يمكنك شراء نسخة كندل من كتاب (الوردة والنطاسي) عبر هذا الرابط
“وها هنا زعترٌ جبلي ، إنه للذكرى ؛ أرجوك يا حبيبي : تذكر ! “
(ويليام شكسبير)
( 1 )
في غُرّة شهرِ محرم عام إثنين وستين وستمائة للهجرة ، صدرَ مرسومٌ سلطاني من جهةِ جبلِ المقطّم ، وبختمِ السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري ، يحذرُ من الاجتراء على تدنيس القبور ، وانتهاك حرمة الأموات ، ويتوعدُ بالجلدِ والحبسِ كلَ من سوّلت له نفسه خلافَ ذلك . لجّ العامةُ بالحديث عن سببِ صدورِ هذا البيان ، واستغربوا ما جاءَ في متنه ، إلا أن المجرّب منهم علمَ أن للمرسوم علاقة بالشكوى المرفوعة من قبل أعيان التجار اليهود القاطنين أسفل باب النصر ، والذين لم يعد بإمكانهم الصبر أكثر على الانتهاك الخفي والمتكرر للقرّافة الخاصة بموتاهم .
حرصَ رئيس الشَرطة أول الأمر أن يرسل كوكبة من رجالهِ يحرسون المقبرة ، ورغم أنه كان معروفا بين الناس ببغضه الشديد لليهود ، إلا أنه لم يكن يملك أن يعصي مرسوماً ممهوراً بختمِ السلطان نفسه . ولكنه – وبعدَ انقضاءِ أسبوعٍ كامل دون أن يُنبشَ قبرٌ أو تُسرق جثة – لم يسعه إلا أن يرسل رجاله نحو مناطق أخرى أكثر شغباً وأجدى بالمراقبة ؛ كباب زويلة والحجارين ، وبندرة الإسلام وسويقة علي . لهذا السبب ، وبعدَ أن مرّ شهر على صدور المرسوم السلطاني ، لم يجد القاسمُ كبيرَ حرجٍ في التسللِ مجدداً مع أستاذه أبي الحسن علاء الدين ، مُستَتِرين بجُنحِ الليل ، ليعاودا اقتحام القرّافة الخاصة بيهود القاهرة .
توقفَ القاسمُ أمامَ قبرٍ يُفترض أن يكون رطبَ الثرى ، ونظر إلى أستاذه أبي الحسن وكأنهُ ينتظر منه نظرة تشجيع ، وعندما أومأ الأخيرُ برأسه ، هوت مجرفةُ القاسم لتنبشَ أرض القبر وتقلبَ تربته . التفتَ الأستاذ يمنة ويسرة ليتثبتَ من خلو المقبرة ، وعندما عاد ببصره إلى القبر ، رأى المجرفةَ ترتدُ سريعاً وقد اصطدمت بتابوت . أزال القاسمُ باقي التراب عن الصندوق الخشبي ، وانحنى أبو الحسن إلى الأرض ليفتحَ عنقَ جرابٍ كان يخفيه في ثيابه ، وبعد أن أخرجا الجثة الملفوفةَ في أكفانها البيضاء ، تعاونا على حشرها في الجراب ، وانطلقا بسرعة مغادرين المقبرة ، بعد أن أغلقا التابوت وأهالا التراب فوقه .
رفعَ القاسمُ الجرابَ فوقَ ظهره ، وانطلق يمشي متثاقلاً تحت ظلال الحيطان ، وقد تقدمه أستاذه أبو الحسن يستشرف الطريق ويتأكد من خلوه من الشرطة . كانت دار أبي الحسن في قيسارية الملقية ، ولم يكن يلزمهما إلا أن يقطعا درباً قصيراً كي يصلا بحمولتهما المشبوهة إليها . عالج أبو الحسن قفل بابه بالمفتاح ودخل مسرعا ، وتبعه القاسمُ دون أن ينتظر إذناً أو إشارة ، فلقد كان يعرفُ الدار جيداً ، وخصوصاً تلك الغرفة الشرقية الخاصة بأبحاث أستاذه ذات الطبيعة الشائكة .
ألقى القاسمُ الجثةَ على طاولةٍ خشبية تتوسط الغرفة ، وسحب الجراب ، وأزال الأكفان ، فإذا بوجه اليهودي المتصلّب يستقبلهما ، بعينين غائرتين ، و فكٍ ملتحٍ مائل . أقفل أبو الحسن باب الغرفة ، وسارع إلى إحدى الزوايا ، ليخرج منها أدواته العديدة من مشارط ومبارد وكلاليب . اعتلى أبو الحسن الطاولة الخشبية ، وشمّر عن ذراعيه ، وأمسك بمشرطٍ مدبب النهاية ، ليغرزه في صدر الجثة ، وليحفر خطاً مستقيماً ، يمتدُ طولياً من الترقوةِ اليسرى للجثة حتى سرتِها ، بامتداد عظمِ القصّ . ناولُ القاسمُ أستاذهُ مقضاً ومطرقة ، ليبدأ الثاني الحديث بينما يداه مشغولتان بتحطيم عظام الجثة :
“ ابنُ سينا كان عظيماً ، ليس في ذلك شكّ . لكني آخذ عليه أنهُ تقبّلَ نظرية جالينوس بخصوص الثقوب الموجودة بين حجرتي القلب . باللهِ عليك ، أخبرني : كيف يمكن لفتحاتٍ غير مرئية ، متناهية الدقة ، متناهية الصغر ، أن تنقل كل الدم الجاري في عروقنا في زمان نبضةٍ واحدة ؟ ولو افترضنا جدلاً وجودها ، ما الذي يدفع الدمَ من اليمين إلى اليسار ، بدل انتقاله من اليسار إلى اليمين ؟ من يفحص عضلة الحجرة اليسرى للقلب ، سيلاحظ تضخمها مقارنة باليمنى ، وهذا يدل على أن القوى الموجودة داخلها أكثر من تلك الموجودة باليمنى كثيرا . ألا يجدر بالدم إذن أن ينتقل من اليسار إلى اليمين ، وهو ما يبطلُ نظرية جالينوس ، ويجعل ثقوبه الغير الموجودة عديمة جدوى ! “