في كتابة “العالم كإرادة وتتمثل” (1888) ينطلق شوبنهاور من أطروحة مفادها أن الوجود كله موجود من خلال “إرادة” ميتافيزيقية: إرادة الحياة والبقاء، معتبرا الإرادة كشىء سلبي ومهلك، لأن الحياة هي ينبوع المعاناة والشقاء. ويُقال بأن فرويد قد أسس نظرية غريزة الموت، على أساس شوبنهاوري. تتمثل وظيفة هذه الغريزة في خفض التوتر النفسى إلى أدنى درجة، يعني إلى نقطة الموت. بل أكثر من هذا، إنها عنده نزعة مدمرة للذات: الإنتحار، تعاطي المخدرات،إهمال فى النظام الغذائى والصحى إلخ. وقد يتحول هذا الدافع إلى الخارج: العدوانية، الغضب، الحقد، الضغينة، الكراهية أو حتى الإعتداء الفيزيقي على الآخرين. إنها إذن عنده غريزة التاناتوس Thanatos، مقابل غريزة الإيروس Eros الحياة؛ والنتيجية هي أن هدف الحياة، كما كان فرويد يقول، هو الموت.
كان مارتن هيدجر واحدا من كبار الفلاسفة الذين تناولوا أهمية الشعر في الإفصاح عن معنى الوجود، وهو الشيء الذي لم تتمكن منه حتى الفلسفة ذاتها، التي غفلت أهمية هذا الموضوع، مركزة على الموجود، أي الإنسان المؤمن بأن خَلاَصه يكمن في التقنية. من هنا يعتبر الشعر المجال الذي يطوق الوجود ويعبر على كينونة الإنسان. حَشَى هيدجر “الموت” بمعنى أنطولوجيا بحثا، “يَسْكُنُ” الحياة، على الرغم من أنه “موطنها Heimat”. ومن بين “يقينيات” هيدجر هو أننا “جئنا لنموت”.
طبقا لهيدجر فإن “الوجود هنا Dasein” هو ذاك التمثل الذي يتجلى للبشر من خلال وجودهم، كمقذوف بهم “هنا”، أو كموجودين هنا، أي في الكون، ليقتربوا من أكبر سؤال وجودي يُطرح عليهم، والمتعلق بوجودهم ومعناه وموتهم. في تمييزه بين مفهومي “القلق” و”الخوف” فى علاقتهما بفكرة التمثل والمكان، يؤكد بأن مصدر القلق الذي يلف الكائن “المقذوف به هنا” هو وعيه بأنه منغمس فى علاقة زمنية مع العالم، على الرغم من أنه كائن موجه صوب الموت؛ وعلى الرغم من محاولاته الهروب أو التهرب منه. إن تمثل الإنسان لذاته كَمُرْمَى به في الحياة/الوجود عرضا، ودون سابق إنذار، ووعيه الزمكاني هو الذي يقلقه ويخيفه في هذا الوجود، لأنه في قرارة نفسه يعلم بأنه “مقيم مؤقت” في هذا الوجود، مهما طال، وبأن “موطنه الأصلي” هو الموت. إن سبب ما نصطلح عليه: “صدمة الكينونة عند الإنسان” هو هذا القلق والخوف من معايدة هذه التجربة الوجودية لـ “الوجود هنا”، والقذف بالإنسان في وجود آخر، لا يعلم عنه شيئا. الفرق بين “القدفتين” هو أن الإنسان استطاع وعي تمثل ذاته زمكانيا في “الوجود هنا”، والقلق الذي يعتريه هو ما إذا كان بإمكانه الوصول إلى نفس الوعي في “الوجود هنالك”.
عندما يبدأ المرء قراءة قصيدة “يا بنيتي” للشاعر علي أبجا، يشعر بقشعريرة تلملم أطراف روحه وتشعل فتيل عقله، لتأمل لحظة وجودية من لحظات حياته. يصف الشاعر وضعا أنثروبلوجيا للإنسان، بتحد كبير للحياة والموت، وهو تحد متأمل فيه وليس فيه أي أثر “للعجرفة” العمياء أمام الوجود الإنساني. إنه صورة واقعية قوية للحظة الوجو هنا Dasein الفينومونلوجية الفعلية ووصف دقيق للكرامة الأنطولوجية للإنسان ووعي حاد بأن حياة البشر، ليست سرابا ولا ممرا لعالم آخر، بل توغل في الحياة في بعدها الميتافيزيقي المتجذر، ما دام الإنسان لا يعرف من الحياة، إلا نموذج الحياة هاهنا Hierher Sein. ليس في القصيدة أي ترهيب وتخويف من الموت كحدث طبيعي، ولا أي تكهن بغيبيات قد تكون صحيحة أو ألا تكون على الإطلاق، من مثل تلك التي تقدمها لنا السفر الصفراء بالمناسبة وبغير المناسبة. إنها تركيز على وضعية “الهَاهُنَا”، لحظة الضعف الحميمي، وغَرف كل القوة والطاقة من هذا الضعف، ليقبل الإنسان عن وعي وبصيرة قدره المحتوم: الموت. هذا الحبيب المرعب، هذا الحنون اللطيف. نهاب الموت، ليس لأننا لا نعرف ماذا سيحدث بعده، ولا لكوننا نخاف من يوم حساب وعقاب، بل نهابه لأننا نهاب أنفسنا وما تقترفه ضد ذاتها بذاتها ولذاتها.