أكثر ما أذكره عن جاك سينك مارس في المرة الأولى التي التقينا فيها كان أسلوبه – الذي يحتوي على جزء من التحدي، وجزء من الحذر. ففي 1994، كنت قد توجهت للتو إلى قرية صغيرة من قرى أولد كرو في شمال يوكون; وكان سينك مارس ينتظر في المطار الصغير. كان يبدو عالم الآثار الفرنسي-الكندي طويل القامة، وأشيب، وغير حليق، وبدا عامل يوكون عجوز. و لا يزال رجلاَ سليم البنية في بداية الخمسينات من عمره، عمل كأمين في ما يسمى الآن المتحف الكندي للتاريخ في غاتينو، كيبيك. ولكن عاش سينك مارس في العمل الميداني الصيفي، بتمشيط ضفاف نهر يوكون، وملاجئ الصخور لتتبع صيادي العصر الجليدي. و قد اكتشف هو وفريقه شيئاً رائعاً في ثلاث تجويفات تعرف باسم كهوف بلوفيش،– عظام خيول منقرضة و الماموثات الصوفية التي تحمل مايبدو أنه علامات من ذبح الإنسان للحيوانات و صناعته للأدوات. فنتائج اختبار الكربون المشع تؤرخ أقدم الإكتشافات إلى نحو 24,000 سنة.
تحدت كهوف بلوفيش مباشرة تيار التفكير العلمي. وكانت الأدلة قد اقترحت لمدة طويلة أن البشر وصلوا أول مرة إلى الأمريكيتين قبل حوالي 13,000 سنة، عندما عبر الصيادون الآسيويون الأراضي المغمورة الآن المعروفة باسم برينجيا، اللتي انضمت إلى سيبيريا إلى ألاسكا و يوكون خلال العصر الجليدي الأخير. من هناك، يبدو أن المهاجرين سارعوا جنوباً على طول حواف ذوبان ألواح الجليد إلى الأراضي الأكثر دفئاً التي هي الآن الولايات المتحدة، حيث ازدهروا هم وسلالتهم. و دعا الباحثون هؤلاء الصيادين الجنوبيين بشعب كلوفيس، الذين تميزوا بحمل نوع معين من رأس الحربة. و أصبحت قصة وصولهم إلى العالم الجديد معروفة باسم النموذج الأول لكلوفيس.
إلاّ أن سينك مارس لم يقتنع بتلك القصة. و أشار عمله في كهوف بلوفيش إلى أن الصيادين الأسيويين جابوا شمال يوكون قبل 11,000 سنة على الأقل من وصول شعب كلوفيس. و قدمت بعض المشاريع البحثية الأخرى بعض الدعم لهذه الفكرة. و من ميدوكروفت في ولاية بنسلفانيا إلى مونتي فيردي في تشيلي، اكتشف علماء الآثار في نمط عشوائي قليل المداخن، و الأدوات الحجرية، وبقايا الحيوانات المذبوحة التي أشارت إلى الهجرة في وقت سابق إلى الأمريكيتين. و لكن بدلاً من إطلاق بحث رئيسي جديد عن المزيد من الأدلة المبكرة، أثارت الاكتشافات المعارضة الشرسة و المناقشة المريرة، و أشارت مجلة نيتشر “أنها الأقسى – و الأعقم في جميع العلوم”. و مع ذلك، لم يكن سينك مارس مُرعب.فقد خاض المعركة بلا خوف. و بين 1979 و 2001 ، نشر سلسة من الدراسات عن كهوف بلوفيش.
لقد كانت تجربة قاسية، شيء شبهه سينك مارس ذات مرة بمحاكم التفتيش الأسبانة. و في المؤتمرات، لم يوجه الجمهور اهتماماً كبيراً إلى عروضه، و قللوا الإهتمام بالأدلة. و من جانب آخر استمع باحثون آخرون بأدب، ثم شككوا في كفائته. و كانت النتيجة نفسها دائماً. يقول وليام جوزي، مدير الموارد الطبيعية لدى فونتوت جويشن فيرست نيشن في أولد كرو: “عندما اقترح جاك [أن كهوف بلوفيش كان] قبل 24,000 سنة، لم يكن ذلك مقبولاً”. و في مكتبه في المتحف الكندي للتاريخ، غضب مارس سينك على ذوي العقول المتحجرة. و شح التمويل لعمله في بلوفيش: في نهاية مطاف عمله الميداني الذي باء بالفشل و انتهى.
و اليوم، وبعد عقود من الزمن، انهار نموذج كلوفيس الأول. و بناءًا على عشرات الدراسات، فقد علمنا أن شعب ماقبل كلوفيس قد ذبحوا حيوانات الماسدون في ولاية واشنطن، و تناولوا البقدونس الصحراوي في ولاية أوريغون، و قدموا الأدوات الحجرية التي كانت عبارة عن نسخة العصر الجليدي لأكس-أكتو في تكساس، و ناموا في المنازل المترامية الأطراف المغطاة في تشيلي، التي كانت بين 13,800 و 15,500 سنة، أو ربما أقدم. و في يناير / كانون الثاني نشرة مرشحة دكتوراه في جامعة مونتريال، لوريان بورجيون، و زملائها دراسة جديدة عن عظام كهوف بلوفيش في مجلة بلوس ون، مؤكدة أن البشر قاموا بذبح الخيول وغيرها من الحيوانات هنا قبل 24,000 سنة. يقول بورجيون: ” لقد كانت مفاجأة كبيرة”.
يقول كونتين ماكي، عالم الآثار في جامعة فيكتوريا في كولومبيا البريطانية، والذي لم يكن عضواً في الفريق، الذي أثار أول مناقشة جادة لكهوف بلوفيش – بعد ما يقارب 40 عاماً من عمليات تنقيبها. أشار ماكي: ” هذا التقرير سيرجح الكفة لبعض ]علماء الآثار[ لقبول الموقع، وبالنسبة للبعض الآخر، فإنه سيولد رغبة في تقييم الكهوف على نحو أكثر جدية فإما إيجاد بيانات جديدة أو محاولة تكرار هذه الدراسة”.
و لكن الدراسة تثير أيضاً تساؤلات جدية حول تأثير النقاش المرير الذي دام عقداً من الزمن على الإنتشار السكاني في العالم الجديد. هل قام علماء الآثار في التيار الرئيسي بتهميش الأصوات المعارضة بشأن هذه القضية الرئيسية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما تأثيره على علم الآثار في أمريكا الشمالية؟ هل أدى الانتقاد الشديد لمواقع ما قبل كلوفيس إلى إحداث أثر سلبي، و تضييق الخناق على الأفكار الجديدة وتعطيل البحث عن المواقع القديمة؟ يعتقد توم ديليهاي، عالم الآثار في جامعة فاندربيلت في تينيسي والمحقق الرئيسي في موقع تشيلي مونتي فيردي، أن الجواب واضح. يذكر ديليهاي، أن الجو العلمي كان “ساماً و معرقلاً بشكل واضح للعلم”.
اطلعت بالصدفة على بحث حول كهوف بلوفيش لأول مرة في بداية التسعينات. كصحفي علمي، كنت أعمل على كتاب عن علم الآثار في أمريكا الشمالية، و راودني الفضول حول ماوجده سينك مارس وفريقه. تواصلت معه و في نهاية الحديث، استفسرت عن إمكانية السفر إلى كهوف بلوفيش التي تقع شمال الدائرة القطبية الشمالية. و بعد بضعة أسابيع، دعاني سينك مارس لمرافقته على طائرات هليكوبتر استطلاعية مخطط لها في الصيف وعرض علي كذلك رؤية الكهوف. فقمت بحجز تذكرة إلى أولد كرو.
كان سينك مارس يعمل في محطة ميدانية صغيرة في القرية، وهي مقصورة تدعم نهر بوركباين الذي كانت مياهه تتجه إلى بحر بيرينغ. وكان قد تعاون في ذلك الصيف مع برنارد لوريول، وهو عالم جغرافي في جامعة أوتاوا، لدراسة بيئية في بيرينجا. نصبت خيمتي خارجاً خلف المقصورة وبعنف لكنها كانت محاولة فاشلة أمام سحاب كثيف من بعوض يوكون. في تلك الليلة، استلقيت مستيقظاً لساعات. في مسافة، يمكنني من خلالها سماع ضحك وقهقهت الأطفال على أسطح المنازل في القرية، وهم يستفيدون إلى أقصى حد من شمس منتصف الليل.
في الصباح التالي، أعدَ لنا سينك مارس قهوة وطبق بانوك، وتوجهنا إلى المطار، وهو النمط الذي اتبعناه لأفضل جزء في أسبوع. و كل يوم، أقلعت فيه طائرة الهليكوبتر و تأرجحت غرباً أو شمالاً، كنا قد تركنا العالم الحديث وراءنا: في الخضرة بالأسفل ، و لم تكن هناك طرق، و لا خطوط أنابيب، و لا ألغام، ولا قطع للأشجار. فتحتنا تقع الغابات المتصلة، و القمم الخشنة، والخيوط الفضية من الجداول والأنهار، المتلألئة في ضوء الصباح. كانت جميلة تفوق الوصف، وحتى الآن، وبعد أكثر من عقدين، لازلت أحلم في الليل بتلك الرحلات، والتحليق بسلاسة فوق الجنة.
في بعض الأيام كنَا نتوقف في المناطق المنخفضة، ونمشي عبر الأعشاب القطبية أو المستنقعات للوصول إلى موقع المعاينة. و في أحوال آخرى، كان سينك مارس يقود الطريق إلى الكهوف ليتحقق منه. بينما قائد طائرة الهليوكوبتر ينتظر، تسللنا إلى المداخل الغامضة و تملَصنا عبر الممرات الضيقة، نبحث عن صبغ أحمر على الجدران، أو بقع من الفحم على أرضية الكهف. لم يكن هنا أي علامة على ذلك، ولكن سينك مارس لم يرتدع. فقد كان يحمل في حزمته خريطةً كبيرة يخرجها باستمرار ليدون المزيد من الملاحظات إلى الهامش.
و أخيراً، حان اليوم المخصص لكهوف بلوفيش. احتاج سينك مارس إلى قياسات إضافية للكهوف، فطلب من المساعد، سترينجر تشارلي، أن يساعدة. و بينما اجتاحت طائرة الهليوكبتر الجنوب الغربي من أولد كرو، نظر ثلاثتنا إلى الغابة في صمت إلى أن رصد سينك مارس و الطيار حجراً جيرياً صغيراً متصاعداً من شجرة الراتينج، و العتمة، و الخدوش الغامضة في الصخر. هبطنا بالجوار، و قمت أنا و سينك مارس، و تشارلي بالتسلق بصعوبة ومعنا معداتنا و بدأنا بالمشي لمسافات طويلة حتى درب ضيق يؤدي إلى أول ثلاثة كهوف صغيرة.
بدت التلال خارجا على مساحة شاسعة من الأراضي المنخفضة و ضفاف أنهار بلوفيش المتعرجة، و التي سميت بعد بغرايلينغ “أسماك الأنهار العذبة” في القطب الشمالي التي ازدهرت هنالك. و قد رصد سينك مارس لأول مرة الكهوف الضحلة من الجو، بينما كانت طائرة الهليوكبتر تقوم بالمسح في 1975. و كان الهبوط لفترة وجيزة، أخذ خلالها نظرة سريعة داخل الكهوف الضحلة. و خلال السنوات الثلاث المقبلة، عاد هو وفريق علم الآثار الصغير مرتين، مرة لمدة 10 أيام للقيام بعمليات حفر استكشافية. كانت الحماية داخل الكهوف ملحوظة، فالبيئة الجافة، والباردة وحتى البقايا القديمة من الخنافس والسوس كانت مصونة. وفي الرواسب، وجد الفريق عظام الخيول المنقرضة و غيرها من الحيوانات ذوات الحوافر الكبيرة، فضلا عن الأدوات الحجرية القديمة، بما في ذلك ميكروبلادس – وهي أدات القطع النحيلة التي يستخدمها صيادي العصر الجليدي في آسيا.
لذا حث، سينك مارس على توسيع نطاق الحفر. و في كيبيك في متحف التاريخ الكندي، عمل بشكل وثيق مع علماء النبات، و علماء الحشرات، وعلماء الحيوان، وغيرهم من الباحثين لتحليل البيانات البيئية. كان وقتاً عصيباً. فقد أسفر الحفر عن المزيد من الأدوات الحجرية، فضلاً عن غيرها من الأدلة على النشاط البشري – كحنك الحصان مع شقوق تشبه علامات القطع، و عظم حيوان الماموث طويل الذي يبدو أنه عمل بعناية وتقشر، فضلاً عن أدات القطع المصنوعة من العظم. واسفر ايجاد عينات من هذه الاكتشافات عن تواريخ الكربون المشع القديمة التي تعود إلى 24,800 سنة.
وبينما كان نقف ونتحدث بالقرب من المدخل الوعر للكهف الثاني في عام 1994، شارك سينك مارس أفكاره بشأن ماحدث في الموقع. فقد طافت الحيوانات المفترسة، خلال أعماق العصر الجليدي الأخير، التلال، والتهمت الجيف في الكهوف. و لكن من وقت لآخر، كان البشر في العصر الجليدي يتخذون لهم ملجأً هناك، أيضاً. و قال: ” يمكنك التفكير بحفلة صيد صغيرة تتوقف بعد الظهيرة في إحدى هذه الكهوف، إذا كان يوماً ممطراً أو عاصفة ثلجية سيئة أو عاصفة غريبة،”
ورفض رفضاً باتاً أن يغير التواريخ الأولى التي قد نشرها. و قال لي: “أنا الآن في وضع يسمح لي أن أقول أن كهوف بلوفيش تمثل أقدم موقع أثري معروف في أمريكا الشمالية”.
و لكن عدداً قليلاً نسبياً من قرناء سينك مارس شاطروه ثقته. و عندما بدأت حضور المؤتمرات الأثرية بانتظام في السنوات التالية لتلك الرحلة إلى بلوفيش، رأيت ما كان سينك مارس ضده. و قد شاهدت في قاعات مع باحثين كنديين و أمريكيين، ماحدث عندما قدَم علماء الآثار بيانات تتناقض مع نموذج كلوفيس الأول. فانتشرت الحيرة في أرجاء الغرفة، كما لو كان الجمهور يتعاملون مع رجل غريب الأطوار، و ازداد الجو عصبيةً وتوتراً عندما بدأ شخص باستجواب المقدم. ففي مرة أو مرتين، انفلت قناع الإحترام المهني تماماً، و سمعت ضحكاً وسخريةً في الغرفة. يتذكر توم ديليهاي هذه المؤتمرات جيداً. قال: ” كان أحياناً لدى بعض شعب كلوفيس الأول جو خانق من التحدي والتفوق”.
و بشكل عام، ركز النقاد هجماتهم على جبهات رئيسية. و تسائلوا عما إذا كانت القطع الأثرية الرئيسية في مواقع ماقبل كلوفيس المقترحة كانت فعلاً عوامل بشرية، بدلاً من العوامل الطبيعية. و امعنوا النظر في العروض والتقارير للاطلاع على أي أخطاء محتملة في التأريخ.
ففي كهوف بلوفيش، كانت الادلة الحاسمة تتكون من عظام حيوانية تعود إلى حوالي 24,000 سنة، و بدت و كأن الإنسان قطعها، أو شكلها، أو قشرها. لذا ركز النقاد على تلك. و رفضوا اكتشاف سينك مارس لعلامات ذبح و أدواتها، وقدموا تفسيرات بديلة. و قد اقترحوا، أن تساقط الصخور من الكهوف، قد كسر العظام تاركاً الشظايا التي تبدو كقطع أثرية صنعها الإنسان. أو أن الحيوانات المفترسة قد التهمت الفريسة تاركتاً هذه الشظايا، أو أنه ناتج الأخاديد التي تشبه علامات القطع أو الفُتات هي التي تسببت في انعكاس هذه القطع الأثرية. حتى أن بعض المشككين اقترحوا أن حيوانات الماموث الحية قد تعثرت بالقرب، و بالخطأ مزقت عظام الأطراف. أما النقاد الأخرون، فقد أرادوا رؤية شواهد متعددة لوجود أوائل البشر في كهوف بلوفيش، بما في ذلك المداخن المؤرخة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأدوات الحجرية.
و تعليقاً على الإنتقادات، رفض سينك مارس التراجع. و قال، لا شيء من تفسيرات العظام المهشمة، يمكن أن يفسر السلسلة المعقدة من الخطوات التي أنتجت أداة تقشير عظم حيوان الماموث الذي وجده فريقه. ولكن بحلول ذلك الوقت، كانت هناك شكوك جدية حول أن أدلة كهوف بلوفيش قد زرعت، مع جذور راسخة في المجتمع الأثري: و لكن بالكاد كان أحد يستمع. لم يستطع سينك مارس تصديق ذلك. ففي تقديمه أحد العروض، يقول غاضباً اليوم: ” لقد سخروا مني،”. ” لقد وجدوني لطيفاً.” تأثر بالرد، و توقف عن حضور المؤتمرات، و تخلى عن الدفاع عن الموقع علناً. ما المغزى؟ بالنسبة لسينك مارس، بدا أول أنصار كلوفيس مغسولي الدماغ.
كما تعتقد روث غوتهاردت، عضو فريق حفر كهوف بلوفيش التي أصبحت عالمة آثار كبيرة في حكومة يوكون، أن المجتمع العلمي اليوم فشل في إعطاء محاكمة عادلة لأبحاث كهوف بلوفيش. تقول: ” من ما رأيته من عمل جاك في كهوف بلوفيش، كان العلم جيدا،” لكن عبء الإثبات الذي طالب به علماء الآثار في موقع ماقبل كلوفيس كان مبالغاً فيه. ” و أعتقد أن [جاك]تلقى ضرباً مؤلماً في هذه العملية.
و في كانون الثاني / يناير 1997، قبل إثنا عشر من علماء آثار أمريكا الشمالية دعوة ديليهاي للسفر إلى جنوب تشيلي لتفقد موقع مونتي فيردي المثير للجدل. و قد قام ديليهاي وفريق علمي كبير متعدد التخصصات بدراسة الموقع دراسةً مكثفةً لمدة عقدين من الزمن بعد أن اكتشفه قطَاع الأشجار. المأوى المغطر الذي ربما كان يؤوي 30 شخصاً، و الموقد المشترك، و قطع لحم حيوان الماسدون، و آثار أقدام ثلاثة أشخاص. و قد قام ديليهاي وزملائه بتأريخ أقد نشاط إنساني في الموقع قبل 14,500 سنة. ولكن لسنوات، رفض معظم الباحثين في أمريكا الشمالية قبول التاريخ. لذا تصدى ديليهاي للمشاكل، و قام بدعوة العديد من المشككين وغيرهم من علماء الآثار البارزين إلى مونتي فيردي.
و قام الزائرون بتفتيش الموقع شخصياً، و فحص طبقات الأرض، و إمعان النظر في الأدلة لعدة أيام. و في نهاية المطاف، قبل جميع الباحثين الإثني عشر الأدلة من مونتي فيردي، و وافقوا علناً أن البشر قد وصلوا جنوب تشيلي منذ 1,500 سنة قبل شعب كلوفيس. و وفقاً لما ذكره مراسل صحيفة نيويورك تايمز فقد كانت لحظةً أقرب إلى “خرق الحاجز الصوتي للطيران،” و بعد فترةٍ وجيزة، نشر ديليهاي وزملائه تقريراً من 1,300 صفحة حول الموقع، ووضعوا كل التفاصيل. و أخيراً، أزالت جميع الاكتشافات والأبحاث الجديدة التي أجريت على الأمريكيين الأوائل، في مجال علم الوراثة، بقيت الشكوك. و كان نموذج كلوفيس الأول قد مات، و بدأ آلاف الباحثين إعادة النظر في تأريخ أوائل الهجر إلى العالم الجديد و الطرق التي ربما سلكها المهاجرون.
مواقع ماقبل كلوفيس الهامة
إلا أنه قد تم نسيان كهوف بلوفيش إلى حد كبير منذ ذلك الحين. ولكن في عام 2012، قررت لوريان بورجون، المرشحة للدكتوراه في علم الإنسان في جامعة مونتريال، إعادة النظر في هذه الدراسة. و بدأت بإجراء فحص مجهري ل 36,000 من فتات العظام التي استخرجها سينك مارس وفريقه. و قد طور علماء الآثار، المتخصصون في دراسة علم الحيوانات القديمة، ستة معايير لتحديد علامات القطع البشري مثل الشكل الدقيق للشق ومساره. و كانت بورجون تقبل فقط علامة ذبح الإنسان كدليل إذا استوفى جميع المعايير الستة.
و في سنتين من العمل المكثف، حددت بورجون علامات ذبح الإنسان على 15 عظمة من عظام كهوف بلوفيش. بعد ذلك أخذت عينات من ستة و ارسلتهم لتحديد العمر الزماني عن طريق الإشعاع الكربوني: و أظهرت النتائج ان أقدمها يرجع إلى 24,000 سنة – مؤكدةً رأي سينك مارس. تخطط بورجون الآن للكتابة عن موضوعين أخرين رئيسيين وجدهما سينك مارس في كهوف بلوفيش: تقشر عظام حيوان الماموث و من أين أتى عمل العظم الأساسي. و هي ليست مستعدة الآن للكشف عن نتائج تحليلها، لكن استناداً على أدلتها المنشورة، وصفت موقع بلوفيش على انه “أقدم موقع أثري معروف في امريكا الشمالية.”
و تثير النتائج الجديدة الكثير من الحديث و الإهتمام الجدي بكهوف بلوفيش. في حين أن بعض علماء الآثار لايزالون متشككين، و ممتنعين عن القبول حتى يروا المزيد من آثار النشاط البشري في الموقع، فضلاً عن مواقع إضافية في هذه الفترة تعود إلى هذه الفترة، و أعتقد البعض الآخر، كعالم الآثار إيان بوفيت، مدير التراث البيرينجي المشترَك في خدمة الحديقة الوطنية في أنكوريج، ألاسكا، أن بورجون قد توصلت إلى أدلة جديدة مهمة. و يشير بوفيت، ” أنا مقتنع تلك هي علامات قطع الإنسان،”. ويضيف، أن الدراسة تدعم نموذجاً علمياً جديداً نسبياً، وهو فرضية تجمد بيرينجي. و استناداً إلى دراسات الحمض النووي للسكان الأصليين الحديثين، تشير هذه الفرضية إلى أن البشر جابوا بيرينجيا لآلاف السنين – حتى خلال أعماق العصر الجليدي الأخير- قبل أن تنحدر ذريتهم جنوباً لاستعمار الأمريكيتين. يقول بوفيت في رسالة بالبريد الإلكتروني: ” أقبل بحذر [الدراسة الجديدة لكهوف بلوفيش] كأول دليل على البشر في بيرينجيا الشرقية في أوج الدور الجليدي الأخير.
و تظهر أدلة أثرية و وراثية قوية أن مجموعات صغيرة من الصيادين ربما لايزيد عددهم عن 5,000 شخص في جميع الرحلات عبر بيرينجيا من آسيا إلى الأمريكيتين خلال العصر الجليدي الأخير. و يشير موقع الصفائح و الأنهار الجليدية على مر الزمن إلى المكان الذي انتقلوا إليه ومتى. قبل افتتاح الطريق الساحلي حوالي 16,000 سنة، كان المهاجرون محاصرين في بيرينيا. و بعد ذلك تمكن البشر من السفر على طول الساحل الغربي دي-غلاسياتد – على الأرجح في قوارب صغيرة. و لم يفتح الممر الداخل حتى حوالي 13,000 إلى 12,600 سنة. (تشير المناطق ذات اللون الأخضر الفاتح في الخريطة إلى أن الاراضي المغمورة الآن كانت جافة خلال العصر الجليدي الأخير بسبب التغيرات في مستوى سطح البحر.) رسم جودي سومرز المتحركة.
يعتقد سينك مارس الذي يستريح الآن و يتأمل ماحدث للبحوث الأصلية في كهوف بلوفيش، أن النقاش اللاذع في ذلك الوقت أعاق إحراز تقدم حقيقي بشأن المسائل الهامة المتعلقة بالإنتشار السكاني للعالم الجديد. فبالنسبة للباحث الفرنسي الكندي و أخرون، أن الإشتباه والشك العميق سببا خسائر فادحة، و أودعا أبحاثهم في سلة المهملات لعقود، دون محاكمة عادلة. و في حال نجحت نظرية كهوف بلوفيش الأصلية أشار ماكي، “لم يكن لدي سوى فكرة مبهمة إلى حدٍ ما عما تم العثور عليه بالفعل – وذلك خير مثال للنقد الكافي الذي أخفض همتي لأكتشاف المزيد. و أنا لست فخوراً بذلك.”
بالنسبة لماكي و أخرون، فإن المعركة التي طال أمدها على النموذج الأول لكلوفيس تقف الآن كقصة تحذيرية أمام علماء الأثار. و يشير ماكي، ” أعتقد أن كلوفيس الأول سيخلَد كمثال تقليدي لنقلة نوعية، حيث توجد أدلة على انهيار نموذج قديم لعدة سنوات قبل أن ينهار فعلاً، مقدمةً نوعاً من نموذج الموتى الأحياء(الزومبي) الذي لن يموت ابداً.