كالفني تركي» ، [نسبة إلى جان كالفن] ـ وهي تسمية شاعت في القرن السادس عشر والسابع عشر؛ وأُطلقتْ على البروتستانتيين الذين دفعهم كرههم للبابوية إلى التفكير في إمكانية وجدوى التحالف مع العثمانيين ـ إلا أنه كانت هناك بالتأكيد لحظات يقارن فيها هيردر بين الإسلام والكنيسة الرومانية الكاثوليكية على حساب الأخيرة. ومع أن مقارناته تلك لم تكن صارمة كصرامة موقف لوثر ـ الذي شعر أبن «البابا تسبب بالضرر لملكوت المسيح أكثر من محمد» ـ إلا أن هيردر أيَّد من آن لآخر هذا العُرْف البروتستانتي الممتد من ميلانكتون (*) إلى نيتشه الذي رفع شعار «سلام مع الإسلام، وحرب على روما» ؛ عُرفٌ قائمٌ على التقييم الحاد للكنيسة الكاثوليكية عبر عدسة الإسلام. في إفادته عن التخلف الروحي والفكري للبابوية الرومانية والذي تمّ تحميل مسؤوليته بشكل أُحادي تقريبًا «بربرية الغرب» ، واستمرار العصور المظلمة، وترادف المعرفة مع «الشعوذة والكفر» ؛ يخبرنا هيردر:
«في هذا السياق؛ أكاد أُفضِّلُ محمد على البابا، والمسلمين على الرهبان. لقد قاموا بتشجيع طلب العلوم، وبحثوا عنها حبًا لها. على الخليفة أو المسلم تجاوز أمور أكثر من ذلك بالتأكيد، لكنهم إن كانوا حقًا قد أحبوا العلوم أكثر من المسيحيين ومن البابا، ففي النهاية إلى أي درجة تفوقوا [العرب] في كل شيء فعلوه!»
تنص «أكاد» في الجملة الأولى من الفقرة السابقة على تردد (حثيث) مثير للاهتمام، ليس فقط لأنها مُلغاة في الجملة التالية (هيردر يفضل فيها بوضوح المسلمين على الرهبان)، ولكن أيضًا لأنها تكشف عن وعي لدى هيردر باستفزازية هذه اللفتة. في رسائله وتشبيهاته المرحة في مواضع أخرى من كتاباته؛ لم يتورع هيردر عن تبني هويات إسلامية (رعاة الإبل، المماليك، الحجّاج).
غير أنه بالانتقال هنا من ضلال أوروبي إلى ضلال غير أوروبي؛ تعمل «أكاد» بمثابة حَبْل سلامة رمزي، يمنع نقد هيردر من التوغل في منطفة غريبة خلال بحثه عن موقع خارجي أفضل. تترسَّخ العبارة ثقافيًا وتذكر القارئ بالأصل المسيحي لهيردر، وتضع مقياسًا للمرء إلى أي مدى يمكن له المضي قدمًا؛ إلى حد لعن البابا ولكن ليس إلى حد التماثل مع محمد. هكذا بالضبط كانت مرونة هذا الحبل الذي كان قابلاً للتمدد استنادًا إلى طبيعة الصوت الذي يستخدمه هيردر في كل مرة (قبل أقل من عامين؛ وصف هيردر العرب بأنهم «شعب همجي» ، وأن «تجريداتهم الخفية» غريبة بالكامل) هذا الاستحضار للإسلام عوضًا عن الكاثوليكية باعتباره بارادايم/نموذجًا بديلاً أو كمرجع مُقابِل للمسيحية البروتستانتية يظهر مرة أخرى في أفكار هيردر عن التعليم، حيث نجد المفكِّر في نص يعود لعام 1783 يناقش فكرة أن الجغرافيا يجب أن تشمل تدريس البراكين والفيلة والتماسيح للأطفال، لا مجرد حقائق جافة عن المدن الألمانية:
«أن يسمع [الطفل] بمحمد وبالمُفتي أكثر أهمية ومتعة بالنسبة له من دراسة الكرادلة والبابا؛ برلمان من اللقالق سيسعده أكثر من رسميات الرايخستاغ Reichstag [البرلمان الألماني] في مدينة ريغنسبورغ Regensburg أو من قاعات القانون في مدينة فتسلار Wetzlar » .
يجب ألا تُضَخَّم ملاحظات هيردر؛ فمن المُستبعَد أن يكون مؤيدًا لتدريس الإسلام في مدارس بروسيا الابتدائية، بل إن الأمر لا يعدو مطالبته بمنهج جغرافيا أكثر إثارة وتنوعًا. محمد والمفتي في هذا السياق سيضيفان إلى التعليم الألماني لونًا أكثر من محتوى. مع ذلك؛ ومرة أخرى؛ يزيح محمد البابا في كتابات هيردر كعنصر مرجعي أكثر صلة وجاذبية؛ خطوة تشكل بالتأكيد جزءًا من مشروع هيردر الأوسع: زحزحة المركزية الأوروبية. عدم ثقة هيردر بما سماه بـ «البابوية» سهَّل حتمًا صرف نظره بعيدًا عن أوروبا وتحديقه في المشرق الإسلامي الذي كان سعيدًا ـ في بعض اللحظات على الأقل ـ بالتأكيد على جدارته والثناء عليه ضد جيرانه الكاثوليك؛ رغم أنه بأي حال من الأحوال لم يفسِّره بصورة أُحادية.
هيردر الشاعر: الحالِم، المِثالي، والباحِث عن التجديد
رأينا كيف أن إيمان هيردر البروتستانتي بمضامينه السلبية المضادة للبابوية لوَّن وصاغ موقفه تجاه المشرق الإسلامي، ودفعه أحيانًا إلى التهكم وأحيانًا أخرى إلى التعاطف. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف اتَّسقت آراء هيردر عن الشعر مع إطار أفكاره عن محمد، والفُرس، والعرب؟ وهذا يعني أن نسأل بشكل معكوس: أي نوع من صور الثقافة والدين «المحمدي» استدعى هيردر (وأي الصور قمع) كي يعبر عن آرائه في الشِّعر؟ اعتقاد هيردر أن الشعر ـ بطريقة ما ـ يمثل علاقة ضرورية مع الحياة مقابل اللغة الفلسفية الميتة والمجردة أمرٌ جوهري في فهم مديحه المبالغ فيه أحيانًا لـ «الشِّعر الشرقي» . كلما ذُكِر الإسلام، أو محمد، أو الفُرس في سياق الشِّعر أو الإبداع الفني؛ فإنه يصعُب إيجاد إشارة سلبية واحدة لدى هيردر.
بِدءًا من اعترافه المبكر بعبقرية قدرة المشرق الإسلامي على التعبير عن نفسه في التراجيديا التركية، وإشادته بثراء اللغة العربية في مؤلَّفِه (محاولة في أصل اللغة) ، ومرورًا بتمجيده المطلق للعرب في مؤلَّفِه (في تأثير فن الشِّعر) ، وكتابته سيرة شبيهة بسِيَر القديسين للشاعر السعدي، وانتهاءً بادعائه في كتابيه: (أفكار) و (أدراستيا) أن العرب بشكل منفرد أنعشوا الشِّعر الأوروبي؛ يبدو هيردر الشاعر ـ في كل ما سبق ذكره ـ وكأنه يتحدث عن المشرق الإسلامي بلغة مثالية . في توافقاته الممتدة من إعجابه بالمقولات الشعرية لعالم اللغة الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ يقدِّم هيردر الأتراك والمغول ـ المذمومين عادة في كتاباته ـ وسلاطينهم ووزراءهم في قالب إيجابي من الناحية الأخلاقية.
في هجومه على «كونية الفيلسوف» اشتهر هيردر بهجاء «المواطن الكوسموبوليتي الذي يحترق حبًا لرفاقه المتوهَّمين / الأشباح، ويعشق كائنات خرافية» . في موضع آخر؛ حذَّر المؤرخين من التجريدات المُضلِّلَة بالفعل على نحو خطير، والتي تظهر عندما «يمتلئ رأسك بمجموعة من البشر الذين وقعت في حبهم بجنون» . ومع ذلك؛ فالعرب ـ نوعًا ما ـ كانوا بالنسبة لهيردر كائنات خرافية. كان يسبِغ عليهم هالة من القدسية الارتجالية كلما كان الموضوع هو الشِّعر أو اللغة، ويبُتُّ بصورة اعتراضية / جانبية أو ينسى مؤقتًا أو يُحيل إلى فكرة مُلحَقَة أقل تأهيلا جميع صفات البربرية، والنهب، والكفر، والتخلف الفلسفي، والعدوانية.
الإشارة إلى الترك والعرب «قطاع الطرق المشردين في الصحراء» في مراجعة هيردر لكتاب (رحلة شو) ، أو إعطاء العرب وسم «الأمة الهمجية» في مؤَلَّفِه (في معرفة وإحساس الروح الإنسانية) ؛ كلها ملاحظات ظهرت تقريبًا في نفس الوقت الذي كان يصف لنا في مؤلَّفه (في تأثير فن الشِّعر) كيف أن «اللغة والشَّعر أمران لا ينفصمان عند العرب» ، وأن «حريتهم النبيلة [تبلورت] في العمائم بدل التيجان، وفي الخيام بدل المُدن» ، وأن «روح الشرف والنخوة والشجاعة الرجولية كونت لديهم صفات قومية لم تتبدل لآلاف السنين» . يجب أن يُقال: حين يكتب هيردر الشاعر عن المشرق؛ فإن العرب يتخلون عن همجيتهم وجلافتهم، ويبدأون في التحدث بمقاطع شعرية مُنسابة.
في دراسته الرصينة عن مكانة أفريقيا في كتابات هيردر؛ يحاول الناقد الألماني سونديريغير Sonderegger أن يرصد ازدواجية التمثيل لدى «أفارقة هيردر» (شبيهون أحيانًا بالقرود، وأحيانًا أخرى هم ضحايا أو همجيون نبلاء) انطلاقًا من الحاجة إلى كتابة تدفع قطار الفكر الديناميكي صوب إشارة مؤقتة . التعاقب الإشكالي للنُّبْل والوحشية، للإحاطة / التطور والهمجية؛ يصبح نوعًا من المنهجية التي تسهِّل الاقتراب من الكائن محل التمثيل من خلال هذا التصوير المستمر للتناقضات. هذا الموقف المتفائل لدى هيردر تجاه غموض الشعوب غير الأوروبية يلتقط صورًا ووجهات نظر متنوعة نجدها في كتاباته بمثابة معالجة Verarbeitung متواصلة؛ لا أصواتًا متنافرة وتعددية متناقضة. إلا أن سونديريغير امتنع في دراسته عن إبراز هذه التعددية الحتمية؛ والتي تعتبر بادرة تقتضيها أعمال هيردر المتنوعة والمتغيرة .
حين يكتب هيردر عن الشِّعر واللغة فإن الإسلام يدل على الحياة، وعلى الحيوية، وعلى انفجار القوة وتمددها في مستويات عديدة؛ التجليات الإلهية والتمظهرات العسكرية والدلالات اللغوية والثقافية. المفهوم المألوف للشرق باعتباره فَجْرَ البشرية وبراءتها وعذريتها، والذي يشدد عليه هيردر: «بلاد المشرق Morgenland ؛ لقد تم اختيارك عن جدارة كأرض للرب!» ، التناغم الطبيعي للعرب رعاة الإبل مع البيئة المحيطة بهم، واللغة العربية «الغنية، والنقية، والجميلة» ، وقُربُها الحيوي من تصورات هيردر لأصول «اللذة التي نحلم بها عبر السرديات الشِّعرية لهذا الأصل أو ذاك: البَحَّار الأول، القُبْلَة الأولى، الجَمَل الأول» ؛ ساهم كل ذلك في تصور هيردر عن المشرق الإسلامي بحراك متمدد؛ وعلى عكس كانط؛ فلم يخش هيردر من هذا الحراك ولم يسع إلى احتوائه.
إن كان هيردر القِسّ قد أراد قولبة وتحجيم «الدين التركي» كامتداد للمسيحية واعتبره مجرد «خليط غريب» من التقاليد السابقة؛ فإن هيردر الشاعِر لم يتورع عن نقل معظم التيارات المُعْتَبَرَة للثقافة الأوروبية، والشعر، والفلسفة، وحتى جوانب من لغتنا؛ إلى جذور عربية. بادرة هيردر الراديكالية تميز نفسها عن الاستعارات الاستشراقية المعيارية في القرن الثامن عشر لبداية وأصْلِ الاجتهاد الفلسفي، وتؤكد على آثار الأسبقية الشرقية على الغرب. في كتابه (أفكار) ؛ متأثرًا بمجموعة متنوعة من المستشرقين (ريسكه Reiske ، وبوكوك Pococke ، وسيل Sale ، وجونز Jones ، وأوكلي Ockley )؛ يشرح هيردر ببعض التفصيل كيف أن تقاليد الرومانسية بأكملها، والحب اللطيف، وأغاني الفروسية، والحكايات القديمة؛ جميعها أشياء «انبثقت عن لغة [العرب] وأسلوب تفكيرهم» .
لا يتوقف نص هيردر عند صقلية وإسبانيا، بل ينتقل إلى الشعراء الغنائيين المتجولين troubadours ، ودون كيشوت، ويصل النص إلى ألمانيا وشمال أوروبا من خلال التقاء الملاحم الشعرية البطولية النورماندية بـ «الشهامة العربية الرفيعة» . يقوم هيردر بمجازفة تاريخية؛ ويظهر هنا ما يشبه إحساس نيتشه إزاء تصوراته عن العرب الإسبان وحبهم للحياة وتأثير ذلك على أوروبا؛ الأمر الذي سيضفي مفارقة على ملاحظاته في كتابه «عدو المسيح» ؛ بعد قرن من كتابات هيردر؛ إذ كتب نيتشه: «إن الموريسكيين الإسبان مرتبطون بنا في العمق ارتباطًا وثيقًا» .
نقد الانطوائية الأوروبية التي أعرب عنها هيردر في إشارات منتظِمة من قبيل «هذه الزاوية من العالم» ، أو «قارتنا الصغيرة» ؛ كان مقترنًا بتهكمه على التسمية المختصرَة:«الثقافة الأوروبية» ؛ «أين توجد هذه الثقافة؟، ومع أي الشعوب؟» ؛ وغذَّى نقدُه بلا ريب ـ وبقدر متساوٍ انطلق من ـ وعيه بمكانة الأجنبي أو الغريب der Fremde ) في قلب ما يسمى بـ «الثقافة الأوروبية» . وفي هذا الصدد؛ حاولت تجريبية هيردر بتفانٍ إلغاء حدود Grenzen كانط التي سعى بجدية للحفاظ عليها [في كتابه: الدِّين في حدود مجرد العقل ].
العالمية المزعومة للمسيحية والتي كانت مركزية جدًا بالنسبة لإنسانية هيردر الشفوقة؛ لم تساهم كثيرًا في عملية تفكيك الحدود مثلما ساهم إيمانه بطاقة اللغة Sprache والشعر. عشق هيردر للشِّعر ـ أكثر من معتقَده الديني ـ جعله ينتبه إلى الحركة البسيطة للغة القادرة على التخريب والإشكال والسخرية من أسطورة «أوروبا» المنتفِخة والفارغة.
الربط القوي في نصوص هيردر بين محمد وجزيرة العرب والحياة والإلهام والبدايات؛ يحمل في طياته بعض التَّبِعات السلبية الخَفيّة. احتفاء هيردر الشاعِري بإنجازات النبي، وإصراره على تميز الخيال وتفوق الموهبة الشِعرية لدى العرب؛ حوَّل القرآن إلى ملحمة «أوسيان» (*) عربية بديعة طويلة. بالمقابل فقد الإسلام قيمته الحقيقية وتحوَّل لمجموعة من المجازات. حين يكتب هيردر إلى زوجته كيف أن «رسائلكِ إليَّ أشبه ما تكون بآيات من القرآن؛ أنزلها المَلَك جبريل على محمد» ، ندرك أن الأستاطيقا أصبحت مساحة يمكن للمفكِّر فيها أن يُحَيِّد التهديد الذي تمثله مصداقية الإسلام كدين سماوي منافس، بينما يحافظ على صورته كأداة بلاغية نموذجية، ويقوم «أعداء الدين» هنا بمحاكاة هزلية للدين.
ارتباط هيردر بالشِّعر والخيال الفطري وسمو العقل عند العرب: «إن خيال [العرب] ملائم للبلاغة، والغرابة، والدهشة» ؛ قصد به بشكل تفضيلي التأكيد على نقيض ما اعتبره هيردر فكرًا مجردًا وعقلانيًا وجافًا، وإبعاد العرب بفعالية عن حالة الجدية وعن وسم «المفكرين الأوائل» ؛ واعتبارهم مجرد «جسر» عبر فوقه العِلم اليوناني إلى آسيا ومنها ـ بالطبع ـ إلى أوروبا لاحقًا . سيكون من الخطأ أن ننكر أي تطور في هذه الفكرة؛ ملاحظات هيردر الفظَّة في سبعينيات القرن الثامن عشر بخصوص العرب كأمة همجية تسعى للتعاطي مع أفكار تجريدية خارج نطاق معرفتها لم تستمر في العَقْد اللاحق.
ومع ذلك؛ ففي حين قام هيردر بتمجيد العرب عمليًا في السنوات اللاحقة لظهور كتابه «أفكار» واعتبرهم وسطاء وحُماة للفكر اليوناني؛ وخصوصًا إنجازاتهم في مجال الطب والعلوم؛ فإن وصْف جزيرة العرب المُقَدَّم في كتابه (فلسفة أخرى للتاريخ) ـ باعتبارها حبكة ثانوية في تاريخ تشكُّل أوروبا ـ لا يزال يبدو ساري المفعول على مهل. طالما وصَف هيردر الفلاسفة العرب بالشعراء، وبأنهم متمركزون حول القرآن أو حول أرسطو، ولم يتمتعوا قط بـ«وضعية تحرر» ؛ هيردر شعر بأن العرب كانوا غير قادرين على إنتاج أي فكر سياسي أو صنع تاريخ متميز، ويخبرنا أن تاريخهم Geschichte «كان إما شِعرًا، أو أحداثًا منسوجة من خلال الشِّعر» .
في هذه المسألة؛ فإن المدافعين عن هيردر يستشهدون بإيمانه بعدم قابلية اللحظة التاريخية للقياس حيث «يستحيل أن تصير لحظتان في العالم شيئًا واحدًا» ، وتوكيده على الطبيعة الهرقليطسية (*) للإطار الزمني والتسلسل الكرونولوجي، فضلاً عن عدم إمكانية ترجمة النماذج الثقافية الخاصة (إساءة فهم السُّلطة الأبوية المنضبطة ـ على سبيل المثال ـ واعتبارها استبدادًا شرقيًا)، واعتقاده أن «الزنوج، والأميركيين [الأصليين]، والمغول يتمتعون بمزايا ومواهب لا يملكها الأوروبيون» . مع ذلك؛ فالاستعارات العضوية المتتالية للنمو والتوسع التي قدمها هيردر للجنس البشري (طفل/وردة/غابة/ضوء) ناقَضَتْ نهجًا ساهم ضمنيًا في خلق زعم «عدم قابلية اللحظة التاريخية للقياس» بخصوص شغف العرب أو براءة الزنوج؛ وهي مسائل قابلة للقياس.
الثمن الذي دفعه الإسلام لقاء الخيال، والحيوية، والمواهب الشِّعرية الثريَّة، والتأثير المبكِّر على الآخر، وغيرها من المفاخِر التي أسبغها هيردر على المشرق الإسلامي؛ هو موقعٌ دائمُ التبعيةِ في التاريخ العالمي، وحالةٌ هامشيةٌ أبدية. تسليم هيردر بمديونية أوروبا للعالم العربي؛ «أشرق نور العلم في جزيرة العرب وأنار ظُلمات أوروبا» ؛ يمنح العرب شرفًا وأولانيَّةً مُجَمَّدَةً في آن واحد. الأمر الذي بدأ بالظهور في فكر هيردر ـ تطورٌ سيصل إلى ذروته المنتظِمة والمصقولة في فكر هيغل ـ ما هو إلا بدايات غير واعية لوضع خطوط عريضة للإسلام، وتثبيت المشرق في مخطط للنمو والتطور؛ مرتَّبٍ سلفًا. كائنات هيردر الخرافية («نطق العربي الصامت بنار كلماته كما فعل ببريق سيفه» ) لم تتغير بمرور آلاف السنين. فعلى مسرح التاريخ العالمي؛ لعب المسلمون والعرب دورهم الحيوي منذ أمد طويل بسُمُوِّهم وفصاحتهم وقوتهم.
هيردر القومي: الباحث عن مِثال؛ والخائف من الأتراك
على الرغم من أن التعاطي المركَّب مع الأمة في فكر هيردر يتجاوز أي معنى يمكن أن يؤديه مصطلح مثل «قومي» ـ اهتمامه بصياغة هوية قومية يتخلَّل بوضوح كتاباته في الشعر واللغة والدين ـ فإن هناك أسبابًا مقنِعة لتتبُّع العلاقة المميزة بين الإسلام والجهود التي كرَّسها هيردر لفكرة الوعي القومي. مثلما أثار إيمان هيردر المسيحي عددًا من المعضلات في مقاربته الإستطيقية والتاريخية والسياسية للإسلام و«للمحمديين» ؛ فإن اهتمام هيردر بالهوية القومية ـ ولا سيَّما؛ باستِنْبات هويته الخاصة ـ أنتج علاقة غامضة مع العالم الإسلامي، تعتبر مواضَعَة نموذجية للهوية الألمانية وتهديدًا لها في ذات الحين.
ذكرنا فيما سبق أن صعود الإسلام ـ بالنسبة لهيردر ـ اشتمل على دروس مهمة في بناء الأمة، وبخاصة فيما يتعلق بالدور الجوهري للشِّعر واللغة في عملية البناء. كدارِسٍ للتاريخ؛ قام هيردر بالتفتيش في ثقافات العالم بحثًا عن مِثال سابق لوعي عرقي / قومي عظيم، وجاهر باعتقاده أن صعود الإسلام كان حدثًا يمكن أن تتعلم منه القومية الألمانية. على عكس الفكرة اللايبنتزية عن أول مؤسسة قومية عام 1788؛ يخبرنا هيردر أن «اللاتينيين الإغريق والعرب» قدموا أمثلة ممتازة على «الهيمنة الخفية التي يمكن أن تحققها أمة ما» حين تتحكم بلغتها وتوظِّفها ببراعة. في كتابه (أفكار) يذهب هيردر إلى مزيد من التفصيل إلى حد الامتعاض والتباكي على عدم امتلاك القبائل الجرمانية في أوروبا نَصًّا مثل القرآن:
«أيًّا كان هذا الدين؛ فقد انتشر من خلال اللغة التي كانت أنقى لهجة عربية، فضلاً عن كونها مصدر فخر واعتزاز لأمة بأكملها، ولا عجب إذًا أن اللهجات العربية الأخرى تمَّت إزاحتها إلى الظِلّ، وأن لغة القرآن أصبحت الراية المظفرة لسطوة العرب. هذه الغائية المشتركة لأسلوب الخِطاب والكتابة مُواتية لتوسع وازدهار الشعوب. لو امتلك غزاة أوروبا الجرمانيون بلغتهم كتابًا فاخرًا موثوقًا به، مثلما امتلك العرب قرآنهم، لما تحصلت للغة اللاتينية سيادة على لغتهم، ولما تاهت كثير من قبائلهم. لم تتمكن كتابات أولفيلا (*) Ulfila ، ولا كادمون (**) Kaedmon ، ولا أوتفريد (***) Otfried من تجسيد ما يمثله قرآن محمد لجميع أتباعه إلى هذا اليوم: التزام بلغتهم العتيقة والأصيلة؛ والتي ارتقوا من خلالها إلى مرتبة أكثر رفعة ووثوقية، وبقوا بفضلها أمة واحدة في جميع أنحاء العالم» .
نبرة الاستياء الخافتة التي تظهر في تبرؤ هيردر من اللاتينية تفرض سؤال: ماذا كان يعني أن يحسد المشرقَ مفكرٌ ألمانيٌّ عاش في ثمانينيات القرن الثامن عشر؟ في هذا السياق؛ فإن معنى التمجيد الخرافي الذي أسبغه هيردر على العرب يصبح أكثر اتضاحًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفضاء الألماني المُتضائِل والمُتشظِّي الذي كان المفكر يدرك أنه يعيش فيه.
استياء هيردر من ° Gallicomanie » أو التقليد والهوس الألماني بالثقافة الفرنسية، وحالة «التخلف» التي كانت عليها اللغة الألمانية، و«مرض النسيان» الذي أصاب قدرة ألمانيا على استدعاء تقاليدها وثقافتها القديمة؛ جميع تلك العوامل جعلته ينظر بعين حسد إلى العرب وإلى جودة صفاتهم القومية البارزة . توفر هذه الرغبة في خلق تنسيق قومي متين نابع بالأساس من الارتباط بين تأثير القوة والصورة النمطية عن الآخر ـ لا يبرر هيردر بتاتًا كليشيهات البدو العرب المشبعة بالفخر، والثأر، والشغف؛ والتي نصادفها في كتاب Gesamtausgabe [المُؤَلَّف الذي جمع مراسلات هيردر المختلفة] ـ توفر [أي الرغبة] أحد العوامل التي تفسر تسامح هيردر مع فكرة تمجيد كائناته العربية الخرافية وغير الواقعية؛ مع أنه عارض بشدة في سياقات أخرى التصوير غير الواقعي للثقافات الأجنبية.
بطبيعة الحال؛ فإن ثناء هيردر على القرآن خدم أيضًا ببراعة الغاية المسيحية؛ المتمثلة في علمنة الظاهرة الإسلامية بصورة تامة، وتحويلها من وحي إلهي إلى حدث تاريخي عظيم. ثمة مضامين خفية في تمجيد هيردر للإسلام، تكمن في كسر حاسم ومدروس لقدسية القرآن. في إشارته إلى أن الأمور كانت ستختلف عما هي عليه لو امتلكت قبائل تيوتوني الجرمانية Teutons قرآنـاً يخصها؛ تبدو نظرة هيردر إلى المشرق ممزوجة بالحسد والندم؛ ويُحجِم فجأة عن التوظيف السياسي للمِثال العربي والإسلامي باعتباره دافع أمل أوروبيًا مؤقتًا. رغم أنه من الملاحظ أن العرب في كتابه (أفكار) يبرزون بجلاء كعنصر محفِّز لأوروبا الغارقة في الهمجية والجفاء ـ في الفقرة الأخيرة بالجزء التاسع عشر من الكتاب يصرح بهذه النقطة ـ إلا أن العلاقة السياسية بالإسلام نادرًا ما تسرَّبت في فكر هيردر إلى الحاضر أو اللحظة الراهنة. قبل تسع سنوات؛ وفي مؤلَّفِه (في تأثير فن الشِّعر) ، اقترب هيردر قليلاً من هذه الفكرة. في معرض ربطه صعود الإسلام على نحو وثيق ومعقَّد بمكانة الشِّعر في الثقافة العربية؛ ذكر كم هو مرغوب «أن يعبق الأُفق الأوروبي بشيء من رائحة بخور الشرق الزكية» .
«ربما لأصبحت أوروبا على أعتاب مرحلة جديدة من النفوذ الذي قد يفرضه الشِّعر العربي لو كانت الكنوز [العربية] ذاتها؛ والتي مازالت [حينها] كامنة في إسبانيا ومبعثرة في أماكن أخرى؛ مُدمَجة معًا وفي حالة يقظة، لكنني أشك في قدرته [أي الشِّعر العربي] على إحداث تأثير حيٍّ على صفاتنا الذاتية. هذا النوع من التأثير كانت ستُحدِثه أمة حيّةٌ يعيش بداخلها فن الشِّعر. تستطيع المكتبات أن تستولِد تأثيرًا علميًا بالغًا، ولحظات متوهجة، وأذواقًا جديدة وتعديلات على هذا الشخص أو ذاك؛ كي تجعل الأفراد مشهورين بغض النظر عن مدى استحقاقهم لشهرتهم. إلا أن تأثير الشِّعر على الشعوب؛ وهو ما يهمنا هنا؛ هو أمر مختلف تمامًا» .
سياسيًا وشِعريًّا وفلسفيًا؛ المشرق الإسلامي هو مصدر للحياة؛ فقط إن كان سيتم الانتقاص من هذه الحيوية في آخر المطاف. بهذا الفعل الذي يعزو لجزيرة العرب دورًا محتملاً كأداة للتجديد الأوروبي، وكواهبة حياة للقارة الحائرة المضطربة التي مزقتها الصراعات؛ قام هيردر في النهاية بتحجيم المشرق الإسلامي ودفعه خارج نطاق «الحياة» وحرمه من أي حقائق وجودية. من ناحية سيعزِّز ذلك ـ حتمًا ـ ببساطة ما سبق وذكرناه عن الصورة الطيفية لجودة تصورات هيردر العربية التي لا تمتلك أي وجود صلب على أرض الواقع. هيردر؛ كما تكشف مذكراته ورسائله؛ لم يلتقِ قط بعربي أو تركي، وأظهر طوال حياته ثقة إيجابية مزعِجة بمصداقية حكايات وتقارير الرَّحالة. ومن ناحية أخرى؛ فإن هذا التعاطي يوحي بأن هيردر كان مدركا على نحو مُقلِق أن تركيبة تصوراته عن المشرق الذي تبناه لم تكن موجودة إلا في المكتبات وتقارير الرَّحالة، وفي الدواوين والأنثولوجيا / المختارات الشعرية.
إن كان تمجيد هيردر للعرب قد اشتمل على تصور حيّ، وتجديد، وعودة إلى الأصالة؛ فإن شيطنة الأتراك التي نجدها في مؤلَّفه Gesamtausgabe تعكس موقفًا أكثر كآبة في فكره. التناقض بين الفريقين؛ اللذين جمعهما هيردر في بعض الأحيان تحت مسمى «أتباع محمد» ، أو «الأتراك Saracens [العرب والمسلمين]» ، وفي أحيان أخرى أبقاهما منفصلين؛ هو تناقض مذهل. ويبرز ذلك بوضوح في قسم «الشعوب الغريبة في أوروبا» في كتابه (أفكار) حيث أتْبَع فورًا الاعتبار الإيجابي المُشرِق للعرب الموصوفين بـ«إخواننا المشارقة» الذين كان التعرف إليهم «مثمِرًا لقارتنا» بفقرة وجيزة عن الأتراك:
«الأتراك ـ وهم شعب ينحدر من تركستان ـ ما زالوا غرباء على أوروبا بغض النظر عن وجودهم هنا البالغ ثلاثمئة عامًا. لقد قاموا بتقويض أجمل الممالك الأوروبية وحولوها إلى صحراء، وحولوا اليونانيين الذين كانوا ذات يوم مبدعين إلى عبيد كفرة. كم من الأعمال الفنية تم تدميرها بواسطة جهلهم! وما أكثر ما سحقوه ولم يُبعَث من جديد! إمبراطوريتهم سجن هائل لجميع الأوروبيين الذين يعيشون فيها؛ وسوف تنهار حينما يأتي وقت سقوطها. ماذا يفعل هؤلاء الغرباء Fremdlinge في أوروبا، والذين بعد ألف سنة مازالوا يريدون أن يظلوا برابرة؟» .
غياب أي إشارة إلى الإسلام أمر مدهش، وسنتوقف عند هذه الملاحظة لوهلة. قبل أي شيء آخر؛ الأمر المُستخلَص من ذلك والأكثر بداهة هو ضرورة التأكيد على حضور الحروب الروسية التركية (1768 ـ 1774، 1787 ـ 1791) في الخلفية [خلفية نصِّ هيردر]. الخلفية هنا ليست قريبة تمامًا من تلك التي انطلق منها لوثر ولايبنتز إبان وصول العثمانيين إلى أسوار فيينا؛ غير أن هيردر كان يتابع بعناية كفاح القيصر ضد العثمانيين في شبه جزيرة القرم والبلقان. في رسالة كُتِبت من فرنسا عام 1769؛ نجد هيردر المسافر يسأل بلهفة عن أخبار الانتصارات الباهرة على الأتراك (وعن ردود الأفعال عليها). ويبدو جليًا أن هيردر مسرور لأن «المشهد الروسي متألق كما لم يكن في السابق» ؛ «بضرب الجيش التركي الرسمي» ، و«سحق القوات الإنكشارية» ، و«وصول الأسطول الروسي إلى البحر الأسود» .
على الرغم من أن هيردر أعرب من حين لآخر عن تعاطفه الإنساني مع المهزومين على يد الروس، في مؤلَّفِه Humanitaetsbriefe «رسائل من أجل الارتقاء بالبشرية» وصف بحزم تدمير قوات القيصر ميناء مدينة Izmail على نهر الدانوب [الواقعة حاليًا في أوكرانيا] بجريمة حرب ؛ غير أن الأتراك ـ إلى جانب المغول ـ ظلوا أهدافًا للكراهية الحقيقية التي قليلاً ما ظهرت في كتابات هيردر، والذي لم ينظر إلى هذا الأسلوب كإشكال ولم يتحرج من استخدامه واستثناه بشكل غريب ولافت من انتقاداته التي طالما شنَّها في مواضع أخرى على شيطنة الآخر والتمويهات غير الحكيمة. ومع ذلك؛ فالحرب الروسية التركية لا يمكن أن تفسِّر كل عداوة هيردر تجاه الأتراك.
في تعامله مع الأتراك؛ يكمن إحساس برعب عميق ومكبوت من الهِبات المُطلَقة للحظات التاريخية المظلِمة، وقلق عويص لم يفصِح عنه جيدًا إزاء الفراغ المحتمَل للتاريخ. وصف هيردر الاستبداد بـ «الهاوية الحقيقية المستهلِكة للبشرية؛ والتي تبلعُ كل شيء وتحيله إلى الفناء والسَّحق» .
بغض النظر عن الانتصارات الروسية؛ فالإمبراطورية العثمانية ظلت عند هيردر نموذجًا على الاستبداد المتوسِّع والناجح والحيوي تاريخيًا. الأدوار التي أُعطيتْ للأتراك في كتابات هيردر والطريقة التي قام بربطهم؛ كلما كان ذلك سانحًا؛ بالمصائب التي يوردها ـ كسجن [الشاعر] السعدي، وسقوط العرب (حيث يصف الأتراك والأكراد بالقراصنة والزبَّالين) ـ تؤكد رمزية الأتراك كَشَرٍّ ثابتٍ في فكر هيردر.
ثمة إحباط لوثري عظيم هنا؛ وهو ذات الإحباط الذي استثمره هيردر كثيرًا وبشكل إيجابي في مقاربة أخرى للإسلام باعتباره ظاهرة شِعريَّة / سياسية، ولم يقدر على معالجته ـ كما فعل لوثر ـ بالتأويلات الدينية المروِّعة وبشيطنة «المحمدية» . اعتبار هيردر الأتراك مسلمين أحيانًا (الاعتقاد أن اللاهوت فقط هو القادر على إنتاج القرآن يُنظَر إليه كـ«دليل على الأتراك» وعلى «الحماقات المروعة» وأحيانًا أخرى؛ في بعض فقرات كتابه (أفكار) ؛ خارجين على الإسلام، ومجرد برابرة وثنيين؛ يدل على أن هيردر ببساطة لم يكن يعرف كيف يتصرف مع إيمان الأتراك. ومع ذلك؛ تظهر في أعماله نسخة علمانية عن الدور التركي المروِّع المُشار إليه في تأويلات أحداث آخر الزمان المنصوصة بسِفر الرؤيا، هذه النسخة ليست على صورة نذير لانهيار الإمبراطورية العثمانية المرتقَب المذكور أعلاه «وسوف تنهار حينما يأتي وقت سقوطها» ؛ إنما ظهرت بصورة أكثر وضوحًا في مؤلَّفه الأخير «أدراستيا» ، حيث عبَّر عشق هيردر السلافي عن أمله في أن يقهر الروس الأتراك، ويستعيدوا مجد الحضارة الإغريقية القديمة:
«لنفترض أنه يتوجب علينا أن نعود بعد بضعة قرون. ستكون روسيا قد وجدت مركزًا لها في البحر الأسود؛ وستنتعش محافظاتها الآسيوية والأوروبية، وسيتم فتح الشريان الأورطي بقلب آسيا العاجِز أمام جميع الطرق التجارية؛ وسيزول الباب العالي العثماني [إسطنبول]، وسيكون البحر المتوسط ما ينبغي أن يكونه: ميناءً حُرًّا للعالم» .
هناك عدد من المواضيع المفروغ منها في رؤية السلام السلافية هذه الممتدة من شبه جزيرة القرم إلى اليونان. ومع أنها ليست شبيهة تمامًا بـ «الخطة المصرية» ؛ فإن أمنيات هيردر العاطفية لإعادة تنصير البحر المتوسط ـ أو كما عبَّر البروفيسور غيسيمان (*) : «نَقْل بطرسبورغ إلى شواطئ البوسفور» ـ ارتأتْ أن قِوى النور والثقافة والحرية الأوروبية ستتغلَّب على قِوى الطغيان والظلام (العثمانيين).
إن استرداد القسطنطينية ـ كما يرى هيردر ـ يكاد يشكل شرطًا أُخرويًّا لهذه الرؤية [وإيمانًا بالبعث]. لهجة الثنائية القطبية غير المريحة في النَّص؛ المعتمدة على فهمه الشهير للتاريخ المطروح في كتابه (أفكار) باعتباره صراعات وتسويات بين قِوى متضادة؛ تفسِّر جزئيًا الدلالات الوحشية البربرية للأتراك في فكر هيردر، والتي تعتبر فصلاً ضروريًا بينهم وبين الإسلام والمشرق العربي (الذي نظر إليه كقوة ثقافية ودافِع للتطور)؛ فضلاً عن الغياب الملحوظ لأي إشارة ـ تقريبًا ـ في فكر هيردر إلى الشِّعر والموسيقى والتصوف التركي؛ على عكس اهتمام هيغل بجلال الدين الرومي.
إن كان العرب لدى هيردر قد شكلوا مرحلة أولية تمهيدية في تطور الفن الأوروبي؛ فإن الأتراك كانوا دلالة على القطب النقيض للحرية ولجوهر ثقافة الآخر. وإن كانت تصورات هيردر العربية حيوية ومرتبطة بالأصالة وبالتجديد؛ فتصوراته عن الأتراك كانت بنفس القدر من القوة النقيضة، الشريرة والمدمِّرة والمُمِيتة.
الدروس والنتائج الكامنة في تصورات هيردر العربية النبيلة / التركية الشريرة المتأصلة في أي تأريخ لمكانة الإسلام في الفكر الألماني؛ تظهر بوضوح أكبر حينما نضع تصورات هيردر عن الإسلام إلى جوار تهميش كانط للمشرق. حينها بالتأكيد يبرز هيردر ـ بعد ليسينغ (**) ـ كأول مفكر ألماني رائدٍ نظر إلى الإسلام كظاهرة ذات صوابية مستقلة، وليست مجرد انحراف لاهوتي أو بِدعة طائشة. غير أن حالة هيردر تكشف أيضًا الغموض التام لفوائد التاريخانية القائمة على التجريب بالنسبة لغير الأوروبيين.
إن كانت تجريدات كانط التعميمية قدمت ـ إلى حد كبير ـ المشرق الإسلامي في إهاب رقيق لا منطقي؛ فإن اهتمام هيردر بتفاصيل المشرق كان مجرد إزاحة لتلك «اللامنطقية» من الحافَّة الخارجية للمنطق إلى الدرجة السُّفلى من سُلَّم المنطق. يبدو هنا الشر الأهون: التحريف [ممثلاً في العرب] والشر الأعظم: عدم التمثيل [ممثلاً في الأتراك]؛ مُدمَجان معا بصورة مشوشة. إن كان تهميش كانط للإسلام قد عزَّز نهج المركزية الأوروبية الواضحة؛ فإن إجلال هيردر للعرب وللنبي «الشاعر» أصَّل لعبادة ألمانية للمشرق بوجه عام وإن لم يكن قد اسْتَهَلَّها ابتداءً؛ تلك العبادة التي كانت سارية في تيارات ألمانية متنوعة، تمثلت في: غوته، وشليغل، ونيتشه، وماكس مولر.. وغيرهم.
ترجيح سلافوي جيجيك أن كلا المسارين يقودان إلى المركزية الأوروبية بشكل متساوٍ ـ هيردر كما شيطنه جيجيك؛ مُنَظِّر ما بعد الحداثة والتعددية الثقافية؛ ووصفه براعي العنصرية يتحدث من نفس الفضاء التمييزي السخيف كي يؤكد على تفوقه الذاتي، ما يُعَدُّ انعكاسًا أوروبيا للحكمة أو التبصُّر Besonnenheit في لُبِّ فعل الاعتراف بعدم أوروبية الآخر ـ يجب ألا ينتقِص [أي ترجيح جيجيك] من فِطنة هيردر وقيمة نقده. في خضم نصف دزينة من الصراعات الإسلامية المسيحية؛ أعرب هيردر عن ازدرائه للإمبريالية الأوروبية وتعاطفه مع خسائر المسلمين وأرواحهم التي راحت ضحية تلك الصراعات. الاستشكال في فكر هيردر ومراجعاتنا له؛ يجب ألا ينسينا بأي حال من الأحوال تعدديته المحمودة.
وبالتالي؛ فنبيَّا هيردر ـ أستاذ جامعة كونيغسبيرغ Knigsberg [كانط]، الذي ابتدع عقيدة نقد مجرد وجاف؛ سرعان ما انتشرت في ذلك الحين من خلال العقل الألماني كقوة عالمية، وهامان؛ الرجل الذي كان هيردر مولعًا به، والتمس منه الحكمة والإلهام ـ يعكسان التناقض الكامن داخل استجابة هيردر للإسلام ولثقافات الشعوب التي تجسَّد فيها الإسلام بالنسبة له. تنقَّل هيردر بشكل دائم بين المنشأ والاستبداد وبين الشِّعر والتجديف وبين قوة الحياة وقوة الكارثة. الطبيعة المتنوعة والمتناقضة في تصورات هيردر عن المشرق الإسلامي تكشف عن أنماط التداخل بين ثلاث موجات مختلفة: المعالم المتغيرة للصراع بين سلسلة من الأولويات السياسية والدينية والجمالية المتعددة.
عندما نصادف في كتابه (أفكار) الوصف المتعدِّد الأوجه لمحمد كـ «تاجر، ونبي، وخطيب، وشاعر، وبطل، ومُشرِّع» ؛ ندرك أن هيردر لم ينجح أبدًا في توحيد مواقفه المتباينة تجاه الإسلام. في مؤلَّفه (رسائل من أجل الارتقاء بالبشرية) ؛ ووسط انتقاداته للحروب الصليبية؛ يُظهِر هيردر اشمئزازًا إزاء التخطيط الأوروبي «لنهب مكة والمدينة» ، ويُثني على أولئك الرحَّالة الغربيين الذين حاولوا حقًا أن يفكروا مثل العرب .حين نراه مرة يقدم وصفًا مستحسنًا آبي بيير (*) كشخص كان «يحمل عداوة شديدة للدين المحمدي؛ لأنه دين يفضل الجهل مبدئيًا، ويجعل البشر متوحشين» ، ندرك أن استجابة إنجيلية مكبوتة للإسلام وجوهرًا مسيحيًا غير قابل للاختزال لن يغادر أبدًا المشرق الذي شيَّده هيردر لقرائه. الوجوه المختلفة التي رسمها هيردر للآخر المسلم: التركي الهمجي، والعربي النبيل، والقرآن المؤلَّف من خليط غريب، والنسيج الفخم، والقوة التي يكمن فيها تهديد أوروبا وخلاصها معا؛ لم تشكِّل [تلك الوجوه] أي معالجة Verarbeitung متدرِّجة، إنما تمتمات مستمرة لأصوات عاطفية، مميَّزة، ونشَاز في نهاية المطاف.
هوامش
Herder, Briefe , ed. W.Dobbek and G. Arnold (Weimar: Bohlausnachfolger, 1979), 8:137. All translations from Herder are.my own unless otherwise stated
Taken from Nietzsche’s Human, All Too Human-cited E. Behler, ‘The Theory of Art has its Own History’: Herder and the Schlegel Brothers in Herder Today , ed. K. Mueller-Vollmer (Berlin: Walter de Gruyter, 1990), p. 247.
Letter to von Hesse , January 1771, in Briefe, 1:295.
Letter to Hamann, May 1784, in Briefe , 5:43.
For an excellent account of this, see F. C. Beiser, Enlightenment, Revolution and Romanticism: The Genesis of Modern Political Thought 1790-1800 (London: Harvard University Press, 1992), pp. 189-215.
Isaiah Berlin, Vico and Herder (London: Hogarth Press, 1976).
See Robert Leventhal’s The Critique of the Concept: Lessing, Herder and the Semiology of Historical Semantics, Herder-Yearbook 3 ( 1996): 93-110. See also Michael Morton’s clearly irritated response to Leventhal, Critical Realism and the Critique of the Concept in Herder Jahrbuch 1998 , pp. 177-90. Whatever Morton might feel about Leventhal’s sheer lack of comprehension, similar approaches have come from a number of different quarters. Russell Arben Fox has discerned similarities between Heidegger and Herder in a common emphasis on the separateness and independent nature of Sprache- J.G. Herder on Language and the Metaphysics of National Community, The Review of Politics 65, no. 2 (2003) . Joseph Simon, somewhat more cautiously, sees a prescient consciousness of the problem of metaphysics in Herder’s critique of temporality (J. Simon, Herder and the Problematization of Metaphysics, in Herder Today , pp. 108-25). See also Andreas Herz, Dunkler Spiegel-Helles Dasein. Natur, Geschichte, Kunst im Werk Johann Gottfried Herders ( Heidelberg: Winter, 1996), who has argued that Herder’s replacement of the paradigm ‘Consciousness’ with the paradigm ‘language’ links Herder’s philosophy of language with similar positions in French poststructuralism and contemporary hermeneutics.
Beiser, Enlightenment, Revolution and Romanticism , p. 189; Samson B. Knoll, Europe in the History of Humanity, in Herder Jahrbuch 1998 , ed. H. Adler and W. Koepke (Stuttgart: J. B. Metzler, 1998), p. 129; E. Adler, Johann Gottfried Herder und das Judentum, Herder Today , p. 391.
Letters for the Advancement of Humanity, letter 122-in Herder, Herder: Philosophical Writings , ed. M. N. Forster (London: Cambridge University Press, 2002), p. 419-hereafter simply Philosophical Writings.
From Auch Eine Philsophie in Philosophical Writings , p. 283. Discordant voices have certainly been raised-see most recently D. Linker’s The Reluctant Pluralism of J. G. Herder, The Review of Politics 62, no. 2 (2000) , which argues that Herder’s apparent (and much lauded) pluralism actually conceals the construction of a teleological philosophy of world history (p. 268)
Herder, Smtliche Werke, ed. B. Suphan (Berlin: Weidmann, 1881-1913), 32:143-hereafter simply S?mtliche Werke.
- Hardiyanto’s Zwischen Phantasie und Wirklichkeit: Der Islam im Spiegel des deutschen Denkens im 19. Jahrhundert (Frankfurt am Main: Peter Lang, 1991), p. 102
William Shaw, Travels or Observations Relating to Several Parts of Barbary and the Levant ( 1738; repr., Westmead: Gregg International Publishers, 1972), p. viii
Taken from the 1787 essay Jones, On The Arabs, in The Works of Sir William Jones, ed. R. D. Richardson Jr. (New York: Garland, 1984), 2:50
Johann David Michaelis, Literarischer Briefwechsel, 1:305-cited in Loop, Kontroverse Bemuhungen um den Orient , p. 71
Reiske, Gedanken, wie man der arabischen Literatur aufhelfen koenne (1757), p. 194-cited in Loop, Kontroverse Bemuhungen um den Orient , p. 80.
Smtliche Werke , 32:142, 24:252
How Philosophy Can Become More Universal,in Philosophical Writings , p. 5; Treatise on the Origin of Language, in Philosophical Writings , p. 116.
Letter to Hamann, February 1765, in Briefe , 1:38; letter to Niebuhr, August 1788, in Briefe , 6:24.
Smtliche Werke , 1:58.
Ibid., 2:265.
Philosophical Writings , p. 313. E. A. Menze argues for the centrality of faith in understanding the composition of the Ideen, and suggests Herder’s contempt for Eurocentric pride has its origins in his religious beliefs, see Menze, Religion as the Yardstick of Reason and the Primary Disposition of Humankind in Herder’s Ideen , in Vom Selbstdenken: Aufklaerung und Aufklaerungskritik in Herders Ideen , ed. R. Otto and J. Zammito (Heidelberg: Synchrom Wissenschaftsverlag, 2001), p. 45. Critics such as Beiser, on the other hand, see Herder as someone who essentially secularised Hamann’s thought (Beiser, Enlightenment, Revolution and Romanticism , p. 195.
Briefe , 2:84.
Smtliche Werke , 1:58; On the Cognition and the Sensation of the Human Soul, in Philosophical Writings , p. 220; Ideen zur Philosophie der Geschichte der Menscheit (Berlin: Aufbau Verlag, 1965), II:420-here after Ideen.
Smtliche Werke , 8:360.
Letter to Schroeder, May 1803, in Briefe , 8:356.
Smtliche Werke , 1:58.
Auch eine Philosophie, in Philosophical Writings , p. 357.
Ibid., p. 273.
Smtliche Werke , 1:58.
Auch eine Philosophie, in Philosophical Writings , p. 311; Ideen , II:312.
Smtliche Werke , 8:360.
Letter 121, in Philosophical Writings , p. 411.
Ideen , II:421.
Ibid., p. 421.
Smtliche Werke , 1:58
Ideen II:422
From Auch eine Philosophie,in Philosophical Writings , p. 336.
Letters Concerning the Advancement of Humanity, in Philosophical Writings , pp. 367, 394.
Smtliche Werke , 9:39.
Ibid., 15:81
Ibid., 32:142
Luther, Luther’s Works , 8:187.
Vom Ein? uss der Regierung auf den Wissenschaften, in Smtliche Werke , 9:341.
Philosophical Writings , p. 220.
Von der Annehmlichkeit, Nutzlichkeit und Notwendigkeit der Geographie,in Smtliche Werke , 30:108.
Smtliche Werke , 32:142; from the Treatise on the Origin of Language, in Philosophical Writings , p. 161.
Smtliche Werke , 13: 339-cited in G.A. Craig, Herder: The Legacy, Herder Today , p. 25.
Auch eine Philosophie, in Philosophical Writings , p. 293.
Smtliche Werke , 1:82.
Philosophical Writings , p. 220.
Smtliche Werke , 8:360-61.
- Sonderegger, Jenseits der rassistischen Grenzen ( Frankfurt: Peter Lang, 2002), p. 122.
John Zammito tries to? nd a compromise between acknowledging Herder’s cultural prejudices and yet still appreciating him as a complete anthropologist, in contrast to the poor impression of Kant’s own interest in the subject. Towards the end of his Kant, Herder and the Birth of Anthropology ( London: University of Chicago Press, 2002) he admits, thinking primarily of Herder’s views of the Chinese, that the thinker’s pluralism was not quite so impeccable. Zammito argues, nevertheless, that even Herder’s cultural contempt seems less repugnant, and tied to its time, than Kant’s biological disquali? cation of entire peoples.
Auch eine Philosophie der Geschichte zur Bildung der Menscheit , p. 11.
Treatise, Philosophical Writings , p. 67; Smtliche Werke , 8:363; Fragments on Recent German Literature, in Philosophical Writings , p. 52.
Nietzsche, Der Antichrist, in Werke: Kritische Gesamtausgabe , ed. G. Colli and M. Montinari (Berlin: de Gruyter, 1969), VI/3, p. 246.
Letter 116, in Philosophical Writings , p. 39.
Letter to Karoline, September 1772, in Briefe , 2:238.
Ideen , II:434.
Ibid., II:312.
Philosophical Writings, p. 338.
Ibid., p. 293.
Ibid., p. 395.
Ideen , p. 312.
Smtliche Werke , 17:161-cited in C. Kamenetsky, The German Folklore Revival in the Eighteenth Century, Journal of Popular Culture 6, no. 4 (1973) : 842.
Philosophical Writings , p. 5.
Ideen, II:436
Letter to Zollkontroller Begrow, November 1769, in Briefe , 1:172-73.
Philosophical Writings , p. 384.
Auch eine Philosophie, in Philosophical Writings , p. 301.
Philosophical Writings , p. 163.
Taken from the Adrastea, in Smtliche Werke , 23:44-cited in W. Gesemann, Herder’s Russia, Journal of the History of Ideas 26, no. 3 (1965) : 432.
- Zizek, The Ticklish Subject: The Absent Centre of Political Ontology ( London: Verso, 1999), p. 216
Philosophical Writings , pp. 399, 396.
Ibid., p. 390.